التجربة الدينية، رحلة الفرد مع الدّين

التجربة الدينية، رحلة الفرد مع الدّين

التجربة الدينية

رحلة الفرد مع الدين (نماذج منتخبة)

د.هاني عبدالصاحب

باحث من العراق

التجربة الدينية، الخبرة الدينية، الحالة الدينية، والواقعة الدينية، مصطلحات متنوعة لجأ إليها المترجمون عند ترجمتهم المصطلح الانكليزي (Religious experience). لكن التعبير بالتجربة الدينية أكثر شيوعا، والخبرة الدينية أو الشعور الديني في الكثير من الموارد أدق في إفادة المعنى. لذا سنستعمل كلا المصطلحين للتعبير عن تلك اللحظة التي يمثلُ بها الإنسان المؤمن أمام الذات الإلهية أو أمام المقدس ، فالتجربة أو الخبرة الدينية رحلة الفرد على طريق الخلاص ، وهي خبرة للإنسان مع الله أو مع ما يعده المطلق ، بعبارة واحدة هي دعوة إلى القداسة، كما يقول ولترستيس الخبرة الدينية : تعني الوعي المباشر بمعطيات تجليات الله ، فهي إدراك مباشر للذات الإلهية أو ( الله ذاته ) ، فالخبرة الدينية متأتية من شهادة الروح، و بحسب تعريف شلايرماخر للتجربة الدينية فإنها ليست تجربة عقلية أو معرفية بل شعور أو ارتباط كلي بمصدر او قوة مطلقة مميزة عن العالم . انها تصديق ذاتي وذات طبيعة حدسية لا تتوسطها المفاهيم والأفكار والاعتقادات او الممارسات و لأنها تجربة شعورية، تفوق الادراكات المفهومية، فلا يمكننا وصفها. فهي تجربة شعورية وليست معرفية، مستنداً في ذلك إلى مفردة اللحظة التي يعيشها الإنسان ، فطوق النجاة كامن في نفس الإنسان وهذه هي النقطة المحورية في التجربة الدينية .

إذن مفهوم التجربة الدينية يتمثل في تفاعل الفرد والمجموعة عبر التاريخ مع الظاهرة الدينية ذات المرجعية الواحدة سواء على صعيد الرؤية والتمثل أم التعاطي والممارسة أم الاستلهام والإبداع أم الفكر والنظر. ولتكثيف الوصف وإيضاح المعنى نقول إن للتجربة الدينية معنيين ( خاص وعام) ، فأما التجربة الدينية بالمعنى الخاص ، فهي تلك التجربة التي يبدو فيها إن الله قد أظهر نفسه إلى الإنسان ، وتجلى له بنحو من الأنحاء ، وهي التجربة التي يتصور فيها الفرد أن متعلقها هو الله ، او تجلي الإله في فعل او كائن مرتبط به بشكل من الإشكال، بعبارة أخرى يمكن القول ان التجربة الدينية بمعناها الخاص عبارة عن نوع من ظهور أو تجلي الله على الشخص الذي يعيش تلك التجربة، فهو يجعل من الخبرة الدينية حصر الإحداث الخاصة التي تحصل لبعض الأفراد كالرؤى والظهورات المرتبطة بالطقوس وما فيها من ترتيل وركوع وغير ذلك، مما تجعل الفرد يشارك في عملية تنقية وتطهير بكل قواه وهذه هي خبرة دينية سمتها الفردية.

بينما المعنى العام قائم على أساس اختبار الوجود كمعنى وقيمة، فمبنى الأخلاق المسيحية هي أن يقتدي المرء بالمسيح، فيعيش بطهارة مثله، ويحمل صليب العذاب عنه وعن الآخرين من دون أن يهرب منه، مؤمنا أن وراء الموت على هذا الصليب قيامة . فالإنسان الذي يمارس هذه العقائد والطقوس ممارسة كيانية صادقة هو الذي يجعلها فاعلة ايجابية في حياته. وعليه هو نوع من الشعور العام الذي يربط المرء بنحو من الأنحاء بالعالم غير المرئي، وبما وراء الطبيعة، والقوى الغيبية المهيمنة على الإنسان وغيره من موجودات عالم المادة، وتشد انتباه الإنسان إليها، فيسمى تجربة دينية . اذًا مما سبق يتأكد القول إن البحث الفلسفي الديني المعاصر حين يتصدى لدراسة ماهية التجربة الدينية، يتفق أن يكون موضوع البحث إما “التجربة الدينية العادية”، أو “التجربة الصوفية” ، وهذان الأنموذجان من التجربة الدينية يغلبان في البحث الفلسفي الديني المعاصر .

والآن بعد بيان مجمل المعنى، نضع سؤالا مركزياً على طاولة البحث هو: لماذا بدأ الحديث عن موضوع التجربة الدينية داخل أروقة الفكر المسيحي الحديث؟ و ما المستجد في الإيمان المسيحي ليتحول من ثوبه التقليدي الذي كانت فيه المعرفة دينية؟ في حين مع موضوع التجربة الدينية تحولت معه المعرفة إلى إيمانية، فالمعرفة إذا كانت دينية هذا يعني أن الإيمان نوع من التسليم والقبول العقلي لمضمون الوحي بكونه حقيقة، وهذه رؤية تقليدية للكاثوليك. في حين إذا كانت المعرفة إيمانية، فهذا يعني أن الوحي انجذاب للأمر القدسي بحسب قول رودلف اوتو، وهذه رؤية حديثة آمن بها البروتستانت وبول تيليش وجعلهِ المعرفة مرتبطة بالأقصى وهو همه اللامتناهي، اذًا هذا التحول قاد إلى اعتياش الدين بطريقة مختلفة عما سبق، حتى طرحت مجموعة من الآراء وتعددت التجارب، والسبب في ذلك يعود  لرأيين :ــ

أولهما: يرى دخول العنصر البشري بعملية التفاعل مع الدين، لا بل تكوين رؤية فردية في آليات التعامل مع المطلق في ضوء ما تمليه التجربة الدينية بإيجاد مساحة للإنسان في ساحة المطلق. وعليه يمكن القول ببسيط العبارة إن وجود تنظير لموضوع التجربة الدينية وإيجاد نظريات في هذا المجال، ماهو إلا خلاصة مساعي المتألهين المحدثين الرامية إلى عصرنة الأفكار والحياة الدينية، فكان من الضروري ظهور ثورة تجديدية في الإلهيات المسيحية، لذا ظهرت عدة محاولات منها جهود اللاهوتي الألماني شلايرماخر و حديثه عن التجربة الدينية بوصفها جوهر الدين .

الثاني: يرى أن اثر الظروف الفكرية والثقافية الخاصة التي هيمنت على المناخ الغربي في حينه واهتمام الخبراء في الحقل الديني و ببحث التجربة الدينية انما انبثق عن التحول الفكري الذي تجلى في مرحلة الحداثة. وهذه المرحلة التي بدأت منذ القرن السابع عشر تقريبا تشتمل على خصيصتين رئيستين هما ( محورية الإنسان) و(التعويل على العقل)، لكن هاتين الخصيصتين كان لأحدهما الدور الايجابي والآخر الدور السلبي ، فالعقلانية أعطت صبغة جافة بتطبيقها العقلانية المتطرفة التي أشكلت كثيرا على المنظومة الدينية، محاولة منها لعقلنة الدين، لكن الجفاء والتطرف العقلاني ساعد على ظهور الرومانطيقية المستندة إلى الخيال والعاطفة ، كمحاولة للخروج من الدور السلبي للعقلانية والاقتراب كثيرا من الإنسان بوصفه المركز في هذا الوجود، لذا كانت التجربة الدينية محاولة للتقرب من الانسان لبيان كيفية تفاعله مع الدين، اي رحلة الفرد مع الدين، هذا بالمجمل سببية التركيز على التجربة الدينية دخل أروقة الفكر الديني المعاصر، حتى أصبحت ركنا أساسا في فلسفة الدين.

وعودا على بدء  فالمهم من ذلك كله هو التعريف، والتعريف مرتبط  بحسب النظرية المطروحة علما انها لم تقعد ولم تكوّن منهجا متكاملا، لأنها تجربة عنوانها الفرد، لذا سنطرح الآن مجموعة من النظريات، حتى تكتمل لنا صورة التجربة الدينية في فضاء فلسفة الدين .

  • فردريك شلايرماخر و التجربة الدينية

جاء تصور فردريك شلايرماخر(Schleiermacher   Friedrich 1768 – 1834) للدين على أنه شعور بالتبعية المطلقة والعجز الإنساني أمام القوى الخارجية، وهو خضوع الروح للامتناهي ، وذلك لحظة جمعها بين الحدس والإحساس، حدس من طرف المتناهي للامتناهي وإحساس اللامتناهي بالمتناهي ، وشلايرماخر يقول:(( الدين رهبة وقداسة ، حقل لانهائي للعقل ، ينشأ بالضرورة من داخل كل روح طاهرة وينتمي إلى منطقة غامضة غريبة من مناطق النفس البشرية ، يسود فيها بشكل مطلق ، وأنه يجد ربه عبر ما له من قوة موغلة في العمق أن يرمي لتحريك الأنبل والأكثر تفوقاً من القيم، وأن يكون منهجه معروفاً، هذا هو ما أزعمه وما أدعو لموضعته وتأكيده لكم)). لذا كان الدين شكلا من أشكال الظهور والتجلي بالنسبة للروح البشرية. ويرجع شلايرماخر الدين إلى طبيعتين  طبيعة خارجية هي: العبادات والطقوس والشعائر و طبيعة داخلية هي: التأمل الباطني ومعايشة لحظات الانبثاق الأولى وتجلى المطلق للخلق، هذا كله يشير إلى طبيعة التجربة الدينية عند شلايرماخر بأنها تجربة شعورية ، وهي ترتبط بمصدر أو قوة كلية مطلقة متميزة عن العالم. وتجربته الدينية ليست عقلية أو معرفية، فهي تصديق ذاتي وذات طبيعة حدسية لا تتوسطها المفاهيم والافكار والاعتقادات، أو الممارسات، وتفوق الادراكات المفهومية، فلا يمكننا وصفها. كونها تجربة شعورية وليست معرفية، ان المفاهيم الدينية المكتسبة والمعتقدات الموروثة والمتراكمة ما هي إلا ثانوية مقابل التجربة الدينية الحية العفوية والمباشرة والتي يشعر من خلالها المرء بصلة مباشرة باللامتناهي. من هذا المنطلق يرى شلايرماخر أن مسائل وجود الله وخلود الروح والرحمة والمعجزة والوحي والنبوة والإلهام كلها ظواهر ليس لها معنى إلا بانخراط الإنسان في التجربة الباطنية للدين عبر الإحساس والحدس والمشاركة مع المطلق. وهذه المشاركة تقوم على المحبة، ولكن هذه المحبة لا تتجه إلى هذا أو ذاك أو إلى موضوع متناه أو خاص، إنها تتجه إلى العالم، إلى اللامتناهى.

إذًا شلايرماخر حدد محتوى العاطفة الدينية الحقيقي بقوله: ماهي الا فئة تقييم ذاتي، بمعنى تحقير الذات. فالعاطفة الدينية ، بحسب ظنه ، ضرب من الوعي الذاتيّ ، وحسّ يختص بالذات في علاقة خاصة ومحددة ، أي في تبعية الذات، فهي علاقة جوهرها الشعور.

  • كيركجور والتجربة الدينية

بداية يجب الإشارة إلى أن التجربة الدينية في الفكر الوجودي قد أُنشئت على فكرة الخطئية حيث أسُس لها في الفكر الوجودي عموما ومع  كيركجور سورين كيركجور  (1813 – 1855) خاصة. إذ أصبح الإنسان آثما وهذا الإثم جعل الإنسان يفقد العلاقة السليمة مع الله ، ولان الإنسان شعر بالإثم فانه يفقد ثقته بإقامة علاقة صميمية مع الله. ويشعر بالتعاسة لعدم حصوله على الغبطة الازلية فالذات المخطئة ألغت إمكان قدرة الذات للوصول إلى سعادتها الابدية ، ولعل سبب الشعور بالتعاسة والالم أن الذات فقدت في التاريخ الإنساني .. ومن ثم فإنها تتامل كل شي حولها . فالذات تود ان تصل إلى السعادة وهي تعلم وتعي أنها اثمة وهذه الرغبة في وصولها للسعادة المنشودة تقيمها الذات ايضاً على أساس عقلي او اساس الفهم والمنطق وتنسى أن ذلك ضرب من المستحيل فلكي تصل الذات إلى سعادتها فان عليها ان لا تتعقل الاشياء ولا الدين وتفهمهِ . وإنما عليها ان تلغي العقل والفهم في الدين ، عليها فقط أن تدرك الإثم . ان لحظة الإدراك مطلوبة لاعتراف الذات لذاتها بالاثم بمعنى آخر ان تواجه الذات فتعترف بإثمها وتؤمن بشكل لاعقلي ان الوصول إلى العلاقة الودية إلى الله ممكنة لأنها في تلك اللحظة عليها ان تؤمن بالعثرة او المفارقة. لذا كيركجور  يعتقد أن بإمكان الإنسان التعالي على ذاته وتجاوز عالمه؛ بُغية الوصول إلى ذات الخالق عبر تجربة ذاتية حرة. لهذا فإن كيركجور يعدّ حادثة المسيح في التاريخ وفي الدين المسيحي لقاء حيا بين الأصل والشبيه، بين الخالق والمخلوق، ويؤكد أن الإنسان الذي يروم الوصول إلى معرفة وجود الخالق والاتصال به عليه أن يعيش على غرار تجربة المسيح في الحياة، وبتعبير آخر تجربة صوفية ذاتية تنقل الوجود الإنساني إلى مصاف الوجود الإلهي، ومن ثَم لا تُعد أفكار كيركجور ولا آراؤه وتأملاته الدينية ثورة على الدين المسيحي بقدر ما هي ثورة على الطقوس والتعاليم الكنسية التي حالت بين الإنسان وبين إدراكه الدين الحقيقي النابع من الذات الإنسانية الحرة ، ولم يكن يريد أن تقوم بينه وبين المطلق وساطة من أي نوع حتى ولو كانت الكنيسة المسيحية نفسها، وكان يعتقد بان الاتصال بالله لا يكون بان يبحث الإنسان عما هو عام ومشترك في نفسه مع الاخرين ، ولكن على العكس من ذلك ان يتعمق ماهو فردي مميز خاص في نفسه ، وفي هذا التعمق ينكشف الله للفرد ، فمن التناقض ان يبحث الإنسان عن الوجود خارج نفسه ، لان كل ماهو خارج نفسه ظاهر بالنسبة اليها ، وإنما يجب ان أبحث عن الوجود في أعماق نفسي، لان هذه النفس تشارك في الوجود. ذلك كله يبين لنا طبيعة العلاقة بين الله والإنسان، فهي علاقة خالية من التجانس المطلق؛ لأنها تُعبر عن علاقة اللامتناهي بالمتناهي، وعلى الرغم من أن الله محبة، إلا أن حبه قاتل، ومعنى هذا أن اللامتناهي هو عدو المتناهي؛ لأن الأول يبغض كل ما تتكون منه الحياة البشرية، وكل ما يخلع على الوجود الإنساني لذاته؛ و هنا لا يمكن أن تتأكد علاقة الذات الفردية بالحقيقة الإلهية، إلا عن طريق القلق النفسي أو التمزق الداخلي، كما لا يمكن أن تقوم الصلة بين الله والإنسان إلا على الصراع والتناقض والمجاهدة والمواجهة المستمرة . ويقول كيركجور على المسيحي أن يحيا كما لو كان ميتاً، لأن الله نفسه الذي يصدر على الحياة البشرية حكم الموت، ومن ثَم فالموجود البشري لا يملك أن يقرب السر الإلهي إلا في حالة أليمة من الخوف والقلق والعذاب واليأس، ومهما وقع في الظن من أنه لا موضع لليأس في قلب المؤمن، فإنه لا بد للمؤمن من أن يجتاز أعنف تجارب اليأس وأقسى حالات القلق حتى يعرف طريقه إلى الله ، وكأن الله يريدنا أن نلمس قاع الهاوية حتى يمد يده فينتشلنا من قاعها. إذًا ذلك كله يشكل ابرز معالم التجربة الدينية عند كيركجور بدأ من موضوع الخطيئة كدافع لنا للبحث عن السعادة والطمأنينة ، ومن ثم استشعار الذات لموضوع القلق والعذاب النفسي حتى تكون حليفا للخبرة الدينية وطريقا إلى الله ، وبخاصة إن كيركجور يعتقد بان المسيحية ليست معلومة او نظرية ، بل هي ارتباط بالمعلم لا بالمعلومة . فهي علاقة وجودية.

  • رودلف أوتو والتجربة الدينية

يعتقد رودولف أوتو Rudolf Otto(1869 – 1937) بأن الخبرة الدينية تبدأ حين يتملّكنا شعور بأننا كائنات مخلوقة مقابل الكائن الخالق، فيتولد عندها إحساس الإنسان المؤمن بالعبودية تجاه معبود يمتلك القدرة المطلقة في التحكم بشؤوننا، فيتمخّض عن هذه الخبرة إحساس بالعدمية تجاه ذلك الموجود المقدس. وجاء هذا التصور من تعريف أوتو للدين الذي يقوم على أساس مواجهة روح الإنسان لحقيقة ذات وجهين أحدهما عقلاني والأخر غير عقلاني. وهذه الحقيقة السامية هي الأمر المقدس. وأهم مفهوم دخل ضمن المعنى القدسي ، وأضحى هو المتبادر عند سماع هذا اللفظ هو : ارادة الخير، والصلاح، والخير المحض، بحيث أصبح الأمر المقدس حقيقة تعني الخير المحض وإرادة الخير. لذا يرى أوتو ان غلبة هذا النوع من المفاهيم الأخلاقية والنظرية يؤدي إلى إخفاء البعد الأهم من الأمر المقدس ، وهو البعد الذي لم يدخل في هيأة المفاهيم ابداً، ولا يمكن اكتشافها من قبل منظومة العقل النظري، وإنما يقتصر اكتشافها على الشعور العميق الكامن في وجود الإنسان، وهذا الشعور هو إحساس الهيبة الذي نشعر به تجاه الأمر القدسي الذي يتملكنا حين نخوض تجربة مع الله، فمن جهة نشعر به جذابا يخطف القلوب، ومن جهة أخرى نجده قويا وحادا وثقيلا يأخذ روح الإنسان بقوة وقهر فيذرها صريعة الخوف والرعشة والرهبة، وكِلا الجانبين يمثل وحدة متناسقة على رغم ما بينهما من تغاير واختلاف، فذاك الإدراك للأمر المعنوي يجذب الإنسان نحوه. من هنا يعتقد أوتو أن متعلق التجربة الروحية غير عقلاني، وهذه اللاعقلانية تعبر عن صعوبة انسياق هذا الجانب للإدراك المفهومي، ومن الواضح أن هذا يدل على أن عدم إحكام المفاهيم الذهنية وشكل تبلورها في الإنسان ؛ حال دون قدرة الإنسان على كشف الذات المعنوية على ما هي عليه في الواقع، لكن في السياق نفسه حدد رودلف أوتو عناصر ثلاثة عند تحليله هيبة الأمر المعنوي ، أولها الخوف: الذي يريد به الخوف المنبعث من الإنسان أمام الله ، وهو يختلف كثيرا عن الخوف على النفس. والثاني العظمة و الجلال: يبعث هذا البُعد في الوجود الإنساني شعور العدمية والفناء، فكلما تنامى إحساس العظمة والجلال في الأمر المعنوي، أحس الإنسان أكثر بعدميته وقلة شأنه. والثالث السطوة: وهو البُعد الثالث لهيبة الأمر المعنوي.

أخيراً يمكن القول إن الأحاسيس التي تنتاب المؤمن من الخوف والارتعاش والعشق والانجذاب والعبودية والحيرة أمام موجود مغاير تماما لكل شيء، هي أحاسيس شائعة في الثقافات المختلفة التي تختلف كثيراً في اللغة والتعاليم والعقائد والسلوكيات، وهو أمر يمكنه أن يؤلف دليلا على أن النواة المشتركة والرئيسة في الدين، إنما تكوّنها هذه الأحاسيس وتلك المشاعر، وهي عينها التي تكشف بجلاء عن حقيقة التجربة الدينية، فالتجربة الدينية عند اوتو ما هي الا إحساس الهيبة والرهبة الذي يسشعره الفرد تجاه الأمر القدسي الذي يتملّكه حين يخوض تجربته معه أي مع الله .

 

  • والتر ستيس والتجربة الدينية

انطلاقا من دعوة والتر ستيس Walter stace (1886 ـــ 1967) بأن((جوهر الدين ليس الأخلاق بل التصوف ، وطريق القديسين هو طريق الصوفية ))، لذلك فهو لا يتفق في تحليله الخبرة الدينية ، بأنها خبرة حقيقة ، بل هي خبرة بمعطيات استبطانية عاطفية او حتى خبرة بمعطيات طقوس حسية وفي هذه الحالة سنكون أمام خبرة دينية زائفة سطحية لأنها لا تقدم فهما لماهية هذه الخبرة، و ستيس الذي يقول:(( قضيتي التي أدافع عنها هي إن كل دين هو في النهاية تصوف )) ، يرى ان الخبرة الصوفية القائمة على حالات التجلي والجذب هي من تكون في حضور مباشر مع الله ، فهم في ما يقال يرون الله ويعانونه مباشرة مما يعني بالضرورة أن يصبح الله( معطى) للصوفي وليس مجرد فكرة او معنى. وعليه رؤية الصوفي لله تتصف بالحيوية والخصوبة والثراء، وذلك لأنها خبرة بمعطيات وتجليات الله، إذًا الخبرة الصوفية هي في جوهرها إدراك مباشر لوعي الله، وهي محل اعتماد في منظومة ستيس المعرفية ، اذ كان هدفه ان يقدم وصفا موضوعيا ظاهراتيا للتجربة الصوفية . ويلحظ أن على المرء أن يكون دقيقا في الممايزة بين التجربة وتفسير التجربة . يقدم التفسير من اجل تمكين الشخص من فهم التجربة وايصالها. وستيس يريد ان يثبت الوصف المحض للتجربة نفسها، فأعطاها خصائص ومميزات ، وهي بطبيعة الحال واحدة في جميع الثقافات والديانات والعصور وتمتاز ب:ـــــ

1- الوعي الموّحد الذي يستبعد منه كل كثرة للمضمون الحسي أو التصوري او اي مضمون تجريبي آخر. أي إن الكل واحد في هذه التجربة ، وليس ثمة تمايز بين الرائي والمرئي (لا تفرقة بين الذات والموضوع ).

2- التجربة ليست مكانية او زمانية. فالرؤية نتيجة لذلك تتجاوز العقل وتعلو عليه.

3- الشعور بالعينية او الحقيقة. 4-إن التجربة الدينية تجربة التحرر والغبطة والنعيم ، والهدوء والسلام.  5-الشعور بأن ما تم ادراكه هو القدسي أو الإلهي. 6- الانطواء على مفارقة.

7-استحالة التفسير والبيان . لا توصف ولا توجد كلمات يمكن ان تصنفها .

إذن هذه إطلالة على تعريف التجربة الدينية وآلية نشوءها ومجمل الطروحات فيها وللقارئ حق الاقتناع والاقتاص بأيٍ منها ، ففلسفة الدين مساحة عامة ومائدة مفتوحة ترحب بافرادها بغض النظر عن كونهم سلبيون او ايجابيون فلا حكم ولا تمييز بين مرتاديها، الدين في فلسفة الدين يكون بخدمة العقل .

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!