وإذا الحُسْنُ بَدَا فاسْجُدْ لَهُ

وإذا الحُسْنُ بَدَا فاسْجُدْ لَهُ

 

 

“وإذا الحُسْنُ بَدَا فاسْجُدْ لَهُ”

 

محمد التهامي الحراق

                                                        -1-

هل نستطيع أن نظفر من “عالِم دين”، في سياقنا الإسلامي اليوم، بتحفةٍ أدبيةٍ في بسط مباهي الحسن  المؤنّثِ، و رصدِ مظاهر الحب و أسبابه، و كشفِ أسرارِ العشق بين الرجال والنساء، كتلك التي كتبها العالم الأصولي والفقيه المتبحر، صاحب “المذهب الظاهري”، الألمعي ابن حزم الأندلسي؛أعنى كتابه “طوق الحمامة في الألفةِ و الألاف..”.؟ تلك التحفة الإنسية الكونية الرفيعة، التي ما زالت تتجاوز زمانها إلى لاحق الأحقاب والأزمنة؛ لأنها تتصل بقلب الإنسان، وفطرته المجبولة على جمال العشق وعشق الجمال. هل يستطيع اليوم “عالم دين” أن يحكي علاقته الخاصة بالنساء منذ أن تربّى في حجورهن إلى أن صار لهن عاشقا، وبهن متيما؛ أن يحكي مواقف و مشاعرَ لم يَحُلْ مفهوم مترد لـ”الحياء” دون بسطِها بلغة لها ألق متفرد، لغة مازال إلى اليوم يشع منها البهاء على القلوب والعقول؟  نعم ما زال لهذا الكتاب إلى زماننا ألقٌ خاص، لكنه أثرٌ يجدُ إشراقهُ بين المبدعين أكثر من غيرهم، يثيرُ فيهم دهشةَ التأمل، ويقدح في أناملهم شهوة  اللون والكتابة، أشيرُ هنا تمثيلاً إلى العمل الشعري- التشكيلي “كتاب الحب“، المشترك بين الشاعرمحمد بنيس و الرسام التشكيلي ضياء عزاوي؛ و العمل السردي  “طوق سر المحبة…سيرة العشق عند ابن حزم” للروائي عبد الإله بن عرفة.

                                             -2-

أستحضر هذا النموذج فقط، من نماذج باذخة أُخَر، احتفاء بذاك الأفق الحضاري والإنسي الكوني الذي ميّز ثقافتنا الإسلامية في تعاملها مع المرأةِ خلال لحظة من لحظات توهج هذه الثقافة، ذاك الأفق الذي علينا أن نستلهمه لإعادة الوهج للمرأة بما هي إنسانٌ تتدفق منهُ معاني الجمال كما تدفقت مع ابن حزم،  مثلما تتدفق منهُ لوامعُ الأسرار والمعاني العلوية كما  التقطت ذلك بصائر العارفين أمثال محيي الدين ابن العربي في  ديوانه”ترجمان أشواق([1]).

هي نماذج فحسب لمنارات في تاريخ ثقافتنا الإسلامية، منارات منسية ما أحوجنا اليوم إليها لمعاودة الاعتبار للمرأة بما هي إنسان مُكرّم من لدن السماء منذ الأزل، وبما هي أفق للجمال والمعنى، تبلورت ملامحه داخل ثقافتنا الروحية الإسلامية، بدءا من أم رسول الله ومرضعته، فأمهات المومنين رضوان الله عليهن، إلى وليات ربانيات كآمنة الرملية التي أقر لها ابن حنبل و بشر الحافي بالولاية، و فاطمة النيسابورية التي عدها ذو النون المصري من شيوخه،  فكبار العارفات مثل رابعة العدوية وعائشة الباعونية و ست العجم بنت النفيس بن أبي القاسم البغدادية وغيرهن،  ثم الوليات اللواتي يمثلن الصلاح الروحي بصيغة المؤنث، و اللائي يؤثثن جغرافية عالمنا الإسلامي الروحية بمختلف جهاتها، ويحتجن إلى إعادة اكتشاف لمساراتهن العلمية والروحية والاجتماعية بعيدا عن حُجُب الصوّر النمطية التي يتغذى بغراباتها وعجائبيتها المتخيل الديني الشعبي.

-3-

ثمة أفق آخر للمرأة في ثقافتنا الروحية الإسلامية، وهو حضورها باعتبار رمزي  في أشعار كبار القوم من الصوفية، أكانت بمسمى “ليلى” أو “لبنى” أو “مي” أو “سُعدى” أو “سلمى” أو نُعم … ضمن ما يُسمى في مدونة النص الشعري الصوفي بـ”تغزلات الحقيقة”؛ وحين يصل ترميز “الأنوثة” إلى أعلى ذُراه ليشير إلى الواردات الإلهية والتنزلات العرفانية، والتي لا يطيق تجليها القلبُ المحب فينذهل عن وصفها، ويستعير لبهائها اللامحدود وجمالها المتعالي اللامُضاهي، أبهى مجالي الجمال الحسي، وأدهش صور حضور الجمال في اللغة الغزلية … فقد رأى الرومي في المرأة “خيالا” من نور إلهي مثلما  أدرك الصوفي أن سبر الأمر صائب في المجليين الحسي والمعنوي، إذ بهاء الحس هو أثر من بهاء المعنى، وقد لا يعبُر لهذا الأخير بدون التوسط الأول.

 

 

 

-4-

لذا و مثلما تغنى العارفون بهذه “الأنثى الكلية”، أي بهذا الأفق الإشاري الغزلي في الحقيقة المتعالية، تغنت العارفاتُ به، مما أخرج هذه الأنوثة في ضيق الثنائية الحسية ذكر/ أنثى، نقرأ في أبياتٍ اشتهرت بنسبتها للعارفة عائشة الباعونية:

هذه أنوارُ ليلَى قد بدتْ

فلسلبِ العقلِ يا صاحِ تهيْ

فالفتَى من سلبتْهُ جملةً

                  لا الذي تسلبهُ شيئا فشيْ

وإذا الحسنُ بدا فاسجدْ لهُ

فسجودُ الشكرِ فرضٌ يا أُخَيْ

إنه سجود لهيبة الجلال في مجالي الجمال، كما قال أبو الحسن الششتري:

اسجدْ لهيبةِ الجلال     عند التداني

      واقرأ آية الكمــال     سبعاً  مثاني

-5-

 إن آيات الكمال عندما تشرق على قلب متيم بالجمال المطلق، لا بد أن توقد فيه عشق مجالي هذا الجمال في الحس والمعنى، وقد علّمنا الشيخ الأكبر بأن “المرأة” أسمى مرآة ومجلى لرشحات ذاك الجمال المطلق (لنلاحظ قرابة كلمة “المرأة” الاشتقاقية مع “المرآة”)، ذاك ما ينقدح في سر بعض العارفين من قوله صلى الله عليه وسلم:”حُبِّبَ إلي من دنياكمْ ثلاث، الطيب والنساء وجعلت قرةُ عيني في الصلاة”. إن حب المرأة، بهذه المثابةِ، أثرٌ لطيف لذاك الحب الأزلي الذي صدرت عنه الأكوان في عالم اللطافة و الكنزية،عالم التكوين الممهور بحرف “كُنْ”؛ نقرأ في الحديث القدسي الأثير لدى القوم: “كنتُ كنزاً مخفيا فأحببتُ أن أُعرف…”؛ من هنا كان التفكر في الله عبر التأملِ في المرأةِ/ المرآةِ من أكثر قوادح المعنى في روح العاشقِ الإلهيّ من بين كل حوامل التجلي الإلهي.

يحتاج إذن هذا الأفق الجمالي الكوني لحضور المرأة في الثقافة الإسلامية، باعتبارها مرآةَ حسنٍ و إحسانٍ، وذات/موضوعَ حبِّ، ومرقاةً لإدراك الكمال الروحي حسيا ومعنويا، إلى إبراز وإعادة استحضار واستلهام؛ و ذلك لكي نبدد بعضاً من أنماط سوء فهم سميك ومتراكم حول المرأة، تلك التي تعتقلها بين مطرقة الإخفاء و التنقيبِ باسم العورة و اتقاء الفتنة، وسندان العري و الإثارةِ باسم التحرر و الجمال.

 

 

([1])راجع مقالنا: “نشقات أذواق من ديوان ترجمان أشواق“، على الموقع المتخصص في الإسلاميات و التصوف “طواسين”  http://tawaseen.com

 

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!