صورة النبيّ في الفكر الإسباني المعاصر

صورة النبيّ في الفكر الإسباني المعاصر

صورةُ النبيّ مُحمّد صلّى الله عليْه وسَلّم في الفكر الإسبَانيّ المُعاصر

تَجْريحُ الغيْر وتزكيَةُ الذّات

د. محمد بلال أشمل

[يتجوهر] الخطاب الإسباني الرافض للإسلام والمسلمين ولنبيهم عليه السلام، ببنيتين أساسيتين تجلت مظاهرهما، وتردد صداهما في كثير من المواضع من هذا البحث هما بنيتا “الرفع من قيمة الذات”، و”الوضع من قيمة الغير”.

  1. الخطاب حول الرسول صلى الله عليه وسلم في الفكر الإسباني المعاصر: من التجريح إلى الاستعداء

وتتخذ هاتين البنيتين مظاهر مختلفة، وتجليات متعددة، لجميعها دلالاتها التي لا تخفى، أو معانيها التي لا تتلبس على العين الفاحصة؛ فبالنسبة لبنية “الرفع من قيمة الذات”،  تتجلى في “التزكية الذاتية”، وتتلخص هذه البنية في تزكية النفس، من حيث هي موضع الصدق؛ سواء من حيث انتماؤها إلى أصل في “العهد القديم”، أو استمرارها في “العهد الجديد”، وبعدها عن كل فساد عقدي أو عملي أو سلوكي، وقطباها “أفضلية المسيحية على الإسلام”، و”أفضلية المسيح على الرسول عليه السلام”. 

ولعل أفضل من وجدنا يمثل هذه البنية التي نجد لها أسماء ومسميات في الخطاب الوسيطي أيضا، هو المستعرب الإسباني “آسين بالاسيوس” حين كان يتعسف في رد تعاليم وأحاديث سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم  إلى الأناجيل، زاعما أن أحاديثه صلى الله عليه وسلم  منقولة حرفيا عن الإنجيل، أو أن منابعها توجد في الأناجيل والرسائل البولسية (نسبة إلى رسائل بولس)،  وأن بعض تعاليمه صلى الله عليه وسلم صدى وفيّ للتعاليم الأخلاقية الإنجيلية.

وليس “آسين بالاسيوس” بمفرده من يعتقد هذا الاعتقاد الفاسد؛ بل هناك من النظار المعاصرين من يشاركه فيه، مثل “مارسيلينو مينندث بيلايو” Menéndez Pelayo  M. (1856-1912) في ترديده لأكثر التهم بطلانا، حين زعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم انتحل أحسن ما في اليهودية والمسيحية. [1]

وبالمقابل، فإن القول بتزكية النفس، يترتب عنه القول بتجريح الغير، وهم في هذه الحالة الإسلام، ونبيه عليه السلام، ومن تأسّى به من المسلمين في الشهادة والغيب. وتتلخص هذه البنية في أن الغير، وهم هنا المسلمون والإسلام ونبيهم عليه السلام- حملة كل أوصاف السلب والقدح والشر والزيف والتحريف ….إلخ؛ فليس غريبا إذن أن يصير الإسلام “نحلة محمدية”، و”دينا محمديا”، والرسول عليه السلام “نبيا مزيفا”، “أسس نظاما دينيا”، و”ألف” القرآن الكريم، والمسلمون “كفارا”، يحملون أرواحا ضائعة إن لم يتداركها “الإيمان المسيحي”، خسرت النعيم الإلهي كما هو الأمر لدى بعض غلاة المسيحيين في العصور الوسطى!![2]   

وتتخذ بنية “التزكية الذاتية” مظهرا معكوسا حين يتم اصطناع بنية “تجريح الغير” من أجل إعزاز النفس. وفي هذا الصدد، رأينا كيف يوصف المسلمون، ونبي الإسلام عليه السلام، بأقذع الأوصاف من “وحشية”، و”تعصب”، وإرهاب”، و”تواكل” و”استبداد” و”إيثار الموت على الحياة”.

ولعل الذين وجدناهم يقتسمون هذه البنية هم المفكر والأديب “كامبوامور”، والفيلسوف “خوستافو بوينو” بالإضافة إلى غيرهم من النظار المعاصرين الذين يجعلون من الحركات الإسلامية حركات “ذات إيديولوجية خطيرة للكراهية والعنف والاضطهاد”.[3]

وتتآلف بنية “الرفع من قيمة الذات” في صورة التزكية الذاتية، مع بنية “وضع الغير” في صورة التجريح، مع بنية جديدة-قديمة هي بنية “استعداء الناس على الإسلام والمسلمين ونبيهم عليه السلام”. وهي بنية قديمة من حيث كونها ترددت في الخطاب الرافض للإسلام مع “خوان الطوركيمادي” مثلا في سياق الحرب الصليبية خلال العصور الوسطى حين حرّض الأمراء المسيحيين، ورجال الدين والدنيا، على التحالف في حملة صليبية لكي “يستأصلوا نحلة محمد [صلى الله عليه وسلم] ذات الشرور العظيمة، و[يفنوا] قومه، لأنها [أي النّحلة المحمدية] تعمل على القضاء جذريا على الإيمان المسيحي، وعلى الاسم المجيد للمسيح [عليه السلام]، وعلى أن يكونوا كرجل واحد ضد هذا العدو  القاسي للمسيح [عليه السلام]، وأعني بذلك الأتراك الذين يتشوقون لمحو الدين المسيحي، واجتثاثه من الجذور”.[4]

وهي أيضا بنية جديدة من حيث ارتباطها بالخشية من الإسلام. وقد وجدنا أن أفضل ممثل لها هو الكاتب والمؤرخ الإسباني “ثيسار فيدال” بالإضافة إلى العديد من الشخصيات والمنابر الإعلامية الإسبانية.[5]

وليس “التشنيع على رسول الإسلام عليه السلام”، والإحالة على “الآيات الشيطانية”، و”الطعن عليه صلى الله عليه وسلم بـ”سفك دماء اليهود” ظلما وعدوانا ، وكونه “رائدا مشؤوما للضربات الإرهابية في الوقت الحاضر”، أو “أصلا للعداء للسامية” لدى “ثيسار فيدال”، إلا تعلّة  للدعوة إلى حرب صليبية عالمية جديدة ضد الإسلام والمسلمين، والتنبيه على وجود “مواجهة دائمة بين الإسلام وإسبانيا”، لاستعادة هذه الأخيرة إلى سيادة المسلمين كما كانت من قبل.

والحقيقة أن “ثيسار فيدال” يطوي كل البنيات السابقة في خطابه ويزيد عليها؛ فكراهيته للمسلمين واضحة، ونقمته على المهاجرين منهم  خاصة ظاهرة، وحقده على نبيهم عليه السلام صريحة، وخشيته من كل هؤلاء بيّنة، فكيف لا يمضي إلى استعداء الناس على جميعهم، ويعتبر أن سياسة ولاة أمره سياسة عقلانية حين شاركوا في غزو بلاد المسلمين؟[6]

 

  1. الخطاب حول الرسول صلى الله عليه وسلم في الفكر الإسباني المعاصر: غياب الحوار وضروراته ومقتضياته

لعل الناظر في هذه الخطابات وغيرها،[7] قديمها وحديثها، المتشحة بوشاح العلمية والموضوعية، أو السافرة عن وجهها العقدي الرافض، سيرى أنها لا تهيئ أسباب الحوار البناء مع المسلمين، ولا تضمن شروط التفاهم المثمر مع عامتهم، وأهل النظر من خاصتهم؛ فهي بالمعايير الأخلاقية التي تنطلق منها، تجرح مشاعر المسلمين حين تشنّع على رسولهم عليه أفضل الصلوات والتسليم، وهي بالمعايير العلمية، تسيء إلى عواطفهم، لأنها تصطنع أدوات من خارج النسق العلمي لتحاكم بها ميدانا روحيا بضمانات أخلاقية، وهي بالمعايير الدينية التي تدافع عنها، لا تحفظ لهم عهدا، ولا تبدي لهم ودّا، ولا تظهر لهم مروءة كافية، ولا تحقق معهم مبدأ يقوّمها وهو “المحبة”، ولا أصلا يجوهرها وهو “الإحسان إلى الجار”، وهي بالمعايير السياسية، تهضم حقوقهم الأساسية في الاستقرار والعيش بسلام حسب معتقداتهم وثقافتهم، وهي بالمعايير الفكرية، تحجر عليهم حقهم في “الاختلاف”، وتتنكر لمبدأ “المغايرة” الذي يؤسسها.

ومن ثم فإن خطاب الفكر الإسباني المعاصر حول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ينهض على بنية متهافتة؛ فلا عاصم لها من التداعي إلا بتدارك مقدماته، وينطوي على دلالة متعصبة؛ فلا تلطيف لها إلا الاستمساك بآداب البحث، والوفاء بأخلاق الحوار، والجنوح إلى الحق، وهو خطاب يتسم بكونه يحول بكيفية موضوعية دون أي تقارب فكري، أو إجراء أي حوار ديني، أو ترسيم أي سلم سياسي بين المسلمين وغيرهم عموما، وبينهم وبين الإسبان خصوصا.

خاتمة في التنادي إلى الحوار على قاعدة الكمال الأخلاقي لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم

ولو أن خطاب الفكر الإسباني المعاصر حول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، سلّم للمسلمين بمبدأ أو باثنين، كالحق في الاعتقاد في وحدانية الله تعالى، والحق في التأسي برسوله عليه الصلاة والسلام، لسلم أهله من غضبهم لله تعالى ولرسوله عليه السلام؛ ولو أنه كفّ أيديه عنهم، وتركهم يوحدون الله تعالى في خشوع، ويتأسون برسوله عليه السلام في طمأنينة، لما ناله منهم إلا الخير، أليست دعوتهم إلى الله من غير إكراه، ودعوتهم إلى ما لديهم إلى حرية؟ أليس يمكن أن يأتي أصحابه إلى كلمة سواء – المتدينون منهم والعلمانيون- فيسلموا للمسلمين أن الرسول صلى الله عليه وسلم كمال أخلاقي؛ قبل البعثة، إذ كان أمينا، وخلال الدعوة، إذ كان صادقا، وعند اقتراب أجله، إذ كان وفيّا، وبعد وفاته، إذ كان أسوة يؤمن به بالغيب لا بالشهادة، فيبنوا عليها الإلزامات التي تترتب عنها من أمانة وصدق ووفاء وأسوة، فتكون بذلك قاسما مشتركا بينهم وبين المسلمين؛ يتبارون في تحقيقها، ويتنافسون في تدقيقها؟

أليس يشكل “الكمال الأخلاقي” الذي جسّده الرسول محمد صلى الله عليه وسلم؛ بمفاهيمه الأساسية، مثل “الأمانة”، و”الصدق”، و”الوفاء”، و”الأسوة الغيبية”، قاعدة لحوار فكري غرضه البحث عن كمال إنساني من منطلق قرآني، فقد كان “على خلق عظيم”، والمسنود على دعائم التراث النبوي، فقد كان “خلقه القرآن”، لاسيما وأن الإنسان المعاصر صار يعتقد في أخلاق الاستهلاك، ساعيا نحو الإشباع المادي، بقيم الربح والخسارة، راغبا عما يجعله يصون كرامته الإنسانية أمام طوفان إهانتها، فلم لا يشكل الرسول صلى الله عليه وسلم وقد بلغ شأوا بعيدا في الكمال الأخلاقي، قاعدة للحوار الأخلاقي والفكري بين الأمم –ومنهم الأمة الإسبانية في شبه الجزيرة الإبيرية- وإخوتهم في اللسان والعقيدة في أمريكا اللاتينية؟

ليس يمكن أن يكون الكمال الأخلاقي الذي جسّده الرسول صلى الله عليه وسلم مبدأ للحوار وطائفة من الغرب المسيحي يجعلون السيد المسيح عليه السلام كذلك؟ أليس قدر السيد المسيح عليه السلام محفوظ، وأمه مريم صديقة في اعتقاد المسلمين، فكيف بهم جحدوا للمسلمين ما آمنوا لهم به، وكيف ينكر منهم العلماني والمتدين ما يشكل المنطلق لسلام أخلاقي وروحي وسياسي وثقافي واجتماعي؟

وإذا كانت الإرادة في الحوار مع الغرب العلماني على قاعدة ما يعتقد فيه من ضرورة إحقاق “حقوق الإنسان” – على ما للمسلمين فيها من نظر- فإن الأمل معقود على الحوار مع الغرب المسيحي على قاعدة قراراته في “المجمع الكنسي”، وبعض الرسائل البابوية التي تترجم فكر الكنيسة، وفلسفتها في الحوار بين الأديان، وبخاصة الإسلام؛ لأن كل التراث الرافض للرسول صلى الله عليه وسلم، ولأمته، وللدين الذي ارتضاه الله تعالى لها، ليس إلا تراث الكنيسة ورجالها؛ فهي المسؤولة عنه مسؤولية تاريخية وأدبية وأخلاقية، ولذلك فقراراتها، ورسائل حبرها الأعظم، يجب أن ترى النور حقا وصدقا وواقعا، وتكون هي المنطلق لبناء حوار مثمر وبناء ومستمر.

 

 

[1]   بيلايو Pelayo: تاريخ البدعويين الإسبان، ج1، ص 525. 

[2]  انظر في هذا الصدد:

Sandoval Martínez, Salvador: “La figura de Mahoma en Contra Perfodiam Mahometi, de Dionisio Cartujano, antigüedad y cristianismo”, Monografías históricas sobre la Antigüedad tardía”, n° 23, 2006, pp. 627-648.

[3]  أريسطغي Aristegui: الحركات الإسلامية ضد الإسلام، ص 73.

[4]  كتاب “الأخطاء الأساسية…”، فصل 54 أ، سطر 5-9، 18-22. ونشير إلى أن الأستاذ “إدلفونسو أديفا” يستعمل نشرة باريس ما بين عامي 1508 و 1514؛ ذلك أنه لم ينشر لحد الساعة نشرة علمية من لدن المجلس الأعلى للبحوث العلمية كما ورد في مراجعته القيمة لهذا الكتاب (ص 207). وقد أخبرني مشكورا يوم 14-12-2012، أن هناك نشرة علمية بصدد الإعداد في ألمانيا للكتاب المذكور حسب ما نما إلى علمه.

[5]  نستطيع الإشارة مثلا إلى محطة “كوبي” Cope الإذاعية، وصحيفة لاراثون La Razón  الورقية والرقمية؛ إذ يستطيع المتتبع لموادهما الوقوف على نوع من “الفوبيا” المزمنة من الإسلام والمسلمين، واستعداء المجتمع الدولي عليهما حفاظا على قيم الديموقراطية الغربية ومبادئ الحضارة الإنسانية.

[6]  انظر “فيدال” Vidal : إسبانيا في مواجهة الإسلام”، ص 561.

[7]  لم نشأ أن نتحدث عن الكثير ممن انخرطوا في العداء للمسلمين ولنبيهم عليه السلام من الإسبان خشية التطويل. ونرجو من الله أن يعيننا على نشرها في كتاب جامع قريبا.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!