ما بعد شمس تبريزي

ما بعد شمس تبريزي

ما بعد شمس تبريزي: وقد حان وقت طرق الذهب

(صلاح الدين زركوب)

بقلم: ليلي أنفار

ترجمة عن الفرنسية: عائشة موماد

يحكي سلطانُ ولد أنه بعد الاختفاء التام لشمس، وطمع الرومي في أن يعثر عليه بدمشق، سافر مرتين إلى تلك المدينة لكن دون جدوى. فكان أن عرف في تلك الآونة تجربة ذوبان الماهيات الروحية، بعد أن تيقّن من عدم العثور على شمس مجددًا على هذه الأرض. وبعد هاتين الرحلتين العقيمتين، بقي في انتظار الأخبار، وسمع من يقول: إن شمسًا قد رجع إلى تبريز أو أنه قد مات، فرضي بواقع الأمر وتقبّل فكرة مغادرته لهذا العالم.

بالتأكيد، فإنه في مجموعة من الأشعار، يبدو أن الرومي كان لا يزال ينتظر المستحيل، ينتظر العودة وجمع الشمل، فهو يذكر تبريز على أنها مدينة كل الرغبات وظلَّ متشبّثًا بالأمل … لكن انتظارًا كهذا، يبدو مع ذلك متناقضًا مع تجربة الذوبان المذكورة سابقًا.

 إن “رأى انعكاس شمس في نفسه”، فربما لأنه كان مقتنعًا أنه لن يراه منذ الآن بـ”أعين الجسد”. أما بالنسبة لجموع المريدين المتعلقين بمولانا والذين يأملون عدم رؤية شمس مجددا، فقد كانوا يعتقدون أن الله قد خلصهم أخيرا من هذا الدرويش الجوال الذي استولى على اهتمام ووقت شيخهم. كانوا مقتنعين أنه منذ تلك اللحظة، سيستعيد الرومي منبر الوعظ وسيستأنف التدريس والخطب، ولم يفهموا بعد أن مولانا العالم والعلامة الرباني “المستقيم دينيا” قد مات، وأن شيخهم قد استبدل نهائيا عمامة التبجيل بقبعة متواضعة من اللباد البني، وأنه لن يغادر السماع أبدا.

خلال فترة لقائهما الأول، عندما انقطع شمس والرومي عن العالم للانصراف إلى السماع والمحادثات الخاصة بعيدًا عن الأنظار، انعزلا على ما يبدو في بيت رجل كان مريدًا لبرهان الدين وصديقا لمولانا: صلاح الدين زركوب. هذا الرجل الذي كان على الأرجح أكبر سنًّا من الرومي، كان صائغًا كما يدلُّ على ذلك اسمه (zarkûb) ويملك دكانًا بقونية. لقد كان إذن صائغًا لا عالمًا، كما كان عليه الحال آنذاك بالنسبة لبطانة مولانا، وكان على عكس بهاء الدين وبرهان الدين وشمس والرومي نفسه، منحدرًا من إحدى القرى بضواحي قونية.

لقد كان رجلا بسيطا ومتواضعا، وزاهدًا متمرّسًا بالتربية الصوفية والصلاة والصوم، ويبدو أنه كان من الناس القلائل (رفقة سلطان ولد) الذين اعترفوا بشمس بنفس طريقة اعتراف الرومي به، أو على الأٌقل، فإنه قد انحنى أمام قامته الروحية. والحالة هذه، يحكي سلطان ولد في سيرته الذاتية أنه بعد الإختفاء التام لشمس، وبدون شك بعد التأكد من أن شمسًا قد غادر هذا العالم، فقد اختار والده صلاح الدين زركوب كقطب روحي وخليفة له لدى مريديه في آن واحد. كان من الواضح أنه لم يكن للرومي أيّة نيةٍ في استرداد مهمة التدريس، لا على الصعيد الظاهري ولا حتى داخل حلقة المريدين الروحية، لقد وضعهم بين يدي هذا القطب الجديد حتى يكرس كل وقته إلى تأملالته.

عندما رأى الشيخ صاحب البصيرة صلاح الدين، اختاره من بين كل أولياء عصره، التفت نحوه وحاد عن الآخرين، فكلُّ اختيارٍ آخر يعتبر خطأ في نظره. يقول: “شمس الدين، ذاك الذي كنت أتحدث عنه قد عاد لنا ! لماذا ننام؟ لقد غيّر ثيابه ثم عاد ليرينا جماله ويسحرنا. أليست خمرُ الروحِ التي نشربها في القدح كتلك التي في الكأس؟ القدح والكأس ليسا سوى صورٍ، لا يُعدُّ رجلاً إلا من عرف الخمر بنفسه” (…). ويقول بكل طيبة لمريديه:” لا يستطيع أحد في هذا العالم أن يصمد لصُحبتي، ليست لي أي رغبة في استقبالكم، اذهبوا ! والتفتوا نحو صلاح الدين ! ليس في نيتي أن أكون معلمًا، فلا طيرَ يملك الأجنحة ليتبعني“.

منذ الفترة التي كان يتابع فيها دروس والده، كان الرومي قد اكتسب القناعة بأن العالم لا يخلو من قطبٍ روحي، من ظهور للتجلّي الإلهي، الذي يمثل الله على الأرض ويجعل الروح البشرية مدركة للوجود الإلهي. بعد شمس، عرف هذا الظهور في صلاح الدين، لكن يجب التذكير أن الأمر بالنسبة له يتعلق بنفس الماهية.

الوعاء والاسم هما اللذان تغيّرا لكن الروح التي يعظمها فيهما هي نفسها في نظره. هذا الاعتقاد بعبور نفس الماهية (الذات) من جسد نحو آخر قد أزعجت المتخصصين في الرومي، الذين يحرصون بالمناسبة على عدم الخلط بين هذا المعتقد ونظرية التناسخ، لكن في نفس الوقت، فإن تأكيد الرومي بنفسه وسلطان ولد من بعده، يلزمنا التفكير في هذا التطور بطريقة مختلفة عن التصور الرمزي الصرف، لكن، ولعدم وجود أي تفصيل نظري ومنهجي حول الموضوع في أعمال الأب والابن، سوف نقتصر فقط على تخمينات بالنسبة للطبيعة الصحيحة لما يسمى بـ”عبور” الذات من جسد إلى آخر. لا نملك إلا أن نسجل أننا أمام أسلوب بدعي في النظر إلى علاقة الجسد والروح وتعاقب الأولياء، وأنه بالنسبة للرومي، فقد كان صلاح الدين عاكسًا لجزء من الذات الروحية لشمس:

ذاك المكسو بالحمرة كالقمر، ظهر السنة الماضية

واليوم انكشف لنا في ثوب أخضر

التركي الذي شاهدت قدومه كلصٍّ السنة الماضية

هذه السنة أتى في ثوبٍ عربيٍّ

هو نفس الصديق في ثوب جديد

غيّر ثوبه وعاد

الخمرُ لا تزال نفسَ الخمر، ما يتغيّر هو الإبريق

أنظر كم أسكرتنا هذه الخمر

أنتم يا من تظنون أن المصابيح قد ماتت

اعلموا أن المصابيح قد ظهرت من هذه الكوة

لا حديث هنا عن التناسخ

لكنه خطاب التوحيد الصرف

المنبعث من غليان المحيط الغني بالدرر

نقطة ودّعت المحيط دون انفصال

فخلق الإنسان من صلب تربة من طين

اختفى البياض عندما ظهر السواد

لكنه عاد اليوم وسطّ جيش لا يعد ولا يحصى

إن اختبأت الشمسُ أثناء المغيب فهي لم تمت

في سماواتٍ أخرى، أشرق القمرُ من الوهج

اترك الكلام هاهنا، وانظر إلى مرآة المشاهدة

لأن آثام الكلام وأوهامه قد نشأت

وشمس حق تبريز قد جاءت

لا تقولوا أن قمرَ الأسرارِ هذا قد غادر القبة الزرقاء

[مولانا .. الديوان الكبير]

هذا تناقض لا يحاول الرومي أن يوضحه، فهو يقدّم الفكرة بتعابير شعرية مع الإشارة إلى أن الحديث في هذا المجال لا ينتج إلا الأخطاء والأوهام، وحتى وإن كان له من الحكمة ما يجعله متبنّيًا لـ”التوحيد الصرف” مقابل “التناسخ”، فإن أسلوب تعبيره يظل غامضًا.

وتظلُّ الصور الشمسية طاغيةً وذكرى شمس كامنة في السبعين قصيدة التي وجهت إلى صلاح الدين، ومع ذلك، لا يمكن الادعاء أن صلاح الدين قد كان بعبارة صحيحة “شيخًا” للرومي. فهو لم يترك أي نصٍّ أو تعاليم. قد تولى بالتأكيد الأعمال الآنية لمحيط الرومي، لكن لا يظهر أنه قد ترك أية تعاليم خاصة به. لم يحظ صلاح الدين بنفس القامة المعرفية والروحية التي حظي بها شمس الذي لم يكن سوى مرآة للرومي، وعلاوة على ذلك، يحكي سلطان ولد أن المريدين كانوا في ذهول من اختيار شيخهم. فإن كان شمس يملك على الأقل معارف مستقاة من الكتب، فصلاح الدين لا يتقن حتى اللغة الفارسية، ويبدو أيضًا أن مجموعة منهم قد تآمرت مجددًا ضدّه بسبب الغيرة وأرادت قتله، لكن ما أن علم الرومي بذلك حتى أبعدَ المريدين المتمردين ووبّخهم علنا، لكن ما فتيء أن سامحهم بعد ذلك.

يمكن القول إجمالاً أن هذه الفترة من حياة الرومي، التي امتدت على عشر سنوات، كانت بمثابة فترة عودة الرومي إلى الهدوء بعد الاضطرابات التي عاشها مع شمس وبعد اختفاء هذا الأخير. كان لصلاح الدين تأثير المهديء على الرومي باعتبار شخصيته ولكونه تولّى حقيقة تكوين المريدين، تاركًا الوقت الكافي للرومي كي يركز على مهامه الروحية. لم يمنعهما ذلك من ممارسة السماع معًا والاستمتاع بلحظات من النشوة الروحية العنيفة كما تشهد على ذلك هذه الحكاية الطريفة التي يرويها سبهسالار:

” في أحد الأيام، كان مولانا مارًّا بالقرب من سوق الصاغة. وصلت موسيقى الطَّرق ودقاته إلى أذنيه المباركتين، فدخل مولانا في حالٍ عجيب وبدأ الدوران. خرج الشيخ صلاح الدين زركوب صارخا من دكّانه وذهب لملاقاته، فقد وعيه خلال الرقص فأمسك به مولانا. لكنه طلب الرحمة من مولاه قائلا إنه لم يستطع تحمل” سماع الـ”خداوندكار” لأن الرياضات والمجاهدات الشاقة قد أرهقته، لكنه أشار إلى صبيانه في الدكان بعدم التوقف عن الطَّرق حتى انتهى مولانا من السماع. كان مولانا في السماع منذ صلاة الفجر إلى صلاة الظهر”.

نجد هنا سلطة الجذب للإيقاع على شعور مولانا، وكذلك الحمولة الرمزية لاسم صلاح الدين، طارق الذهب: طرقه يحوّل حال الرومي فيبدي كل قيمته، أما في الظاهر، فإن المادة الثمينة قد “أُتلفت” لتمكّن الرقصة الروحية من الاستمرار. هذه الحكاية الطريفة درس حول التخلي وتحويل النظر نحو القيمة الحقيقية للأشياء.

وللعلاقة الروحية التي تجمعهما أضافا علاقة عائلية. وبالفعل، تزوج سلطان ولد بابنة صلاح الدين، فاطمة خاتون، التي علّمها الرومي قراءة القرآن. في مجموعة من رسائله، نرى أن الرومي كان يهتم بالزوجين ويسعى إلى تهدئة بعض الخلافات بحكمه لصالح فاطمة ضد سلطان ولد، ويؤكد على هذا الأخير بأن يعامل زوجته باللطف الذي تستحقه. بذلك تكون ذرية مولانا من سلطان ولد هي أيضا ذرية صلاح الدين. إضافة إلى ذلك، يؤكد سلطان ولد بشدّة في سيرته الذاتية على امتثاله لصلاح الدين وعلى أُلفتهما الروحية التي تظهر جليًّا على أنها كانت علاقة شيخ بمريد.   

لكن صلاح الدين الذي كان واهنًا من جراء المجاهدات والرياضات التي ألزم بها نفسه، مرض مرضًا شديدًا. هنا أيضا، يعطينا سلطان ولد وصفا مؤثرا لنهاية صلاح الدين، الذي من الواضح أنه كان يتألم كثيرًا من “حمل جسده” دون معرفة طبيعة مرضه.  يفترض أن دعاء أبيه لصلاح الدين بالشفاء وطول العمر منع هذا الأخير من هجر ثوب الجسد دون موافقة مولانا فتوسل إليه بهذه الكلمات:

أيها الملك القدير، مزّق ثوب الوجود هذا كي أغادر إلى الجهة الأخرى حرًّا سعيدًا، بعد أن أتحرر من هذا الألم ! كي أتمكن من الوصول إلى المحيط الذي يحيي الروح، والقصر الذي يفتح القلبَ، لكي أهرب أخيرًا من مقاييس هذا العالم وأتحرر مِنْ لماذا.. وكيف”. فقبل مولانا أن يراه مغادرًا، قائلا: “فليكن!” وبهذه الخطوة غادره وذهب إلى بيته، منشغلاً بمداواة ألمه. ولمدة ثلاثة أيام، لم يقم بزيارته وتوجه بالدعاء لله، فأصبح كل شيء واضحا أمام صلاح الدين الملك الذي قال: “ها هي الروح تنفصل عن الجسد، لكن من المؤكد أنني سأغادر هذا العالم العبثي من أجل عالم ما وراء المكان، عالم البقاء الأبدي“. [سلطان ولد -ابتداء نامه].

منع صلاح الدين مريديه ومحبيه من الحداد عليه، وطلب أن يكون يوم تشييع جنازته يوم عيد وموسيقى. وامتثالا لطلبه، عندما توفي يوم 29 من دجنبر 1258، كان الموكب الذي يتبعه في رحلته الأخيرة “يدق الطبول ويعزف الناي ويرقص”، مؤسسًا بذلك لتقليدٍ أصبح بعد ذلك شائعًا عند الدراويش المولوية الذين يسمون يوم الوفاة بـ”يوم العُرس”، لأنه في عكس تام للتصورات العادية ، يعتبر الصوفية هذه الرحلة كمرور من الموت إلى الحياة، من الحزن إلى الفرح، من سجن الظلمات إلى الإقلاع نحو النور.

كما صلاح الدين، كان للرومي اليقين المطلق أن الموت ليس سوى تحرير سعيد للروح عند الصوفية، لكن ومن جديد، كان قد تعلّق بلطافة الحضور المادي، بتلك الألفة التي لا يمنع روحانيتها أن تكون معمقة بالحضور الجسدي والمحادثات اليومية. لكنه لم يعبر عن ألمه هذه المرة بطريقة عنيفة وغامرة كمان كان الحال بعد اختفاء شمس. هدّأت صحبة صلاح الدين روحه، وكانت المرثية التي نظمها بمناسبة وفاته على غرار القصائد التي أهداه إياها، معبرة عن ألمٍ مدوّ إلا أنه قد تم احتواؤه:

يا من غادرنا

من أجلك، الأرض والسماء تبكيان

القلب مدمى

والروح والنفس تبكيان

لا أحد في هذا الكون

يستطيع أن يحلّ محلك

وفي حداد،

المكان واللامكان يبكيان

أجنحة جبريل والملائكة

تحمل زرقة حدادك

وأعين الأنبياء والأولياء

تبكي من أجلك

لكي أحكي ألم هذا الحزن

وا أسفاه ! لا أجد الكلمات

أفتقد الصور لأحكي عن هذا البكاء  (…)

وا أسفاه ! وا أسفاه !

ومرة أخرى وا أسفاه !

من أن أرى على عينيك الواضحتين

بكاء عيون مليئة بالشكّ

يا صلاح الدين يا ملكي

ذهبت كالفينق ذي الوجه الناري

كسهمٍ، انطلقت من القوس

وهاهو القوس يبكي

من يستطيع بكاء صلاح الدين؟

يجب أن يكون رجلا

يعرف بكاء الرجال

من سيكون في المستوى؟

[مولانا – الديوان الكبير].

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!