هل القرآن الكريم كتاب كباقي الكتب السماوية؟

هل القرآن الكريم كتاب كباقي الكتب السماوية؟

 

هل القرآن الكريم كتاب كباقي الكتب السماوية؟ (*)

بقلم: ميشيل أورسيل، كاتب وإسلامولوجي فرنسي

ترجمة: خديجة حلفاوي، باحثة من المغرب

 

 

ليس القرآن هو الكتاب المقدس الوحيد للبشرية. إذن، أين تكمن فرادته؟

لا يمكن اعتبار القرآن الكريم هو الكتاب المقدس الوحيد الذي ينظر إليه أنصار أحد أهم الديانات الإنسانية [الإسلام] بمثابة “كتاب” يحتل وضع خاص، مقدس وذو أصل إلهي. دون الخوض في الحديث عن “الفيدا الهندوسية” (Véda des hindous) أو “الأفستا الزرادشتية” (l’Avesta zoroastrien)، شكل الكتاب المقدس تجميع لنصوص وقصص موحى بها مباشرة من قبل الله؛ على لسان رسله. بالنسبة للمسيحيين، دون الحاجة إلى نفس القيمة، يظل وضع الإنجيل (العهد القديم “Ancien Testament”) متطابق، مع اختلاف الحجم والأناجيل (العهد الجديد “Nouveau Testament”)، من حيث الإشارة إلى أفعال وكلام المسيح عليه السلام، و”وفيا” للكتب العبرانية.

من بين جميع النصوص المقدسة، يحظى القرآن الكريم بخصوصية خاصة، بين جميع المجتمعات الإسلامية، تعود إلى الاعتقاد في كونه نص مقدس، أوحي به إلى محمد عليه السلام، وهو كلام -“غير مخلوق”- لله، نزل على محمد طوال فترة دعوته. يتعلق الأمر إذن بكتاب “موحى [به]”، وأيضاً “مملى”. باختصار، يحتل القرآن بالنسبة للمسلمين، من حيث الطبيعة والدور، نفس المكانة التي يحتلها المسيح، كلمة الله والله نفسه [وفق التصور المسيحي لكون عيسى هو ابن الله]، بالنسبة للمسيحية. لذلك، نفهم كون القرآن يدرك من قبل علماء الدين المسلمين كـ”علامة” على [وجود] الله، وطبيعته. لابد أن نشير إلى أنه ولتجاوز صعوبة التعبير عن الطبيعة الإلهية في النص المقدس والواقع التجسيدي (المادي) والتاريخي (لكون بعث محمد يأخذ بعدا تاريخيا والقرآن يعبر عن أحداث تاريخية ملازمة لزمانه)، نلمس البعد “العقلاني” للقرآن الكريم ــ بلغة المعتزلة ــ الذي جسد العقيدة الإسلامية لعقدين من القرن التاسع الميلادي؛ والتي عرف تحت مسمى “خلق القرآن أو القرآن المخلوق” (Coran créé). على الرغم من صعوبة استساغة هذا المفهوم ضمن نسق الاعتقاد المشترك اليوم، بعد أن اختفى لعدة قرون، نجده قد عاود الظهور بقوة بين المفكرين الإصلاحيين المعاصرين.    

الكشف عن الألغاز

إذا سألنا باحثاً غربياً في الإسلامولوجيا حول من هو “مؤلف القرآن”، فإنه سيلزم الصمت ولن يستطيع الجواب ـ ألهم أن يكرر النسخة اللاتينية لإنجيل مسلم. لكن، إذا سألناه حول من عمل على كتابة القرآن، فإنه سيقدم بعض الإجابات. دعونا إذا نركز على مسألة “تحرير وتدوين القرآن” (la rédaction du Coran): سنجد جواباً رسمياً، والعديد من الألغاز. بالنسبة للتقليد، لحظة وفاة النبي، لم يكن القرآن الكريم سوى خطاب مشافهاتي: إذا كانت بعض أجرائه مدونة في مواد مؤقتة، فإن المتن العام قد تم حفظه كليا أو جزئيا من بعض الصحابة والأتباع الأتقياء. كان علينا أن ننتظر مجيء الخليفة الثالث للرسول (عثمان بن عفان)، وأمام خوفه من ابتعاد الأمة والمجتمع عن النص المقدس (نظراً لكون بعض المسلمين قد قدموا تأويلات وقراءات شخصية للوحي النبوي)، لنشهد ظهور نسخة “رسمية”، ويشرف عليها أحد صحابة النبي عليه السلام. بمجرد اعتماد هذه النسخة، تم إرسالها إلى المدن الرئيسية بالإمبراطورية الإسلامية، مع العمل على استبعاد النسخ غير المتوافقة.

قد تكون هذه القصة مقبولة، لكن لا شيء متحقق منه بشكل ملموس. تسمح لنا العديد من الوثائق، البسيطة والدالة، بتصور قصة مختلفة قليلاً؛ حيث لم تصل إلينا أي من النسخ المدونة من طرف عثمان بن عفان، وإلى وقت قريب لم يكن لدينا نسخة قديمة من القرآن بقدر ما لدينا نسخ وصيغ حديثة. سمح هذا الوضع لبعض “أنصار التعديلية” (الأمريكي “جون وانسبروغ” ” John Wansbrough ” في المقام الأول) بالقول إن النسخة الرسمية الحالية للقرآن لم يتم إثباتها إلا في وقت متأخر، وبالضبط خلال القرن العاشر. لكن اليوم، وقع حدث رئيسي قبل أربعين سنة: يتعلق الأمر باكتشاف مخطوطة صنعاء، باليمن. على الرغم من كوننا بعيدين عن تقديم تحليل مفصل حول هذه المادة الغنية (بين ألاف المخطوطات والطروس)، إلا أننا متأكدون من كوننا أمام واحدة من أقدم النسخ المكتوبة للقرآن الكريم، ويمكن تحقيبها بالربع الثالث أو الرابع من القرن السابع؛ أي بعد خمسين سنة من وفاة الرسول عليه السلام. لكن حتى وإن كانت مخطوطة صنعاء غير متطابقة بشكل كبير مع النص الرسمي الحالي (وهو الأمر الذي يغضب بعض الأصوليين ويفسر بلا شك تكتم السلطات اليمنية) إلا أنه من شأن اكتشافها أن يكون ردا على أطروحات أنصار التعديلية والتحريفية.

تفكيك التاريخ

في الواقع، بين القرآن ــ ككلام غير مخلوق وقائم على عقيدة ثابتة وقانون اجتماعي ــ والإسلام كمحتوى من المعتقدات والبنيات السياسية، كان من الضروري ابتكار فكرنة، وعقيدة، وروحانية، وقانون لم يكن موجوداً سابقاً أو تم رسم معالمه في النص المقدس، خلال مدة زمنية لا تقل عن سبعين سنة (بين بداية نزول الوحي على محمد وتشييد قبة الصخرة في القدس). يشكل “الحديث” السيرة الذاتية للرسول، ويوفر مادة خام حولها. لكن مع ذلك، لم يتم تجميع هذين المصدرين إلا في وقت متأخر [منذ وفاة الرسول]، وتحت تأثير ظروف لا تسوفي في غالبها الشروط والمعايير المطلوبة والمحددة من قبل “العلم الغربي”. نجد أن المسلمين أنفسهم يعترفون بوجود أحاديث ضعيفة ويحددون قيمتها وفق معايير خاصة. في الحقيقة، نحن لا نعرف إلا القليل من الأشياء والأمور عن هذه اللحظة العرفانية. بالنسبة ل[النصوص] المصادر الخارجية أو الثانوية (اليونانية، والسريانية، والأرمنية واليهودية)، نجد إخبارا عن تاريخانية الرسل، ورسائلهم ومعارفهم الدينية، والروابط الأصيلة التي تجمع بين اليهودية والإسلام الوليد.. الخ. تظل هذه المرجعيات مثيرة للاهتمام، ليس فقط لكونها تعكس حقيقة تاريخية، وإنما لشهادتها على المصدر المشترك للديانات السماوية الثلاث. انطلاقاً من هذه الوثائق، يمكننا القول بكل تحفظ أن محمد عليه السلام قد لعب دوراً دينياً، وسياسياً وعسكرياً ــ انطلاقاً من الشواهد الخارجية (الصديقة وغير الصديقة) ــ مكنه من أن يقدم للعرب دين مصحح لليهودية أو المسيحية التجسيدية أو الهرطقة الأريوسية؛ من منطلق الرغبة في استعادة القدس من يد اليهود، المضطهدين من قبل بيزنطة، والتعجيل بعودة عيسى عليه السلام. تتداخل هذه المصادر في جزء كبير منها مع العقيدة الإسلامية؛ كما رأينا، وتشكل صورة من صور “الورقة المسيحية، في إحالة إلى كون التقليد الإسلامي قائم على التصديق بصحة الرسالة الإلهية التي جاءت قبل محمد، والتي يمكن أن تكون علامة على علاقة بين الإسلام وما نسميه اليوم ب “اليهودية النزارية” (le judéo-nazaréisme)؛ أي يهودية تعترف بميلاد المسيح دون قبول الطبيعة الإلهية لبعثه.

إن الدراسة المستفيضة لميلاد الإسلام، وعلاقته باليهودية والمسيحية وتوسعه النفوذي، بشكل أكثر سلمية من كونه مجرد عقيدة، سيقودنا بلا شك إلى “دحض” أطروحة “صدام الحضارات” (choc des civilisations)؛ على الأقل كظاهرة وراثية.

قانون تساوقي

هنا نتساءل حول طبيعة ونظم المتن القرآني؟ يمكن لهذا الإشكال أن يكون مثيراً للجدل، وهو ما نراه بشكل جلي اليوم، بخاصة لدى أنصار الإسلاموفوبيا. لكن، يظل مشروعا وفقا للروح العلمية الخالصة. علاوة على ذلك، علينا أن نعترف بأن هذا العمل التاريخي ــ النقدي قد تم القيام به منذ وقت طويل بالنسبة للأصول المسيحية، في حين أن المسلمين قد أعرضوا عن ذلك، و”فوضوا” المسألة للمستشرقين الأوربيين الذين عملوا في كثير من الأحيان على تتبع محتوى النسخة القرآنية التي تقدم الإسلام في تاريخيه، دون أشكلة تاريخانية هذه الوقائع.

في الواقع، تؤكد الدراسات التاريخية-النقدية على وجود متغيرات نصية (قاصرة إلى حد ما في جوهرها) تعود إلى عهد الرسول، وأن ترتيب السور يختلف عن الترتيب المتعارف عليه اليوم. هناك أطروحة معاصرة ــ نظرية الرموز لجان جاك والتر “Jean-Jacques Walter” (2014) حول نزول القرآن ــ قائمة على دراسة رياضية جديدة، تتماشى مع قانون “تساوقي” وأكثر تطوراً (عدة مدونين) للقران الكريم. رغم ما نلمسه من طابع “استفزازي” [عقدي] في الأمر، وإن تم تطعيمه في إطار “الإسلاموفوبيا العارفة” (l’islamophobie savante)، إلا أن مثل هذه الأعمال جد مفيدة ويجب أن تدفع الباحثين المسلمين إلى الانخراط في أعمال مراجعة وتفحص واسعة النطاق، والاستمرار في هذا المسعى التاريخي الذي لا ينفصل بموجبه الإسلام، بأي شكل من الأشكال، عن المؤمنين (يجب التركيز هنا على مختلف النداءات القرآنية للعقل الإنساني والبحث عن فك تشفير “العلامات” الإلهية).

بالمناسبة، هناك العديد من الباحثين الغربيين، من بينهم “باتريسيا كرون” (Patricia Crone)، قد تراجعوا عن نظرياتهم “المعادية”، والأعمال الشهيرة لـ”كريستوف لوكسمبورغ” (Christoph Luxenberg)، والتي أدعت أن بعض سور القرآن الكريم قد نسخت من التراتيل السريانية المسيحيين، قد تم الكشف عن دوافعها والأخطاء التي تعتريها.

تباين بين الإسلام والعلم

سيكون الإسلام عاجلاً أم آجلاً مجبراً على تفكيك تاريخه الخاص. كان على الكنيسة أن تخضع لنفس الاختبار، لكي تبقى على قيد الحياة. في الوقت الراهن، لازال هناك تباين قائم بين الإسلام والعلم؛ من منطلق أن الغالبية العامة من المسلمين (بما في ذلك النخب الشابة) يتمسكون بقراءة “مقدسة” وشمولية للنص المقدس؛ قراءة في جوهرها تقف عائقاً أمام التفكير في الحقيقة العلمية كما الحقيقة الدينية في الآن نفسه ــ والتي ليست في الواقع هي نفسها (**). تشير دراسة الأب مايكل كويبرز، المثيرة للجدل (Michel Cuypers)، بأنه ليس لكوننا ندرس أصول القرآن أو ندعو إلى وجود تاريخ إنساني، سنسقط في خانة “اللامقدس”. انطلاقاً من وجهة النظر هذه، سيكون من المرحب به العودة إلى الحرية التي تمتع بها المفكرين الأصيلين للإسلام، وهو الأمر الذي يفرض نفسه اليوم بإلحاحية شديدة، لكون المسلمين في لجوئهم إلى اليقين في مواجهة نصوص غير مدروسة وحقائق مطلقة، يفتحون المجال أمام الباحثين الراغبين في تشويه سمعة دينهم أو تعزيز الإسلاموفوبيات نحو الأسوأ…  

في حقيقة الأمر، يتلاقى جزء كبير من “الحقائق المكتشفة” للأديان التوحيدية في كونها مكسب مشترك للإنسانية جمعاء؛ على الرغم من أنه قد لا يكون لهذا المكسب علاقة بالعقلانية والتاريخ: المعتقِد ينخرط في علاقة مع معتقَده وهذا وحده كاف. لكن الأمور تأخذ شكلاً أكثر تعقداً حينما يميل الأناس إلى “تقديس” ــ وأحياناً إلى درجة “تأليه” ــ أمور معتقدهم وإيمانهم في المجال العام [على المستوى الخارجي]. وعلى ما يبدو هذا ما يحدث مع القرآن الكريم ــ وبشكل أقل حدة ــ مع شخصية الرسول. فإذا أصبح الأول “من نفس جوهر وطبيعة” الله، فإن الثاني قد أضحى لدى المسلمين اليوم يمثل شخصية “تقية” ينبغي أن يسير على نهجها المسلم، وفقا لركن الشهادة في الإسلام نفسه “لا إله إلا الله [محمد رسول الله].

في الواقع، ظل تقديس القرآن بمثابة القوة والسلطة الضامنة لاستمرار وانتشار الدين الإسلامي نفسه (خلافا لـ”الإصلاح” الذي شهدته الكنيسة، والذي عمل على سحب اللغة المقدسة وجزء من قداسة الدين المسيحي)، وهو أمر لا يمكن التشكيك فيه، لكن لابد أن نشير إلى كون هذه القداسة نفسها وقفت حاجزاً أمام البحث ودراسة القرآن وأبطلت مختلف القراءات الأخرى، بما فيها العلمية منها، تحت مباركة المؤمنين الأصليين أو المهتدين الجدد. إذا كان القرآن كلام الله، وهذا أمر لا جدال فيه، ويحوي كل شيء، لماذا نلمس أشياء أخرى [في الواقع]؟ ولماذا نجد الحقائق الجزئية تسير في اتجاه مخالف؟

هل هناك إمكانية للقراءة الأدبية؟

بالعودة إلى عنوان المقال، نؤكد على كون القرآن الكريم يظل كتاب مقدس فريد من نوعه ومختلف عن باقي النصوص المقدسة الأخرى. إذا قارناه بالإنجيل، والأناجيل في تعددها، يظهر لنا أن المسلمين يؤكدون ويتمسكون بالطبيعة غير المخلوقة للخطاب القرآني، رغم كون بعض القراءات العلمانية تسعى للنظر لهذا المحتوى كبناء محايث لتاريخ البشرية. يمكن أن نشير هنا إلى بعض المنزلقات التاريخية، بشكل أساسي، المرتبطة بظهور ما يشبه “محاكم التفتيش” مرتبطة بـ”المعتزلة”، والتي اقتصرت على القراءة الأدبية والمتحجرة للقرآن، مثل التركيز على “صفة الله” والنظر إلى الحديث بوصفه مجرد تقليد نبوي. سواء تعلق الأمر بالناس البسطاء أو العلماء والروحانيين، كان من الضروري ترك المجال مفتوحاً أمام القراءة الأدبية للنص المقدس [وفق شروط علمية]: نترك المجال مفتوحاً إلى الباحثين ليختاروا بكل حرية.

* نشر هذا المقال ضمن الملف الذي خصصته مجلة “علوم إنسانية” الفرنسية حول تاريخ الإسلام، أنظر:

Michel Orcel, Le Coran est-il un livre comme les autres ?, Magazine .sciences humaines, Grands Dossiers Hors-série N° 4 – nov/déc 2015 – jan 2016 La grande histoire de l’Islam.

** هناك نقاشات كثيرة حول هذه المسألة لا يتسع المجال هنا لإثارتها (المترجمة).

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!