أفذاذ غادروا في صمت

أفذاذ غادروا في صمت

أفذاذ غادروا في صمت

عميد آداب الشعوب الإسلامية في ذكراه المئوية

العلامة الدكتور حسين مجيب المصري 

بقلم : عبداللطيف الجوهري

أفذاذ غادروا في صمت سلسلة من المقالات ألحت عليٌ فكرتها وفاءً لأعلام من العلماء والأدباء والدعاة ممن أثروا حياتنا العلمية والفكرية والدعوية بجهدهم وآثارهم العبقرية التي أثرت المكتبة العربية وجهود الإصلاح والنهضة وقد غادروا دار الفناء إلى دار الحق دون أن يحتفي بهم الإعلام كما يحتفي باللاعبين والممثلين والممثلات الذين يستأثرون بالأضواء والنجومية في حياتهم وحين رحيلهم ، وبرغم أن فكرة السلسلة تلح عليٌ من بضع سنوات إلا أن مقالة الباحث الأديب صلاح حسن رشيد المنشورة في صحيفة (الحياة) اللندلية وعنوانها حسين مجيب المصريعصر من العطاء والنسيان المنشورة في : ( 05-02-2016م ) حفزتني للبدء في كتابة هذه السلسلة من المقالات ، وترجع أهمية المقالة أنها نُشرت مواكبة للذكري المئوية لميلاد الدكتور حسين مجيب المصري (1916 – 2004 م ) وأن كاتبها الباحث صلاح رشيد كان من أقرب تلاميذ العلامة مجيب المصري وأكثرهم ملازمة له في سنيٌهِ الست الأخيرة حتى لحظات وفاته.

ويُعد الدكتور حسين مجيب المصري نادرة من نوادرالإنسان العالم المبدع الذى تفانى في خدمة رسالته  في نشر العلم وتحقيق الوحدة الثقافية لشعوب الأمة الإسلامية فقد أجاد قُرابة عشر لغات من اللغات الشرقية والأوروبية أبدع  بها دارسًا ومؤلفًا وشاعرا، ووضع المعاجم اللغوية وترجم عن اللغات

الفارسية والتركية والأوردية و الفرنسية والألمانية والإنكليزية وغيرها ، وقد بدأت تلمذتي على مؤلفات الرجل أنهل من بحر علمه الفياض مُذْ كنتُ أعد دراستي الأولى عن الشاعر الفيلسوف محمد إقبال والتي نُشرت في كتابي مع إقبال –  شاعر الوحدة الإسلامية– 1986م ، ولا تقل مكانة الدكتور حسين مجيب المصري في حقل الدراسات الإقبالية عن الدكتور عبدالوهاب عزام وأديب الأمة العلامة أبو الحسن الندوي والشاعر العلامة الشيخ الصاوي علي شعلان ، وقد أكرمني المولى عز وجل أن ألتقيه عشية تكريمه والبروفسور نصر الله مبشر الطرازي في قصر السفير التركي في القاهرة مساء الأربعاء السادس عشر من ديسمبر لعام 1998 م احتفالًا واحتفاءً بدور الرجلين في خدمة تراث وحضارة وآداب الشعوب الإسلامية وقد تم تسليمهما وسام الجمهورية التركية للأعمال العلمية ذات المستوى الرفيع مع شهادة البراءة والتقدير من رئيس الجمهورية التركية الرئيس سليمان ديمريل 

  وعن آخر أقواله في مرض الوفاة يحكي أديبنا الباحث صلاح رشيد في مقاله المُشار إليه سابقًا : “ولا أنسى مقولته وهو على فراش مرضه الأخير: ” أنا لم أجمع الأموال مثل كثيرين؛ ولقد عشت من أجل العلم، فتعلمته وعلمته، فإذا سألني ربي: ماذا فعلتَ؟ لأجبت: لقد طلبت العلم خالصًا لوجهك الكريم، وعلمته لمرضاتك ، وكفى بها من مسؤولية عظيمة أحملها فوق كاهلي ، وأرجو أن يغفر لي تقصيري وزللي ويمضي أديبنا صلاح رشيد في حديثه عن هيامه بالعلم وتفانيه في خدمته فيقول : ” …لقد بلغ من إخلاصه وهيامه بالبحث وطلب العلم أنه وهو في أيامه الأخيرة نادى عليٌ فظن الأطباء أنني ابنه أو أنني واحد من العائلة ، لكنهم تعجبوا لما عرفوا أنني تلميذه ، فقالوا : إنه دائم الترداد لاسمك بالليل والنهار ، فأقبلت عليه فأمسك بيدي ، ثم نظر إليٌ وعيناه مغرورقتان بالدموع وهو يظن أنه في غرفة الاطلاع والبحث حيث مكتبته العامرة بكل المعارف والعلوم من كل اللغات في بيته بالزمالك ، فقد كان يتقن عشرلغات ، شرقيةً وغربيةً إجادة تامة ، فقال : ” تعال ؛ لأمليك مقدمة كتابي الجديد بعنوان الله جل جلاله في الآداب العربية والفارسية والتركية والأردية دراسة مقارنة فبكيت وبكى الحضور تأثرًا بما يصنع هذا الشيخ الكبير (88 عاما ميلادية) وهو يعاني سكرات الموت، وكان جادًا فيما يقول ويطلب ، وبالفعل أملاني المقدمة ، فظن الجميع أنه تعافى وأنه عما قريب سيخرج إلى بيته ؛ ليواصل نشاطه العلمي والفكري، ويواصل باحثنا الأديب صلاح رشيد حديثه فيقول : ” وفي صبيحة اليوم التالي ، ذهبت إلى المستشفى متفائلًا ، ودخلت غرفته على عجل لأفاجأ بإحدى الممرضات وهي تقوم بتنظيف الغرفة .. فظننت أنهم ربما ذهبوا به ؛ لإجراء بعض التحاليل الطبية ، فلما سألت الممرضة عنه ، أجابتني بانكسار : ” لقد مات فجر اليوم فانهرت وجلست على الأرض ..” .

ولقد تعددت عطاءات الرجل الموسوعية في مجالات طلب العلم وتعليمه ومجال الترجمة العلمية بعدد من اللغات الشرقية والغربية ومجال الدراسات الأدبية والنقدية ومجال وضع المعجمات اللغوية ، فضلا عن الإبداع الشعري بالعربية وغيرها من اللغات ، فكان الرجل بعطائه العبقري المتنوع وبما خلفه من آثار علمية تجسيدًا للوحدة الثقافية للأمة الإسلامية ، فتبوأ  بذلك عالمنا العلامة الجليل الدكتور حسين مجيب المصري مكانة عالية وارتقى قمة سامقة لايكاد ينافسه فيها أحد من من معاصريه في مجال آداب الشعوب الإسلامية .

ولقد ترجم للدكتور حسين مجيب المصري شاعرًا معجم البابطين ونشر ترجمته في حياته  وممن ألفوا عنه شاعرًا أيضًا الباحث صلاح حسن رشيد الذي أصدر كتابه عنه بعنوان  ” حُسين مجيب المصري : تجربة فريدة في الشعر العربي” ( مكتبة الآداب بالقاهرة ) ومما صدر لأستاذنا العلامة من دواوين الشعر :” شمعةٌ وفراشة -1955م ، وردةٌ وبلبل -1958 م،حُسنٌ وعِشق -1963 م ، همسةٌ ونسمة – 1964 م ، شوقٌ وذكرى 1981م ، موجةٌ وصخرة -1986م. ومما ورد عنه أيضًا في المرجع المذكور (معجم البابطين) أنه وُلد في القاهرة 1916م وحصل على ليسانس الآداب من جامعة القاهرة 1939م ، كما حصل على دبلوم الدراسات  التركية والفارسية من معهد الدراسات الشرقية بجامعة القاهرة 1942 والدكتوراه من جامعة القاهرة 1955م ، وكان موضوعها : “فضولي البغدادي أمير الشعر التركي القديم، وقد اشتغل بتدريس ( الأدب التركي والفارسي والإسلامي المقارن والتاريخ العثماني والأدب الشعبي التركي والتصوف الإسلامي في جامعات القاهرة وعين شمس والأزهر ومعهد الدراسات العربية ، وفي سنيه الأخيرة عمل أستاذًا في جامعة عين شمس وخبيرًا بمجمع اللغة العربية بالقاهرة ، ومن مؤلفاته ونتاجه الموسوعي : ” في الأدب العربي والتركي دراسة في الأدب المقارن ، و “” الأسطورة بين الأدب العربي والفارسي والتركي و المعجم الفارسي

العربي الجامعو المعجم الجامع ( أردو عربي ) “ومعجم الدولة العثمانية و من أدب الفرس والترك و سلمان الفارسي بين العرب والفرس والترك وفي الآداب العربية

والتركية والأردية دراسة مقارنة و القدس بين شعراء الشعوب الإسلامية ” .

  وفي حقل الترجمة والدراسات الإقبالية ترجمته عن الفرنسية لأطروحة الشاعر الفيلسوف الدكتور محمدإقبال للدكتوراة (1908م) من جامعة ميونخ وعنوانها ماوراء الطبيعة في إيران ومنها إقبال والعالم العربي و إقبال والقرآن و إقبال بين المصلحين الإسلاميين و الأندلس بين شوقي وإقبال ” .

   وقد احتفلت وزارة الثقافة المصرية ممثلة في المجلس الأعلى للثقافة بالذكري التسعينية لميلاد الدكتور حسين مجيب المصري الذي فاز بلقاء الله والجوار الكريم في دار الحق في ديسمر 2004 م، وكتب محرر صحيفة الرياض السعودية في القاهرة شريف الشافعي في تغطيته للاحتفالية المنشورة يوم السبت :(11-02-1427هـ الموافق 11-03-2006 م بالعدد رقم 13774 ) يقول : “.. وقد اشتملت الاحتفالية على إصدار خمس تراجم للدكتور حسين المصري عن المشروع القومي للترجمة التابع للمجلس الأعلى للثقافة ، وذلك عن اللغتين الأوردية والفارسية اللتين أتقنهما الدكتور المصري مع لغات شرقية وغربية ، وهذه التراجم هي 🙁 “صفوة المديحلأحمد رضا خان ، وديوان حسن رضا خان الدهلوي،وديوان غالب البهلوي ، والأدب الفارسي القديم لبول هون ، وديوان خواجة الدهلوي ” ) .

 

ومما يذكر للدكتور حسين مجيب المصري ويسجله تاريخ العلوم والآداب بأحرف من نور ما وصفه الباحث صلاح رشيد بقوله :

 (الجانب الخفي في حياة هذا الهرم الثقافي والعلمي ) فهو كما يحكي صلاح رشيد : ” … قد أحال بيته إلى جامعة مفتوحة للباحثين من أقصى صعيد مصر حتى الإسكندرية ، بل حتى من الجامعات العربية والإسلامية ، فلقد رأيت عربًا وهنودًا وأتراكًا وباكستانيين وإيرانيين وأجانب يترددون عليه ؛ للنهل من علمه الغزير وقراءة أطروحاتهم عليه ؛ لمعرفة رأيه فيها ، وكان لايبخل عليهم بالمعلومة ولابالمصادر ولابالمراجع ولا بالتصحيح والتصويب لهم لُغويًا ومنهجيًا وعلميًا .

  وقد عرف للرجل فضله ومكانته أهل الفضل من العلماء والأدباء ممن تتلمذوا عليه أو رافقوه في طلب العلم وتعليمه أو تابعوا إبداعه ، ومن هؤلاء رفيقه في تدريس اللغات الشرقية وخبير المخطوطات والفهارس البروفسور نصر الله مبشر الطرازي الذي حدثني عنه أواخر 1998م فقال : ” يُعتبر أستاذ الجيل حقًا  ، وله شهرة علمية في العالم الإسلامي والغربي على السواء ، وهو يجيد من اللغات التركية والفارسية والأردية والفرنسية والإنكليزية مع الإلمام بالألمانية والإيطالية والروسية ، وله مؤلفات تزيد عن عن الستين ، تم ترجمة بعضها إلى لغات أجنبية ، ويمضي رفيقه الدكتور نصر الله الطرازي فيقول : ” وهو في لغته العربية أديب أريب ، وشاعر مجيد ، ولقلوب عشاقه ومريديه جِدُ قريب ، وله كتبٌ في الشعر والأديب المقارن ، كما أن دواوينه الشعرية مطبوعة بالعربية والفارسية والتركية منها : ” شمعةٌ وفراشة و شوقٌ وذكرى و وموجةٌ وصخرة و صولغون بالتركية يعني (الوردة الذابلة) .. كما ترجم الدكتور حسين مجيب المصري من شعر وأدب الشاعر محمد إقبال  أرمغان حجاز ويعني بالعربية (هدية الحجاز) و في السماءو روضة الأسرار ، كما ترجم نظمًا  عن التركية المولد الشريفلسليمان جلبي ، ونظم بالعربية من ترجمة نثريةمنتخبات من ديوان الشاعر القازاقي ( آباي ) ” ويصف الدكتور الطرازي ترجمة أستاذنا حسين مجيب المصري بأنها تمتاز بصفاء الديباجة وفصاحة الأسلوب وإشراقة البيان .

   ويذكر صلاح رشيد في مقاله المذكوربصدر الدراسة ماوصف به الأديب المخضرم وديع فلسطين (93 عاما) صديقه الدكتور حسين المصري فيقول: ” إن العلامة الدكتور حسين مجيب المصري ترسانة من الأسلحة الثقافية والعلمية الثقيلة في عصرنا الحاضر ، لم تلتفت إليه الأوساط الثقافية الرسمية ، وينقل صلاح رشيد شهادة أستاذ الأدب الأندلسي ورائد الأدب المقارن الدكتور الطاهر أحمد مكي  (92 عاما ) الذي قال عنه : ” إن الدكتور مجيب المصري من الموسوعيين الذين خدموا الدراسات الشرقية ونقلوها إلى القارئ العربي عبر مؤلفاته الضخمة وترجماته وتحقيقاته الفذة، وينقل الأستاذ صلاح رشيد أيضا عن العالم العراقي الدكتور يوسف عزالدين (1921 – 2012م) عندما زار عالمنا الموسوعي في بيته قبل عقدين من الزمان  قوله : ” كيف لم نسمع عن هذا البروفسور العطيم ، إن العلامة حسين مجيب المصري أستاذ الأساتذة وفخر العرب اليوم ” .

وبرغم ماحظي به العلامة الدكتور حسين مجيب المصري من اهتمام وتكريم في حياته إلا أنه يتضاءل كثيرًا مع ثراء عطائه وجليل مكانته ، وكم سمعنا بأسماء لاتمثل شيئا يذكر بالنسبة للرجل تحظى بأرفع الجوائز على الصعيد المحلي والإقليمي والدولي ؛ لأن مثل هذ العبقري الفذ مترفع متعفف لايجيد التزلف لذوي النفوذ والصولجان ولايتقن مايجيده أدباء العلاقات العامة ،

ملأى السنابل تنحني بتواضع والفارغاتُ رؤوسهن شوامخُ ” .

  ولكن الرجل لم يعدم التقدير والتكريم والاحتفاء بجهوه وفضله ويعرف له مكانته العلمية المرموقة فقد كرمته حكومة باكستان ضمن فعاليات الاحتفال بالذكرى المئوية لميلاد الشاعر الفيلسوف الدكتور محمد إقبال  1977م ومنحته ميدالية إقبال ، وقدتسلم أستاذنا الجليل الدكتور مجيب المصري وسام الجدارة الباكستاني من الرئيس ضياء الحق رحمه الله تعالى عام 1988م ، كما منحته جامعة مرمرة باستانبول الدكتوراة الفخرية عام (1995م) كما منحته الجمهورية التركية براءة التقدير من الرئيس سليمان ديمريل مع وسام الجمهورية التركية للأعمال ذات القيمة العالية ، قدمه له سعادة سفير تركيا بمصر وحضره جمع من السلك السياسي وأساتذة الإعلام والجامعات المصرية والتركية والشخصيات العلمية والأدبية والإعلامية ونفر من طلاب الدراسات العليا بالجامعات المصرية كما أشرنا في صدر هذه الدراسة  ، كما منحه مركز بحوث مولانا أحمد رضا القادري وسامًا ذهبيًا عام (1999م) كما كتب محرر صحيفة( المصري اليوم المصرية في : 08-08- 2008م :  تحت عنوان (العلامة حسين مجيب المصري  الكفيف الذي قاوم الظلم بالإبداع ) يقول : ” … وبويع قبيل وفاته في جامعة عين

شمس عميدًا للأدب الإسلامي المقارن بحضور أساتذة اللغات الشرقية في الجامعات المصرية ” .

  رحم الله العلامة الدكتور حسين مجيب المصري عميد الأدب الإسلامي المقارن ورائد آداب الشعوب الإسلامية الذي كان مولده في القاهرة يوم السبت 28-11- 1425 م في بيتِ علمٍ وفضلٍ ومجد ، فقد كانت أمه فاطمة هانم حفيدة  محمد ثاقب باشا وزير الأشغال المصرية في عهد الخديو إسماعيل وكان والده على حسني المصري ناظر مدرسة دار العلوم العليا أكبر معهد علمي في مصر قبل إنشاء الجامعة المصرية جامعة فؤاد الأول ، وكانت وفاته  في الحادي عشر من ديسمبر 2004 م عن عمر  يربو على الثامنة والثمانين عامًا شمسية ميلادية .

المراجع :

صحيفة الحياة اللندنية  ” حسين مجيب المصري- عصر من العطاء والنسيان ” صلاح رشيد – 5-2-2016م

” للحق والنهضة والجمال – في الأدب والتربية والثقافة “عبداللطيف الجوهري ط1 مكتبة وهبة بالقاهرة 2000م

معجم ( البابطين ) ، ترجمة حسين مجيب المصري .

معجم ( الأدب الإسلامي) الاكتروني ، ترجمة الدكتور حسين مجيب المصري . .

صحيفة ( الرياض) السعودية ، ” الاحتفال بعميد الأدب الإسلامي المقارن الدكتور حسين مجيب المصري ” شريف الشافعي –العدد (13774) في يوم السبت : (11-02-1427هـ -11-03-2006م .

صحيفة (المصري اليوم) المصرية ” حسين مجيب المصري- الكفيف الذي قاوم الظلم بالإبداع) ”  المحرر الثقافي للصحيفة  في :  ( 08-08-2008م )  .

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!