سائرون إلى الله

سائرون إلى الله

سائرون إلى الله

دروس ونصوص في التصوف

 د. وفاء أحمد السوافطة

 

في ظلّ تراجع رجال الدين، في وقتنا الحالي، عن تقديم مبادئ الدين بالشكل المقبول، بسبب إغراقهم في الطقوس والشكليات والقوالب الفقهيّة المنفّرة، التي أفرزت لنا أفراداً وجماعات، يميلون إلى التكفير والتنفير، أكثر مما يقرّبون مجتمعاتهم إلى جوهر الدين، مما أغرق الناس في حروب دينية ومذهبية مقيتة…

وفي ظلّ طغيان الجانب المادي والكثافيّ للحضارة على الفكر العميق والمشاعر الإنسانية، وتراجع القيم والتعاليم الأخلاقية. وبالتالي، تدهور دور الأسرة والمدرسة والجامعة في التربية والتعليم؛ بإزاء تضخّم مفاهيم الفوضى والجهل والسطحية والإسفاف…

في ظل كل ذلك، عاد التصوف إلى الواجهة، بما أصبح يمثله رجالاته، في كافة الأزمنة السابقة والحالية، من نماذج مقبولة لدى الجميع، لأنهم ركزوا في دراساتهم على محاسن الأخلاق، والتعمّق في روح الدين، التي تستمدّ قوّتها من الحبّ والتسامح، بدل التقوقع تحت القشرة الخارجية، التي قد تتميّز بالتنافر والتضادّ، عند أي اختلاف في الرأي، نتيجة فهمهم الخاطئ للدين، مما يقود إلى الكراهية والخصومة، بل والحروب، عند أي تباين مذهبي.

لقد عاد الاهتمام بدراسة التصوف، والبحث في أصوله ومنابته، ودراسة ثمراته وآثاره على الأفراد والمجتمعات، سواء على صعيد الدراسات الأولية في المدارس والجامعات، أو الدراسات المتقدمة في مراكز البحث والدراسات العليا. وحتى في الآداب العالمية، رواية كانت أم قصيدة أم أبحاث تربوية ونفسية وسلوكية.

وقد كانت هذه الدراسة التي أعددتها لطلبة أكاديمية الملك (King’s Academy) في الأردن، وقمت بتدريس مادة ” التصوف”، على مدى بضع سنوات لطلبة الأكاديمية، حيث كانت تدرّس لأول مرة في مدارس المملكة، آنذاك. ورغبت في أن أقدم هذه الدراسة للباحثين والساعين إلى المعرفة والحقيقة، في مجالات الدراسات الدينية والصوفية، بعامة، أو الباحثين عن خوض وتذوق التجربة الصوفية، من المريدين والمتصوفة، بشكل خاص.

وقد جعلت هذه الدراسة في عدة مباحث، تناولت فيها:

  1. مقدمة في التصوف، تحدثت فيها عن أهمية التجربة الصوفية، في حياة الإنسان، في كل زمان ومكان.
  2. نشأة التصوف في الحضارات السابقة، درست فيها بواكير التجربة الصوفية في الفلسفات والديانات السابقة على الإسلام.
  3. بدايات التصوف الإسلامي، وتطرقت في هذا المبحث إلى التجارب الأولية للتصوف الإسلامي، مع الزهاد وأوائل المتصوفة.
  4. الجذور الشرعية للتصوف، وفي هذا المبحث ركزت على السند الشرعي للتصوف الإسلامي، مما ساعد على استمراره في العقيدة الإسلامية، وأفرز جماعات الزهاد، وأصحاب الطرق الصوفية.
  5. مرحلة الزهد الصوفي (التخلّي)، وهي أول شكل من أشكال التصوف الإسلامي، الذي بدأ زهداً بالتخلي عن متاع الدنيا، مرحلة أولى للتقرب إلى الحق.
  6. مرحلة الطرقية (التحلّي)، اعتبرت في هذا المبحث أن الطرقية كانت ترجمة حقيقية لمرحلة التحلي الصوفية التي ربّى فيها شيوخ التصوف مريديهم على أهم الأخلاقيات الصوفية، ليخرّجوا منهم قادة ومعلمين ومبشرين بالإسلام الحق، وبالتعاليم الصوفية.

وفي هذا الفصل حاولت أن أعرض لنماذج من الطرق الصوفية وشيوخها المعاصرين، ومتابعة البصمات التي تركوها في الأفراد والمجتمعات. وتحدثت في البداية عن بعض الطرق المتقدمة زمانياً، مثل المحاسبية والجنيدية. ثم تحدثت بشكل موسع عن أبرز الطرق الرئيسة المتأخرة زمانياً، التي أسسها الشيوخ:

  • عبد القادر الجيلاني (الطريقة القادرية)
  • علي أبو الحسن الشاذلي (الطريقة الشاذلية)
  • أحمد الرفاعي (الطريقة الرفاعية)
  • أحمد التيجاني (الطريقة التيجانية)
  • محمد السنوسي (الطريقة السنوسية)

ثم تناولت ، بشيء من التفصيل، الطريقة الشاذلية اليشرطية نموذجاً للتحديث والتجديد في الطرق الصوفية.

  1. المجتمع الصوفي، وتناولت في هذا المبحث أهم ركائز المجتمع الصوفي الذي عملت المرحلة الطرقية على تعزيزه وتطويره، نحو:
    • السلطة داخل المجتمع
    • عناصر المجتمع
    • آليات المجتمع
    • هيكليته

هـ – أهدافه

كما تحدثت في هذا المبحث عن دور التصوف والصوفية في الجهاد والدفاع عن الأراضي الإسلامية، ضد المستعمرين والمحتلين.

  1. مرحلة المقامات والأحوال والكرامات والفنون (التجلّي)، مرحلة التجلي هي أهم مرحلة يتجلى فيها ما ينعم به الله على المريدين المقربين إليه، من آداب وفنون وكرامات، وقد تعرضت في هذا المبحث لبعض من هذه الثمرات الصوفية.
  2. فلاسفة التصوف وأدباؤه، بعد أن تعمقت التجربة الصوفية لدى بعضهم، ظهرت بعض النظريات الفلسفية الأصيلة، أو المتأثرة بتجارب سابقة، تحدثت خلال هذا المبحث عن بعض أولئك المتصوفة، أصحاب النظريات الفلسفية، مثل:
    • أبو حامد الغزالي
    • شهاب الدين السهروردي
    • محيي الدين ابن عربي
    • عمر بن الفارض
    • سري السقطي

 كما تطرقت لأهم الفلاسفة المعاصرين الذين تأثروا بالفكر الصوفي، في الغرب. وعرضت لأهم تلك النظريات والإشكالات التي دارت حولها آراؤهم. لذا، كان لزاماً الحديث حول أبرز تلك النظريات والإشكالات، نحو:

  • نظرية النور والوراثة المحمدية: لابد، عند الحديث عن النظريات الفلسفية الصوفية، من الحديث عن نظرية النور المحمدي، وما يرتبط بها من نظرية الوراثة المحمدية، إذ تناولتها في هذا المبحث من حيث نشأتها وتطورها، وأهم القائلين بها. وتحدثت كذلك، عن نظرية الولاية، التي يؤمن بها الصوفية.
  • كان لابد من أن أختم هذا البحث بفصل خاص عن أهم الشبهات حول التصوف التي يثيرها المنتقدون حوله، سواء من أصحاب النظريات العلمية المادية الذين يشككون بالروحانيات الصوفية؛ أو من المتبنين للفكر السلفي، الذين يعتبرون كل ما جاء به رجالات التصوف بدعة وخروجاً على تعاليم الدين. ثم تطرقت لأهم الردود والإجابات على تلك الشبهات.
  1. نصوص للاطلاع والتحليل: وقد ارتأيت أن أعرض، في ثنايا المباحث السابقة المختلفة، لبعض النصوص الصوفية أو التي تحدثت عن التصوف، إيجاباً وسلباً، حتى يتاح للباحثين والطلبة الاطلاع على آراء الصوفية وناقديهم من مظانها الأصلية.

إن غالبية محتويات هذه المادة المتضمنة في هذا الكتاب، هي مادة تاريخية، تم تجميعها بهدف تدريس المادة، من مصادر شتى، لكن الطريف في الأمر، هو مجريات المحاضرات التي كانت تتم في أكاديمية الملك، وطبيعة استجابة الطلبة للمادة، وقد حاولت في هذا الكتاب أن أحافظ على روح النصوص التي قدمتها لطلبتي بأسلوب بسيط، ومباشر، ولم أتدخل في طريقة العرض، التي غالباً ما تكون من خلال شرائح العرض (Power Point) أو الأفلام، إلا قليلاً، حتى تبقى المادة العلمية في دفقها ومصداقيتها، وحافظت على بساطة تقديمها. كما لا يخفى أنني كنت أسمح لطلبتي، كما سمحت لنفسي، بالرجوع إلى أقرب المراجع والمصادر لديهم، وبخاصة (الإنترنت)، حتى أسهّل عليهم- وهم طلبة مدارس، وليس طلبة جامعات- الوصول إلى المعلومات، مع تنبيههم، في البداية، إلى عدم دقّة المعلومات الواردة في بعض المواقع، وتدريبهم على أسلوب فهمها ونقدها وتمحيصها.

والطريف، أيضاً، أن غالبية الطلبة الذين حضروا تلك المحاضرات، كانوا في بداية الدروس هجوميين، بتأثير عقليتهم النقدية المتأثرة بالمناهج العلمية الحديثة التي يتلقونها، أو الثقافة السلفية السائدة، ونقص الوعي والمعلومات عن التصوف، إذ كان بعضهم يعتقد أن التصوف لا علاقة له بالدين، بمعنى أنهم نحلة مساوية للعلمانية والإلحاد، أو فرقة من فرق الباطنية والتشيع، ثم وبعد عدة محاضرات، بدأ بعضهم يكتشف أن كثيراً من عائلاتهم متصوفون. بل أكثر ما أثّر عليّ أثناء مشاهدة فيديو عن الحضرة الصوفية على اليوتيوب (Youtube)، أن طالبة سورية، دمعت عيناها لمّا أدركت أن المكان الذي تمت فيه مراسم جلسة الذكر تلك هو بيت أهلها، وما كانت تدرك قبل ذلك أن أهلها متصوفون، يستضيفون مثل تلك المجالس.

وآخر ما أستشهد به من طرائف تلك المحاضرات، أنني قمت مع طلبتي بزيارة لإحدى الزوايا الصوفية في عمان، وقد فتح الله على بعض الطلبة، بعد تلك الزيارة برؤى كثيرة شاهدوا فيها شيخ الطريقة يعلمهم الصلاة، واعترف بعضهم بأنهم شاهدوا مبنى الزاوية في منامهم قبل الوصول إليه، وهذا يدل على شفافية بعض الطلبة، وسلامة فطرتهم.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!