معنى الوجود عند الصوفية: لا موجود إلا الله

معنى الوجود عند الصوفية: لا موجود إلا الله

معنى الوجود عند الصوفية: لا موجود إلا الله

قضية فلسفية فعن طريق الفلسفة تسرَّبت الفكرة إلى الدين والتصوف على العموم أما بالنسبة للمسلمين فإنَّ عقيدة التوحيد البسيطة هي الحقيقة الجوهرية.

خلاصة من بحث خليفة عبد الحكيم ‘حكمة الرومي في وحدة الوجود’، ترجمة هاني السعيد، ضمن الكتاب 120 (ديسمبر 2016) ‘المولوية والتصوف’ الصادر عن مركز المسبار للدراسات والبحوث- دبي.

حين بدأت إشكالية وَحدة الوجود بين المسلمين خالف بعض الصوفية عامة المسلمين في منطوق كلمة التوحيد؛ فبينما كان عامة المسلمين يقولون: “لا إله إلا الله”، راح بعض الصوفية يقولون: لا موجودَ إلا الله، لا مؤثر في الوجود إلا الله. وبينما كان التوحيد الإسلامي ينصُّ على أنه لا إله إلا الله، ظهر أناس يقولون: لا موجود إلا الله، وما دام أنه لا موجود إلا الله، فسينمحي الفارق بين العابد والمعبود، ولن يتبقَ من حقيقة العبادة شيء؛ لذلك يَهُبُّ “غالب” -المؤيِّد بشدة لوَحدة الوجود بين الشعراء المتصوفين- قائلًا بتبجُّحٍ شديد:

يا من أثار الضجة في الدنيا في وهم الغير

قال بنفسه كلمة، وألقى ذاته في الظن

يملأ بذاته داخل العين وخارجها في آن

وألقى حجاب صورة عبادته في الوسط

“يقول الصوفية المعتقدون بوَحدة الوجود: إنَّ الوجود المطلق واحدٌ فقط، وهو الظاهر في مختلف المظاهر من الوجوب والإمكان، والقديم والحادث، والمجرد والجُسماني، والمؤمن والكافر والطاهر والنجس… إلخ، ولكنَّ حكم كل مظهر مختلفٌ عن الآخر، ولا بد من التفريق بين أحكام المظاهر، ومن ثمَّ فللمؤمن الحكم بالخلاص، وللكافر الحكم بالقتل والحبس”.

ما لا يقره الشرع

إن هذه الفكرة تبدو غريبة بالنسبة لتعاليم الشرع؛ فكثيرٌ جدًا من آيات القرآن الكريم تهتف جميعُها في ظاهر المعنى بأنَّ الحالة الراهنة للعالم لن تدوم، بل سيلحق بها تغييرٌ عظيم، ومع ذلك ينبغي ألا نُفسح مجالا يتسلل منه إلى قلوبنا سوء الظن بالصوفية؛ خاصةً حينما نُوقنُ بأنَّهم جماعةٌ مختارةٌ من سواد الإسلام، فضلًا عن أنه قد قيل في حقِّ هذه الطائفة المختارة أنهم عرفوا العلاقة بين القِدَم والحدوث بالكشف والذوق، مما كان سببًا في أنهم:

في قضية وحدة الوجود لا يتعثر الإنسان في العلاقة بين الخالق والمخلوق، والقديم والحادث فقط، بل تعترضه عديدٌ من ألوان التعقيدات عن الخير والشر، والجزاء والعقاب، والجبر والاختيار. إنَّ الله وجود مطلق، وخير مطلق كذلك، لكن القرآن الكريم يقول بأنَّ خالق الخير والشر كليهما هو الله! ومن جهة أخرى، فإذا كانت المشيئة المطلقة مشيئةً واحدةً فقط، لا تهتزُّ ورقةٌ بدونها، ولا يستطيع إنسانٌ أن يريد شيئًا لم يُرده الله، لأدى ذلك إلى انعدام الاختيار الإنساني، الذي يقوم عليه بناء جميع الأخلاق، ومجمل الشريعة، والأمر والنهي.

ويدخل في إشكالية وَحدة الوجود أيضًا إشكاليةُ العلاقة بين الذات والصفات؛ فما علاقة الصفات بالذات؟ انغمس المعتزلة والأشاعرة في بحث تلك الإشكالية بصورة منفِّرة، حتى جعلوها قضيةً مهمة من قضايا العقيدة، ومن ذلك: أنه إذا كان الله واحدًا، فكيف يُمكن أنْ يتسم بكثير من الصفات؟ وهل الصفات جزء لا يتجزأ من الذات أم مستقلة عنها؟ وهل بعض صفات الله ذاتية وبعضها إضافية؟ وهل تدخل الصفات في ذات الله أم هي زائدة عليها؟ والحق أنَّ مولانا لم يخض في هذه الإشكاليات مثلما خاض المتكلمون، ولم يستدل فيها على شاكلة استدلالاتهم في مناظراتهم، وسيأتي بيان الموقف الذي اتخذه مولانا في هذه القضية في موضع آخر. أما المراد هنا فهو أن نذكر أن المؤمنين مأمورون بـ”تخلقوا بأخلاق الله” أي حاولوا أن تزرعوا أخلاق الله داخلكم، وأن تتحلوا بصفاته قدر استطاعتكم، ونتساءل: إلى أي حد يُمكن أن ينجح الإنسان في هذه المحاولة؟ وإذا كانت الصفات مظاهر الوجود، فهل بالتحلي بها يصيرُ وجود الله ووجود الإنسان وجودًا واحدًا، أم إنَّ الاتحاد في الصفة لا يستدعي الاتحاد في الوجود؟ ورد في الحديث الشريف ما معناه: أن الله تعالى يقول: ما يزال يتقرب إليَّ عبدي حتى أحبه فأكون سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، وكأنه لا يوجد فرق بين أفعال هذا العبد وأفعال الله، أي تحصل كيفية لقد صرتُ أنتَ، وصرتَ أنا.

عقيدة المولوية

في النزاع الوجودي والشهودي يتضح أن الرومي كان أكثر ميلًا إلى جانب وحدة الشهود مقارنةً بوحدة الوجود. وكذلك هناك بعض الأمثلة الأخرى في المثنوي تتجه نحو وحدة الشهود، فهو -على سبيل المثال- يقول: ضع لهب الشمعة أمام الشمس وانظر، وضوء المصباح في نصف النهار كالعدم، مع أنه موجود كما هو باعتبارٍ ما. وقد ضرب سعدي مثلًا باليراعة، فذكر أنَّ أحدًا ما سأل اليَراعة قائلًا: سيدتي أين تذهبين في النهار؟ فأجابت: لا أذهب إلى أي مكان، أكون موجودة ها هنا في الحديقة، لكنَّ نور الشمس يُبدد وجودي. يقول مولانا: إنَّ لهب الشمعة موجود في النهار أيضًا، وإذا أردت التيقن من ذلك فقرِّب منه القطن، وانظر كيف تشتعل فيه النار فتثبت الشمعة وجودها. ويعرض كذلك مثالًا آخر، فيقول: هل ستلاحظ وجود أوقية خل واحدة وُضعت في مائتي مَن من العسل؟ تذوَّق هذا العسل فلن تجد في طعمه أي أثر للخل، لكن إذا وزنتها على ميزانٍ حساس فستجد أنَّ هناك وزن أوقيةٍ زائدًا.

إنَّ عقيدة مولانا الراسخة تتمثل في أنَّ نقاش إشكالية الوجود فيما يتعلق بذات الباري لا يُمكن أن يكون مثمرًا. وللوجود بعض أقسامٍ يمكننا التعرف عليها -إلى حدٍّ ما- بالعمل والإدراك، فمثلا: نستطيع أن نُميِّز اللونَ من الرائحة، والصوتَ من اللون، كما يُمكننا أنْ نبين خصائصَ كل منها، ونُقدِّر وجود العقل أيضًا، ونعرف الفارق بين المعقولات والمحسوسات كذلك، لكن الحد المشترك للوجود بين جميع هذه الموجودات، هو بالنسبة لنا مُجرد مصطلح؛ إذْ لا نعرف ماهيته، فإذا قلنا: إنَّ هناك وجودًا مشتركًا بين جميع الموجودات، وإن هذا الوجود واحدٌ، وهو الوجود المطلق، المتمثل في وجود ذات الله، فسوف نصل إلى فضاء لطيف، حيث ينقبض العقل.

أعلن جلُّ المستشرقين الغربيين أنَّ التصوُّف الإسلامي لم يبرز من داخل الإسلام، بل هو نتاجٌ لتأثير الفلسفات اليونانية والفارسية والهندية، خصوصًا عقيدة وَحدة الوجود التي يُطلقون عليها في الإنجليزية Pantheism، ويكتبون عنها بكل ثقةٍ أنها واردةٌ من الخارج؛ إذ هي قضيةٌ منفصلةٌ تمامًا عن قضايا التوحيد الإسلامي، وبسبب من الأفلوطينية الإشراقية وآخر من الفيدانت الهندية تحولت “لا إله إلا الله” عند البعض إلى: لا موجود إلا الله، وما المباحث المنطقية لماهية الوجود إلا نِتاج التأثر بالفلسفة اليونانية. ومن المؤكد أنَّ هذا الاتهام ينطوي على بعض الحقيقة؛ فهذه القضايا لا نجد لها أصلًا في القرآن الكريم، ولا في الأحاديث الصحيحة، ولم يُنقل أنَّ الصحابة الكرام كانوا يناقشونها، كما لم يُذكر أنَّ التابعين كانوا يخوضون فيها؛ بل ما ظهرت هذه الإشكاليات إلا بعد قرونٍ، وذلك حينما خرج الإسلام من حدود الحجاز، وانتشر في دولٍ وأممٍ كانت معتادةً منذ قرون على هذه النوعية من الإشكاليات، فقضية ماهية الوجود كانت المحور الذي ارتكزت عليه الفلسفة اليونانية، وقد ظلَّ الفكر اليوناني منذ طاليس المالطي إلى أفلوطين الإسكندري متضاربًا حول هذه المباحث، لكن حين تعرَّف المسلمون على تلك المباحث نظروا في القرآن والحديث، فوجدوا إشاراتٍ في مواضع متفرقةٍ تُلقي الضوء عليها.

قضية فلسفية

إن قضية وَحدة الوجود كلَّها قضية فلسفية، فعن طريق الفلسفة تسرَّبت هذه القضية إلى الدين والتصوف. أما بالنسبة للمسلمين فإنَّ عقيدة التوحيد البسيطة هي الحقيقة الجوهرية، لكن حين جعل المتكلمون هذه القضية جزءًا من الإيمان، اضطر أهل الدِّين من المفكرين أن يُعبِّروا عن رأيهم فيها، واضطروا إلى بيان العقائدِ حول الحدوث والقدم، والذات والصفات. وإذا قلنا: إنَّ معنى الوجود هو الوجود الحقيقي المستقل بالذات، فإن الوجود الحقيقي -حسبما جاء في القرآن- هو وجود الله، وهذا الوجود الحقيقي مُظهِر وخلَّاق، وفي عالم الخلق يظهر كلُّ شيءٍ لحظة بلحظة، ويواصل الفناء، ويعمل فيه الإثبات والنفي.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!