إشارات وتحوّلات في أدوار الطرق الصوفية

إشارات وتحوّلات في أدوار الطرق الصوفية

إشارات وتحوّلات في أدوار الطرق الصوفية

بقلم: د. وفاء أحمد السوافطة

 

إن ما حصل في الإسلام (الأصل) ــ كما هو شأن الأديان الأخرى ـ حصل في التصوف الإسلامي، حين ظهرت جماعاتٌ تميل إلى جانب الطقوس الظاهرية، فأغرقت التصوف، معها في الرسوم والأشكال؛ وظهرت جماعاتٌ أخرى، أغرقت نفسها في علوم الباطن (المحض) فغلبت عليها الشطحات الفلسفية. أما أهل الوسطية، فهم الذين وازنوا بين الفرد والجماعة، كما وازنوا بين الظاهر والباطن، والشريعة والحقيقة، والفلسفة والزهد. 

ويرى أهل الوسطية أن التصوفَ هو كمالُ الإسلام، وعمقُه. فهو يجمع بين سياسةِ الظاهر وسياسةِ الباطن؛ كما يؤلّف بين سياسة الجماعة وسياسة الفرد. وعلى مدى التاريخ الطويل للتصوف الإسلامي، فإن المتصوفة “الكمّل”، هم الذين جمعوا بين هذه العناصر المتقابلة دون حيفٍ، أو إخلالٍ، بواحدةٍ على حساب الأخرى. لذا، كان لا بد من استمرار جدلية التطوّر، حتى تصل إلى مرحلة الطُرقية، ذات البُنى الاجتماعية المتماسكة. ففي هذه المرحلة، تمحورت البُنية الاجتماعية للتصوف، حول المحور التالي، وهو: هل يظل التصوف موقفاً فردياً من الكون والحياة، وحتى من الدين؟ وفي هذه المرحلة، هل نغلّب التأثير النفساني والفلسفي على التأثير الاجتماعي؟ أم أن التصوف تجربة جماعية، تركّز على ترسيخ قيم الجماعة، وتنظيم طريقتهم في الحياة، وهنا يقترب التصوف من الحياة الشعبية للناس، في محاولة ” لعلاج الهيئة الاجتماعية “؟([1]).

ولا بد للتصوف في أوج كماله من أن يشتمل على البُعدين “الفردي – الفلسفي (أو النفسي)”، و”الجماعي – الطُرُقي”، ولكن الأمر يتوقف على زاوية الرؤية التي ننظر منها إليه. فقد رأى بعض الدارسين أن التصوف، في بدء أمره، كان صورة من صور الحياة الدينية، لا يأخذ بها إلا الأفراد، ولا يأخذها عن هؤلاء الأفراد إلا خاصةُ أصحابهم، وهنا ندرك أن البُعد الجماعي كان حاضراً ولو على نطاقٍ ضيق. ثم أصبح التصوف رويداً رويداً حركة منظمةً، ومدرسةً يتخرج منها الأولياء، لها قواعدها وأسسها، من حيث سيرة المريدين وأخلاقهم وعبادتهم. وأصبح الـمُريد يتلقى قواعد الطريق الصوفي عن أستاذه([2]).  ويجزم بعض الباحثين([3])، بأن التصوف ليس نظريات نفسية، أو أخلاقية، أو ميتافيزيقية، بقدر ما هو طريقةٌ في الحياة، ورياضة عملية تمارَس من أجل تحقيق الكمال الأخلاقي. بل، ويؤكد أن آراء كبار مشايخ التصوف لم يُكتب لها البقاء في العالم الإسلامي، قروناً، إلا من خلال الطُرق العملية التي أسّسوها. 

وعلى الرغم من أن جماعات صوفية وُجدت على الساحة، في القرن الثالث الهجري، كالمحاسبية التي تأثرت بالحارث المحاسبي (ت243هـ/ 857م)، والطيفورية التي تأثرت بأبي يزيد طيفور البسطامي (ت261هـ/875م)، والجنيدية التي تأثرت بالجنيد بن محمد (ت297هـ/910م)؛ فإن القرون التي تلت حملت لنا، في فترات متفاوتة، مجموعة من الطرق الكبرى التي راوحت بين الانتساب، إلى الجنيدية في العراق أو الطيفورية في خراسان. كما ظهر، فيما بعد، التصوف المغربي المنبثق عن أبي مدين شعيب بن الحسن الأندلسي (ت 594هـ/ 1198م)، ليكون منطقة ثالثة بميزات خاصة. وهذه الطرق الكبرى هي: القادرية (الجيلانية) نسبة لعبد القادر الجيلاني (ت561 هـ/ 1166م)، والسهروردية نسبة لضياء الدين السهروردي (ت 563 هـ/ 1168م)، وطوّرها ابن أخته شهاب الدين السهروردي (ت 631 هـ/ 1234م)، والرفاعية نسبة لأحمد الرفاعي (ت 578 هـ/ 1182م)، والكبروية نسبة لنجم الدين كبرى (ت 621 هـ/ 1224م)، والشاذليّة نسبة لأبي الحسن الشاذلي (ت 656 هـ/ 1258م)، والمولوية نسبة لجلال الدين رومي (ت 672 هـ/ 1273م)، والبدوية نسبة لأحمد البدوي (ت 675 هـ/ 1276م)([4]).

وتفرعت عن هذه الطرق الرئيسة طرقٌ أخرى كاليونسية (حوالي 530هـ/ 1135م)، والدسوقية (حوالي 644 هـ/1246م)، والنقشبندية (حوالي 700 هـ/ 1300م)، والخلوتية (حوالي 1350م)، والتيجانية (حوالي 1150 هـ/1737م)، والإدريسية (حوالي 1173هـ/1760م)، والسنوسية (حوالي 1202هـ/ 1787م)، والمدنية (حوالي 1240هـ/ 1824م)، واليشرُطيّة (حوالي 1253هـ/ 1837م)، وغيرها([5]).

وقد جاءت الطُرُقية لتُعبر عن المفهوم الاجتماعي للتصوف في مرحلة لاحقة، ولتتجاوز الموقف الفردي من الحياة. إذ إن كلمة (طريقة) كانت تُشير، عند صوفية القرن الثالث والرابع الهجريين، إلى مجموعة من الآداب والأخلاق التي يتمسك بها الصوفية، وذُكرت الكلمة مقابلةً لمعنى الإرشاد النفسي والخلقي، الذي يربّي به الشيخ مريده([6]). يقول عامر النجار أن لفظة (طريقة) أخذت معنيين متعاقبين، في التصوف. فهي، في القرن الثالث والرابع الهجريين، كانت عبارة عن ” منهج النفس الأخلاقي الذي يدبر عملياً، ضروب السلوك الفردي “. لكنـها، بعد القرن الخامس الهجري، أصبحت عبارة عن “جملة مراسم التدبير الروحي المعمول بها من أجل المعاشرة في الجماعات الإخوانية الإسلامية المختلفة “. وانتهت الطُرقية إلى أن أصبحت تدل على “المعاشرة القائمة على الرعاية الإسلامية العادية” ([7]).

فهل كان هذا التنظيم الاجتماعي يذيب الشخصية الفردية، أم كان يصهرها ليعيد صياغتها من جديد، مع المحافظة على مقوماتها الذاتية وإبداعها الفردي؟ يقول قاسم غني: إنه، في حين كانت كل فرق التصوف تجمعها أصولٌ مشتركة، كانت شخصية الأفراد مُصانة، فكان لكل شخصٍ أسلوبٌ في التفكير والفهم وسليقةٌ خاصةٌ به ([8]). لكن أبو الوفا التفتازاني له رأي مخالف، إذ يعتبر أن الطُرقية رافقت تدهور التصوف، وانحصرت في الطقوس والشكليات. ولذلك، لم يظهر، من بين هذه الجموع الغفيرة، التي اتبعت الطرق الصوفية، شخصياتٌ لها ما لشخصيات التصوف الأولى، من مكانة روحية مرموقة ([9]).

وهذا التعميم، رغم ما فيه من عدم الدقة، إلا أنه يضع علامة فارقةً هامة، كان لابد للمرحلة الطُرقية من أن تتميز بها، وهي اختفاء الفردانية لحساب الجماعة وغَلَبة التطبيق الجماعي على النظَر الفردي. ولعل هذا، بحد ذاته، سيعبّر عن مفصل هام انتقل إليه التصوف، وتمثّل في الإشارات التالية:

  1. الإشارة الأولى ظهرت في غَلَبة الهمّ الجماعي على الفردي، وقد تطلّب هذا انتقال المتصوّف من البحث في أصل الوجود ومآله، وتجلّيات الأسماء والصفات الإلهية، والوحدة والكثرة… ألخ. إلى نشر الإسلام في آسيا وإفريقيا، فكان التصوف أول تنظيم جماعي يقوم بهذا العمل. ويعتبر عبد الله عبد الرازق أن “انتشار الإسلام في إفريقيا جنوبي الصحراء في السنغال، ومالي، والنيجر، وغانا، وغينيا، وتشاد؛ إنما يرجع، في الشطر الأكبر منه، إلى رجال الطُرق الصوفية، خصوصاً رجال الطريقة القادرية، والتيجانية، والشاذلية ” ([10]). وهو يعتبر أن التصوف في القارة الإفريقية جزء أساسي من البيئة الإسلامية، بل هو محور حركاتها الإصلاحية، وله آثاره البعيدة في كل مناحي الحياة([11])، إذ يورد أن عدد الزوايا في الجزائر، في مطلع القرن الماضي بلغ 250 ألف زاوية، تضم الألوف من مريدي الطرق الرحمانية والخلوتية والتيجانية والدرقاوية والعيسوية([12]). بينما بلغت في تونس60 ألفاً، تضم مريدي الطرق القادرية والفروسية والعيسوية والتيجانية([13])، وفي المغرب 200 ألف([14])، تضم مريدي القادرية والشاذلية التي أنجبت معظم الطرق الحالية كالدرقاوية والجزولية والعيسوية([15]). وهذه الأرقام مبالغ فيها، ولعل المعدود هو عدد المنتسبين لهذه الزوايا. إذ يذكر أسعد السحمراني أن عدد الزوايا في الجزائر في القرن التاسع عشر لم يتعد 349 زاوية، بلغ عـدد مريديـها 295 ألفـاً([16]). وهو رقم يكاد يقارب ما أورده المؤرخون. إذ يقول محمد درنيقة إن المغرب كانت تشتمل على700 زاوية([17]). ويذكر التليلي العجيلي أن أتباع المدنية الشاذلية، وكان عددهم لا يتجاوز 485 رجلاً أقاموا في تونس 6 زوايا([18]). كما ذكر بعضهم([19]) أن عدد الزوايا والربط في سبتة المغربية كان يربو على 47.

أما في مصر، فقد أورد المؤرخون أنها احتوت، في القرن الماضي، حوالي80 طريقة([20])، ذكر بعضهم أن 14 منها متفرعة عن الشاذلية([21])، إضافة إلى 11 طريقة متفرعة عن الأحمدية، وطريقتان عن الرفاعية، وطريقتان خلوتيتان، وثلاث طرق برهامية([22]). وفي بلاد الشام، شكل الصوفية نسبة جيدة بين علمائها، فقد ورد أن 41% منهم متصوفون([23])، ينتسبون للقادرية والرفاعية والمولوية والشاذلية والدرقاوية والتيجانية ([24]). وهي نسبة قليلة، إذا قورنت بالقرنين الماضيين. إذ عملت الحروب الصليبية على إذكاء الحماسة الدينية، عامة، والصوفية، خاصة، في نفوس الناس. فقد ورد أنه على طول الساحل الشامي كانت تمتد رباطات مدججة بالمتصوفة المدربين على القتال، للنيل من أعداء الإسلام إن قدموا بحراً. حيث كان أهل دمشق يرابطون في بيروت، وأهل حمص في طرابلس، وأهل القدس في يافا… وذكر مِن هذه الرُبَط الساحلية، برج العارف بالله أبو العباس الرملي المقدسي بثغر يافا. وكذا الأمر في برّ الشام، انتشرت رباطات وزوايا تعج بالمجاهدين. فقد اشتهر رباط الصوفي المجاهد أرسلان الدمشقي (ت 541هـ / 1146م)، الذي كان المريدون يتدربون فيه على السلاح؛ وفي الوقت ذاته، كانوا يتعلمون جميع أنواع الدراسة الدينية والدنيوية([25]). وهكذا، انتقل التصوف إلى المرحلة الجهادية ضد المستعمرين. فكانت الرباطات التي تضم المجاهدين للدفاع عن الثغور الإسلامية، في أصلها خانقاوات صوفية([26])؛ فكان رباط عبادان أول رباط تجمّع فيه متطوعة البصرة، للدفاع عن هذا الثغر الإسلامي([27])

كما اشتهر رجالات طرُق صوفية معينة بدورهم في مقارعة الصليبيين، ففي مصر، برز دور أبي الحسن الشاذلي، الذي كان هو وأتباعه في طلائع المجاهدين في وقعة المنصورة عام (647 هـ/ 1249م)، وكذا خليفته أبو العباس المرسي (ت 686هـ/ 1287م) ([28])، وأحمد البدوي (ت 675 هـ/ 1276م)([29]). وفي بلاد الشام، برز دور الشيخ أرسلان الدمشقي([30])، وعبد الله اليونيني ” أسد الشام “، وأبو عمرو المقدسي الزاهد الحنبلي (ت 607هـ /1210م)، وعبد الرحمن الجلجولي الذي استشهد في واقعة باب دمشق بـين المسلمين والفرنجة، سنة (543 هـ/ 1148م)، في بلاد الشام([31]).

وكذلك برزت شخصياتٌ أخرى في مواجهة الاستعمارين الإنجليزي والفرنسي، ففي إفريقيا، برز الحاج عمر الفوتي (ت 1281هـ/ 1864م)، والأمير عبد القادر الجزائري (ت 1302هـ/ 1885م)، ومحمد أحمد المهدي (ت 1302هـ/1885م)، وأحمد بمبا (ت 1346هـ/ 1927م)، وعمر المختار (ت 1350هـ/1931م)، وأحمد الشريف السنوسي (ت 1352هـ/ 1933م)([32]).

أما في بلاد الشام فقد برزت شخصيات صوفية مجاهدة، أمثال الشيخ عز الدين القسام، شيخ الزاوية الشاذلية في جبلة الأدهمية (ت 1354هـ/ 1935م)، ومحمد الأشمر النقشبندي (ت 1380هـ/1960م)([33])، وأحمد الحارون الرفاعي (ت 1382هـ/1962م)([34])، الذي تتلمذ على يدي الشيخ محمود أبو الشامات، مقدم الطريقة الشاذلية اليشرطية في دمشق([35])،  ومحمد سعيد البرهاني،  شيخ الطريقة الشاذلية بدمشق (ت 1387هـ/ 1967م )، ومحمد صالح الفرفور (ت 1393هـ/1973م)، وحسن حبنكة الميداني (ت 1398هـ/ 1978م)([36]).

  1. الإشارة الثانية ـ تمثّلت في تبادل الثِقَل الصوفي بين المشرق والمغرب، تبعاً لعوامل سياسية واجتماعية مختلفة.ولعل من أول وأبرز هذه العوامل: تعرّض بغداد لهجمات المغول، مما دفع علماءها ومتصوفيها إلى الرحيل عنها. كذلك، كان حتماً تركّز الوجود الصوفي في مصر، في مرحلة تالية، بسبب تحمّلها عبء الجهاد ضد الصليبيين، فعاش عدد كبير من المتصوفة فيها، كأبي العباس البوني (ت 622هـ/ 1225م)، وأبي السعود بن أبي العشائر (ت 644هـ/ 1246م)، وأبي الحسن الشاذلي، وأحمد البدوي، وإبراهيم الدسوقي، وأبي العباس الـمُرسي، وأبي الحسن الششتري (ت 668هـ/1270م)([37]). ومن الملاحظ، أيضاً، أن التصوف المغربي قوي في القرن الخامس الهجري، بقيام دولة المرابطين، في المغرب، على أسُس صوفيةٍ وجهاديةٍ. لكن، لما جاءت دولة الموحدين، في القرن السادس الهجري، هاجر العلماء والصوفية إلى مصر. ولذلك، يلاحظ إن معظم شيوخ التصوف، في المشرق، ذوو أصولٍ مغربية. فأحمد الرفاعي (ت 578 هـ/ 1182م) هاجر أجداده من إشبيلية إلى بغداد([38]). وأبو مدين (ت 594هـ/ 1198م)، وعبد السلام بن مشيش (ت 622هـ/ 1225م)، وأبو الحسن الشاذلي، كلهم هاجروا إلى المشرق. وكذلك، كان شأن شيخنا علي نور الدين اليشرطي. يضاف، إلى العوامل السابقة، أن الوجود الاستعماري الأوروبي، في مرحلةٍ لاحقةٍ، وخاصة في القرنين التاسع والعاشر الهجريين (15و16م)، دعم بشكلٍ أساسي ردَّ الفعل الصوفي، خاصةً وأن الطُرق أخذت على عاتقها مكافحة الاستعمار([39]) فـتـنقّل المتصوفة ما بين المشرق والمغرب، تبعاً لمقتضيات العمل السياسي والعسكري.

ويُذكر أن بلاد الشام استقبلت، في أواخر القرن الماضي، عدداً كبيراً من المتصوفة المغاربة، الذين كان لهم دور بارز في مقاومة المستعمرين. ومن هؤلاء: عز الدين الجزائري، الذي دوّخ الفرنسيين في غوطة دمشق، قبل حصاره واستشهاده سنة (1927م)، وهو حفيد الأمير عبد القادر؛ ومحمد بدر الدين الحسني (ت 1935م)، الذي يعد مفجر الثورة السورية الكبرى. وهو يتحدّر من ذرّية الشيخ الجزولي المغربية، ووالده كان قادرياً. ومنهم أيضاً، محمد الشريف اليعقوبي الشاذلي الخلوتي (ت 1943م)، وقاد كتيبة من الشبان المغاربة في موقعة ميسلون. ومنهم محمد بن يلـّس التلمساني الشاذلي (ت 1927م) الذي قارع الفرنسيين، حتى سجنوه في سجن القلعة؛ ومن تلاميذه: محمد الهاشمي الشاذلي (ت 1961م)، ومحمد صالح كيوان (ت 1968م) وكانا من المجاهدين، أيضاً([40]).

  1. الإشارة الثالثة ـلها ارتباط حميم بالإشارة السابقة، حين يلاحظ أن متصوفة المغرب كانوا يتصفون بغلبَة التصوف النظري (الفلسفي)، في حين تميزت مصر بالطُرقية([41]). إذ ترى سعاد الحكيم أن أهل الأندلس، (وهذا بالطبع يشمل أهل المغرب)، كانوا يميلون إلى البساطة، لكن رحلة الحج نقلت قضايا المشرق إلى المغرب الإسلامي. ولذلك، لم يظهر في الأندلس فيلسوف واحدٌ حتى القرن الثالث الهجري، وظلّت الدراسات فقهية ولغوية فقط. كما بقيت القضايا “المشرقية” التي انتقلت إلى المغرب “قضايا مشرقية” النشأة، فلم تتذوقها أوساط العامة؛ ولذلك، عاشت على شكل تعاليم حفظتها مدارسُ مخصوصةٌ، وكانت أولى هذه المدارس، في البدايات، مدرسة محمد بن مسرّة (269-319هـ/882-931م)([42]).

وهكذا، يمكن القول، بأن صوفية المغرب تميّزت “بصورِ فلسفةٍ إشراقيةٍ باطنيةٍ”، في حين تجلّت صوفية المشرق في “حلقاتٍ متتابعةِ التطور لوجدانٍ إنساني، اقترب وتذوق الفناء”([43]). ونجد ما يدعم هذا الفرض لدى عبد العزيز بنعبد الله، حين يقول إن صوفية المغرب كانوا، في البدايات، مطبوعين بالبساطة، بينما أهل المشرق ” برزت بينهم المستحدثات، كوَحدة الوجود “([44]). وهو يؤكد أن التبادل استوثق بين صوفية المشرق والمغرب في مظهرين: الأول – انتشار طريقتين، لكلٍ من أبي الحسن الشاذلي، وعلي بن ميمون الشاذلي الحسني الفاسي (ت 917هـ/1511م)([45])؛ إضافة إلى نفوذ أحمد البدوي الفاسي، دفين طنطا، في مصر. الثاني ـ انتشار مصنفاتٍ صوفيةٍ مشرقيةٍ في المغرب، كـ الحِكَم العطائية. كما تُبودلت رسائلُ صوفية، منها جواب الشيخ الغزواني عن أسئلة الناصر اللقّاني المصري، وهي نموذج للتأويلات الصوفية المغربية للقرآن. وكذلك، انتشرت العقائد الصوفية المغربية التي نَحتْ نحو عمر بن الفارض، ومحيي الدين بن عربي، وعبد الغني النابلسي، في وَحدة الوجود. كما نحا المغاربةُ نحو المشارقة في مدح أشياخهم([46]).

رباطٌ آخر، من العلاقات بين المشرق والمغرب، نلمسه حين نلاحظ أن أبا مدين التقى بعبد القادر الجيلاني في مكة، وتأثّر بطريقته. كما أن أُمَّ السيد أحمد البدوي حفيدةُ أبي مدين، وأبو مدين أستاذ عبد السلام بن مشيش، أستاذ أبي الحسن الشاذلي، وأبو الحسن، بدوره، تتلمذ لأبي الفتح الواسطي، تلميذ أحمد الرفاعي، وجدّ إبراهيم الدسوقي([47]).

أخيراً، نستطيع القول إن المرحلة الفلسفية للتصوف رسّخت فكراً مميّزاً، ووضعت قواعد أساسية لمِا أصبح يُعرف، في الفلسفة الإسلامية، بعلم التصوف. لكن هذا العلم، على الرغم مما أفرزه من نظرياتٍ، كان لها صداها، في المجتمع الإسلامي، قبولاً أو رفضاً، ظل علماً مخصوصاً. ولم يُكتب لهذه النظريات الانتشار بين الناس، حتى أخذ التصوف نحوه الطُرُقي، وأسّس شيوخُ التصوف الطُرُقَ والجماعات، التي، وإن كانت تلتقي على نقاطٍ مشتركة تجمع بينها، فقد اختطّت كل طريقة من هذه الطُرُق، لنفسها، مساراتٍ متفاوتةٍ، فبعضها اتجه نحو الطقوسية والشكلية، وبعض آخر اتجه نحو الاعتدال والتركيز على تعمير البواطن والأخلاق. 

 

الهوامش 

([1]) بدوي، تاريخ التصوف، ص ص 23-25؛ وانظر: أبي خزام، معجم، ص 3.

([2]) نيكلسون، في التصوف، ص 19.

([3]) عامر النجار، الطرق، ص 76. ونجد النص نفسه لدى أبو الوفا التفتازاني، الطُرق الصوفية في مصر، القاهرة: مط الأمانة، 1991م، ص 9و10.

([4]) ترمنغهام، الفرق الصوفية في الإسلام، ص ص 40-41؛ ومقداد يالجن، فلسفة الحياة الروحية: منابعها ومشاربها ونشأتها، ونشأة التصوف والطرق الصوفية، بيروت: الشروق، 1985م، ص ص 107-126.

([5]) التواريخ المدونة بإزاء كل طريقة، هنا، هي تواريخ تقريبية للفترة التي عاشها شيخ كل طريقة؛ لمتابعة تفاصيل الطرق الصوفية وتفريعاتها المختلفة، انظر: ملاحق كتاب:

Trimingham, J.Spencer, The Sufi Orders in Islam, Oxford: Clarendon pr., 1971.

وعبد الله عبد الرازق، أضواء على الطرق الصوفية في القارّة الإفريقية، القاهرة: مك مدبولي، 1989م؛ والنجار، عامر، الطرق الصوفية في مصر: نشأتها ونظمها وروادها: الرفاعي، الجيلاني، البدوي، الشاذلي، الدسوقي، ط 3، القاهرة: المعارف، 1986م؛ وأ. جي، بريل، دائرة المعارف الإسلامية، تحرير: م.ت. هوتسما وغيره، الشارقة: مركز الشارقة للإبداع الفكري، 1998م، مج22؛ والهجويري، كشف المحجوب، تر. د. إسعاد قنديل، بيروت: دار النهضة العربية، 1980م، ص ص 403-507 وعبد الحكيم قاسم، المذاهب الصوفية ومدارسها، القاهرة: مدبولي، ط 2، 1999م، ص ص 136-186.

([6]) التفتازاني، مدخل، ص ص  128-129.

([7]) النجار، الطرق، ص ص 25-26.

([8]) غني، تاريخ التصوف، ص ص 81-83.

([9]) التفتازاني، مدخل، ص 24.

([10]) عبد الله عبد الرازق، أضواء على الطرق الصوفية في القارة الإفريقية، القاهرة: مك مدبولي، 1989م، ص 26.

([11]) م. ن، ص 3.

([12]) خليل الجر، وآخرون، الفكر الفلسفي، ص ص306-307.

([13]) م. ن، ص 306.

([14]) عبد الله عبد الرازق، أضواء على الطرق الصوفية، ص20.

([15]) الجر، وآخرون، الفكر الفلسفي، ص 307.

([16]) أسعد السحمراني، التصوف: منشؤه ومصطلحاته، بيروت: النفائس، 1987م، ص166.

([17]) محمد درنيقة، الطريقة الشاذلية، ص 23.

([18]) التليلي العجيلي، الطرق الصوفية والاستعمار الفرنسي بالبلاد التونسية، تونس: كلية الآداب بمنوبة، 1992م، ص 47.

([19]) عبد العزيز بنعبد الله، الصوفيون في المغرب، (مقال)، الكويت: مجلة العربي، ع 248، 1979م، ص 105.

([20]) انظر: أبو الوفا التفتازاني، الطرق الصوفية، ص ص 44-45؛ وتوفيق الطويل، التصوف في مصر إبان العصر العثماني، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1988م؛ وعلي أبو شامي، التصوف والطرق الصوفية في العصر العثماني المتأخر، رسا، بيروت : الجامعة اللبنانية، 1993م، ص 75.

([21]) فاروق مصطفى، البناء الاجتماعي للطريقة الشاذلية في مصر، الاسكندرية: الهيئة المصرية العامة، 1980م، ص ص 20-21.

([22]) الجر، وآخرون، الفكر الفلسفي، ص 306.

([23]) عبد الغني عماد، السلطة في بلاد الشام في القرن الثامن عشر، بيروت: النفائس، 1993م، ص206.

([24]) الجر، وآخرون، الفكر الفلسفي، ص 305.

([25]) أسعد الخطيب، البطولة والفداء عند الصوفية، ط 2، دمشق: الفكر، د. ت، ص ص 84-85.

([26]) الخانقاوات، أو الخوانق، جمع خانقاه، أو خانكاه. وهي كلمةٌ فارسية، معناها بيت، وقيل أصلها خونقاه، أي الموضع الذي يأكل فيه الملك. انظر: تقي الدين أحمد بن علي المقريزي، كتاب المواعظ والإعتبار بذكر الخطط والآثار، بيروت: صادر، د. ت، ج2، ص 414.

([27]) بدوي، تاريخ التصوف، ص 26.

ويذكر المقريزي أن الخانقاوات وجدت، في الإسلام، في القرن الخامس الهجري. انظر: المقريزي، الخطط، ج2، ص 414. وهذا يتفق مع ما يورده القزويني، من أن أبا سعيد بن أبي الخير (ت 441 هـ/ 1049م) هو الذي وضع طريقة التصوف، وبنى الخانقاه ([27]). زكريا القزويني، آثار البلاد وأخبار العباد، بيروت: صادر ودار بيروت، 1960م، ص 316.

([28]) الخطيب، البطولة والفداء، ص ص 123-124؛ ومحمد درنيقة، صفحات من جهاد الصوفية والزهاد، طرابلس: جروس برس، 1994م، ص 74.

([29]) الخطيب، البطولة والفداء، ص 126.

([30]) درنيقة، صفحات من جهاد الصوفية، ص 43.

([31]) الخطيب، البطولة والفداء، ص ص 98-99.

([32]) عبد الرازق، أضواء، ص ص 8-9 و27 و68 و79 و116؛ وأيضاً، الخطيب، البطولة والفداء، ص ص 180 و183 و191 و201 و203، ودرنيقة، صفحات من جهاد الصوفية، ص ص 67 و 89 و 80 و 36.

([33]) درنيقة، صفحات من جهاد الصوفية، ص 97.

([34]) م. ن، ص 39.

([35]) محمد درنيقة، الطريقة الشاذلية وأعلامها، ص 79.

([36]) أسعد الخطيب، البطولة والفداء، ص ص 226-238.

([37]) النجار، الطرق، ص ص 132-136.

([38]) الشيبي، الصلة، ص 473.

([39]) عبد الرازق، أضواء، ص 23.

([40]) أسعد الخطيب، البطولة والفداء، ص ص 229-232.

([41]) النجار، الطرق، ص 40.

([42]) سعاد الحكيم، وحدة الوجود (مقال)، الموسوعة الفلسفية العربية، معهد الإنماء العربي، مج. 2، ق 2، ص 1529.

([43]) م. ن، ص 1529.

([44]) عبد العزيز بنعبد الله، الصوفيون في المغرب (مقال)، مجلة العربي، ع 248، ص107.

([45]) كان من أبرز المجاهدين الذين لازموا الثغور والسواحل لمنازلة الإفرنج، فاجتمع له عدد كبير من المجاهدين ولّوه القيادة. فرحل إلى المشرق، حتى توفاه الله في لبنان. له عدة مؤلفات في الفقه والقرآن والدفاع عن المتصوفة. انظر: الزركلي، الأعلام، ج5، ص 27؛ وقد ذكره ترمنغهام بقوله إنه كان أحد الذين أنبتوا الطريقة الشاذلية المدنية في بلاد الشام في القرن السادس عشر، يرافقه محمد بن عراقه، وكان ثرياً، لكنه ترك كل شيء وتبع ابن ميمون، الذي اشتهر عنه قتاله للبرتغاليين. انظر: Trimingham, The Sufi Orders , p.89..

([46]) بنعبد الله، الصوفيون في المغرب، ص 109.

([47]) النجار، الطرق، ص 174.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!