فؤاد سزكين مؤرخ التراث العلمي العربي
أ.د. مولود عويـمر
(جمعية العلماء المسلمين بالجزائر)
لم تكن المعاهد الإستشراقية المعروفة في الغرب يديرها فقط المستشرقون الأوروبيون، وإنما ثمة مراكز وأقسام للدراسات الشرقية أخرى أسسها علماء عرب أو مسلمون في رحاب الجامعات الأوروبية والأمريكية، وأشرفوا فيها على تكوين أجيال من المستشرقين الأوروبيين والباحثين العرب المختصين في مجال الدراسات العربية والإسلامية، ومن بين هؤلاء الأساتذة البارزين: ألبرت حوراني(1) في إنجلترا، وفيليب حتّي (2) في الولايات المتحدة الأمريكية، وفؤاد سزكين (3) في ألمانيا، ومحمد أركون وعلي مَراد (4) في فرنسا، …الخ. هل كانت لهذه البيئة الغربية تأثير على منهجهم العلمي وإنتاجهم المعرفي وعلاقتهم الوجدانية بثقافتهم وصلتهم بمصير أمتهم، أم على العكس من ذلك، استفادوا من الإمكانات المادية والفرص المتاحة لخدمة تراثهم والتعريف بحضارتهم؟
محطات ومنعطف
ولد فؤاد سزكين في عام 1924 في بطليس بتركيا في أسرة محافظة تمسكت بانتمائها الحضاري الإسلامي رغم كل السياسات الرامية إلى تغيير قبلة تركيا من الشرق إلى الغرب. سلك سزكين طريق البحث عن التراث العلمي العربي متأثرا بوالده وأستاذه المستشرق الألماني هلمونت ريتر، إضافة إلى شغفه المبكر بالرياضيات والعلوم.
وأنقل هنا الآن كلام الدكتور سزكين في هذا الموضوع: «حين كنت صغيرا في بلدي تركيا علمني والدي اللغة العربية، وكنت شغوفا بالرياضيات والعلوم الطبيعية. لهذا بعد دراستي الثانوية اتجهت إلى كلية الهندسة…، ثم اتجهت إلى معهد الشرقيات باسطنبول لاعتقادي بأنه يلتقي مع ميول والدي الدينية.. وقد قام هذا المعهد على جهود المستشرق هلموت ريتر عام 1933، وكان تابعا لكلية آداب جامعة اسطنبول.»
ولقد أجدت عليه الدراسة على هذا الأستاذ وصحبته لمدة ثلاث سنوات فتعلم منها كثيرا وظهر أثرها في أعماله اللاحقة، وقد قال في هذا السياق: «كانت لتوجيهاته أثر فعال في مجرى حياتي العملية والعلمية.»
تعمّق سزكين في دراسة اللغة العربية وانهمك في دراسة التراث العربي، وكان من ثمار هذه الجهود إعداد رسالة دكتوراه في تاريخ العلوم العربية في جامعة فرانكفورت في ألمانيا تحت إشراف هلمونت ريتر، الذي التحق بهذه الجامعة الألمانية بعد أن قضى قرابة عشرين سنة في اسطنبول أستاذا في جامعتها وباحثا عن المخطوطات ومحققا للتراث العلمي العربي. وناقش سزكين أطروحته في عام 1954، وهي دراسة عميقة موثقة حول كتاب “صحيح الإمام البخاري” ومصادره.
عاد سزكين إلى تركيا في العام نفسه والتحق بجامعة اسطنبول لتدريس تاريخ العلوم العربية. وفى عام 1960، اضطر إلى الخروج من تركيا إلى ألمانيا لأسباب سياسية فساعده المستشرق هارتنر أستاذ تاريخ العلوم الطبيعية في جامعة فرانكفورت في الالتحاق بهذه المؤسسة العلمية. يقول في هذا الشأن: « الأستاذ هارتنر … بادر إلى مساعدتي – فأمن وجودي عندما اضطررت- لأسباب سياسية – إلى الخروج من معهدي، ثم وطني سنة 1960. وكان الأستاذ هارتنر هو الذي هيأ لي أن أتفرغ سنوات عديدة للعمل في معهده … وكان بجواري كلما اعترضتني عقبة.»
زار الدكتور سزكين عدة دول عربية، وقدم مجموعة من المحاضرات التي تناولت 4 قضايا كبرى. تمثلت القضية الأولى في ضبط منهجية البحث في مجال التراث العربي، كما تبرزه عناوين هذه المحاضرات الثلاثة: كتاب “تاريخ التراث العربي” أهدافي ومنهجي في إعداده، أهمية الإسناد في العلوم العربية والإسلامية، مصادر كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني. وتطرق إلى إسهامات العلماء المسلمين والعرب في تطوير العلوم خاصة في الطب، علم الكيمياء، الرياضيات، وعلم الفلك.
ودرس أيضا تأثيرات التراث العلمي العربي على أوروبا، وبيّن دورها في الإقلاع الحضاري للدول الغربية الكبرى. وأخيرا تطرق إلى قضايا فكرية لها صلة بالواقع العربي والإسلامي المعاصر، من خلال مناقشة “أسباب ركود الثقافة الإسلامية”، واقتراح العوامل المساعدة على النهوض والتطور. وقد جمع الدكتور سزكين هذه المحاضرات في كتاب نشره في عام 1984 تحت عنوان: “محاضرات في تاريخ العلوم العربية والإسلامية”.
موسوعة تاريخ التراث العربي
في عام 1947 شرع سزكين في جمع مادة علمية لوضع مستدرك لكتاب “تاريخ الأدب العربي” لصاحبه المسترق الألماني كارل بروكلمان. غير أنه وجد مصادر ومخطوطات كثيرة فاقت تصوراته وتجاوزت أمنياته، ففكر في الاشتغال في مشروع علمي جديد.
اندمج في مشروعه العلمي فكان يشتغل 17 ساعة في اليوم، فجمع المخطوطات العربية المتفرقة في المكتبات الخاصة والعامة في الشرق والغرب. فنسخها وترجمها إلى اللغة الألمانية واستخرج كنوزها واقتبس من دررها ثم نشرها في أجمل صورها. كما استعان كثيرا ببحوث ودراسات أعدها المستشرقون المختصون في هذا الحقل المعرفي.
لقد أرّخ الدكتور سزكين للعطاء الإسلامي في مختلف الآداب والعلوم، فلم يترك فرعا من فروع المعرفة التي اشتغل بها العلماء المسلمون إلا وكتب عنه، ذلك أن التطور العلمي عند المسلمين -كما قال سزكين- « لا يتوقف عند بعض فروع العلم، بل إن هذا التطور شمل جميع نواحي العلوم تبعا لقانون تطور العلوم، أي أنه لا يمكن أن يتطور العلم في ناحية معينة دون أن يواكبه تطور في النواحي الأخرى من العلوم.»
وهكذا نشر الأستاذ سزكين موسوعته “تاريخ التراث العربي” في 12 مجلدا شملت كثيرا من الاختراعات والاكتشافات والإبداعات التي أنتجها العلماء المسلمون. وقد قسم موسوعته حسب التخصصات العلمية، أذكر منها:
العلوم القرآنية، علم الحديث، التاريخ، الفقه، علم الكلام (المجلد 1) طبع سنة 1967.
الشعر العربي من الجاهلية إلى سنة 430 هـ (المجلد 2)، طبع عام 1975.
الطب، الصيدلة، البيطرة، علم الحيوان (المجلد 3)، طبع سنة 1970.
الكيمياء، الزراعة، علم النبات (المجلد 4)، طبع سنة 1971.
علم الرياضيات (المجلد 5)، طبع عام 1973.
علم الفلك (المجلد 6)، طبع سنة 1978…الخ.
وقد ترجم الدكتور محمود فهمي حجازي أجزاء من هذه الموسوعة وصدرت من إدارة الثقافة والنشر بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بداية من عام 1977. وقد نال الدكتور سزكين على هذا الكتاب جائزة الملك الفيصل العالمية للدراسات الإسلامية في عام 1979.
كتاب “تاريخ التراث العربي” في الميزان
يعتبر الدكتور أكرم العمري، أستاذ التاريخ بجامعة بغداد أول من قدم دراسة نقدية لهذا الكتاب، ونشرها في مجلة “المورد” العراقية في فبراير 1973. وقد ركز فيها على الجزء الأول الذي تناول التفسير وعلم الحديث، وذكر في 23 ملاحظة وصحّح 56 خطأ مطبعيا وعلميا.
ورغم كل الأخطاء والملاحظات التي شملها هذا الجزء إلا أن الدكتور العمري اعترف بالقيمة العلمية للكتاب ونوّه بالجهود الجبارة التي بذلها المؤلف في إعداده هذه الموسوعة. وقد قال في هذا السياق: «والحق أن الكتاب ثمرة جهود ضمنية وصبر طويل وتمرس كبير فحق للناطقين بالضاد والمعنيين بالتراث الفكري أن يرحبوا بمؤلفه ويقوّموا جهده بما هو أهله، ويتناولوه بإمعان النظر فيه وتدقيق مادته، فهو يحتاج إلى القراءة المتفحصة الناقدة لسعة نطاقه ووفرة مادته وكثرة أحكامه، وقد اعتصر فيه مؤلفه جهده وجهود من عنى بكتب التراث قبله من العرب والمسلمين والمستشرقين.»
كما نشر الباحث الدكتور حكمت بشير بحثا في “مجلة الجامعة الإسلامية” بالمدينة المنورة عنوانه “استدراكات على تاريخ التراث العربي لفؤاد سزكين في كتب التفسير”. وأصدر الباحث نجم عبد الرحمان خلف كتابا عنوانه” استدراكات على تاريخ التراث العربي لفؤاد سزكين في علم الحديث”، ونشره في دار البشائر الإسلامية. ونشرت بعد ذلك دراسات وتقاريظ عديدة حول هذا الكتاب ليس هنا مجال لذكرها.
معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية (فرانكفورت)
لم يكن الدكتور سزكين حالما يزعم أنه قادر على تحقيق مشروعه العلمي الكبير حول إحياء التراث العربي بمفرده أو اعتمادا على تمويل الجامعة الألمانية. لم يخف عليه لب هذه الحقيقة لذلك اتجه صوب الدول العربية الغنية من أجل جمع الأموال اللازمة لإنشاء مركز للبحث في تاريخ العلوم العربية التي قدرت قيمتها آنذاك بقيمة 7 ملايين ونصف مليون مارك ألماني.
ولقيت مساعيه الحثيثة تجاوبا من بعض الحكومات العربية خاصة الحكومة الكويتية التي ساهمت بقسط كبير في تحقيق حلمه العلمي الذي حمل إسم معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية الذي يقع مقره في مدينة فرانكفورت.
لقد تم افتتاح هذا المعهد في عام 1982، ولا يزال قائما إلى اليوم يحقق إنجازات كثيرة قلما نجد نظيرا لها في الجامعات العربية. ويضم المعهد مكتبة علمية غنية تحتوي على الآلاف من الكتب والمئات من المخطوطات العربية النادرة. وفيه متحف تعرض فيه أجهزة علمية قديمة صنعها علماء المعهد مستلهمين أشكالها من تراثنا الحضاري خاصة في مجالات الطب وعلم الفلك وعلم الخرائط.
وفي مجال النشر أصدر المعهد دورية أكاديمية عنوانها “مجلة تاريخ العلوم العربية الإسلامية”، ونشر ترجمات لأمهات الكتب العلمية العربية إلى اللغات الأوروبية، وأصدر سلسلة من الكتب التي تضمنت مقالات المستشرقين المتفرقة في المجلات المختصة. كما نشر فهارس للمخطوطات العربية.
أما في مجال الأنشطة العلمية، فينظم المعهد ندوات وملتقيات تاريخية وثقافية للجمهور العام وللمختصين. فالمعهد يهدف بشكل عام إلى الكشف عن الموروث الحضاري الإسلامي، والتعريف بمكانة العلوم في الحضارة الإسلامية، وتصحيح الأفكار الخاطئة الراسخة لدى الكثير من الغربيين الذين يجهلون إسهامات المسلمين الكثيرة في الحضارة الإنسانية.
ولا يزال البروفيسور فؤاد سزكين ينجز أعماله بصرامته وهمته وجديته المعهودة، وينظر بتفاؤل إلى مستقبل المسلمين شريطة أن يرتقوا إلى مستوى التحديات الراهنة مستلهمين من تراثهم الحضاري ومستفيدين من التطور الحضاري القائم ومشاركين فيه بفعالية، فبذلك يسيرون حقا على خطى أجدادهم الذين تقدموا بفضل التزامهم بالدين وتمسكهم بالعلم.
وأختم هذا المقال مرددا ما قاله الأستاذ سزكين، متمنيا أن يلقى هذا الكلام أصداء عند القراء: «إنه لا يسرني بأن تكون الأعمال الخطرة للعلماء المسلمين والعرب في تاريخ العلوم واسطة لمجرد الفخر عند أحفادهم اليوم، ولكنني أتمنى أن يفهم الأحفاد هذه الظاهرة في تاريخ العلوم حق فهمها وأن يستدبروا كيف استطاعت هذه الأمة أن تبدأ من وسط يحسب فيه بالحساب الأصبعي ثم أخذت كل العناصر الإيجابية عند الأمم الأخرى بكل استعداد للأخذ دون أي خوف أو تردد ودون أي عقدة نفسية… بل بالثقة بالنفس والاعتماد على القدرة الإنجازية للفرد ليستطيع أن يصل إلى نتائج هامة في حياته ويتغلب على مشاكل كبيرة… وأهم من هذا أن يجد عبرة وموعظة في زهد هؤلاء العلماء الذين كانوا يقرؤون ويكتبون أكثر منا في ظروف شاقة وكانوا سعداء حقيقيين ومؤمنين بالله وبالعلم».