الإيمانُ والمحبَّة: مَذاقاتٌ بلا سَاحِل

الإيمانُ والمحبَّة: مَذاقاتٌ بلا سَاحِل

 

 

 

إشراقات (8)

 

الإيمانُ والمحبَّة…مَذاقاتٌ بلا سَاحِل

محمد التهامي الحراق

-1-

لا معنى للإيمان بلا حبٍّ، إيمان بلا حبٍّ محضُ زعم وادعاءٍ للإيمان ليس إلاَّ. الحبُّ شرط في الإيمان، والإسلامُ بلا حبٍّ إسلامٌ بلا إيمان. قد يُسلِمُ المرءُ بلسانه فينطق بالشهادتين لسانُه؛ لكن لمَّا يدخل الإيمان قلبَه:” قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ” (الحجرات، الآية 14). وكلُّ إسلامٍ بلا إيمان لا يُعول عليه إذا استعرنا نَفَساً أسلوبيا أكبريا. الإسلام في أركانه تدينٌ بالجوارح؛ والإيمانُ في أركانِه استكناهٌ لحقيقة الدينِ بالجوانح. الإسلامُ في خماسيته أشكالٌ وأفعالٌ، والإيمان في شرائطهِ تصديقٌ وصدقٌ ومصداقُ أحوال. الأوَّلُ رياضةٌ وترويض للجَسَد، فيما الثاني أَثَرُ أو صدى أو ظِلُّ تلك الرياضة في الرُّوح، ليصير الأمرُ في لحظة متقدمةٍ تفاعليا، فتُثمِرَ أيضاً عباداتُ الجوارح أثراً وصدىً وظلاًّ  في أسفار و سبحات الروح، ولترتقيَ العلاقة إلى التحايث بين الحس والمعنى؛ بين التمظهر والتجوهر، بين رشقة الجسد ونشقة الروح.

-2-

الحبُّ هو كيمياءُ الإيمانِ؛ إنه رَحِيقُ الإخلاصِ وحقيقةُ حقائقِ كلِّ نُسُك. فلا حياةَ روحية للدِّين مسلوباً من قوتِ القلوب؛ ولا معنى للمعنى إن استحالت العباداتُ مواقيتَ تجَمْهُرٍ لا تَوجُّه، لحظاتِ رياءٍ لا قَنَصَاتِ صفاء؛ فتراتِ رتابة لا سنحات غرابة. الحبُّ يُجدِّد في المؤمن غُربته وغَرابته و”طوبى للغرباء” كما قال صلى الله عليه وسلم؛ المؤمنُ غريبٌ لأنَّه في تجَدُّدٍ دائم، وكلُّ جديدٍ غريبٌ؛ و المؤمنُ غريبٌ أيضاً لأنه يُعانقُ كلَّ آنٍ معنىً غيرَ أليفٍ من معاني القُربِ مِن محبوبه، إذ لا رتابةَ ولا تكرارَ ولا نهايةَ، بل اكتشافٌ في اكتشافٍ، وغَرقٌ في غرقٍ، وسَفرٌ في سفَرٍ إلى حيث لا حيثُ، ومَخْرٌ لبحار من الأسرار لا شطَّ لها ولا ساحل؛ أسرارٍ من قوت “الآنِ” التي ذاقَ مددَها المحمدي سيدُنا عُمَر لما قال لرسول الله صلى الله عليه و سلم: «أنت أحَبُّ إلي من كل شيء إلا من نفسي، قالصلى الله عليه و سلم: والذي نفسي بيده حتى أكون أحبَّ إليكَ من نفسك، فقال عمر: فإنه “الآن” لأنت أحبُّ إلى من نفسي، فقال: “الآن يا عمر“»(أخرجه البخاري في “صحيحه”)

-3-

 قال الجنيد سمعتُ السَّري السَّقطي يقول: “لا تصلُح المحبةُ بين اثنينِ حتى يقول الواحدُ للآخر يا أنا”، “أنا ليلى” هكذا تكلمَ قيسٌ. “أنا” و”الآن” دالاَّن عميقان وفائضان بالإشارة إلى ما لا ينقالُ من مَذَاقاتِ الحبِّ. أن يقول المُحِبُّ لمحبوبهِ “يا أنا”؛ تشير، فيما تشير، إلى الفناءِ والذوبانِ و التتيُّم والتوهان. فلا رسومَ تبقى للمُحبِّ ولا حدودَ في حضرة حُبِّه وحِبِّه. ليستِ “الأنَا” هنا مجرد تماه وتذاوت، بل  هي ذاك التجوهرُ الذي يحفظُ داخلَهُ مسافةً بين “الأنا” و”أناها”؛ مسافةً هي مناطُ اكتشافٍ لا نهائي تُسافر فيه وعبرَهُ “الأنا” في أسرارِ وغياهبِ “أناها” بلا حدٍّ أو قيدٍ أو كمٍّ أو كيف. لذائذُ اكتشاف دائمِ التجدد. لذا كانَ النداء بأداة النداءِ للبعيد “يا”، وبِه تتوسلُ “الأنا” و تنحو نحوَ استدرار المعاني اللانهائية لـ”أناها”؛ تلك التي تتيحها مَذاقات “الآن” العُمَرية، حيث “الأنا” تنادي “أناها” الساكنِ في سرِّها العصيِّ عنِ القول والحدِّ والاستنفاد.

-4-

للغة القهْرُ في حضرةِ الحُبِّ. إنه مقام الصَّعق بين الصمتِ والصوت، بين الكتمانِ والإعلان، بين الحَجْب والكشفِ، بين التخفِّي والتجلِّي، المُحِبُّ دوماً يَغْبنُه الحرْفُ؛ يَعِد ويُخلِف؛ ويتعهَّدُ ويخونُ؛ والحرْفُ في غَبنِه وإخلافِه وخيانتِه صادقٌ، ذاك مبلغُه من البوحِ. يغرِفُ من ذاكرةِ الكلام ما ألِفَ الكلامُ به قولَ الوجْد؛ ويخونُه نهرُ الوجدِ لأنَّ الغرابةَ مجراهُ… ذاكَ الذي يجري ولا يُنبى عن وجهةِ المجرى، لأنه يجري على غير هواه. المعنى العِشقِي نهريٌّ، فيما الحرفُ كُوبٌ؛ وأَنَّى للكوبِ أن يسعَ المجرَى، أو يسقي الظمآنَ من عينِ الماء مَرتين. تُرابِطُ اللغة على ضِفَّة النهرِ، تُراود المجرى أن يحكيَ سيرتَه، معناه العشقيّ فتظفَر منه بالرشاشِ وسمسمات الرذاذ، فيما المعنى هاربٌ، والصفاءُ دَبيبٌ، والتَّوقُ دائمُ الالتهاب.

-5-

يُطَالِبُ المُحِبُّ بمهْرِ حُبه، ويُبادَرُ بأن ليس في هذا المهرِ مُساومة أو مفاوضةٌ أو مراجعةٌ، بل هو مُقامرَة بما يَملك وما لا يَملك. يُصابُ المُحِبُّ ببهاءِ الحيرةِ ودهشتِها السريةِ بينَ نفحاتِ الجمال و نشقات الجلال، فيطرحُ روحَه على مائدةِ الرَّهَان، مُستصْغِرًا هديَّتهُ، مُحتقِرا هَديَهُ، إذ الهدِيةُ على مقدارِ مُهديهَا، وهديُهُ هَدْيُ الفقراءِ، مُعلناً بوجوده و وجده و وجدانهِ أن لا مَهرَ غالٍ في حضرةِ المحبوب، فالكلُّ له ومنهُ معهُ وعنهُ وإليهِ؛ “يُحبُّهمْ ويُحبونهُ”؛ و“الذين آمَنُوا أشدُّ حباًّ لله“؛ إما الموتُ في المحبوب أو الموتُ دونَه. إنه الاستغراق في “الأنا” ومعانقة سرِّ معنى “الآن” إذ “علامةُ حبِّ اللهِ حبُّ حبيبهِ”، ذاك ما التقطَه بِلالٌ صاحبِ الصوتِ النديِّ من خلةِ النبيِّ، وهو يُطلقُ آهةَ الفرحِ في أوجه سَكَرات الموت: “و افرحتاه غداً  ألقى الأحبةَ محمدًا وصحبَه”. إنها المحبَّةُ التي بِسحرها يُستَعذَب العذابُ ويحلو المُرُّ، ويُستلَذُّ الموتُ. كيمياءُ سعادةٍ بلا مُعادل؛ لذا كانَ كلّ سبيل عذبٌ من أجلِها و لو كان فيهِ تقطيعُ الأوصالِ:

      إذا جاد أقوامٌ بمالٍ رأيتَهُم — يجودونَ بالأرواحِ منهُم بلا بُخلِ

و إن هُدِّدوا بالهجرِ ماتُوا مخافةً — وإن أوعِدوا بالقتلِ حنُّوا إلى القتلِ

ذاكَ ما فاض عن سلطان العاشقين عمر بن الفارض في أقصى لحظاتِ الوجدِ: أهلا بالموتِ وبُعداً للفراق. إنه لسانُ حال المَحَبَّةِ..تلكَ الوشيجةُ الروحية التي يظفَرُ بها المؤمِنُ الحقُّ فيَنعمُ بمذاقاتها الإحسانيةِ ويَتبلل بقطرة من يمِّ أسرارهاَ الذي لا شطَّ لهُ ولا ساحِل.

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!