إقبال شاعر فرض نفسه على الدنيا وعلى الزمان

إقبال شاعر فرض نفسه على الدنيا وعلى الزمان

 

إقبال شاعر فرض نفسه على الدنيا وعلى الزمان

الدكتور طه حسين

   شاعران إسلاميان رفعا مجد الآداب الإسلامية إلى الذروة، وفرضا هذا المجد الأدبي الإسلامي على الزمان. أحدهما إقبال شاعر الهند وباكستان وثانيهما أبوالعلاء شاعر العرب.

   شاعران يتقاربان كأشد ما يكون التقارب، ثم يتباعدان كأعظم ما يكون التباعد. كلاهما شاعر أولا، وكلاهما فيلسوف، وكلاهما أخضع الفلسفة للشعر، وأخضع الشعر للفلسفة، وما أصعب التوفيق بين هذين الفنين الخطيرين. وكلاهما تصوف حتى بلغ الغاية من التصوف، وكلاهما بعد ذلك خرج على التصوف التقليدي المعروف، واتخذ لنفسه سبيلا خاصا في التصوف لا يكاد يشاركه فيه أحد غيره. وكلاهما أثبت شخصية كأقوى ما يكون إثبات الشخصية، ودعا الإنسان إلى أن يعرف نفسه حق معرفتها، وإلى أن يفرض نفسه على الدنيا، ويفرضها على الزمان، ولا ينفيها في أحد غيره مهما يكن. ولكنهما بعد ذلك يختلفان ويفترقان أشد الافتراق، أحدهما وهو أبو العلاء كان في أيامه ينظر إلى الهند ويطيل النظر إليها، والأخذ عنها والتأثر بها، حتى التزم في حياته حياة المتنسكين من البراهمة.

   والآخر وهو إقبال كان ينظر إلى العرب ويشيد بهم، ويثني عليهم، ويتخذهم المثل الأعلى للإنسانية الجديرة بالوجود والحياة والبقاء.

   كلاهما آمن بشخصيته، ودعا الناس إلى أن يؤمنوا بأنفسهم. ولكن أحدهما وهو أبو العلاء آمن بشخصيته إيمانا انتهى به إلى اليأس والسلب، وانتهى به إلى اعتزال الناس، وإن أحبهم كما لم يحبهم أحد قبله.

   والآخر آمن بنفسه والتمس مثله عند العرب ولم يلتمسه قريبا منه في الهند. ثم لم يعتزل وإنما كره العزلة، ولم يرفض الحياة وطيباتها، وإنما أخذ منها بحظ معقول، ولم يلغ غرائزه كما فعل أبو العلاء وإنما دبر وسيطر عليها وحكم عقله فيها.

   وكذلك يتفق هذان الرجلان العظيمان أعظم الاتفاق وأقواه. ثم يختلفان أبعد الاختلاف وأنهاه.

   كان أبو العلاء لا يزدرى الناس كما ازدراهم إلا لفكرة واحدة. كان يزدريهم أشد الازدراء لأنهم يفنون أنفسهم في السادة، ويفنون أنفسهم في الرؤساء، ويستعبدون أنفسهم للملوك والأمراء وكان حريصا أشد الحرص على أن يشعر الناس بأنهم يجب أن يكونوا أكرم على أنفسهم من هذا، ويجب أن يتوحدوا كما توحد ربهم:

توحّد فإن الله ربك واحـد

ولا ترغبن في عِشرة الرؤساء

   كان أبو العلاء إذن يريد أن يشعر الناس بأنفسهم، ويعرفوا حقهم، ويفرضوا شخصيتهم على الدنيا، وأن يرفعوا أنفسهم عن الخضوع والفناء، وكان يعيب الأمراء ويعيب الملوك ويراهم ظلمة مجرمين.

مــل المقام فكم أعاشر أمـة

أمرت بغير صلاحها أمراؤهـا

ظلموا الرعية واستجازوا كيدها

وعدوا مصالحها وهم أجراؤها

   ولكن هذا كله لم يهون على أبي العلاء أن يحيا مع الناس كما كانوا يحيون.

رأى أن الحياة الاجتماعية في عصره لا تستقيم له إلا إذا أنكر نفسه وأصبح خادما كغيره من هؤلاء الخدم الكثيرين الذين كانوا يسودون ويذلون في الوقت نفسه للملوك والرؤساء، فنفي نفسه من الأرض ولزم داره وأقام فيها لا يخرج منها خمسين عاما أو نحو خمسين عاما.

   أما إقبال فإنه آمن بشخصيته أشد الإيمان كما آمن بها أبو العلاء، ولكنه لم يكتف بأن يؤمن بنفسه، ثم يكتفي بهذا الإيمان قانعا بنفسه زاهدا في إحياء هذه الشخصية في الناس جميعا، وإنما كان إيجابيا. كان حريصا أشد الحرص على أن يؤمن بنفسه، وأن يحمل الناس على أن يؤمنوا به. أن يؤمن بشخصيته ويحمل الناس لا في باكستان والهند وحدهما، ولا في العالم الإسلامي وحده، بل في العالم الإنساني كله. كان حريصا على أن تكون حياة الإنسان قائمة على إيمان الفرد بنفسه، وعلى أن يفرض الفرد نفسه على الحياة، لا أن يخضع لها، ويفنى في هذا المظهر أو ذاك من مظاهرها. وكان في الوقت نفسه منطقيا مع هذا الرأي الفلسفي الخطير.

 كان اجتماعيا كأشد ما يكون الإنسان إخلاصا للجماعة، أن أفنى حياته كلها مرشدا معلما ناصحا داعيا للعالم الإسلامي وللإنسان إلى أن يكرم على نفسه وليكرم على الناس وليكرم على الحياة، ولكنه في الوقت نفسه كان يرى أن هذه الحياة التي يخلص الإنسان فيها للإنسان، وينصح الإنسان فيها للإنسان، ويعين الإنسان فيها الإنسان، لا تستقيم ولا تصلح ولا تؤتي ثمرتها إلا إذا انفصل الإنسان عن الإنسان، وآمن بأن له وجوده الفردي الخاص، وبأن هذا الخير الذي يذيعه في الناس والذي يريد أن يملأ به الأرض يجب أن يصدر عنه هو من حيث أنه فرد مستقل، كائن خاص ممتاز عن غيره، يريد الخير ويصدره عن نفسه مريدا عامدا لا كما يصدر الضوء عن السراج دون أن تكون للسراج فيه إرادة، بل كما يصدر الضوء والنور عن الله، لأن الله يريد أن يملأ الأرض وأن يملأ العالم ضوءا ونورا.

   والذي كان يريده إقبال للفرد كان يريد مثله للجماعات حين يتاح لها أن تأتلف، وأن توحد بينها هذه المقومات التي تكون منها أمة مشتركة المنافع، مشتركة الآمال والغايات والآلام والحاجات.

   وهو من أجلها لم يدع إلى شيء كما دعا إلى أن يكون المسلمون في هذه القارة التي نسميها قارة الهند، لم يكن يدعو إلى شيء كما كان يدعو إلى أن يمتاز المسلمون ما دامت بينهم هذه الخصائص التي تجمع، ولهم هذه الآمال وهذه الآلام وهذه الغايات العليا التي يشتركون فيها جميعا، وتخالط قلوبهم وضمائرهم جميعا.

فيجب أن يمتازوا وأن يكون لهم وجودهم السياسي والاجتماعي الخاص، وأن يصدروا فيما يكون بينهم وبين غيرهم من أهل الهند، وفيما يكون بينهم وبين غيرهم من الناس جميعا، عن إرادة للخير وإرادة للنصح وإرادة للتعاون والتضامن في ترقية الحضارة ونفع الإنسان والخروج به من هذه الحياة الشريرة المظلمة التي يحياها إلى حياة أخرى خير منها.

   كان إذن حريصا على أن يتوحد الفرد في وجوده وعلى أن تتوحد الأمة في  وجودها، وعلى أن يكون هذا التوحيد وسيلة إلى التضامن الذي يصدر عن الإرادة ولا يصدر عن الغريزة، يصدر عن القلب وعن العقل وعن التفكير، بحيث يكون الإنسان —كما قال أرسططاليس— حيوانا اجتماعيا ولكن حيوانا اجتماعيا في إرادته، وعن رأيه وعقله، لا بغريزته كما تكون النحل أو كما تكون النمل.

فالإنسان هو خير ما في هذه الأرض من الكائنات التي أتيحت لها الحياة، فيجب أن يمتاز في الأرض ويجب أن يمتاز أفراده، وأن تمتاز أممه، وأن يتحقق بين الناس هذا الامتياز الذي يتيح لكل فرد منها استقلاله، وهذا التضامن الذي يتيح لهم جميعا أن يتعاونوا على البر والتقوى، وأن لا يتعاونوا على الإثم والعدوان.

   ومن أجل هذا، ومن أجل حرص إقبال على هذه الشخصية، وعلى أن يحرص الإنسان أشد الحرص على أن يتوحد كما توحد الله، وعلى أن يمتاز كما امتاز الله، وعلى أن يسود الأرض التي سخرها الله له، ويخضع الطبيعة التي سخرها الله له، من أجل هذا كله ظن بعض الأوربيين الذين قرأوا فلسفة إقبال وشعره عندما ترجمه نيكلسون إلى الإنجليزية، ظنوا أنه متأثر بنيتشه، ومتأثر بنيتشه في مذهبه في الإنسان الممتاز أو “السوبرمان”، ولكن إقبال نفسه رد على هؤلاء الناس فقال إنه عندما جهر بمذاهبه هذه لم يكن يعرف نيتشه، ولم يكن يعرف أن في الأرض إنسانا يسمى بهذا الاسم، وأنه إنما عرف الغرب وفلاسفة الغرب بآخره بعد أن أنشأ فلسفته وآدابه وبعد أن تقدم بهذه الفلسفة و بهذا الأدب شوطا بعيدا.

   ومهما يكن من شيء فهذان الشاعران العظيمان لم يعرف الإسلام مثلهما قبل أبى العلاء، ونرجو أن يعرف الإسلام مثلهما بعد إقبال. ولكن الشيء الذي ليس فيه شك هو أن الإسلام لم يعرف مثل هذين الشاعرين لا قبل أبى العلاء ولا بين أبى العلاء وبين إقبال.

   احتاج المسلمون إلى نحو عشرة قرون ليوجد بينهم ثان لأبى العلاء، ولكن إقبال كان أحسن حظا من صاحبه. فهو قد عاش في عصر غير العصر الذي عاش فيه صاحبه. عاش أبو العلاء في عصر كان المسلمون قد أخذوا يضعفون وينحطون فيه، وأخذ العنصر الأعجمي والعنصر التركي بنوع خاص يتسلط فيه على المسلمين. وأخذت أوروبا تتحفز لغزو الشرق في غزواتها الصليبية المعروفة، فكان ساخطا على الحياة مهيبا بالمسلمين أن يغيروا من أمر أنفسهم ليغير الله من أمرهم.

   وعاش إقبال في عصر آخر، عصر كان المسلمون فيه، كما نراهم الآن، متفرقين ومن حقهم أن يأتلفوا، ضعافا ومن حقهم أن يقووا، وفي الوقت نفسه فيهم استعداد وتحفز للنهضة والقوة والحياة والتضامن، ولكن لهم أعداء خطيرين يدبرون لهم الكيد ويضمرون لهم المكروه، وهم هؤلاء المستعمرون في الغرب. فالعصران يتشابهان من جهة ويختلفان أشد الاختلاف من جهة أخرى. فلم يعرف أبو العلاء هذا العلم الكثير الذي أتيح لإقبال أن يعرفه. ولم يعرف هذه الفلسفة الكثيرة التي أتيح لإقبال أن يعرفها. ولم يعرف هذه الحضارة المادية الهائلة التي استطاع إقبال أن يعرفها، وأن يقبل منها أقلها ويرفض أكثرها.

   ودعوة الرجلين واحدة. كلاهما يدعو العالم الإسلامي أولا والإنسان ثانيا إلى أن يعرف نفسه وحقه ويفرضهما فرضا، ولا يفنى في أحد مهما يكن، ولا يفنى حتى في الله نفسه.

   وأشد ما ينكره إقبال، وأشد ما ينكره أبو العلاء على المتصوفة فكرة الفناء هذه فأبو العلاء ناقش المتصوفة أشد المناقشة. ولم يكره من مذهبهم شيئا كما كره منهم هذا الفناء في الذات الإلهية الذي يقولون به. كما كره منهم العبث بعقول الناس. وإقبال متصوف متقشف مدرك للفلسفة العليا وللمثل العليا في أروع صورها وأجملها. ولكنه لا يريد مطلقا أن يفنى في هذا النور الإلهي الخطير العظيم، بل فإنما يجب أن يحتفظ بشخصيته وأن ينظر إلى هذا النور ويطالعه ويخاطب ربه خطاب العالم به المريد أن يخاطبه وأن يسمع منه، لا لأن يفنى فيه وينكر وجوده وينكر نفسه ويصبح ضائعا في هذه القوة الإلهية العليا. لا يريد إقبال أن يضيع ولا يريد

لأحد من الناس أن يضيع ولا يريد للإنسان أن يفنى في الإنسان، ولا أن يفنى في الله. إنما يريد للإنسان أن يعين الإنسان، وأن يتضامن معه على الخير، وأن يعبد الله عالما به مكبرا له، ولكن معترفا بنفسه ومؤمنا بها. ذلك لأن الله عندما أمر الناس بعبادته لم يأمرهم بأن يفنوا أنفسهم فيه، وإنما أمرهم بأن يعيشوا أحرارا مؤمنين بشخصيتهم مستقلين. ولولا هذا لما كلفهم هذه التكاليف التي فرضها عليهم. فإن الله لم يكن ليكلف نفسا أن يصلي ويصوم ويؤدى الزكاة ويحج إلى آخر هذه التكاليف التي فرضها على الإنسان. فنفس هذه التكاليف التي فرضت على الإنسان إنما فرضت عليه ليكون فردا مستقلا، مستقلا ثابتا أمام ربه، يعبده عن إرادة لهذه العبادة، ويذعن له عن إرادة لهذا الإذعان.

   والغريب أن الرجلين اشتركا أيضا في هذا التفكير المتصل بالملأ الأعلى. وكلاهما فكّر في هذه المعجزة التي جاءت في القرآن، وهى معجزة الإسراء. فكر في هذا كلاهما، وحاول كلاهما أن يسري كما أسري بالنبي.   فأبو العلاء فكر في الجنة وفكر في النار وحرص على أن يسيح في الجنة والنار، وأن يكون متفرجا، وأن يتحدث إلى الناس عن الجنة والنار، وعما يكون في

الجنة والنار، فألف “رسالة الغفران”.

   وصاحبنا الذي نذكره اليوم مكبرين له مجلين له أبي هو أيضا إلا أن يعرج في السماء كما عرج محمد —صلى الله عليه وسلم.   ولكن كلا الرجلين عرجا إلى السماء في خيالهما. وإقبال يزور السماوات ويتخذ له من هذه الزيارة دليلا من المتصوفة هو جلال الدين الرومي، فيزور القمر ويزور المريخ ويزور كواكب كثيرة، صاحبه هذا يدله كما كان “دانتي” في القرون الوسطى يطوف بالجنة والنار والأعراف ومعه الشاعر اللاتيني القديم “فرجيل” يهديه في هذا الطواف. كذلك فعل إقبال. وأكبر الظن أنه لم يعرف “دانتى” إلا في العصر الأخير من حياته.

   مهما يكن من شيء فقد طوّف إقبال في السماوات كما طوف فيها أبو العلاء. ولكن النتيجة لهاتين الزيارتين متناقضة عند الرجلين أعظم التناقض. فأما أبو العلاء فعاد من زيارته للجنان والنار ساخرًا منكرا يوشك أن يخرج على الدين.

وأما إقبال فعاد من زيارته مؤمنا متعظا معتبرا يريد أن يملأ الدنيا موعظة وعبرة بعد هذه الزيارة إلى هذه السماوات.

   أفنى الأستاذ الصديق عبد الوهاب عزام وقتا كبيرا وبذل جهدا عظيمًا وقدم إلينا حياة إقبال وطائفة من شعر إقبال. وهو ماض في ترجمة ما بقى من شعره.

فنحن مدينون له بكل ما نعرفه عن إقبال باللغة العربية، وسيزداد هذا الدين شيئا فشيئا كلما أضاف إلى تراجمه التي بين أيدينا ترجمة أخرى. ويجب أن نكون أوفياء وأن نكون كراما على أنفسنا. وأول حقوق الكرامة هو أن نعرف الحق لأهله، وأن نذكر إقبال أداء لما له علينا جميعا من دين. فهو الذي دعانا إلى الخير وأشاع فينا هذا الأمر بأن نعرف أنفسنا وحقوقنا ونجاهد في سبيل الحق والخير والجمال.

   و إذا ذكرنا إقبال وأكبرناه وتمنينا أن تنفع كلماته هذه الخالدة، وأن يصبح المسلمون جميعا متأثرين بهذه المذاهب العليا، إذا ذكرنا اليوم إقبال وأكبرناه فأظن من أيسر الحق علينا أن نذكر ونشكر الأستاذ عبد الوهاب عزام، فهو الذي كان صلة بيننا وبين إقبال.

 

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!