الإنسانيّ في التجربة الصوفيّة: تمثّله، موقعه وأبعاده

الإنسانيّ في التجربة الصوفيّة: تمثّله، موقعه وأبعاده

الأستاذ الدكتور محمّد بن الطيب هو أستاذ تعليم عال في الحضارة العربية الإسلاميّة مختصّ في دراسة التصوّف، يدرّس بكلّيّة الآداب والفنون والإنسانيّات/جامعة منوبة-تونس، وهو رئيس وحدة البحث “الظاهرة الدينيّة في تونس”، ورئيس تحرير مجلة روح الحداثة (وهي مجلّة علمية محكّمة متخصصة في الإنسانيات، تصدر بتونس)، ونائب رئيس الجمعيّة التونسيّة للدراسات الصوفيّة “صفاء” (وهي جمعية علمية مقرها كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس)، وعضو المجلس العلمي لمركز البحوث والدراسات في حوار الحضارات والأديان المقارنة بسوسة منذ سنة 2010، ومنتج برنامج “أنوار من الشرق”بإذاعة تونس الثقافية منذ سنة 2013. له مجموعة من الكتب نذكر منها:

–     إسـلام المتصوّفة، بيروت، دار الطليعة، 2007.

–     وحدة الوجود في التصوّف الإسلامي في ضوء وحدة التصوّف وتاريخيّته، بيروت، دار الطليعة، 2008.

–  تجربة الحب الإلهي ووحدة الوجود بين محيي الدين بن عربي وجلال الدين الرومي، تونس، منشورات كلية الآداب والفنون والإنسانيات، جامعة منوبة – تونس، 2009.

–     فقه التصوّف: بحث في المقاربة الأصولية الفقهية عند أبي إسحاق الشاطبي، بيروت، دار الطليعة، 2010.

وله أيضًا مقالات كثيرة منها ما نشر في مجلات علميّة مختلفة ومنها ما ساهم به في ندوات علميّة دوليّة داخل تونس وخارجها نذكر من بينها:

–     “أثر النظر الفقهي الأصولي في التعامل مع التصوّف عند أبي إسـحـاق الـشـاطبي (تـ790هـ/1388م)”.

–     “مساهمة التصوّف في تجديد الفكر الإسلامي”.

–     “وحدة الوجود بين جلال الدين الرومي ومحيي الدين بن عربي”.

–     “منزلة الإنسان في التراث الصوفي”.

–     “وحدة الوجود عند ابن عربي: طرائق التمثيل ومسالك التأصيل”.

–     “إسهام القيروان في الحركة الصوفية”.

–     “من أعلام الزهد والتصوّف بالقيروان”.

–     “التأويل عند الصوفية”.

–     “ابن عربي في دراسات المستشرقين”.

–     “فكرة الحق والفناء عند المتصوّفة”.

–     “من تجليات الطعام في الخطاب الصوفي”.

–     “ابن عربي في الدراسات الاستشراقية”.

–     “عنف النصوص وفوضى التأويل عند محيي الدين بن عربي “.

–     “الذوق الصوفي: مقدّماته وتجلّياته”.

–     “منهج المعرفة عند الصوفية”.

–     “الشباب والروحانيات في العصر الحديث”.

–     “التصوف والبحث عن روح الإسلام”.

–     “البعد الاجتماعي في التجربة الصوفية”.

–     “من طرائق التمثيل لوحدة الوجود عند الصوفية”.

–     “من خصائص التصوّف بإفريقية في عهد بني زيري”.

–     “مأساة الحلاج: التصوف يقدم شهيده”.

–     “أثر ابن عربي في بلاد فارس”.

–     “التراث الصوفي ودوره في تعزيز الهوية العربية الإسلامية”.

صابر سويسي: مرحبا بالأستاذ الدكتور محمد بن الطيب، مساهمة ثرية ومتنوعة في دراسة الظاهرة الصوفيّة. حسب رأيكم ما الفائدة من دراسة هذه الظاهرة؟

محمد بن الطيّب: التصوف بحر خِضَمّ لا ساحل له، لغزارة التآليف فيه، وتعدّد مدارسه، وتنوّع روافده، وتراكم معارفه، وتشعّب موارده ومصادره، وكثرة أعلامه، واختلاف أطواره، وثراء تجاربه وأنظاره، وطرافة أفكاره، ولطافة أسراره، وبُعْد غَوْرِه، واتّساع مداه. إنّه منبع درس لا ينضب، ومنجم بحث لا ينفد.

التصوف جدير بالبحث لأنّه على غاية من الشساعة والغنى والطرافة، ويمكن أن نقسّمه منهجيًّا وإجرائيًّا إلى ضربين: أحدهما نطلق عليه تسمية التصوّف النظري ونعني به التراث الصوفي الذي تمحّض لوصف التجربة الصوفية مقدّماتها ومكوّناتها ومراحلها وتطوّراتها ونتائجها وثمراتها، وهو تراث غزير، تعدّدت نصوصه وتعاودت، وتفاوتت وتراكمت على مدى القرون، يتعيّن الاعتناء بها تحقيقًا وفحصًا وتدقيقًا ونقدًا، واهتمامًا بوصلها بسياقاتها التاريخية وتنـزيلها في ظروفها الثقافية والحضارية، ابتغاء الوقوف على تاريخيّتها أي إدراك ما طرأ عليها عبر العصور من تحوّلات وما أصابها من تبدّلات، وتفسير عوامل التبدّل وشرح أسباب التحوّل، واستصفاء معالم الإضافة في هذا الميدان والتقاط ملامح الطرافة في هذا المجال، وذلك باقتناص ما أبدعه المتأخرون وتمييزه ممّا بقوا فيه عالة على الأقدمين، وصولاً إلى تحليل المؤتلف والمختلف في الفكر الصوفي من خلال التراكم المعرفي والتطور التاريخي.

والثاني نطلق عليه تسمية: التصوّف العملي، ونعني به التراث الصوفي الذي انصرف إلى العناية برصد سلوك المتصوّفة ورواية أخبارهم وتسجيل مناقبهم وتدوين كراماتهم، ويندرج في هذا التراث نصوص التراجم والطبقات والمناقب الصوفية، وقد صارت اليوم حقلاً مهمًّا من حقول البحث انتبه إلى أهميتها المؤرّخون، لما وجدوه فيها من معطيات مهمّة تفيد في مجال التاريخ الاجتماعي وتاريخ الذهنيات.

والظاهرة الصوفية جديرة بالاهتمام أيضًا لما نلاحظه من انتعاش التصوّف في هذه الأيام، وتعاظم الإقبال عليه وانتشاره في أقطار الأرض، وامتداد الاهتمام به إلى غير مريديه من المسلمين وغير المسلمين، على الرغم ممّا يشهده العالم من ثورة معلوماتية وتكنولوجية وطغيان للقيم المادية والنفعية وتهافت على طلب اللذة والسلطة والمال.

يشهد لذلك الكمّ الهائل من الدراسات بشتّى اللغات وقد اتّخذت من التصوّف موضوعًا أثيرًا لديها مفضّلاً عندها، وهو ما يؤذن بتعاظم الاهتمام بهذا الميدان.

صابر سويسي: تنزّل كتابكم عن إسلام المتصوفة ضمن سلسلة الإسلام واحدًا ومتعدّدًا. فهل التصوف واحد أم متعدد؟ خاصة ونحن نلاحظ في عديد الدراسات نعوتًا مختلفة تسند إلى التصوف مثل “التصوف السني”، “التصوف الطرقي”، “التصوف الفلسفي”.. ما مدى مصداقيّة هذه التسميات؟

محمد بن الطيّب: لئن تفاوت الدارسون في الأخذ بمثل هذه التصنيفات ما بين مبالغ ومقتصد، فقد لاحظنا أنّهم قد قالوا بوجود نوعين من التصوّف كبيرين: أحدهما سنّي معتدل يتزعّمه الغزالي والآخر فلسفي منحرف يحمل لواءه ابن عربي، حتّى صار ذلك من المسلّمات التي تُلُقِّيَت بالقبول وصارت من راسخ المنطلقات التي تبنى عليها البحوث وكأنّها من البديهيات التي لا تحتاج إلى نقد ومراجعة أو تعديل وتنقيح على الأقلّ. وقد ناقشنا هذه المسلمة الشائعة وراجعنا في أطروحتنا واجتهدنا في الاستدلال على وحدة التصوف وتاريخيّته.

أما كتابنا “إسلام المتصوفة” المندرج في سلسلة “الإسلام واحدًا ومتعدّدًا” فقد كان عرضًا للتصوف تأليفيًّا حاولنا من خلاله أن نقدّم صورة شاملة عنه رجونا أن تكون واضحة المعالم بيّنة القسمات، وجعلنا نصب أعيننا في سائر مراحله الإبانة عن خصائصه ومميّزاته، واصلين بينها وبين السياق الحضاري الذي برزت فيه، واجتهدنا في الكشف عن المكوّنات الثقافيّة العامّة التي أسهمت في بنائه، والعوامل التي ساعدت على تطوّره وأفضت إلى تنوّعه، حتّى إنّه لَيُمْكِنُ الحديث في النهاية عن إسلام صوفي واحد ومتعدّد في آن، فهو واحد في منابع استلهامه ومصادر تأصيله وموارد اكتسابه للمشروعيّة، فالإسلام الصوفي مهما تنوّع نجد فيه الأسس الكبرى للإسلام: عقيدة التوحيد، وتعاليم القرآن والاقتداء بالرّسول قولاً وفعلاً. قد يتفاوت التمسّك بها في الممارسة والتطبيق، ولكنّها من ثوابت التفكير والتنظير. قد يتلوّن إسلام المتصوّفة مع الزّمن فتطغى عليه الصبغة الأخلاقيّة أو العرفانيّة أو الطرقيّة. ولكن هدفه الأسمى ظلّ على مدار التاريخ الإسلامي أن يحيا المؤمن حياة التّقى والورع، وأن يُخْلِصَ في تطبيق الإسلام في الحياة اليومية، تحدوه الرغبة الجامحة في أن تشهد جوارحه كلّها التوحيد الإسلامي، فالهدف الأسمى للمتصوّفة أن يكون الإسلام معيشًا إلى الحدّ الأقصى.

ومن ثمّ كانت مرونة إسلام المتصوّفة في قابليته للتعدّد والتمدّد: يضيق نطاقه أحيانًا فيكون تجربة زهديّة أخلاقيّة، ويتّسع ليصبح تجربة روحيّة عرفانيّة، يتوغل في الفردية حينًا، ويتّسع مجاله ليشمل مجتمعات بأسرها، يتّجه إلى الله في عليائه ويعتزل النّاس ودنياهم، ثم يلتفت إليهم ويقبل عليهم، فينغمس في همومهم ويحلّ مشاكلهم ويلبّي رغائبهم ويرعى مصالحهم ويدبّر شؤون اجتماعهم ويمارس سلطانه عليهم.

إنّ قابليّته للتعدّد تجعله ينفتح على اختصاصات مختلفة وميول متنوعة وأوساط متباينة. ولعلّ من أبرز من تفطّن إلى هذه الخصوصيّة فيه أحمد بن أحمد الفاسي زرّوق حيث يقول في نصّ مهمّ يدعم ما ذهبنا إليه: “فللعاميّ تصوّف حَوَتْه كتب المحاسبي ومن نحا نحوه. وللفقيه تصوّف رامه ابن الحاج في مدخله، وللمحدّث تصوّف حام حوله ابن العربي في سراجه، وللعابد تصوّف دار عليه الغزالي في منهاجه، وللمتريّض تصوّف نبّه عليه القشيري في رسالته، وللناسك تصوّف حواه القوت والإحياء، وللحكيم تصوّف أدخله الحاتمي في كتبه، وللمنطقي تصوّف نحا إليه ابن سبعين في تآليفه، وللطبائعي تصوّف جاء به البوني في أسراره، وللأصولي تصوّف قام الشاذلي بتحقيقه. فليعتبر كلّ بأصله من محلّه”.

ولعلّ سمة الوحدة والتعدّد أجلى ما تكون في الأدب الصوفي في كلّ اللغات الإسلاميّة. فما أشبهه بالبحر المحيط تعلوه الأمواج تمضي في اتّجاهات مختلفة وبأشكال متعدّدة ولكنّها تعود إلى مصدرها الأصلي الذي تنشأ فيه وتخرج منه. وما زال في هذا الأدب ما يغري بالغوص فيه دراسةً وتدبّرًا واستلهامًا.

صابر سويسي: اشتغلتم على مفهوم محوري في تاريخ التصوف وهو وحدة الوجود وطرحتم الإشكال في ضوء وحدة التصوف وتاريخيّته. فما الذي يحقّق هذه الوحدة (أي وحدة التصوف)؟

محمد بن الطيّب: كان مدار اهتمامنا في رسالة الدكتوراه على “وحدة الوجود في التصوف الإسلامي” فاكتشفنا أنّها هي القطب الذي عليه مدار التصوّف برمّته، وأتيح لنا أن نراجع كثيرًا من المسلّمات الجاهزة والأحكام المسبقة، وهدانا تعميق البحث فيها إلى أطروحة موازية أقمنا من خلالها الدليل على وحدة التصوّف الإسلامي وتاريخيته.

ولقد حاولنا استصفاء مفهوم وحدة الوجود والملاءمة بين دراسته دراسة تأليفية جامعة، والبحث في تاريخيته ابتغاء الكشف عن جذور الفكرة ومتابعتها في سيرها ونموّها إلى حين نضجها واكتمالها. فبحثنا في وحدة الوجود باعتبارها نتاجًا معرفيًّا نما وتطوّر بحسب تبدّل الأحوال وتغيّر الأعصار، وقدمنا صورة عن وحدة الوجود اجتهدنا في أن تكون بيّنة الملامح واضحة المعالم، منذ أن نشأت بذورها وتمهّدت مقدّماتها، إلى أن توثّقت أصولها واكتملت فروعها في إطار التصوّف الإسلامي، ومن خلال نصوص المتصوّفة أنفسهم، ابتغاء رصد المنابع التي أسهمت في تكوينها، واختبار السائد من المفاهيم حولها، والشائع من الآراء عنها، والتحقيق في بعض المسلّمات بخصوصها، والتدقيق في بعض الإشكالات المتّصلة بها. فمن ذلك أنّنا حقّقنا فيما يشيع عند القدماء والمحدثين من تخليط بين وحدة الوجود وبعض المفاهيم الصوفية كالحلول والاتّحاد والفناء ووحدة الشهود.

وفحصنا ما وجدنا عند كثير من الدارسين من العرب والعجم من مطابقة بين المفهوم الصوفي الإسلامي لوحدة الوجود ومفهومها الغربي Panthéisme الذي يعني أنّ الله هو العالم وأنّ العالم هو الله، وأنّ الله باطن في العالم ماثل في الطبيعة. وتكشّف بحثنا عن أنّ نصوص المتصوّفة ذات الصلة بوحدة الوجود لا تستجيب لمثل هذا الفهم المادي الاندماجي، وأنّ قراءة وحدة الوجود الصوفية في ضوء المفهوم الغربي لوحدة الوجود موطن زلوق تضلّ فيه الأفهام، وأنّ وحدة الوجود في المجال التداولي الإسلامي لها خصائصها ومميّزاتها التي تَبِينُ بها عن سائر التصوّرات التي صيغت في الثقافات القديمة كما نجدها في الديانات الشرقية، أو في الفلسفة اليونانية أو في التصوّرات الفلسفية الغربية الحديثة.

ومن أبرز ما تكشّف عنه بحثنا أن ّالقول بوحدة الوجود لم يكن غريبًا عن المسار التاريخي للفكر الصوفي الإسلامي، وأنّ الوصول إليه كان انتقالاً طبيعيًّا، وأنّه قول ضارب بجذوره في تربة التصوّف المبكّر وأنّ بذوره مزروعة فيه، ومن الطبيعي إذا لقيت تلك البذور من يستنبتها ويرعاها أن تثمر وتؤتي أكلها ولو بعد حين.

وهكذا أتيح لنا أن نراجع الأطروحة السائدة في الدراسات الحديثة والتي تسلّم – في ضرب من التبسيط المدرسي – بوجود نوعين كبيرين من التصوّف أحدهما سنّي معتدل والآخر فلسفي منحرف، ونساهم في تأسيس أطروحة مغايرة قوامها القول بوحدة التصوّف الإسلامي وتاريخيته، وإن تنوّعت منابعه وتعدّدت روافده وتفرّعت مسائله وتشعّبت مشاربه.

وممّا يمكن عدّه من الإضافات المعتبرة في هذه الأطروحة محاولتنا في سياق التقاط لوامع القول بوحدة الوجود وبوارقها وبذورها عند أوائل المتصوّفة أي في المقدّمات الممهّدات لها والإشارات الموحيات إليها، تدقيق بعض المفاهيم الجوهرية في التصوّف، حيث انتقينا أربعة من المفاهيم المركزية التي مهّدت للتحوّلات الذوقية والنظرية التي ستقود إلى وحدة الوجود وهي “الحبّ” و”الفناء” و”التوحيد” و”الحلول”. فكان مفهوم الحبّ الإلهي فتحًا جديدًا في تاريخ الحياة الروحية في الإسلام، وكان الخطوة الأولى على درب وحدة الوجود، لأنّه مثّل بداية التحوّل الجذري في العلاقة بين الله والإنسان، وكان مفهوم الفناء بمراتبه فناءً معنويًّا ذا مضمون روحي اعتاض به المتصوّفة عن توحيد المتكلّمين ذي الطابع التجريدي المتوغّل في العقلانية. واستبان لنا أنّ مفاهيم الحبّ الإلهي والفناء والتوحيد والمعرفة متقاربة متواشجة تكاد تكون مترادفة، يفضي كل ّواحد منها إلى الآخر فمنتهى الحب الإلهي هو الفناء في المحبوب الأسمى وبالفناء تُعرف حقيقة التوحيد معرفة مشاهدة ومكاشفة وما مضمون التوحيد في منتهاه إلاّ وحدة الوجود.

أمّا مفهوم الحلول الذي شاعت نسبته إلى الحلاج فقد أوقفنا تقليب النظر في نصوصه على أنّ صاحبه لم يكن حلوليًّا خالصًا لحرصه على التنـزيه وتواتر الأقوال النافية للحلول بمعناه التحيّزي المادي الامتزاجي، وأفضى بنا التحليل إلى وسمه بـ “الحلول الشهودي”، بمعنى أنّ الصوفي في لحظة وجده يشعر أنّ الحقّ أدناه وقرّبه وجعله آلة لكلامه ولسانًا لتعبيره، ففني عن شهود ذاته ولم يبق إلا مشهوده فصاح في لحظة وجده: “أنا الحقّ”، ولذلك حَمَلْنا سائر الشواهد الـمُشْعِرة بالحلول والامتزاج على المجاز لوجود الشواهد القاطعة بنفيه واستحالته عقلاً ونقلاً، فأدرجنا تلك الشواهد في ما سمّيناه “خطاب الوجد والوجدان” وهو خطاب تخييل وتصوير ومجاز وتشبيه، وأدرجنا الشواهد النافية للحلول والامتزاج في نطاق ما وسمناه بـ”خطاب العقل والبرهان” وهو خطاب تعالٍ وتنـزيه.

وممّا اكتشفنا أنّ المسائل التي قامت عليها وحدة الوجود الأكبريّة تجد بوادرها الأولى في تصوّف الحلاج، وحَسْبُنا التذكير بأنّ ابن عربي اعتاض عن ثنائية اللاهوت والناسوت بثنائية الحقّ والخلق باعتبارهما وجهين لحقيقة واحدة.

وفي باب التحوّلات الذوقية والنظرية المبشرة بوحدة الوجود، وقفنا على مفاهيم ثلاثة كبرى كان لها عظيم الأثر في تهيئة الإطار المناسب للتصوّف الوحدوي واكتمال عناصره، فكانت وقفة النفّري في معناها وفي متعلّقاتها ومقتضياتها وتوابعها تمهيدًا لوحدة الوجود عند ابن عربي وأتباعه، وألفينا في تجربته الصوفية صلات قربى ووشائج نسب بينهما، ولاحظنا أنّ المقولات الكبرى في تصوّفه: “السِّوَى” و”الوقفة” و”المخاطبة” و”الرؤية” علامات تحوّل في التصوّف لم يألفها الخطاب الصوفي قبله، وقد ثبت لدينا تتلمذ الشيخ الأكبر على تراث النفّري وتأثّره به، وهو ما دعم قولنا بوثاقة الاتّصال بين أطوار التصوّف واستفادة اللاحق من السابق وإن بدا للمتعجّل أنّ بينهما اختلافات كبيرة وتباينات عميقة.

وكان مفهوم “علم المكاشفة” عند الغزالي علامة تحوّل مهمّة في طريق وحدة الوجود لأنّنا وجدناه يدور حولها، واستبان لنا أنّ جوهر علم المكاشفة هو وحدة الوجود، ولكن لا بالمعنى الفلسفي وإنّما بالمعنى الشهودي.

ولم نغفل عن مفهوم حقّق نقلة نوعية في درب التصوّف الوحدوي وهو مفهوم الإشراق الذي انبثق عنه بناء السهروردي المقتول نسقًا خاصًّا لوحدة وجود ذات طابع إشراقي.

وما فتئنا خلال بحثنا نحاول ما استطعنا تجلية مظاهر الاتصال الفكري بين المتأخّرين من الصوفية والمتقدمين، بهدف إقامة الحجة على ما افترضناه من وحدة مسار التصوّف الإسلامي عمومًا، ونموّ بذرة وحدة الوجود وتطوّرها، وإن تنوّعت مظاهرها واختلفت صورها وتعدّدت تجلّياتها، بحسب اغتناء الثقافة، وتراكم المعرفة وثراء التجربة، وعمق الخبرة، واستفادة اللاحق من السابق، فأفضى بنا طول النظر على أنّ ما يبدو لبادئ الرأي متفرّقًا متباعدًا، يتكشّف بعد التدبّر أنّه متّصل متقارب، فلا نستغرب عندئذ أن يكون الغزالي المشهور بأنّه المتصوّف السنّي المعتدل خصم الفلاسفة قد وضع اللبنات التي ستكون من مكوّنات صرح وحدة الوجود الإشراقية ووحدة الوجود الأكبرية المنسوبتين عادة إلى ما يسمّى بالتصوّف الفلسفي المنحرف.

صابر سويسي: يعترف كثير من الباحثين اليوم بفضل الدراسات الاستشراقيّة في لفت الانتباه إلى أهمّيّة البحث في التصوف. فكيف نفهم إقبال المستشرقين المكثف على الاهتمام بالتراث الصوفي تحقيقًا ودراسةً ونشرًا؟

محمد بن الطيّب: الحق أنّ إقبال المستشرقين على التراث الصوفي وإفادة الدارسين من جهودهم الجبارة حقيقة لا ينكرها إلا جَحُود، يكفي أن نشير على سبيل التمثيل إلى أنّ عكوفهم شرقًا وغربًا على ترجمة آثار ابن عربي الملقّب بـ”الشيخ الأكبر” وأشعار جلال الدين الرومي الملقّب بـ”مولانا” ودراسة تصوّفهما يضارع اهتمام الدارسين المسلمين أو يزيد فمن ذلك أنّ زمرة من المستشرقين الإنكليز والأمريكان أسسوا مجلّة تمحّضت لفكر ابن عربي وهي تصدر في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية منذ سنة 1977، عنوانها: The mohyiddin Ibn Arabi Society والمتصفح للشبكة العالمية للمعلومات الأنترنت تذهله كثرة المواقع المختصة في تراث الشيخ الأكبر والمهتمة بفكره، والأمر نفسه يصدق على “مولانا” جلال الدين الرومي.

ولا نحسب هذا الإقبال المتزايد من قِبَلهم على التصوّف ورموزه يعزى إلى مجرّد الفضول المعرفي، استطرافًا للمختلف، وطلبًا للمغاير، وخروجًا عن السائد، وإن كان النص الصوفي يستجيب – دون شك – لهذه الحاجة، لأنّ له سحرًا يأخذ بالألباب، وجمالاً يستهوي النفوس، ويغري بالبحث عن درّه المكنون، بل نحن أميل إلى الاعتقاد بأنّ التصوّف يستجيب لحاجة في قرارة النفس الإنسانية تجد إشباعها في روحانيته العميقة التي بفضلها اكتسب صبغة كونية، فلذلك لم يكن عجبًا إقبال كثير من الناس على التصوّف يتدبّرون قيمه الروحية، ويبحثون فيه عن رؤية للكون والحياة والإنسان مغايرة للسائد، قوامها الرجوع إلى الأغوار البعيدة والينابيع العميقة للوجدان الذي يجتذبه الحبّ الإلهي، إذ يعلن الصوفي بكلّ وثوق إمكان قيام علاقة شخصية مع الله، وأنّ تلك العلاقة تسمو على ما سواها من علائق الدنيا ومتعها ومباهجها.

ولعلّ المستشرقين خصوصًا والغربيين عمومًا وجدوا في التصوّف بسموّه وتعاليه وقيمه الأخلاقية والروحية علاجًا لأدواء الحياة المعاصرة، لما فيه من روحانية عالية وأبعاد إنسانية سامية وقيم أخلاقية راقية تؤمن بالاختلاف والتعدد وتؤصله عقيدة وسلوكًا وتدعو إلى المحبة بين الناس على اختلاف ألوانهم وأوطانهم وأديانهم… فلذلك يمّموا وجوههم شطر التراث الصوفي يتدبّرون نصوصه ويدرسون آثاره بكلّ شغف.

والحق أنّ هذا الأمر كان من الدواعي الموضوعية التي حملتنا على الاهتمام بهذا الميدان، وأيقظت فينا الشعور بالمسؤولية الفكرية والعلمية، فإذا كان الأعاجم قد اهتمّوا بتراثنا الصوفي هذا الاهتمام المتعاظم، فمن باب أولى وأحرى أن يشتغل به أهله قبل غيرهم، كيف لا وهو من مقوّمات هويّتهم الحضارية، ضارب بجذوره في أعماق تاريخهم، موصول بمشاغل عصرهم في آن؟ وكيف يطيب للباحث العربي المسلم عيش ويهنأ له بال وهو يرى أنّ أرقى المراجع المختصّة في التصوّف وأجود الدراسات الصوفية التي تعتدّ بها الجماعة العلمية العالمية هي من تصنيف المستشرقين في الأعمّ الأغلب؟ وكأنّ هذه الأمّة عقمت أن تنجب بُحّاثًا في ذلك المستوى أو أرفع منه!

صابر سويسي: إذا كان ما تختزنه التجربة الصوفية من أبعاد إنسانية وانفتاح على الآخر وقدرة على تقبله والتعايش معه من أهم الدوافع التي أغرت المستشرقين بدراستها، فهل يمكن فعلاً أن يشكل التصوف أرضية خصبة لحوار الحضارات وتعايش العقائد والأديان؟

محمد بن الطيّب: الحق أنّ التجربة الصوفية قد تجاوزت في أبعادها الإنسانية فكرة القبول بالآخر والتعايش معه والتسامح مع اختلافه في الملّة إلى محبته ورحمته والشفقة عليه والإحسان إليه ونفي أي شعور بالتفوق عليه. ويمكن أن نتخذ من ابن عربي الملقب بـ”الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر” مثالاً على ذلك. ففضلاً عن منزلة الإنسان في ميتافيزيقا ابن عربي منطلقها باعتباره كونًا جامعًا صغيرًا يحوي الكون الجامع الأكبر وبرزخًا بين الله والعالم، فإنّ فكر ابن عربي لا يخلو من إشارات مهمة إلى القيمة الإنسانية عمومًا وكرامة الإنسان عند الله، وفيه دعوة حارّة إلى الإبقاء على النوع الإنساني وصونه، وتحذير قويّ ضد هدم النشأة الإنسانية، لأنّ في هدمها قضاء على أكمل صورة لله في الوجود.

فهو يقول: “واعلم أنّ الشفقة على عباد الله أحق بالرعاية من الغيرة في الله”، ولاحظ أنّ الشفقة تعم الناس جميعًا ولا تخص المؤمنين منهم، فنطاق الرعاية ومجال السماحة يتسعان ليشملا الجنس البشري كلّه، بغضّ النظر عن الدين والعقيدة. وقد أوّل الحكم الفقهي القاضي بفرض الجزية على غير المسلمين على أنّ المقصد منه الإبقاء عليهم. وبذلك أصّل بطريقته الخاصة أصْل الحفاظ على النفس البشرية والإبقاء على النوع الإنساني، فقال: “ما دام الإنسان حيًّا يُرْجَى له تحصيل صفة الكمال الذي خلق له، ومن سعى في هدمه فقد سعى في منع وصوله لما خلق له”.

وإنّنا لنجد في ميتافيزيقا ابن عربي من الاحترام والإجلال ما يتجاوز الإنسان إلى العالم كلّه، حيث يدعو إلى احترامه وتقديره، ويحذّر من الاستهانة به وتحقيره، وهو ما قد يعز نظيره عند حماة البيئة في زماننا، لأنّه أرحب مجالاً وأوسع آفاقًا. ذلك قوله: “وأما عند أهل الكشف والوجود، فكل جزء في العالم، بل كلّ شيء في العالم أوجده الله لا بد أن يكون مستندًا في وجوده إلى حقيقة إلهية، فمن حقره أو استهان به فإنّما حقر خالقه واستهان به”.

ولقد وجدنا نظر ابن عربي في منزلة الإنسان في الوجود قد حمله إلى ارتياد آفاق في النظر لم يُسبق إليها، ودخول مناطق في التفكير لم يقتحمها أحد قبله، ودفعه إلى إعلان مواقف جريئة بالقياس إلى الأفق الفكري في عصره. كيف لا وقد تفتّق فكره على إقامة الدليل في تناسق تام مع نظريته الميتافيزقية على المساواة بين الرجل والمرأة.

فتأمّل قوله: “ولسنا نريد الإنسان بما هو إنسان حيوان فقط، بل بما هو إنسان وخليفة. وبالإنسانية والخلافة صحّت له الصورة على الكمال. وما كلّ إنسان خليفة، فإنّ الإنسان الحيوان ليس بخليفة عندنا. وليس المخصوص بها أيضًا الذكورية فقط، فكلامنا إذن في صورة الإنسان الكامل من الرجال والنساء. فإنّ الإنسانية تجمع الذكر والأنثى. والذكورية والأنوثية إنّما هما عرضان ليستا من حقائق الإنسانية لمشاركة الحيوان كلها في ذلك وقد شهد رسول الله صلى الله عليه سلم بالكمال للنساء كما شهد به للرجال”.

إنّ هذه المنزلة الرفيعة الفريدة التي تتبوّؤها المرأة في فكر الشيخ الأكبر خصوصًا، وفي فكر المتصوفة عمومًا، لتدعو إلى الإعجاب وتغري بالدراسة.

ومن أفكاره التي تعدّ فعلاً أرضية خصبة لحوار الحضارات وتعايش العقائد والأديان ما شاع على ألسنة الدارسين من قوله بـ “وحدة الأديان”، والتسمية الدقيقة -في رأيي- هي “وحدة المعبود”، وقد أفصح عنها بصريح اللفظ في قوله: “ورأيت فيها أنّ الله هو المعبود في كلّ معبود من خلف حجاب الصورة” وقوله: “المعبود بكلّ لسان وفي كل حال وزمان إنّما هو الواحد”. وتعضيده لهذه المقولة بمفهوم الإله المخلوق في الاعتقاد فكلّ عبْد يعرف الله في صورة معتقده الخاص، وينكره في صورة معتقدات الآخرين، وهذا -في رأي ابن عربي- عين الحجاب، لأنّ الذوق والكشف يؤيّدان أنّ الحق هو الظاهر في صور المعتقدات جميعًا.

وذاك ما تعطيه عقيدة وحدة الوجود التي من مقتضياتها تنوّع التجلي الإلهي في صور الوجود وفي صور الاعتقادات أيضًا. والكامل في نظر ابن عربي هو الذي يرى الله في كلّ المعتقدات، لأنّها جميعًا تستند إلى حقيقة إلهية من تجلي الله في الصور المختلفة وجودية كانت أم معرفية اعتقادية. ولذلك يتوجّه إلى قارئه ناصحًا بقوله: فاجعل بالك لما ذكرناه واعمل عليه تعْطِ الألوهية حقّها، وتكون ممّن أنصف ربّه في العلم به، فإنّ الله يتعالى أن يدخل تحت التقييد، أو تضبطه صورة دون غيرها. ومن هنا تعرف عموم السعادة لجميع خلق الله واتساع الرحمة التي وسعت كل شيء”.

والحقّ أنّ هذا التصور لرحمة الله الشاملة في النهاية يقوم على نزعة تفاؤلية عامة لا ترى في الوجود شرًّا ولا جهلاً ولا نقصًا، إذ الوجود وإن تكثّرت مظاهره، فإنّه يرتدّ إلى مبدأ واحد هو الله، وهو الخير المطلق والكمال المطلق والجمال المطلق. ومن هذا التصوّر الوجودي يتّسع قلب العارف عامة، وقلب ابن عربي خاصة، ليسع كل المعتقدات لأنّه يدين بدين الحب، ولا عجب أن يكون ذلك كذلك، لأنّ الوجود عنده حبّ. يقول:

لَقَدْ صَارَ قَلْبِي قَابِلاً كُلَّ صُورَةٍ فَمَرْعًى لِغِزْلاَنٍ وَدَيْرٌ لِرُهْبَـانِ
وَبَيْتٌ لأَوْثَانٍ وَكَعْبَةُ طَائِــفٍ وَأَلْوَاحُ تَوْرَاةٍ وَمُصْحَفُ قُرْآنِ
أَدِينُ بِدِينِ الْحُبِّ أَنَّى تَوَجَّهْـتْ رَكَائِبُهُ فَالْحُبُّ دِينِي وَإِيمَانِي

وهكذا تولّدت عن كبرى النتائج المترتبة على وحدة الوجود، وهي وحدة المعبود على الرغم من تعدّد المعبودات، نتيجة أخرى لا تقلّ عن الأولى خروجًا عن مألوف الفكر الديني التقليدي، وهي الرحمة الإلهية الشاملة، باعتبارها المصير النهائي للناس جميعًا. فمآلهم -بصريح لفظه- هو السعادة، مهما كانت عقائدهم في الله، ومصيرهم النعيم في الدار الآخرة مهما كانت أفعالهم. وما من شك في أنّ مثل هذه الأفكار التي تخرج من ضيق التصورات الدينية التي تفرق بين الناس بحسب الانتماء إلى الملة والمذهب من شأنها أن تسهم في تحقيق التعايش السلمي بين الناس وتشجع على التعارف والتحاور بينهم مهما اختلفت أديانهم ومذاهبهم، وتبعدهم عن كل منازع التعصب الديني المفضي إلى التباغض والاحتراب.

صابر سويسي: هذه الأبعاد الإنسانيّة فضلاً عن خصوصيّة المنزع الأخلاقي والطابع الروحاني في التجربة الصوفية عوامل دفعت بعض المفكرين إلى القول بأنّ التصوف يمثّل حلاًّ لهموم العصر الحاضر وكل العصور. ما رأيكم؟

محمد بن الطيّب: أنا ممن يؤمنون بأنّ في التصوف ما يمكن أن يساعد على تقديم العلاج الشافي لأدواء العصر الحاضر وكل العصور – طبعًا التصوف في جوهره النقي الصافي- فإذا اتفقنا على أنّ أزمة عصرنا الحاضر أزمة أخلاقية في صميمها وعلمنا أنّ التصوف أخلاق أو لا يكون أدركنا عظيم دور التصوف في إصلاح واقعنا المأزوم، وإذا كانت رسالة النبي الأكرم تتمثل في إتمام مكارم الأخلاق فإنّ التصوف بهذا الاعتبار هو روح الإسلام. كيف والأخلاق هي دعامة التصوف ومناط اهتمام المتصوفة، بل لقد لخصوا الطريق الصوفي في “التخلية” والتحلية”. فالتصوف استقامة في السّلوك قبل كل شيء، ولا تحصل تلك الاستقامة إلاّ بالتخلّي عن مرذول الصفات وقبيح الأفعال والتحلّي بحميدها، ولا يبلغ الصوفي الكمال في السلوك إلاّ إذا حسنت أخلاقه وتميّز بالصلاح والفضل والتّقى والورع. ومقياس التفاضل الأخلاقي قولاً وفعلاً هو المثل الأعلى النبوي. قال الجنيد شيخ الطائفة: “الطرق كلّها مسدودة على الخلق إلاّ من اقتفى أثر الرّسول وتبع ولزم طريقته، فإنّ طرق الخيرات كلّها مفتوحة عليه”.

فالأخلاق هي جوهر التصوّف عندهم علمًا وعملاً، يلخص ذلك قول ابن قيم الجوزية: “واجتمعت كلمة الناطقين في هذا العلم: أنّ التصوّف هو الخلق”. ولذلك اعتبر الصوفية النفس منبت الشرور ومنبع الأخلاق الدنيئة والأفعال الذميمة أي المعاصي وسيّئ العادات ومرذول الصّفات مثل الكِبْر والحسد والبخل والغضب والحقد والطمع وأمثالها، وأوجبوا ترويضها بالتوبة لترك المعصية وبالمجاهدة لإزالة الأوصاف الرديئة. فقالوا: “التصوّف خلُق فمن زاد عليك في الخلُق فقد زاد عليك في الصفاء” وقالوا: “التصوف هو الدخول في كلّ خلُق سنيّ والخروج من كل خلُق دنيّ”.

وممّا يدلّ على مركزية الأخلاق في التصوف أنّ سبيل الوصول إلى الله عند القوم – كما يقول الغزالي – “هو العلم بكيفيّة تطهير القلب من الخبائث والمكدّرات بالكفّ عن الشهوات والاقتداء بالأنبياء صلوات الله عليهم في جميع أحوالهم. فبقدْر ما ينجلي من القلب ويحاذي به شطْر الحق تتلألأ فيه حقائق الوجود”، وهذه هي المجاهدة، وهي أخلاقيّة في صميمها.

ولذلك وجدنا أعلام الصوفية قد أشبعوا الجانب الأخلاقي بحثًا ودرسًا وتأليفًا وأفردوا له أبوابًا وفصولاً وكتبًا، وانصبّ اهتمام مؤلّفيهم منذ وقت مبكّر على التأليف في عيوب النفس وأهوائها كالكبر والعُجْب والرياء والتصنّع والطمع والحرص، وفي محامد أخلاقها كالإخلاص والتواضع والجود والإيثار وما إليها، وصار ذلك سمة مميّزة للتصوف، وإذا بنا أمام ثروة أخلاقيّة حقيقيّة توغّلت في بواطن النفس الإنسانيّة وعالجت عيوبها الأخلاقيّة وأمراضها النفسيّة. فلا نُبْعِد إن زعمنا أنّ المتصوّفة أسّسوا “فقه الباطن” مثلما أسّس الفقهاء “فقه الظاهر”. فكان فقه المتصوفة منشغلاً بأخلاق النفس ووسائل تربيتها، وهو بذلك يجري موازيًا لأحكام فقه الجوارح ومكمّلاً لها. فما أحوجنا اليوم أفرادًا وجماعات إلى أن نسلك مسلك الصوفية في تهذيب النفس وتزكيتها وترقيتها بمكارم الأخلاق ومحامد الشيم.

فإذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتمًا وعويلا

كما قال أمير الشعراء أحمد شوقي.

صابر سويسي: في علاقة بموضوع العنف المستشري في البلاد العربية والإسلامية اليوم، نجد أصواتًا تدعو إلى نشر التصوف فكرًا وممارسةً بين شبابنا باعتباره الأقدر على احتواء هذا العنف وامتصاصه وتحييده والنأي به عن مخاطر التطرف. هل ترون التصوف بديلاً ممكنًا وعلاجًا مناسبًا ينقذ الشباب اليوم من السقوط في متاهات العنف؟

محمد بن الطيّب: ما من شك في أنّ في ما ذكرنا آنفًا من قيم التصوف وأخلاقه ما يقي من مخاطر التعصب ونوازع الغلو والتطرف وما يصحب ذلك من آفات العنف والإرهاب وما يخلفه من فساد في الأرض عريض، وإذا كان الشباب ينأى عن التصوف متأثرًا بما شاع عند النّاس من أنّه انكفاء على الذّات وهروب من الواقع وفرار من النّاس واستبطان للنّفس، أو أنّه عنوان جهل وتخلف ودروشة، فإنّ تصحيح هذا التصور من شأنه – في تقديري- أن يغري بالإقبال عليه والانتباه إلى ما فيه من ثروة أخلاقية وقيمية من شأنها إذا آمن بها الشباب خاصة والناس عامة وعملوا بها أن تصلح من شأنهم وتحسن أحوالهم وترقى بهم إلى الأسمى والأقوم. ويمكن أن نمثل لذلك بنماذج من سلوك الصوفية بعد أن تمثلنا ببعض أفكارهم وعقائدهم.

فإذا ألقينا نظرة على كتب الطبقات الصوفية ألفينا النماذج الصوفيّة التي رسمتها لنا غير منعزلة عن مجتمعها، إذ يكاد يكون تدخّلها في سائر ميادين الحياة الاجتماعيّة شاملاً، ولها فيها تأثير ينزع دومًا إلى تجسيم ذلك المثل الأعلى الإسلامي، ففي علاقة المتصوّف بإخوانه من المتصوّفة يتميّز سلوكه بحسن المعاشرة وترك الخصومة وملازمة الإيثار والمعاونة في أمر الدنيا والدين.

وفي علاقة المتصوّف بالناس يبدو رحيمًا بهم، ليّن العريكة في التعامل معهم، مشفقًا عليهم، متسامحًا معهم، متحلّيًا بخصلة نكران الذات، وما أكثر الأخبار التي تروى عن مساعدة الصوفي للفقراء، ونصرته للضعفاء، فالخلق هم غاية سعي الصوفي، وفناؤه في الله يوازيه فناؤه في الخلق.

ومن أَوْعَبِ التقسيمات لعلاقات الصوفي ما ذكره ذو النون المصري، فهو “عون للغريب، أب لليتيم، بَعْلٌ للأرملة، حَفِيٌّ بأهل المسكنة، مَرْجُوٌّ لكلّ كربة”، وهو في معاملته اليوميّة مع الناس هشّاش بشّاش. فقوله “بعل للأرملة” أنّه يغنيها عن فقدان زوجها بمساعدتها حتى لا تحتاج إلى معيل، أمّا الهشاشة والبشاشة فهما عنوان شخصيّته السمحة الخالية من الكبر والعُجب والتعالي، وهي صفات ذميمة معهودة عند ذوي الجاه والسلطان والمال في تعاملهم مع العامّة. ومن القيم الأخلاقيّة المطلوبة في الصوفيّ أن يتلطّف بالنّاس ولا يبغي عليهم، رُوي عن الجنيد قوله: “لا يكون العارف عارفًا حتى يكون كالأرض يطؤه البَرّ والفاجر، وكالسحاب يظلّ كلّ شيء، وكالمطر يسقي ما ينبت وما لا ينبت” بمعنى أنّه يتعامل في منتهى اللطافة والسماحة مع الصالح وغير الصالح من عامّة الناس، إنّه يعمّ بخدمته الجميع بغضّ النظر عن أديانهم ومعتقداتهم، ويشمل بمعروفه من يستحقّه ومن لا يستحقّه.

والصوفي يعالج الصوفيّ أيّ خلل يراه في الناس دونما تشهير بهم أو تشنيع عليهم أو فضح لعيوبهم بل إنّه يروم إصلاحهم بإسبال الستر على نقائصهم وإخفائها عن الناس، وفي هذا المعنى يقول أحدهم: “إذا رأيت سكران فَتَمَايَلْ لئلاّ تبغيَ عليه، فَتُبتَلَى بمثل ذلك”، ومقتضى هذا التوجيه أن تُظهِرَ من نفسك العيب الذي تراه في غيرك، حتى لا تعتقد أنّك أفضل منه، وحتى تكون له عونًا على مواجهة تعيير الناس له أو سخريتهم منه، والمتصوّفة يصدرون عن حساسيّة حرجة تجاه هذه الأمور، لحرصهم على عدم إلحاق الأذى بالناس بسبب ما قد يَبْدُرُ منهم من أخطاء أو هفوات.

وكانت صلتهم في الحياة اليوميّة مع الفقراء على غاية من الوثاقة، فكانوا يختلطون بهم للاطّلاع على أحوالهم وتقديم العون لهم، فقد ورُوي عن سفيان الثوري أنّ الفقراء كانوا في مجلسه كالسلاطين، وإذا بلغهم عن أحد الأغنياء أنّه متعبّد سخروا منه، ذلك أنّ عبادة الغنيّ عندهم توزيع ما زاد عن حاجته من الأموال على الناس، أمّا الصلاة والصّوم فلا يجديانه شيئًا ما لم يؤدّ زكاة ماله وقد ذكر الشعراني أنّ من أخلاق الصوفيّة تقديم إنفاق الدراهم والدنانير في طعام الجائع وكسوة العريان وقضاء الديون التي لا يقدر أصحابها على الوفاء بها على بناء الزوايا والمساجد. ونُقل عن عبد الله بن المبارك: “لقمة في بطن جائع أرجح في ميزاني من عمارة مسجد”.

إنّ لهذا المنحى الاجتماعي حضورًا بارزًا حتى عند أقطاب الصوفيّة ممّن انصبّ اهتمامهم على الجانب العرفاني من التصوّف، فالبسطامي يرجع في بعض شطحاته إلى حقوق الخلق فعبّر عن همّه بهم في الدنيا وفي الآخرة. وعن حقوقهم في الدنيا تأتي هذه الحكاية التي تتضمّن حكمًا بإيفاء حقوق الفقراء بدلاً من إنفاق المال في الحجّ، قال: “خرجت إلى الحج فاستقبلني رجل في بعض المتاهات فقال: أبا يزيد إلى أين؟ فقلت: إلى الحجّ، فقال: كم معك من الدراهم؟ قلت: معي مائتا درهم، فقال: فَطُفْ حولي سبع مرّات، ونَاوِلْنِي المائتي درهم، فإنّ لي عيالًا. فطفت حوله وناولته المائتي درهم”. ولعلّ هذه الحكاية من صنعه هو لتثبيت مبدأ تفضيل الإنفاق على الفقراء بدلاً من الحجّ، وقد ساقها بمنطق الصوفيّة ولغتهم، فجعل الرجل الفقير بمثابة الكعبة، وطاف حوله ثمّ سلّمه المال وعاد إلى بلده معتبرًا أنّ ذلك هو حجّه.

وممّا يروى عنه من الأخبار التي يعبّر فيها عن خوفه على الناس وإشفاقه عليهم من عواقب يوم القيامة قوله: “مُنْيَةُ العارف في الدنيا بقاء الإيمان، وفي الآخرة العفو عن الخلق”. وقوله: “اللّهمّ إن كان في سابق علمك أنّك تعذّب أحدًا من خلقك بالنار فعظّم خلقي (=جسمي) حتّى لا تَسَع معي غيري”.

إنّ لدى أقطاب التصوّف شعورًا مرهفًا بالمسؤوليّة عن البشر جميعًا، فهم متّفقون على العمل من أجل إنقاذ البشر من الفقر والذلّ في الدنيا ومن العذاب في الآخرة. ولعلّ أبرز أنموذج ممثّل لذلك الحلاّج باعتباره متصوّفًا على الجهتين: جهة التصوّف الاجتماعي المناضل وجهة التصوّف العرفاني، وربّما كان لهذا الصوفيّ الكبير مركز الصدارة من اهتمامات ماسنيون والقطب من بحوثه، لأنّه رأى فيه شبهًا بالمسيح المصلوب، باعتباره رمز تحمّل مسؤوليّة خطايا الناس أجمعين.

وفي سيرة الحلاّج من الأخبار ما ينطق بهذه المسؤوليّة العامّة، فقد اتّسم سلوكه بالتسامح المطلق والاستعداد للفداء فكان يزور المرضى والبؤساء لا من المسلمين فحسب، بل من النصارى واليهود والوثنيّين أيضًا. لقد عبّر أمام الجمهور عن رغبته الغريبة في الموت منبوذًا من أجل نجاة الآخرين، وهو ما يدلّ على رغبة جامحة في أن يجود بنفسه لله قربانًا يفتدي جميع الخلائق.

فإذا اتخذ الشباب مثل هذه النماذج السلوكية قدوة تعطف القلوب على القيم فالمظنون عندي أنّها تبدل منهم الفكر والسلوك معًا فيكونون بناة للحضارة لا معاول هدم لها.

صابر سويسي: بعضهم يرى التصوف مجرد فولكلور اليوم ويعتبر أنّ الشحنة الروحية التي كانت فيه قد انطفأت نتيجة الانغماس في التقليد وغياب روح الابتكار وتدخل عوامل سياسية واجتماعية وثقافية في الشأن الصوفي. ما رأيكم؟

محمد بن الطيّب: ربما يصدق هذا الحكم على حال الصوفية اليوم على وجه العموم، ولكن لا أظن أنّه يصدق على التصوف في حدّ ذاته، فالتصوف -في تقديري- يبقى قلب الإسلام لأنّه إذا ذهب منه البعد الروحي لم يبق تصوفًا. ينبغي أن نؤكّد أولاً أنّ القرآن الكريم هو المعين الذي استقى منه المتصوفة مكوّنات تجاربهم، إذ اشتمل على آيات أغرتهم بتصوّر درجة من القرب بين العبد وربّه تتجاوز ما كان متعارفًا في الإسلام المبكّر من ذلك قوله: “وَنَحْنُ أقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ” “وَهْوَ مَعَكُمْ أيْنَمَا كُنْتُمْ”، “يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونَهُ” وأنّ التصوّف الإسلامي في أصله وتطوّره صدر عن إدامة تلاوة القرآن وتدبّره والتخلّق بأخلاقه، ومنه استمدّ خصائصه المميّزة.

فإذا انتقلنا إلى المصدر الثاني من مصادر الإسلام وجدنا المتصوّفة يؤسّسون مذهبهم على التأسّي بأخلاق النبيّ ويقتدون بسلوكه ويتّخذونه مثلهم الأعلى ويجعلون ذلـك شـرطًا من شروط الانتمـاء إلـى مذهـب التصـوّف.

وقد أوجب الصوفية الاقتداء بشيخ سالك يتخذه المريد هاديًا ومرشدًا. ويكون هذا الشيخ رجلاً محنّكًا ذا تجربة عميق المعرفة، بصيرًا بعيوب النفس، مطّلعًا على خفايا آفاتها، قد خَبِرَ المجاهدات وقطع بها الطريق إلى الله، وارتفع له الحجاب، وتجلّت له الأنوار، فهو يعرف أحوالها، ويساعد المريد على تخطّي عقباتها. وما يزال الصوفي السالك المتأدّب بأدب الشيخ يرقى من مقام إلى مقام آخر، بدءًا بالتوبة وانتهاءً بالمشاهدة، حتى يعْبر جميع المقامات، مكمّلاً نفسه بكلّ مقام قبل أن يُدعى إلى المقام التّالي. لكأنّ الطريق إلى الله مجاهدة أخلاقيّة في جوهرها، هي خطوات تَطَهُّر متعاقبة وتزكية مستمرّة وسموّ روحي متصاعد، يقول أحد أعلامهم: “التصوّف كلّه أدب: لكلّ وقت أدب، ولكلّ مقام أدب، ولكلّ حال أدب. فمن لزم آداب الأوقات بلغ مبلغ الرجال ومن ضيّع الآداب فهو بعيد من حيث يظنّ القرب، ومردود من حيث يظنّ القبول”. فالتصوّف في جملته نظام من السلوك لكل شيء فيه واجبات مفروضة وآداب مرعيّة، ولا قيمة لهذا السلوك ما لم تحصل للمريد منه فوائده، وما لم يتّصف بصفاته، فالتصوّف أخلاق تؤثّر في النفس وتبعث على العمل.

ونجد هذا المظهر الأخلاقي شديد البروز في كتب الطبقات والمناقب الصوفيّة، فما أكثر ما فيها من إشارات تحضّ على التحلّي بمكارم الأخلاق سواء في الأقوال المنسوبة إلى الصوفيّة أو في أفعالهم وممارساتهم في حياتهم اليوميّة. وهذا التمسّك بمحامد الأخلاق يوضح مدى تشبّث المتصوفة بالمثل الأعلى الأخلاقي في تعاملهم مع الخاصّة والعامّة.

ذاك ما يجعلنا لا نملك غير الإقرار دونما مبالغة بأنّ الصوفيّة هم حقًّا “بُنَاةُ المَثَل الأخلاقي الإسلامي الأعلى”.

أما الجانب الروحي فهو لبّ التصوف وجوهره وهو الغاية التي يجري إليها. فالتصوّف في صميمه تجربة روحيّة تقوم على مجاهدة تفضي إلى صفاء القلب وانجلائه، فيتلقّى النفحات الإلهية والمعارف اللّدُنية، وهي معارف ذوقية وجدانيّة، فتتكشّف للقلب بعض الحقائق الكونية والأعمال الحسنة والقبيحة والحقائق الإلهية المتعلقة بالذات والصفات، وعلى وجه الخصوص الشؤون المتعلقة بالمعاملة بين الله والعبد، ويلقي الله في قلب العبد علومًا غريبة ومعارف قلبيّة ووَارِدَاتٍ عجيبة ووجدانيات مختلفة من شوق وذوق وحبّ وأنس ومهابة، ويبيّن له على سبيل الإلهام أسرارها وأحكامها، وكيف يمكن تقوية الصّلة بين الله وبينه، وما إلى ذلك ممّا تتضاءل أمام متعته الدنيا وما فيها، ويسمّي الصوفيّة هذه الشؤون أحوالاً، ويسمّونها كشفًا إلهيًّا لا نظير له في اللذة والمتعة، وتنهض بعظيم الأثر في مزيد تقرّب العبد من ربّه. إنّ المعرفة عند الصوفية هي غاية الغايات من رحلتهم الشاقّة المضنية، وهي خلاصة المذاقات الرائقة التي أتيحت لهم بعد أن صقلوا بالمجاهدة والرياضة إرادتهم. وهي لا تحصل إلاّ إذا امتلأ القلب تمامًا بنور الله.

إنّ التصوف في هذا المجال ذو ثراء روحي استثنائي فإنّما كانت مجاهدات الصوفية الشاقة ورياضاتهم الخشنة وطول تدبرهم للقرآن وغوصهم فيه وإمعانهم في الذكر من أجل التمتع بالقرب من محبوبهم الأسمى والرجوع إلى أصلهم الإلهي. ولعل هذا الجانب هو الذي يبرر الحاجة إلى التصوف في حياتنا المعاصرة، فإذا كان للإنسان وهو يواجه صعوبات الحياة المتزايدة وضغوطها المتكاثرة وسائل تمكّنه من الرجوع إلى أصله ومركزه، فإنّ ذلك سيجعله آمنًا مطمئنًّا، وسيدرك المظهر الزائل لكل شيء سواء أكان باعثًا على البهجة والسرور أم الحزن والألم.

إنّ تلك العلاقة التي يبنيها مع أصل وجوده ومركز كينونته تجلب له الشعور بالأمان والاطمئنان وتدفعه إلى التقلّل من متاع الدنيا والتزهّد في كثير من مباهجها فلا يأسى على ما فاته منها، ولا يألم على فقدان ما لا يدوم إلا لحظة، لأنّه يشعر بأنّ الأبدية تنعشه، فيستشعر قوة روحية يحدّد بها هدفه ويوجّه سلوكه ويحيا بقلب مطمئن سعيد.

فالصوفي يعيش الحياة المادية ولكنّه دائم التعبّد والتفكّر والذكر، يقبل على العبادة أكثر من الآخرين، ويحاول أن يكون أكثر استقامة وأكثر إحسانًا وتسامحًا. ولا يكتفي بمجاهدة نفسه بل عليه أن يخدم الإنسانية، وأن يكون شاهدًا على الحقيقة الربانية. إنّ الطاقة التي تحركه هي المحبّة ولا يمكن أن تكون معرفةٌ إلهية دون محبّة، فالطاقة الوحيدة التي تسمح للكائن البشري أن يصل إلى هذا الطريق ويترقّى فيه هي المحبة. وما أحوج الناس في هذه الأيام إلى أن يتبادلوا المحبة. ولا شك عندنا أنّ هذا من روح الإسلام ألم يقل الله في القرآن الكريم “قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُوني يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ”.

صابر سويسي: شاركتم في عديد الملتقيات الدولية حول التجربة الصوفيّة. كيف تقيّمون الخطاب حول التصوف اليوم؟

محمد بن الطيّب: الحق أنّنا لاحظنا في الجملة أنّ الدراسات الصوفية العربية تجنح في الأغلب الأعمّ إلى تحسين التصوّف ومدحه، أو تميل إلى تقبيحه وذمّه والقدح في أهله محكومة بخلفية إيمانية في الغالب، سواء في ذلك أنصار التصوّف أوالناقمون عليه. ولذلك شاع في دراساتهم المنقول بعضها عن بعض في كثير من الأحيان التصنيف الحاسم والتنميط الآلي، فلم تخرج في الجملة عن قراءة للتصوّف تجزيئية نمطية، جرى لهم فيها اختباط وزلل كثير، وذهول عن التحصيل، وغرق في مُلْتَطَم التفاريع والتفاصيل، فتواتر تصنيف التصوّف إلى أصيل ودخيل ومعتدل ومنحرف وسنّي وفلسفي وهو ما يستدعي النظر والتدبر والتحقيق والمراجعة والتدقيق…

فالدراسات العربيّة معظمها لا يخرج في الأغلب الأعمّ عن نزعتي المدح والقدح، وهي في الغالب مليئة بأحكام على رجال التصوّف، تُرسل على عواهنها متراوحة بين التوقير والتحقير، والتهويل والتهوين، فإمّا أن ينتصب المؤلّف منافحًا عن التصوّف تحدوه رغبة جامحة في تأصيله في الإسلام، فلا يعدو خطابه أن يكون مرافعة عن التصوّف وردًّا على خصومه وإمّا أن يكون تشنيعًا على المتصوّفة وتصيّدًا لشطحاتهم وسقطاتهم وطعنًا فيهم يصل إلى حدّ التكفير في كثير من الأحيان، وهو ما يكشف لنا عن الْتباس حقيقة التصوّف الإسلامي بين المادحين والقادحين، وكلا الفريقين تصدّى للتأليف فيه، تدفعه في الغالب حرارة الإيمان إمّا إلى تأصيل التصوّف في الإسلام وإمّا إلى تنقيته من شوائب البدع والانحرافات، حبًّا في صفاء العقيدة ونقائها.

وغني عن البيان أنّ هذا النوع من الكتابات لا يغني العلم شيئًا، وإنّما هو في المجال الإيديولوجي أدخل، لأنّه يحمل نتائجه في مقدّماته، فليس يهمّ صاحبه إلاّ أن يدافع عن وجهة النظر التي يعتقدها سلفًا. ومن ثمّ لا يتصيّد من النصوص إلاّ ما يخدمها، ولا يذهب في تأويلها إلاّ بما يسدّدها، ولا يقرأ فيها إلاّ ما يمليه عليه موقفه المذهبي الذي هو أسير له، لا يستطيع الفكاك من إساره والتحرّر من أغلاله، فينظر في التصوّف بعين بعيدة النظر دقيقة البصر متحرّرة من الهوى والتعصّب، لا ليقدّم رؤية للتصوّف موضوعيّة، فالموضوعيّة في الإنسانيّات عمومًا وفي هذا الميدان خصوصًا، مطلب عسير التحقيق بعيد المنال، ولكن ليقرأ التصوّف قراءة تطمح إلى أن تكون بريئة قدر الإمكان من التعصّب له أو عليه.

ولعلّ ما في معظم الدراسات العربيّة من ميل إلى التصنيف الحاسم والتنميط الآلي يجعلها متشابهة، بل إنّ بعضها ينقل عن بعض. فلم تخرج في الجملة عن قراءة للتصوّف تجزيئيّة نمطيّة تحتاج إلى مراجعة عميقة ونظر دقيق.

أمّا الدراسات العربيّة الجيّدة التي سلمت من التكرار ونأت عن الإجحاف وكانت أقرب إلى الإنصاف، فهي نزرة قليلة، وتكاد تكون مقصورة على بعض الباحثين العرب من المشارقة والمغاربة من أمثال سعاد الحكيم ونصر حامد أبو زيد ومقداد عرفة وتوفيق بن عامر ونيللي سلامة عمري…

أمّا الدارسات الأعجميّة، فهي -على كثرتها وتنوّعها- متفاوتة القيمة، لم تخرج في الجملة عن صنفين: أحدهما وصفي استكشافي هو الطاغي من حيث الكم، يشتمل على دراسات وصفيّة هدفها التعريف بالتصوّف، وإطلاع القارئ غير المختصّ على أهمّ معالمه وأبرز أعلامه، وتقديم نماذج مترجمة من نصوصه الأصليّة.

أمّا الآخر، فهو صنف من الدراسات العلميّة المختصّة التي تدلّ على سعة في الاطّلاع، وعمق في التفكير، ونفاذ إلى دقائق المشكلات، وتفطّن إلى لطائف المعارف وغوامض المعاني، وهي قليلة في الحقيقة. إنّها ثمرة جهود جبّارة لبعض المستشرقين الكبار ممّن أفنوا العمر في دراسة هذا المجال الخصب من مجالات الثقافة الإسلاميّة نخصّ بالذكر منها: كتابات ميشال شدكوفيتش Michel Chodiewicz من فرنسا، وويليام شتيك William Chittick من الولايات الأمريكيّة المتّحدة.

مصدر الحوار ( مؤمنون بلا حدود ) .

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!