THE STUDY QURAN A New Translation and Commentary

THE STUDY QURAN A New Translation and Commentary

 

 

مقدّمة كتاب دراسة القرآن الكريم ترجمة وتعليق جديدين

سيد حسين نصر

(مشرف رئيسي)

كانر  ك. داغلي    ***    ماريّا ماسي داكاكي    ***  جوزيف أ. ب. لومبارد

(مشرفين عامّين)

محمد بسطم

(مشرف مساعد)

ترجمة وتقديم: محمد أمين بن محمود الفاهم – تونس

 

 

 

تمهيد المترجم

لمّا بلغني هذا المؤلفّ للعلاّمة سيّد حسين تحمست كثيرا لقراءته والاطلاع عليه ذلك أن البروفسّور له سبق عظيم في المدونة الفكرية والرّوحية الإسلامية. كثير ما عدت إلى مؤلفاته التي تتعلق بالتصوف وخاصة تلك الكتابات التي تناول فيها شخصيّة ابن عربي، فلا يخفى على أحد أن سيد حسين يعتبر سليل المدرسة الأكبرية وهو من كبار المدافعين عن نظرياّت صوفيّة عميقة طالما دافع عنها رجال التصوف عبر التاريخ الإسلامي مثل “وحدة الوجود” و”وحدة الشهود” ونظرية “التجلّي الأسمائي” و”الإنسان الكامل”.

سيد حسين نصر هو فيلسوف إسلامي معاصر يعمل بروفسورا في قسم الدراسات الإسلامية في جامعة جورج واشنطن، وهو فيلسوف إيراني بارز، ولديه العديد من المؤلفات والمقالات. وُلِدَ حسين نصر في 7 أبريل 1933 في العاصمة الإيرانية طهران لعائلة تنحدر من سلالة أطباء و رجال دين معروفين. شغل مناصب عديدة في إيران قبل الثورة ثم هاجر إلى الولايات المتحدة خلالها هربا من الأحداث المصاحبة لها.

ألّف ما يزيد عن ثلاثين كتابا تدور معظمها حول التربية والتصوف والفلسفة الإسلامية ووحدة الأديان. ناهض سيّد حسين الحداثة وآثار العولمة السلبية على حياة الإنسان، فضلا على أنّه تكلّم في الميتافيزيقا والعلوم المقدّسة والحياة الرّوحية في الأديان، من هذه الزّاوية الأخيرة يتنزّل هذا الكتاب الذي بين أيدينا ” THE STUDY QURAN A New Translation and Commentary” الذي صدر في نيويورك بالولايات المتحدة الأميركية بتاريخ 17 نوفمبر/ تشرين الثاني 2015 وهو عبارة تفسير وتعليق جديد للقرآن الكريم شارك في تأليفه عدد من الأخصّائيين والباحثين وهم “كانر  ك. داغلي” و”ماريّا ماسي داكاكي” و”جوزيف أ. ب. لومبارد” و”محمد بسطم”، يتقدمهم البروفيسور “سيد حسين نصر”. هذا التفسير الجديد (باللغة الإنجليزية) يسعى لاستكشاف المعنى الروحي الأعمق من آيات القرآن الكريم كما يشير إلى ذلك البروفّيسور في مقدّمة الكتاب. مع ذلك شرعنا في هذه الترجمة لتكون عنوانا للباحثين والدّارسين الناطقين باللغة العربية والقرّاء العامّين وكل من تقع بين أيديه هذه الدّراسة الجديدة للقرآن الكريم.

يسعى سيد حسين نصر في هذا العمل إلى ترجمة الحياة الرّوحية في الإسلام من خلال آيات القرآن الكريم واستبيان معانيها الأعمق أو الباطنة وتقديمها في ثوب شرعي جديد. إنّ ما تعانيه الثقافة الإسلامية المعاصرة من صراعات فكريّة وإيديولوجيّة وطائفيّة إنّما هي نتاج للقراءة الحرفية للنصوص الإسلامية سواء من خلال القرآن الكريم أو السنّة النبوية، ذلك أنّ جوهر الدين إنّما هو بحث عن الوحدة والتناغم بين عالم المثال (عالم الروح) وعالم الفساد (عالم المادّة). والقطيعة التي يعيشها المسلمون اليوم بين ما تحمله نصوصهم المقدّسة من شحنات روحيّة قادرة على توحيد الإنسانيّة بدل ما تشهده من صراعات وقتل وعنف باسم النصوص المقدّسة.

السبيل إلى جبر هذا الكسر بين تعالي النصوص الدّينية من جهة وواقعية الحياة العمليّة من جهة يمرّ عبر التأويل الإيجابي الذي يتجاوز حدود اللغة، ويصبّ في فهمٍ أرقى من التفسير اللغوي والحرفي لمعاني القرآن الكريم. إنّ هذا الكتاب المنزّل على خاتم الأنبياء محمد (صلى الله عليه وسلم) جاء ليكون دليلا لجميع الإنسانيّة وفي نفس الوقت يحتوي جميع ما يحتاجه المسلمون في حياتهم الدنيوية التي هي عبارة عن مطيّة للحياة الأخروية.

هذا الكتاب –القرآن الكريم-  في نظر  سيد حسين هو الجامع لشريعة المسلمين وقوانينهم الأخلاقية وعقيدتهم في الوجود وبعد الممات. وهو بهذه الدّراسة يسعى إلى تذليل الصعوبات التي تواجه القارئ لا من جهة اللغة أو السّيميائيات بل من جهة التأويل الباطني لفلسفة القرآن التي تتناول الصفات والأسماء الإلهية والعلوم المتعلقة بالطبيعيات والكون وما وراء الطبيعة والمثل، والتي تمثّل عقبة أمام القارئ لألفاظ القرآن الكريم في زمن الحداثة والعولمة التي عمّقت الهوة بين حياة الإنسان الظاهرة وحياته الرّوحيّة (الباطنة).

لا يغفل سيّد حسين عن ذكر أهمية القرآن الكريم في حياة المسلمين ومركزيته في ثقافتهم وحياتهم اليومية وهو من خلال ذلك يقدّم قراءته الرّوحية التي تنشئ معنى داخل معنى، وهو بذلك يقدّم نفائس القرآن الكريم الرّوحيّة التي تسعى إلى حمل المسلم إلى بُعدٍ خارج عن منطق الزمان والمكان، بعدٌ يحمل الإنسان الآن وهنا إلى عالم الحقيقة الإلهية الواحدة والمطلقة واللامتناهية، هي حقيقة حقيق علينا أن نطلب أثرها في هذا العالم التي ظهرت فيه في أكمل تجلّي لها عبر القرآن الكريم وفي شخص النبيّ (صلى الله عليه وسلم) الذي كان خلقه القرآن.

 

THE STUDY QURAN A New Translation and Commentary

مقدمة عامة

القرآن بالنسبة للمسلمين هو كلام الله الثّابت، المنزّل على مدى الثلاثة وعشرين سنة مدّة المهمّة النّبوية للرّسول محمد (صلى الله عليه وسلم) عبر وساطة خير الملائكة جبريل (جبريل أو جبرائيل). المعنى واللغة وكلّ كلمة وحرف في القرآن وأصوات تلاوته ونصّه المكتوب فوق مختلف الأسطح المادية، كلّها تعتبر مقدّسة. كان القرآن تنزيلا شفويّا بالعربيّة أوّلُ من سمعه الرّسول (صلى الله عليه وسلم) وكُتِبَ لاَحقا بأبجدية عربية في كتاب يتألّف من أربعة عشرة ومائة (114) سورة (فصول) وأكثر من مائتين وستة آلاف (6200) مقطع (آيات)، مرتّبة وفقا لأمر منزّل أيضا. أعتبر كتاب (الكتاب) جميع المسلمين، له أسماء عديدة مثل الفرقان (المفرّق بين الحق والباطل) والهدى (المرشد)، ولكن اسمه الأكثر شيوعا هو القرآن الذي يعني “التلاوة”. كما يرجع المسيحيّون إلى ترانيمهم المقدّسة، عادة ما يرجع المسلمون إلى مقدّساتهم مثل القرآن المجيد ﴿الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ[1] أو القرآن الكريم ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ[2]. معروف في الإنجليزية بالقرآن (Quran  أو  Koran)، إنّه مركز الظّهور الإلــهي  للإسلام وهو قاعدةُ وسقفُ مصدر  كل ما هو إسلامي في المطلق، من الغيب وعالم الملكوت والكون إلى القانون والأخلاق، من مختلف الفنون والعلوم إلى الهياكل الاجتماعية والاقتصاد وحتّى الفكر السّياسي.

القرآن هو المرافق القارّ للمسلم في رحلة الحياة. آياته هي أوّل ما يتلى في أذن الطفل حديث الولادة. يتلى خلال احتفالات الزّواج، وآياته هي التي يسمعها المسلم غالبا عندما يقترب الموت. في المجتمع الإسلامي التقليدي، كان صوت تلاوة القرآن في كل مكان، ويملأ الفضاء الذي يعيش فيه الرّجال والنساء حياتهم اليومية: مازال هذا صحيحا داخل حيّز عريض في كثير من الأماكن حتى اليّوم. بالنّسبة للقرآن ككتاب فإنّه متواجد تقريبا في كل بيت مسلم ويُحمل أو يُلبس في أشكال وأحجام متعددة من الرجال والنّساء للحماية وهم ذاهبون لأشغالهم اليومية. في كثير من أجزاء العالم الإسلامي يُشَدُّ للواحد ليَمُرَّ من تحته عند بداية رحلة، ولازالت تتواجد إلى اليوم مدن إسلامية تقليدية تحوي أبوابها القرآنَ فوق جميع من يدخل أو يخرج من ممرات المدينة. القرآن هو  المصدر القديم الحديث للعناية أو النعمة (البركة) مختبرٌ عميقا من المسلمين وهم ينتشرون في كل أنحاء الحياة.

نظرا لأنّ القرآن هو المركزيّ والمقدّس والحقيقة المنزّلة للمسلمين فإنّ “دراسة القرآن” تتوجّه إليه بنفس النظرة ولا تحصرهُ في مجرّد عمل تاريخي واجتماعي أو كاهتمام لغوي بمنأى عن صفة القداسة والتنزيل. إلى هذا الحدّ  فإنّ اهتمام “دراسة القرآن” منصبٌّ على تقبّل القرآن واستخلاص عبره في ثقافة المسلم الفكرية والرّوحيّة، رغم ذلك فإنّ هذا لا يعني أنّ المسلمين وحدهم الجمهور المقصودَ، ذلك أنّ هذا العمل مجعولٌ ليكون في استعمال مختلف العلماء والأساتذة والطّلبة والقراء العامّين. إنّه بهذا الكتاب[3] الذي تلاوته تجعل المسلمين من “سومطرة[4]” إلى “السنغال[5]” يدمعون، فإنّ ما تتعامل معه هذه الدّراسة ليس مجرّد نصّ مهم للدّراسة أو فقها لِلُغةٍ سامية أو شروطا اجتماعية لبداية القرن السّابع الهجري (ق 07 ه) للجزيرة العربية.

هذا الكتاب بالنسبة للإسلام نزّله (جبريل عليه السلام) إلى النّبي (صلى الله عليه وسلم) على امتداد ثلاثة وعشرين سنة بالليل والنهار وفي مكّة والمدينة، على الرغم من هذه الكيفية وإن كانت كلمات القرآن خرجت من فمه[6] فإنّه كلام الله. كان النّبيّ (صلى الله عليه وسلم) الوسيلة (the instrument[7]) التي من خلالها أظهرت حقيقة القرآن الموجودة عند الله في مستوى يتجاوز الزمن -ما يسميه المسلمون اللوح المحفوظ- ﴿ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ[8] للرجال والنساء في هذا العالم. لذلك كان الإظهار يتّصف بالنزول (تنزيل)، ما يعني أنّ القرآن كان حقيقة قبل نزوله أو تنزيله للنبيّ (صلى الله عليه وسلم) وبالتّالي ليس كلامه الشخصي كما يدّعي هؤلاء الذين ينكرون طبيعة التنزيل في الوحي على امتداد العصور .

مازال شيء آخر من الحقيقة وهو حضور روح النبيّ (صلى الله عليه وسلم) في القرآن، ولهذا عندما سُئل عن صفته أجابت زوجته عائشة “كانت صفته القرآن”[9]. قبل مغادرته بزمن وجيز للطائرة الأرضية، قال النبي (صلى الله عليه وسلم) في الأثر المشهور أو  الحديث :” تركت بينكم شيئا مهما يجب إتّباعه؛ لن تضلّوا إن تمسكتم به بعد ذهابي، جزء منه أهم من الآخر: كتاب الله الحبل الممدود من السماء إلى الأرض وأقرب أقربائي الذين ينتمون إلى آل بيتي. هذان الاثنان لن ينفصل أحدهما عن الآخر حتى ينزلا إلى الحوض [الآخرة]: فتفكّروا كيف تفعلوا في حفظهم بعد رحيلي”[10].

 

رسالة القرآن

 

ما هي المواضيع الكبرى التي يتعامل معها هذا الكتاب المقدس؟  يحتوي القرآن قبل كل شيء على عقيدة حول طبيعة الحقيقة في كل مستوياتها، من الحقيقة المحضة نفسها أنّ الله واحد إلى حقيقة الخلق كليهما الكبير والصغير. إنّه يقدّم كامل التنزيل الإلهي أو (God)  كحقيقة عليا وأَحَديَّتُهُ في مركز رسالة الإسلام. الله واحد، وفي وقت واحد ليس بشخص، وهو بنفسه، متعال وجوهر، جليل وجميل، وراء جميع ما يمكننا أن نتصوّر، وهو بعدُ أقرب إلينا من حبل الوريد مثلما يؤكّد القرآن ببلاغته[11] في [(50:16)][12].

يكشف القرآن أيضا عن كوكبة من الأسماء الإلهية والصّفات، التي من فضيلتها أنّها كُشفَتْ إلينا مقدّسةً وتوفّر وسائل لا لمعرفة الله فقط بل والعودة إليه أيضا. وبالتالي فإنها تلعب دورا مركزيا ليس في الغيبيات الإسلاميةّ واللاهوت بل وأيضا في البعد العملي والشعائري[13] للحياة الدينية والروحية الإسلامية. كما يستشهد القرآن نفسهُ ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ [14] (7:180; cf. 17:110; 20:8; 59:24)[15] ، ثم يأمر المؤمنين بأن يدعوه عبر هذه الأسماء (7:180). ترتكز العقيدة الإسلامية على القرآن مفرّقة بين الوجود الإلهي الذي يتجاوز كل الأسماء والخاصّيات والنّعوت والأوصاف؛ أسماؤه وخاصّياته وصفاته؛ وأفعاله التي تتضمنّ خلق ورزق جميع العوالم وجميع المخلوقات، وهذه سنّته ومشيئته في جميع مخلوقاته خاصة في النظام الإنساني الذي كان حبّه ورحمته فضلا عن العدل والحكم دوما حاضرين.

إنّ شهادة الإيمان في الإسلام التي هي الشّهادة الأولى “لا إله إلاّ الله” (لا ربّ إلاّ الرّب)، جملة أنزلت في القرآن نفسه (37:35; 47:19)[16]، ليست متعلّقة بوحدة الألوهية وتعاليها، بل في إعادة إدماج[17] جميع الصفات الإيجابية وإرجاعها إلى الواحد. تعني الشهادة في ذروتها أنّه لا جمال إلاّ الجمال الإلهي ولا خير إلاّ الخير الإلهي ولا سلطة إلاّ السلطة الإلهيّة، وهلم جرّا. ميتافيزيقيا يعني ذلك أنّه لا وجود لحقيقة عليا إلا الحقيقة الإلهيّة.

أيضا يتعامل القرآن بأكمله مع طبيعة الكائنات الإنسانية. إنّه يعلّمنا من نحن، لماذا خُلقنا ووضعنا هنا في الأرض، فيم يتمثّل هدفنا في الحياة، ما هي مسؤولياتنا وحقوقنا وفقا للقانون الإلهي، ماذا علينا أن نعرف بشأن خلود الرّوح الإنسانية وحالتها بعد الوفاة، وعواقب طريقة الحياة في هذا العالم على حالتنا الوجودية بعد الموت. إضافة إلى ذلك فهو يتوجّه إلى كلّ من الرجال والنساء في أكثر آياته، كما يتعامل صراحة في بعض الأماكن مع معنى الخليقة الإنسانية كذكر أو أنثى أو  مُثنّى (زوج)، قداسة العلاقات الجنسية، أهميّة العائلة ومسؤوليات كل جنس تجاه الآخر في الزّواج. أيضا ما عالجه هو العلاقة الصحيحة بين الفرد والمجتمع وباقي مخلوقات الله.

لا يوجد فيما نعلم كتابا مقدّسا تكلّم أكثر من القرآن حول الكون وعالم الطبيعة، أين يجد فيه الواحد تعاليم واسعة حول نشأة الكون وتاريخه وأحداث الآخرة بمناسبة نهاية النظام الكوني كما هو قائم الآن، وعن ظواهر الطبيعة وهي تكشف الحكمة الإلهية. في الحقيقة، القرآن الكريم يرجع إلى هذه الظواهر كآيات (علامات أو إشارات)، مستعملا نفس الكلمة التي تعني مقاطع الكتاب المقدس. كما يتحدّث القرآن عن الحياة وأصلها وفيما يخص العلاقة بين جميع الموجودات، المتحرّكة والجامدة، من الحيوانات والنباتات إلى الجبال والبحار والنجوم إلى الله.

بطبيعة الحال أنّ كثيرا من سنن النبيّ (صلى الله عليه وسلم) (أحاديث. مفرد؛ حديث) أشارت أنّ للقرآن معنى خارجي (ظاهر) ومعنى داخلي (باطن)، في الواقع عديد المعاني الدّاخليّة، يقال عن أكثر البواطن منها تبعا للسّنة يعلمها إلا الله. استيعاب مستويات متعددة من معنى النص القرآني ضروري لتعلم “قراءة” الكتاب الكوني وفهم تعاليمه كاملة، بما في ذلك الماورائيّات، وعلم الكون، علم الحالة البشرية، علم الآخرة، والحياة الروحية التي يتحدث القرآن من خلالها.

بالرّجوع إلى المواضيع والمحاور الرّئيسيّة المذكورة في القرآن، مهمّ جدّا التأكيد على أنّ القرآن هو المصدر الأساسي للقانون الإسلامي (الشريعة)، وذلك أيضا تاريخيا النّبي كان يسمّى مثل موسى بالمشرّع، يعتبر المشّرع الأعظم في الإسلام اللّه بنفسه، يسمّى غالبا بالشّارع “المشرّع”. مئات من الآيات القرآنية تتعامل بطريقة ملموسة مع القانون،فيما تتعامل الأُخَرُ مع ما تتأسس عليه القوانين المنزّلة. في الواقع، بالنسبة للمسلمين الشريعة الإسلامية أو القانون الإلهي هي التجسيد الملموس للإرادة الإلهيّة كما هو مفصّل في القرآن لأتباع الإسلام؛ ومن وجهة نظر الإسلام فإنّ الكتب المقدسة في جميع الأديان السماوية، كلٌّ منها تحتوى على شريعتها الخاصة ( أنظر 5:48)، ولها نفس الوظيفة في هذه الأديان. بالنسبة للمسلمين، الذي يقبل القرآن على أنّه كلام اللّه، فإنّ إتّباعه للقانون الإلهي هو قاعدي وأساسيّ لممارسة شعائرهم الدّينية.

القرآن هو كتاب أخلاق أيضا. لأنه يوفر معايير للتمييز ليس بين الحق والباطل والجمال والقبح فقط، بل بين الخير والشر أيضا. مع ذلك يؤكّد أنّه يجب على الكائنات البشرية استعمال هدية الذكاء الموهوبة من الله ( العقل) لتبيُّنِ  ما هو صواب وجميل وخيّر، كما أصرّ أيضا على ضرورة الإيمان بالوحي الذي يوفّر حكما نهائيّا لما هو صائب وخّير وفي الواقع فإنّه يسمح للذكاء الإنساني ليكون عمليّا بالكامل بدل أن يضمر بواسطة العواطف البشريّة. علاوة على ذلك فإنّ التعاليم الأخلاقية للقرآن تهتم على حدّ السواء، بزراعة الفضائل التي تتعلق تحديدا بالأفراد، وبخصائص أخلاق المجتمع مثل العدالة والكرم الضروريين لأيّ مجتمع يمكن أن يطلق عليه بشكل صحيح أنّه إسلامي. أبعد من ذلك، من منظور قرآني فإنّ حقوق الفرد والمجتمع ليسا في توتر أو تعارض مع بعضهم البعض، كما يبدوان بعض الأحيان في المجتمعات الغربية الحديثة.

بما أنّه المصدر الأساسي للدين الإسلامي، يحتوي القرآن تعليمات، بما فيها الاقتصادية والسّياسية، التي تتعلق بالمؤمنين كأفراد وبالمجتمع الإسلامي ككلٍّ. كما يتضمن تعليمات لمختلف الممارسات الدينية الفردية وخصوصا الطقوس، التي تفاصيلها تمّ تقديمها من قبل السّنة (عادة) والأحاديث (أقوال وأفعال والموافقات الضمنية) للنبي (صلى الله عليه وسلم). لكن القرآن أيضا يقيم الممارسات الدينية الجماعية وفي مؤسسات الضرورية للمجتمع الإسلامي ككلٍّ.

كثيرون هم الذين يعلمون أن القرآن يهتم بالحياة الدينية، إضافة إلى المسائل المتصلة بكلٍّ من الخلاص الفردي والنظام الاجتماعي، ولكن القليل منهم فقط يدركون أن القرآن هو أيضا دليل للحياة الروحية الداخلية. إعطاء الانتباه للمعنى الباطني لنتائج القرآن في معرفة أنّه لا يحتوي فقط تعليمات لخلق مجرّد نظام اجتماعي ويقود لحياة فاضلة تؤدّي للعودة إلى الله بعد الموت في حالة موفّقة؛ يوفر وسائل للعودة إلى الله هنا والآن وهم لا يزالون في هذا العالم. لذلك فإن القرآن أيضا دليل حِكَمِيٌّ وروحيٌّ لبلوغ الحقيقة ودليل للوصول إلى الطوبى في هذا العالم.

معنى آخر يتخلل عديد السّور القرآنيّة هو التاريخ المقدّس والروايات المتعلقة بالأنبياء السابقين وشعوبهم. هذا التاريخ المقدّس يحدّ نفسه تقريبا كلّيا إلى التقليد الإبراهيمي وأنبياء بني إسرائيل وبعض أنبياء العرب الغير مذكورين في الإنجيل مشار إليهم أيضا. إنّ الهدف من استرجاع هذا التاريخ المقدّس على أن يكون (القرآن)  كونيّا  بما أنّ التنزيل الإسلامي موجّهٌ لجميع الإنسانيّة بدلا من شعب خاص، مثلما هي الحالة مع اليهوديّة. بالنّسبة للمسلمين، التّاريخ المقدّس المروي في القرآن أنزل من الله إلى النّبي (صلى الله عليه وسلم)؛ ليس مجرّد مجموعة من التقارير مسموعة من المصادر اليهودية والمسيحية. في الواقع هناك فرق دقيق بين الحسابات القرآنية والتوراتيّة حول التاريخ المقدّس. بينما الحسابات التوراتية لها طبيعة أكثر تاريخيّة، فإنّ التاريخ المقدس القرآني أكثر بعدا عن التأريخ فهو منزّل أولا لتعليم دروس أخلاقية وروحيّة. يبدو التاريخ المقدّس القرآني كأحداث داخل الرّوح الإنسانية أكثر من كونه مجرّد أحداث تاريخية في العالم. جميع الكائنات البشريّة تمتلك جوهرا، على سبيل المثال، صفات موسى وصفات فرعون، جمال يوسف وتواطؤ إخوته؛ هذا التاريخ المقدّس وسيلة لتعليم المسلمين حول أرواحهم بنفس القدر حول الخير والشر  والانتصار النهائي للخير على الشرّ، إذا الواحد لجأ إلى الله وطلب مساعدته ووضع ثقته به في جميع أنحاء تجارب الحياة كما فعل الأنبياء الأولون.

الآراء التقليدية من التاريخ الديني عادة ما تكون قلقة بشأن نهاية الزّمان، والإسلام ليس استثناءً في هذا الصدد. يرى القرآن التاريخ كحقيقة متناهية تبدأ بخلق الله للإنسانية الحاضرة وتنتهي بجلب التاريخ البشري والكوني إلى نهايته الأخرويّة. إنّ تصور القرآن لمسيرة الزمن هو بمعنى دوري؛ تتميز كل دورة بنزول رسالة من الله عبر نبيّ، ثم النسيان التدريجي لتلك الرسالة من الشعب المعين المرسلة إليه  وعادة وقوع طامّة بإرادة إلهية يتبعها مجيء نبيّ جديد. ولكن هذه الدورات من النبوءات ليست لا نهائية. ذلك أن القرآن يعلن نبيّ الإسلام خاتم الأنبياء (33:40)[18] في سلسلة النبوءات وأنّ بعده لن يأتي نبيّ آخر، سوى أحداث آخر الزمان التي تسم نهاية هذا العالم ويوم الإنسانية الحاضر. يلمّ القرآن أيضا إلى إمكانية الخلق من جديد من قبل الله بعد تدمير هذا العالم، قضّية لا محالة تَمْثُلُ وراء مخاوف الإنسانية الحالية التي يتوجّه إليها القرآن (أنظر 14:19, 48; 35:15)[19].

وَصْفُ أحداث الآخرة متّصلة بالأفراد والمجتمع الإنساني بنفس القدر إلى الكون، مركزّي في رسالة القرآن. مقاطع عديدة خلال النصّ المقدّس تتكلم عن الموت والبعث والحساب الإلهي والفردوس والجحيم وعن تضمين العذاب والغاية النهائية للبشرية. يعبر القرآن عن هذه الحقائق الأخروية بلغة قوية وملموسة وفي نفس الوقت شديدة الرمزية. تقدّم الآخرة بطريقة تبقى كحقيقة ثابتة في وعي المسلمين خلال جميع مراحل حياتهم هنا في هذا العالم السفلي (الدنيا). نعيم الجنة وكذلك عذاب الجحيم المخيف موصوفين بطريقة لترك أثر لا يمحى من عقل وروح المؤمنين، ويؤثر بعمق في أفعالهم وأفكارهم في هذا العالم. أكثر من ذلك فإن اللغة القرآنية هي في نفس الوقت ملموسة ومحسوسة لتفهم من أبسط المؤمنين ورمزية وميتافيزيقية لتشبع حاجات الحكماء والأولياء[20]. إنّ نعيم الجنة الموصوف في القرآن ليس إعلاء للنعيم الأرضي كما ادّعى البعض: لكنّ النعيم  الأرضي -كلا الحلال والحرام في هذه الحياة، مثل النبيذ المحرم- يقدّم كانعكاسات للحقائق  الفردوسيّة.

إنّ القرآن أيضا كتاب للمعرفة، وهو بالنسبة للمسلمين يحتوي على جميع جذور المعرفة الأصيلة كما فُهم قديما، ليس كما يراه بعض المعلّقين العلميين المعاصرين الذين يبحثون عن تفسير مختلف آيات الكتاب الكريم بهذه النظرية العلمية الأخيرة أو تلك أو اكتشاف. في الحضارة الإسلامية التقليدية، جميع العلوم الإسلامية من الفقه إلى علم الفلك، من اللاهوت إلى الطب، اعتبرت أنّ لها جذورها في القرآن؛ في الواقع، جميع الأفكار الإسلامية والفنون يمكن أن ينظر إليها كتعليقات عليه. حقيقة أنّ تنزيل القرآن لم يقد فقط إلى تأسيس واحدة من أعظم حضارات العالم بل أيضا لخلق واحدة من التقاليد العلمية والفلسفية والفنية الكبرى في التاريخ العالمي، ليس من قبيل الصدفة. لولا مجيء القرآن ما كان هناك علوم إسلامية كما نعرفها، علوم جيء بها لاحقا إلى الغرب وإلا ما كنّا نحصل على مفردات مثل “الجبر” (algebra) و”الخوارزميات” (algorithm)، وعديد المصطلحات العلمية الأخرى في الإنجليزية من أصل عربيّ. ولن يكون هناك ملخص القديس توما الأكويني، على الأقل في شكله الحالي، لأنّ هذه الخلاصة تحتوى على الكثير من الأفكار المنقولة من المصادر الإسلامية.

لم تكن رسالة القرآن تأسيسية فقط لتطوير العلوم الإسلامية بل كانت ولازالت الحقيقة الجوهرية في خلق الفنون الإسلامية التي تندرج أسسها من الحقيقة أو الحقيقة الدّاخلية للقرآن. إنّ كتاب الإسلام المقدّس قدّم على مرّ العصور أسسا وإلهامات للفنون الإسلامية المقدّسة من الخطّ إلى المعمار. تعاليمه أمدّت الخلق الفنّي المسلم في بعض الاتجاهات ووفرت سياقا اجتماعيا لخلق أعمال الفن الإسلامي. حقيقة أنّ الحضارة الإسلامية أنتجت كثيرا من معلقّات الشّعر ولن عمليّا لم يكن النحت من ذلك، وحقيقة أنّ الخطّ مركزيّ جدّا في حياة المسلم، كلّ هذه مرتبطة مباشرة برسالة القرآن شكلا ومضمونا. ينبع من القرآن أيضا تحديد ما يشكّل الفنّ المقدّس ودلالة ما يوجد في الفنون التقليدية وما يجب أن يكون عليه التسلسل الهرمي للفن في الحضارة الإسلاميّة.

 إنّ رسالة القرآن فيما يخص الدين كونيّة. حتّى عندما يتحدّث عن الإسلام فلا يرجع ذلك على الدين المنزّل عبر نبي الإسلام بل على الخضوع لله عموما. لذلك في القرآن إبراهيم وعيسى يسميّان أيضا مسلمين بمعنى “الخاضعين”. ترتكز رسالة القرآن على كونية الوحي، ويستشهد النص المقدّس بأنّه لا وجود لشعب لم يرسل إليه الله رسولا كما في (16:36)[21]: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً﴾، ﴿أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ !﴾.

كان لهذا المنظور الشمولي أعظم تأثير على العلاقة بين المسلمين وأتباع الدّيانات الأخرى، على المستويين العملي والنظري عبر التاريخ الإسلامي. إنّ بسبب رسالة القرآن وقبل الأزمنة الحديثة كان المسلمون أوّل أناس يطوّرون ما يعرف بعلم الأديان أو “دراسة الدين (Religionswissenschaft[22])” والكتابة بطريقة أكاديمية حول الديانات الأخرى بما فيها الديانات الغير إبراهيمية مثلما نرى في إشارة أبو الريحان البيروني (ت 442 ه/1048 م) المكتوبة منذ ألف سنة مضت. إنّه ولنفس السبب لأكثر سبعة (07) قرون مضت بعض العارفين والحكماء المسلمين مثل ابن عربي (ت  638 ه/1240 م) وجلال الدين الرّومي (ت 672 ه/1273 م) كتبوا حول الوحدة الباطنية للأديان، وإلى حدّ ما في وقت لاحق الصوفية في الهند حملوا حوار الأديان على فهم مشترك مع السلطات الهندية وترجموا النصوص الهندوسية المقدّسة  من السنسكريتيّة إلى الفارسيّة، والبعض الآخر في الصّين أنشئوا مجموعة من الأعمال يمكن أن نسمّيه “الكونفشيوسيّة الإسلامية الجديدة”.

إنّ رسالة القرآن ي في نفس الوقت حكميّة وعمليّة، قانونيّة وأخلاقية، تهتم بالمشاكل اليومية بنفس القدر مع الحياة الرّوحية والفكرية. يتعامل النص المقدّس مع كلّ جانب يهم الإنسان، من أعمق الأسئلة الفكرية وأسمى القضايا الرّوحية إلى شؤون الحياة الدنيوية العاديّة. إنّه في نفس الوقت تشخيصي وجدلي. إنّه رسالة بشرى (بشارة) وأيضا تحذير (نذر). لهذا ينادي الأنبياء بما فيهم نبيّ الإسلام المنبئين أو المبشرين (بشير) والمحذرين للبشريّة (نذير). إنّه موجِّهٌ لجميع جوانب تَصوُّر حياة الإنسان: العمل والفكر وأيضا راحة لأرواح المؤمنين. كما أنّ الظهور الإلهي في الإسلام ظهور له جميع الخصائص التي تعتبر مقدّسة فإن القرآن مصدر لجميع ما ينطق باسم الإسلام. إنّه كلمة الله الحيّة وهو رفيق المسلمين في كل مكان من المهد إلى اللحد، يوفّر الفضاءً الروحيّ والدينيّ الذي يولدون ويتنفسّون ويعيشون ويموتون  داخله.

 

 

 

 

الهوامش

[1]  البروج 21. ق 1.

 [2] الواقعة 77.

[3]  أي القرآن الكريم.

 [4] سومطرة سادس جزر العالم مساحة (470 ألف كم2)، وثالث جزر إندونيسيا حجما بعد بورنيو وبابوا. تقع في أقصى غربي الجزر الإندونيسية الرئيسية.

 [5] بلد جنوبي نهر السنغال في غرب أفريقيا، وعاصمتها داكار. اكتسبت اسمها من النهر الذي يحدّها من الشرق والشمال والذي ينبع من فوتا جالون في غينيا. ويحد السنغال خارجيا المحيط الأطلسي إلى الغرب، موريتانيا شمالاً، مالي شرقاً، وغينيا وغينيا بيساو جنوباً.

[6]  أي جبريل.

[7]  the instrument = الآلة. والصواب عندنا أن نترجمها بالوسيلة.

[8]  البروج 22.

[9]  لفظ الحديث:” قَالَتْ فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيّ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ الْقُرْآنَ. مسلم 1773.

[10]  لفظ الحديث: حديث زَيد بن أرقمَ رضي الله عنه: ((إنِّي تاركٌ فيكم ما إن تمسَّكتُم به لن تضلُّوا بعدي – أحدُهما أعظمُ من الآخَر -:كتاب الله، حبْلٌ ممدودٌ من السَّماء إلى الأرض، وعِترتي أهل بيتي، ولن يتفرَّقَا حتى يرِدَا عليَّ الحوضَ، فانظروا كيف تَخلُفوني فيهما)) أخرجه الترمذي (3788)، والفَسَوي في ((المعرفة والتاريخ)) (1/536)، والشَّجري في ((ترتيب الأمالي)) (738). ((تهذيب الكمال)) للمزي (26/297)، و((تهذيب التهذيب)) لابن حجر (660).

[11]  Poetically = شاعرية، ونرى أن نترجمها بـبلاغة.

[12]  ق 16.

[13]  ritual aspects = الجوانب الطقسية / ritual = طقس، رأينا ترجمتها بالشعائر.

[14]  الأعراف 180.

[15]  الأعراف 180 والإسراء 110 وطه 08 والحشر 24.

[16]  محمد 19 و الصّافات 35.

[17]  Reintegrating = إعادة إدماج.

[18]  الأحزاب 40.

[19]  إبراهيم 19 و 48. وفاطر 15.

[20]  Saints. Sing = saint = قدّيس. نرى ترجمتها بأولياء.

[21]  النحل 36.

[22]  مصطلح بالألمانية ويعني دراسة الدّين.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!