أبو الحسن الشاذليّ

أبو الحسن الشاذليّ

أبو الحسن الشاذليّ

 بقلم: د.وفاء السوافطة 

لاحظ أحد الباحثين أنّه في حين كان غيره من مشايخ التصوّف يميلون إلى الرمزية، والإغراق في المعاني المجّردة، وكانوا ينأون عن الناس، كان الشاذلي، ومن تبعه من أشياخ الطريقة، يميلون إلى تبسيط المناهج والقواعد الصوفية للعامة([1])

فمنهج الشاذلية كان يقوم على قواعد بسيطة لخصّها بعضهم([2])بالتالية: 

الإخلاص، والتوبة، والنية، والطريق إلى الله، والخلوة، والجهاد . ومجموع هذه القواعد الستّ يركّز على ارتباط الفرد بالمُعتقد، وتهذيب النفس حسب قواعد هذا المعتقد. وعلى الرغم من بساطة المنهج الشاذلي، إلا أنه لم ينزل بالنظرية الصوفية إلى دركات غير مقبولة، كما كانت تفعل بعض الطرق الشعبية، بل حافظ على مستوىً وسطي لها، وذلك من خلال منطق التدرّج الصاعد داخل مراتب الطريقة، مما يسمح لكل الناس بسلوك الطريق، لكن الفئة التي تستمر في الصعود، تتطلب مزيداً من الجهد والتصفية، حتى ينتهي الأمر بعدد قليل من الأصفياء . ولذلك، يجعل أبو الحسن الشاذلي مراتب الدين خمسة : الإسلام، والإيمان، والتوحيد، والمحبة، والمعرفة . وهي مراتب صاعدة، كل واحدةٍ تـُسلم للأخرى. يقول:”فمن عرف الله صغر لديه كلّ شيء، ومن أحبّه هان عليه كلّ شيء، ومن آمن به أمن من كلّ شيء، ومن أسلم له قلما ينغّصه شئ، وإن عصاه واعتذر إليه، قبل عذره”([3]).

ولعل بساطة المنهج هو ما دفع آنماري شيمل للقول بأن الشاذلية لم تكن تمتلك نظاماً متطوراً للنظرية الصوفية، وإنما كل ما على المنتسب هو أن يتصرّف كأنه عضو في الطريقة منذ الأزل، ويؤمن بأن القطب سيبقى دائماً جزءاً من هذه الطريقة([4]). وتبني (شيمل) على هذا الموقف نظرة أخرى، مفادها أن من اهتمّ بتعاليم الطريقة هم من أبناء الطبقة الوسطى في المجتمع، من الكتبة والموظفين، الذين كانت الطريقة تدرّبهم على إتقان عملهم، وتنظيم شؤون حياتهم بعناية . لكنها، تذهب أبعد من ذلك، فتستنتج أن هذه التعاليم لم يهتم بها أبناء الطبقات الدنيا، ولا الشعراء الذين يبحثون عن الخيال المحلّق([5]) . لكن، إشارة المؤلفة إلى اقتصار القطبانية على أفراد هذه الطريقة، فيه إشارة لما ردّده بعض المؤلفين، من أن الشاذلية اختصوا بثلاث خصائص: الأولى، أنهم مختارون من اللوح المحفوظ؛ والثانية، أن المجذوب منهم يرجع إلى الصحو؛ والثالثة، أن القطب منهم إلى يوم القيامة([6])

إن لغة الخطاب الشاذلي كانت تشكّل جسراً بين اللغة الفلسفية، المتحدّرة من فقهاء وفلاسفة التصوف، كابن عربي والجيلي… وغيرهم، وبين لغة البساطة، القريبة من مفهوم الرجل العادي . فاللغة الفلسفية لم تختفِ مطلقاً من الخطاب الصوفي، في تلك المرحلة الطُرُقية، إذ يمكننا أن نستقرئ، من خلال تعاليم الشيخ أبي الحسن الشاذلي، أن اللغـة التـوفيقيــة، التي حملتها مدرسـته، كانت تجمع بين مستويين من الخطاب: المستوى العام، والمستوى الخاص. فالشاذلي كان يخاطب العامة بلغة العموم، والخاصة باللغة المطعّمة بشيء من الفلسفة الدينية المقبولة، حتى لدى المتعصّبين من الحركة السلفية([7]). فها هو الشاذلي، هنا يتحدث عن التوبة، فيقسمها إلى نوعـين: توبة عوامّ، وتوبة خواصّ .  ويجعل توبة العوامّ على ثلاث مراتب: الأولى، للكافرين، وهي توبة من الكفر إلى الإسلام؛ والثانية، للفاسقين، من الكبائر والمخالفات؛ والثالثة، توبة عوام المؤمنين عن الصغائر. أما توبة الخواصّ، عنده، فهي على مرتبتين: الأولى، توبة الخواص عن الأفكار المتعلقة بالدنيا، وهذا هو مقام عوام الأولياء، وخواص المؤمنين؛ والثانية، توبة خواصّ الخواصّ عن اشتغال القلوب بغير ذكر الله، وهي مقام خواص الأولياء([8]).  وكذا في شأن الزهد، يـرى الشاذلي أنه ” يتفاوت باعتبار كل شاهد ومشهود. فزهد المريد في أمتعة الدنيا والمال؛ وزهد العابد في كل ما يشغل البال، وزهد أهل الورع في مُباح الحلال والطمع؛ وزهد السالكين في ما يحجبهم عن قيام الدين؛ وزهد أهل الأحوال في أحوال غيرهم من الرجال…”([9]).

‌‌‌وموقف الشاذلي من الزهد مؤشر يوضح موقفه من الحياة . فهو رجلٌ عُرِف عنه إقباله على الدنيا، وتمتعه بحلالها، ومحاربته للتمظهر بثياب الزهد، ولبس المرقع والخِرَق البالية. يقول : ” ليس هذا الطريق بالرهبانية، ولا بأكل النخالة والشعير، وإنما هو بالصبر على الأوامر واليقين في الهدايـة “([10]). كذلـك كان الشاذلي، مرةً، يتحدث عن الزهد في أحد المساجد، وعليه ثياب حسنةٌ، فدنا منه فقيـر يـرتدي لباسـاً من شَعْر، وأمسك بملابس الشاذلي، وقــال: يا سيدي، ما عُبد الله بمثل هذا اللباس الذي عليك . فأمسك الشيخ بملابس الرجل وقال له : ولا عُبد الله بمثل هذا اللباس الذي عليك. لباسي يقول : أنا غني فلا تعطوني، ولباسك يقول: أنا فقير إليكم فأعطوني([11]).

ولنظام الذكر، عند الشاذلي، مراتبه المتدرجة، مما يعبر عن موقفه التوفيقي. إذ اشـتهر عن بعض الصوفية المغالاة في الذكر الجهري، على صوت الطبل والمزمار، إلى درجةٍ تفقد المريد الحس وتسقطه أرضاً . فجعل الشاذلي الذكر على ثلاث مراتب: الأولى، ذكر باللسان، وهو ذكر العوام، الذين يذكرون خوفاً من النار، أو طمعاً في الجنة؛ وذكر بالقلب، وهو ذكر الخواص والمؤمنين؛ وذكر الروح لخواص الخواص، وهو ذكر المحسنين([12]). ويشير عبد الحليم محمود لتوفيقية أبي الحسن، من خلال موقفه من المجتمع، فيقول إن مدرسة ابن مشيش كانت تقوم على الانصراف عن الخلق، بينما كانت مدرسة أبي الحسن تقوم على الاختلاط بالناس. ولذلك، لم يؤسس الأول طريقةً، وإن كان قد اشتهر بوضع الوظيفة المسماة بالصلاة المشيشية([13]).  ويفسر أحـمد الشـريف، في المواهب السنية في المـآثر الشاذلية، هذا الموقف مِن المجتمع بأن الشيخ أبي الحسن قد جاءه الأمر أن يعيش بين الناس، وينفق ” إن شاء من الجيب، وإن شاء من الغيب ” ([14]). وهذا لا يتعارض مع كثير من أقوال أبي الحسن التي تحض على هجر الناس، فالخلوة، أو اعتزال الناس مرحلة لا بد منها في طريق الصوفي، لتفريغ عقله وقلبه من هموم الحياة وأدرانها. ولذلك، تجد، أن من أصول الطريقة الشاذلية: تقوى الله، في السر والعلن؛ واتباع السنة، في الأقوال والأفعال؛ والإعراض عن الخلق، في الإقبال والإدبار؛ والرضا عن الله، في القليل والكثيـر؛ والرجوع إلى الله، في السراء والضراء([15]) . وكذلك، كان الشيخ الشاذلي يقول: إن أردت أن تصبح على يديك الكيمياء، فأسقط الخلق من قلبك، واقطع الطمع من ربك أن يعطيك غير ما سبق لك([16]). فهذا الإسقاط للخلق من القلب، يُقصد به قطع الأمل من قدرتهم أو تأثيرهم في مسار الحيـــاة، والتسليم لله بهذه القدرة وحدها.

ولكن ذلك لم يكن ليمنع الشاذلي، أو أتباعه من الاختلاط بالناس، إذ إن المعروف عن منهج الشاذلي، أنه كان يدعو للاختلاط بالناس، والتأثير فيهم قولاً وعملاً . فقد تزعم، هو ذاته، حركةً إصلاحيةً في الأندلس وشمالي إفريقيا، لتخليص صوفية تلك المناطق من نظريات الحلول والوحدة، التي نقلت الزهد إلى التصوف الفلسفي الذي تزعمه ابن مسرة، وابن عربي، وابن سبعين([17]). كما قام الشاذلي، نفسُه، بالمشاركة في الجهاد ضد الصليبين . وقد أثّر ذلك في بعض الطرق الشاذلية الفرعية، التي كانت تجمع الأموال، لفدية أسرى المسلمين في الغارات الأولى للفرنجة على السواحل الإفريقية، كالجماعة التي أسسها أبو عبد الله الجزولي (ت 870 هـ/ 1465م) ـ وهو مراكشي شاذلي من الجنوب الغربي ـ([18]).

إن الطريقة الشاذلية، ذاتها، بمبناها العام، وبحسب المخطط الذي بث تعاليمه فيه، الشيخ أبو الحسن الشاذلي، تقدم دليلاً على تقوية العنصر الاجتماعي، في التصوف، وتعزيز أواصر التواصل بين الأفراد، على قاعدةٍ فكريةٍ، عقائديةٍ، واحدةٍ. وقد ساعد على سهولة تقبل تعاليم الطريقة، عدم وقوف هذه التعاليم أمام رغبة الإنسان في التواصل الاجتماعي، بل رفدت هذا التـواصل، وأزالت من أمامه كل العقبات، التي قد تؤدي للعزلة، والانطوائية، وبالتالي تؤدي إلى الاختلاف. فقد كانت الطرق، من الناحية التنظيمية، قبل أبي الحسن الشاذلي، متفرقةً، متفرعةً، متعددةَ الاتجاهات، تعكس مجالي متنوعة للحقيقة المحمدية. ثم عادت والتقت في شخصيته، لتعود، بعده، للتفرّع حسب مشارب مشايخها، وحسب ثقافتهم. وقد عزز مشايخ الطرق هذا التفاوت والتفرّع، بحسب أحوال السلوك المختلفة. ولعل هذا عائدٌ لثقافة التصوف الأساسية، القائمة على التفاوت والاختلاف في الأحوال والمقامات. وهذا ما عبّر عنه الهروي، حين قال: ” إن منازل السير واحدةٌ في كل طريق، ولكن، يختلف سير كل سالك بحسب حاله”. وقد فسر قوله، ذاك، بأن هناك من يجاهد، عن طريق الصبر، وذلك بتربية نفسه، ومخالفة حظوظها؛ وهناك من يجاهد عن طريق الشكر، فيسقط التدبير مع الله؛ وهناك من يرى أن الذكر أقطع للحُجُب؛ وهناك من يرى أن في العلم طريقاً للمعرفة([19]). وقد اشتهر عن الشاذلي أنه على طريق الشكر([20]).

وقد لوّنَ شيوخُ الشاذلية طريقتهم بلون ثقافتهم الصوفية، التي كانت ثمرة التفاعل بين التراث الصوفي الضخم والواقع المُعاش. لذا، فقد أعطى بعضهم للبُعْد الاجتماعي أهمية عظيمة. فالشيخ أبو الحسن الشاذلي يقول: حسـبُك من العلمِ، العلمُ بالوحدانية، ومن العمل، تأدية الفرض مع محبةِ الله ورسولِه، واعتــقادِ الحقِ للجماعة، فإن المرء مع من أحب، ولو قصّر في العمل([21]) .

 

الهوامش 

([1]) محمد الفيومي، مع البوصيري وابن عطاء الله، القاهرة: مك الأنجلو المصرية، 1983م، ص ص 64-65.

([2]) عبد الحكيم قاسم، المذاهب الصوفية ومدارسها، القاهرة: مك مدبولي، 1989م، ص 194.

([3]) عبد الرؤوف المناوي، الكواكب الدرّية، جـ 2، ص 129 .

([4]) . Schimmel , Mystical dimension , p.250

Ibid, p.251. ([5])

            وفي استنتاجات (شيمل) ما يحتاج للتوضيح والتعليـق، فالبساطة التي وجدها بعض أبناء الطبقة الوسطى ـ كما تقول ـ في تعاليم الشاذلي وأتباعه، لم تعنِ، بأي حالٍ من الأحوال، عدم امتلاك النظام المتطوّر للنظرية الصوفية، إذ سنرى، لاحقاً، أن الشاذلي، رغم بساطة عباراته وحِكَمه، كان ينقل للإنسان العادي خلاصة الفكر الصوفي المتعمّـق، الذي فشل فلاسفته في الوصول به إلى القاعدة الشعبية، حتى كادت تعاليمهم تنقرض، لولا وجود الطرق الصوفية، كالشاذلية .                                                       

            أما الحديث عن عدم اهتمام الشعراء والأدباء بتعاليم الشاذلية، فبعيد عن الدقّة، إلا إن كان الحديث، هنا، يعني بعض الشعراء الذين يرون أن غرض الشعر هو الخيال والصنعة والتكسّب. أما الشعراء الذين نشدوا الصدق وارتبطوا بالمعاني السامية، فقد وجدوا ضالّتهم في التصوف، كالبوصيري (ت 696هـ/1297م) الذي تتلمذ على يد الشيخ أبي العباس المرسي.

([6]) عياد، المفاخر، ص 154.

 ([7])أثنى ابن تيمية، ذاته، على أبي الحسن وخليفته المرسي، وإن كان قد انتقد بعض الكلمات الواردة في الأوراد الشاذلية. إذ أخذ ابن تيمية على الشاذلي قوله للمرسي: أقسم على الله بي؛ وقوله في حزب البحر: “نسألك العصمة”، وهـي لا تكون إلا للأنبياء؛ وقوله في حزب البر، مخاطباً الحضرة الإلهية: وليس من الكرم أن لا تحسن إلا لمن أحسن إليك، وأنت المفضال الغني، بل من الكرم أن تحسن إلى من أساء..”. وهذا يخالف قولــه تعالى: { }؛ وكذلك أخذ عليه قوله، في ورد الوظيفة “وانشلني من أوحال التوحيد .. الخ”. انظر تفصيل هذه الآراء والردود عليها من قبــل كل من علي صافي حسين، الأدب الصوفي في مصر في القرن السابع الهجري، القاهرة : المعارف، 1964م، ص 70-73.

([8]) عيّاد، المفاخر، ص ص 165- 166 .

([9]) درنيقة، الطريقة الشاذلية، ص 28؛ نقلاً عن: الشاذلي، أبي المواهب، قوانين حكم الإشراق، ص 27، ط دمشق، 1966م.

([10]) المناوي، الكواكب الدرية، جـ 2، ص 128 .

 ([11])درنيقة، الطريقة الشاذلية، ص 30 .

([12]) م . ن، ص 47 .

([13]) عبد الحليم محمود، قطبا التصوف، القاهرة: الكتاب المصري، بيروت: الكتاب اللبناني، 1990م، ص 32 و 39 .

 ([14])أحمد الشريف، المواهب السنية في المآثر الشاذلية، القاهرة : مك الجندي، 1969م، ص 19.

([15]) النجار، الطرق الصوفية، ص 203 .

([16]) محمود المنوفي، جمهرة الأولياء وأعلام أهل التصوف، القاهرة : الحلبي، 1967م، جـ2، ص 215 .

([17]) درنيقة ، الطريقة الشاذلية، ص 22 .

([18]) بـِل، الفرق، ص 421 .

([19]) أبو إسماعيل عبد الله الأنصاري الهروي، منازل السائرين إلى الحق عز شأنه، ط 2، القاهرة : الحلبي، 1966، ص ص 18-25 .

 ([20])حسن الشرقاوي، الحكومة الباطنية، بيروت : المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1992، ص ص 33 – 34.

 ([21])المناوي، الكواكب الدرية،  جـ2، ص 127 .

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!