التصوّف هنا والآن

التصوّف هنا والآن

التصوّف هنا والآن

  في الحاجة إلى روحانية متحرّكة

الهذيلي منصر

جامعي وباحث – تونس

 

ليس الغرض من هذه الورقة النظر في التصوّف وإنّما النظر في العلاقة به والحاجة إليه إذ النظر في هذه العلاقة بالتصوّف عامّة من دون تحديد للزمان وللمكان قد يعيد إلى المربّع الأوّل، ونقصد بذلك موضوع النّظر في التصوّف. وإذ نؤكّد على ضرورة الإبتعاد عن البحث النظري فلسببين رئيسيين. الأوّل لأنّنا لن نضيف إلى الأبحاث حول التصوّف، وهي بكلّ المقاييس ليست قليلة، جديدا يعتدّ به. أمّا ثاني الأسباب فحرصنا أن يحضر التصوّف بين النّاس في زمن متأزّم يحتاج أكثر ممّا سبق تجديدا معنويا روحيا. يعوّل كثيرا على التصوّف وهو التعبيرة من تعبيرات الإسلام ليُعيد بعض التوازن إلى منظومة الإسلام المُستهدفة بعنف ما يحوّلها في كثير من المواطن والسّياقات منظومة قسوة وشدّة ومنظومة عنف منفّر.

عالم المسلمين يحتاج التصوّف أملاً في صحوة أخلاقية روحية والعالم الأوسع، يحتاج التصوّف إنقاذا للمعنى وإنعاشا للقداسة أو المقدّس. وليس خافيا على أحدّ عجز المُنتصرين للتصوّف والمتحمّسين لدوره وفعله المرجوّ أنّ التصوّف يعجز عن تلبية الحاجتين. فهو مع الأسف هامش من هامش. هو هامش في العالم الذي ينتسبُ إليه والعالم الذي ينتسب إليه كان ولا يزال هامشا. هل يتعلّق الأمر أو هل السّبب مرتبط بجدارة التصوّف العقائدية والنظرية؟ لا، السّبب منهجي تواصُلي، على الأقلّ كما نفهم ونقارب هنا.

 

 ماذا نقصد بـ”هنا”؟

نقصد مجتمعات المسلمين بالكلّية وبالتفريق، ونقصد عالمًا أوسع صار متابعا لأمر المسلمين ولقضايا الإسلام ومتوجّسا من مآلات مخاض فكري ثقافي ونفسي إجتماعي معقّد مركزه الإسلام. علينا دراسة موقع التصوّف من كل هذا إن ثبت أنّ له موقعا والتثبّت من طبيعة هذا التصوّف فليست تعبيراته واحدة وليس حضوره إلى كلّ الساحات حضورًا متجانسا.

وماذا نقصد بـ”الآن”؟

نقصد تجنّب السقوط في عرض لتاريخ تصوّف قد لا ينفع رغم أنّ التصوّف يقوم جوهريا، عبر رمزية السلسلة، على الثبات والاستمرار والتوريث. الحديث عن “الهنا والآن” من الضبط المنهجي ولكنّه أيضا من البحث عن الحلول والاستجابة للانتظارات.

يلاحظ المتابع للأنشطة الصوفية إقبالاً على التصوّف في أوساط أروبية وغربية مثقّفة، بل إنّ المرء يكتشف أنّ الأمر يتعلّق في سياقات عديدة بأوساط متينة الثقافة والتكوين العلمي الأكاديمي. هناك مفكّرون غربيون مرموقون طرقوا باب التصوّف خلال العقود الماضية. ومن الطبيعي والمنتظر أن يسأل المسلم عن سرّ تعلّقهم بالتصوّف وزهدهم في ما يقدّم لهم إسلاما نمطيا أرثودوكسيا.

 والمتتبع لسير بعضهم يكتشف أنّ ما حرّكهم نحو التصوّف عطشُهم للمعنى وسؤالهم عن الروح. ليس الحديث هنا عن شرائح واسعة تتفاعل مع التيّارات الدعوية الإسلامية المعروفة وإنّما الحديث عن نخب وعن طلائعيين، وهؤلاء لا تذهب بهم إلى الإسلام أو غيره موجات التبشير أو الأسلمة وإنّما المحرّك لهم أسئلة وجودية وفلسفية عميقة،  يقولون إنّ التصوّف الإسلامي يجيب عنها بإقناع نادر. هذا المعطى هامّ جدا ويكشف أنّ ما يبنيه التصوّف منهجا في التعرّف على الإسلام ورؤى ومفاهيمًا مقنع لفئة لا تقتنع بسهولة وهي فئة لا ينقصها الإطّلاع على الأفكار وعلى المفاهيم ولا على تعقيدها وتاريخها.

نعم، إنّ التصوّف هو الذي تخصّص تاريخيا في الجوانب الجوانية المعنوية والرمزية للإسلام. وهذه جوانب هامّة بل إنّها أساسية مركزية وعليها يقوم كلّ بناء الإسلام. وبقطع النّظر عن أداء دوائر وطبقات الصوفية ونجاحها من عدمه في الاضطلاع بهذه المهمّة والأمانة فإنّ الواقع أنّ الباطن وملحقاته تثبّت اهتماما ومناطا صوفيا، ومعلوم أنّ التصوّف يُتّهم بالباطنية وكأنّ الباطنية تهمة.

هي صارت كذلك فعلا من فرط الظاهرية ومن فرط سيطرة وهيمنة المناحي الفقهية على المنظومة الإسلامية. هذه السيطرة للفقه تُفهم في العلاقة بتحوّل الإسلام إلى منظومة إجتماع بشري وهذا الإجتماع البشري يطلُب بدوره أقساطًا من الحدّية الفقهية ويُشجّع نحو تحوّل الدين إلى منتج أحكام وبالتالي إلى إيديولوجيا سلطان. يطلب الفقيه من السلطان المُسلم إقامة الأحكام ويطلُب السلطان من الفقيه أحكاما يقيمها بسلطانه ويقيم سلطانه بها. ولا عيب ولا خلل أن يكون هذا الأمر فهذا مطلوب ولكن الإسلام لا يختزلُ في هذا ولقد اختُزل في هذا مع كلّ أسف.

إنّ شيوع مصطلح الشريعة في الأدبيات الفقهية والسلطانية وصولا، الآن، إلى ما تجتهد فيه حركات الإسلام السياسي يعكِسُ إختزالا خطيرا حوّل الإسلام إلى مشروع حكم والأصل أنّه مشروع ذكاء ينبثق عنه، في مستوى من المستويات ومن دون أن يطغى ذلك المستوى،  مشروع حكم وتنظيم مُجتمع.

ينسى البعض ويتناسى البعض الآخر أنّ الإسلام بدأ مشروعا روحيا وتطوّر إلى مشروع مجتمع وسلطان وأنّ نجاح تجربة المجتمع السياسية لم تكن إلا ثمرة نجاح التجربة الروحية لجماعة أفراد أولى إجتمعت حول رسول هو في الأصل والبدء ظاهرة روحية مُعجزة لا تُفسّر بمفردات الفكر ولا بمفردات السياسة والسّلطان.

ولم يفصّل هذا الرسول كثيرا بحضرة صحبة منتجبة في المُجتمعات وتنظيمها ولا في الحكم وشكله. كان هذا الرسول قطبا روحيا جاذبا وكان مُذكِّرًا وكان محرّكا لبواطن سكنت طويلا وكان منعشا لقلوب تستعيد لتوّها خفقانها الأصيل وكان محدّثا بتفصيل عن إلاه لا تراه العين ولكنّه أصل العين وكلّ ما تراه ولا تراه.

هذه الوظيفة إستثنائية لا تقارن، إلا ظلمًا وتعدّيا، بوظيفة الملك أو الأمير أو قائد الجند أو الفيلسوف أو الكاهن. إنّها وظيفة إحيائية روحية مفجّرة لإنسانية الإنسان ومشكّلة له تشكيلا جديدا. وطبيعي جدًّا أن نرى هذا الإنسان المُشكّل جديدًا وقد أعاد كلّ ما حوله التشكّل ليصادفه ويلائمه. هنا إنسان مختلف كيانيا وجوهريا ومن المنتظر أن يصبح فياضا بالإختلاف قريبا منه وأبعد. يكون مختلفا إذا باع واشترى وإذا تزوج النساء وإذا ربّى الأبناء وإذا ضرب في البيداء وإذا لاقى الأعداء. لا تعني أشكال التنظّم الإجتماعي والسياسي الإسلامي المنصوص عليها في القرآن والسير شيئا من دون حضور هذا المختلف فهو مناط هذه الأشكال وهو ضمانتها. إذا غاب تغيب وإن حضرت فشكلا مخيّبا لا ينفع ولا يفيد.

ليس الإسلام عقيما، بل إنّه، ومطلقا، فحلٌ ولاّد. ولكنّ هذا لا يمنعنا من الإقرار، بكثير من المرارة، أنّ المُسلمين من عقم إلى عقم بل إنّ يومياتهم العسيرة بسبب ما يتخبّطون فيه توشك أن تأخذهم إلى بعض المتاحف. كيف لا وشرائح منهم تتوسّع يوما بعد يوم تبشرنا بالتوحّش وسيلة ومقصدًا. إنّ شيوع العنفية المنسوبة زورًا ودجلاً إلى الإسلام يكشف فراغا معنويا مهولا ودينصورية سلطانية مرعبة. لنكن صرحاء ونعترف أنّ هذا المآل في جوانب عديدة منه إنّما هو متوّج لمسار بطيء حكم أن تضمُر حدّ التلاشي الأبعاد المعنوية الروحية وأن تتغوّل الأبعاد المتّصلة بالحكم والتحكّم في المجتمع.

إنّ سعي مجموعات عنيفة لم يفوّضها أحد للسيطرة على كيلومترات معدودة ومن ثمّة إعلان إمارة إسلامية وتطبيق أحكام الله قسرا، جلدا ورجما وبتر أطراف، معبّر بجلاء فاضح عن أزمة عقل وقصور في التعرّف على الإسلام ومأزق تواصلي. لقد نسينا تماما أو نكاد أنّ الرسول أتى العالمين بكتاب وترسّخت صورة السّيف المزيّن لأعلام دول وأحزاب وحتى عندما يجمع بعضهم السيف والكتاب فللإيحاء والتلميح أنّ الكتاب آخذ بجماعته إلى السيف أو أنّ الكتاب في جوهره سيف. لا، الكتاب حضر في جزيرة العرب نافيا لسيف القبلية والعصبيات موحّدًا وبانيا لمشتركات عظيمة لا يستقيم من دونها عمران عدلٍ ونماء.

حصل ولا شكّ في تاريخ المسلمين ومنه إلى تراثهم الديني إنزياح خطير من المضمون إلي الشكل ومن المعنوية إلى الحسّية ومن القرآن إلى السلطان ومن الحقيقة إلى الشريعة وللتلخيص أكثر يمكن القول أنّ الإنزياح حوّل الكتاب سيفا والحرف حديدا. وللنورسي رحمه الله فصل من رسائل النور يفصّل فيه ما آلت إليه الأمور من تقابل وتضادّ بين القرآن والسّلطان والعودة لتفصيل النورسي مفيدة لمزيد من التفكير في هذا الأمر.

هل تعود المسؤولية في هذا إلى سلاطين المسلمين أو إلى العلماء؟

 الأغلب أنّ المسؤولية مشتركة وأنّ الإنزياح حصل بالتدريج والتراكم. إنّ ابتعادًا طفيفا عن الأصل يورّث بعد قرون بُعدًا كاملا. بل إنّه يمكن رصد مواقف تاريخية إسلامية عديدة كان الإنحراف بمحطّاتها جليًا. لم يحصُل تحريف في الإسلام إذا كان القصدُ بالتحريف عبثا بالحروف. أمّا إذا قلنا أنّ التحريف يكون أيضا عند تحويل الوجهة والمقصد والتصرّف في المعاني المركزية والمؤسّسة فإنّ التحريف حصل بيننا وعندنا في محطّات متلاحقة ونتائجها ما نشهدُ ونعاين اليوم.

كيف تمثّل المُسلمون الذين لم يشهدوا الرسول هذا الرسول؟ كيف عرّفوا وفهموا الظاهرة المحمدية؟ البعض رأى فيه قائدا سياسيا قادرا على إقامة المجتمعات وضبط حركتها وقد كان الرسول في بعض منه أو جانب أو جزء منه ذلك القائد السياسي. البعض رأى فيه عسكريا مقداما صاحب سيف بتارٍ والبعض رأى فيه مفكرا وعالما عبقريا والبعض زهد في الرسول أكثر واعتبر أنّه ليس أكثر من ساعي بريد إنتهت مهمّته باكتمال الوحي.

هذه التمثّلات مفيدة لجهة فهم الذي حصل. والذي حصل إنّما هو اختزال خطير في مستوى الوعي بالظاهرة المحمّدية، اختزالها بما سبّب تثبيتا للظاهرة في تجلٍّ من تجلّياتها المتعدّدة والمتعاضدة وتجميدا لها في بعد من أبعادها المتناسقة. كان الرسول كلّ هذه الأشياء التي ذكرنا وأكثر ولكنّه كان في جوهريته ظاهرة روحية معجزة وخلقا إستثنائيا فريدا وهذه الجوهرية هي التي أمدّت آدائه وحضوره سياسيا وعسكريا وعالمًا ومربّيا ومتواصلا مع الآخرين وأبا وزعيما لأمّة. الجوهرية هي أهمّ ما نقل لغيره من الصادقين المحيطين. الرسول هو من يحوّل طين الإنسان ذهبا كما يحبّ محمد إقبال أن يصف علاقته بالرومي وهو الذي يفعل في مستوى الباطن العميق فيكون خلقًا أخّاذًا من بعد خلق معمّم وعادي، هو مجدّد النفخة الإلاهية وهو المذكّر بأوّل العهود، هو إمتداد رحيم لـ(ألست) بعد أن طال على الإنسان الأمد.

لقد مثّل غياب الرسول حدثا أليما وجرحا غائرا لا زلنا نعاني منه. هو من أكمل الله به الدين وأتمّ به النعمة وأنجز به القرآن رسالة محفوظة ولكنّ محمّد هو القرآن إذ يمشي على الأرض وهو معلّم كيف يكون بالقرآن مشي على الأرض وحول المشية وما يلزم لها وكيف تكون كان الخلاف من بعده ويتواصل. حصل من هذا مع كلّ الأنساق الفكرية والعقائدية الكبرى عبر التاريخ. بعد الجيل البادي والمؤسّس يتيه خلفٌ كثير. بعد الآباء الحكماء تفقد الذريات توازنها وتضيع.

لم يكن الخليفة خليفة للرسول في جوهريّته وإنّما كان خليفة في دوره وفي شكليّته السياسية ولم يكن قائد الجيش الفاتح خليفة للرسول في جوهريته وإنّما، وبكثير من الهشاشة والخبط، خليفة في دور عسكري. ولم يكن الفقيه ومفسّر القرآن والعالم والقاضي والواعظ المربّي خلفاء للرسول إلا بمستوى الجزء الطفيف وفي أدوار متباعدة حُرمت الجوهرية المحمّدية وتسرّبت إليها الأهواء بأقدار مفزعة في كثير من الأحيان.

هذا السياق هو الذي أنتج السؤال الباطني الصوفي. وهو سؤال مزعج إلى حدّ بعيد لأنّه مزلزل لما بدأ في التبلور من مسلّمات فقهية وهيئات مجتمعية سياسية وهرمية. إذ سؤال التصوّف هو سؤال الوراثة المحمّدية فوريث الرسول حقا إنّما هو وريث جوهريته وقد عرف تاريخ المُسلمين السياسي تنصيب من هم أقرب إلى كسرى وقيصر ولقد تمّ من هذا التنصيب بحضرة علماء وفقهاء أقرّهم المنصّبون ورثة للعلم المحمّدي. والواقع أنّ المنصَّبين والمنصّبين كانوا خالين ومحرومين من كلّ محمّدية ولو بنسب متواضعة. لقد بدأ عصر الشكلانية الإسلامية، شكلانية مثّل التصوّف لحظة احتجاج متأخّرة عليها فقد صار لها وبسرعة حماتها القساة العتاة والذين تفنّنوا في إزدراء التصوّف وقبر أسئلته بالجملة بطوفان من الأحكام الجاهزة، المُحتقرة تارة والمكفّرة تارة أخرى. نعم، إنّ التصوّف، مشتقّ الصوف والصفاء، صارا مشوّشا على النظام كما شرع في التشكّل بعد الرسول ومكدرا لصفاء ذهني بدأ الإشتغال عليه ليتّصلَ ويدوم.

 قد يستقيم القولُ بأنّه لم يكن بالإمكان أحسن ممّا كان ولكن ما كان لم يكن مثاليا بأيّ حالٍ من الأحوال ومن الخلل اعتباره وإخراجه، جيلا بعد جيل، قدوة ذهنية وسلوكية. التصوّف اهتدى إلى أسئلة حيوية بقطع النظر عمّا اقترح وصاغ من أجوبة فقد نرفض هذه الأجوبة كلّا أو جزءا  وقد يهتدي العقل إلى أسئلة موفٌقة إلى أبعد الحدود ويفشلُ فشلا ذريعا إن هو رام الإجابة عنها.

والذين رفضوا التصوّف بداية رفضوه سؤالا قبل رفضه جوابا أو حلّا. والذين رفضوا أولى التعبيرات الصوفية حكموا على المتصوفة بالهامشية والإنزواء. كثيرا ما نتمثّل المتصوّفة مبتعدين عن الجماعة وهذا في قسطٍ منه صحيح ولكن المتصوّفة لاحظوا وفهموا أنّ الجماعة الجوهرية المحمّدية غابت أو تكاد سنوات قليلة بعد انتقال الرسول وأنّ المساجد تحوّلت حلبات صراع فيها من التلاعن ومن شحذ السيوف. قد لا تكون الزاوية الصوفية حلا ولكنّ المسجد لحظة ظهور الزاوية مثّل مشكلا ومن غير المفيد القفز على هذا المشكل بالتركيز على مُشكِلٍ مثّلته أو سبّبته الزاوية.

الاختلافات بدأت بعد وفاة الرسول الذي مثّل مركز اجتماع المسلمين. وهذه الاختلافات بدأت بسبب وفاة الرّسول. بدأت جنينية وصامتة ولكنّها بعد حين خرجت للعلن وهذه الاختلافات كانت في جوهرها تأويلية فكلّ أوّل الرسول بطريقته وكلّ حدّد له خليفة له انطلاقا من اجتهاده في تحديد ماهية الرسول وخاصّياته ودوره.

انتصرت طائفة لعلي الولي الراسخ في العلم، انتصرت له وريثا شرعيا للنبي وعدّت من رضوا بغيره خليفة للرسول متعدّين معتدين فالولي هو الامتداد الروحي للرسول وهو المكمّل لرسالته ولا يستقيم اجتماع محمود للمُسلمين إلا بحضور ولي وريث للرسول. ولقد أقام التشيّع منظومة علمية وفقهية وطقوسية على هذه الأسس وتطوّرت هذه المنظومة عبر القرون إلى ما هو ماثلٌ اليوم. انتصرت طائفة أخرى للخلفاء قادة سياسيين للمُسلمين ومنظّمين لآجتماعهم فالرسول كان وليًّا للأمر مطاعا وخلفاءه في هذا الدور هم خلفاء أصيلون له. ولأنّ حكم الخليفة الثاني طال مقارنة بسابقه ولاحقه فإنّ صورة الخليفة العادل وريثا للنبيّ تشكّلت زمن عمر وشكّلت نمطا ومرجعًا. هذه الطائفة ركّزت على المزايا السياسية والتنظيمية والإدارية لوريث أو خليفة النبي. هذه الطائفة  سعت هي أيضا في بناء منظومة علمية وفقهية ونسق حجاج موائم لصورة الخليفة وهذه الأخيرة ليست واقعا إلا رجعًا لتمثّلات النبي.

مرّ التصوّف هو أيضا بذات المفترق وهو وإن كان ينتسبُ إلى الطائفة الثانية، أهل السنّة، لم يكن ليطمئن وقد تحوّل مركز إجتماع المسلمين ومحور أنشطتهم ملكا وأميرا وبعد حين طاغية وجبّارًا. مقولة أنّ الحاكم إنّما هو خليفة الرسول ما عادت تنطلي وما عادت تجذب كثيرًا. قد يُقنعُ هذا النموذج بحضرة أسماء عاشت مع الرسول واقتبست منه بأقدار محترمة أمّا الجيل الأموي ومن بعده العبّاسي فلم يكن بالإمكان إلتماس الأعذار لهما وآعتبار أنّهما إمتداد للرسول. ولكن الصوفية لم ينقدوا الأوضاع التي شهدوها إنخراطا في السياسة وأمر المجتمع كما فعل وأتى الشيعة المناصرين لإمامة آل البيت.

ما كان هذا اهتمام الصوفية وإنّما اهتمامهم تركّز على المسألة الجوهرية الروحية. كان بحثهم عن وارث السرّ المحمّدي والمؤتمن على المعنوية المحمّدية الصافية وهذا السرّ لا علاقة له بالسّلطان فالمبحوث عنه حاملا لهذا السرّ قد يكون بسياق بعيدٍ كلّ البعد عن دوائر السياسة وعن دوائر علوم الظاهر والشريعة المتداولة.

وعلى هذه المنطلقات وبها بنى التصوّف منظومة فكرية وفلسفية واعتمد روايات واستدلّ بسيرٍ ونشّط تأويل نصوص القرآن والأحاديث. وبقطع النّظر من الموقف منها فإنّ هذه المنظومة واقع تمتّن خلال قرون طويلة. وأسهمت أقلام جبارة وعقول مقتدرة في عضده وتعميقه.

إنّ المطّلع على مثنوي جلال الدين الرومي وعلى جانب ممّا ألّف الغزالي ومحمّد إقبال الأقرب منا يُدرك أنّ التصوّف ليس من اللهو وأنّ ما نجح في إثارته من أسئلة جدير بالاهتمام وأكثر. ولكنّ المشكلة ليست في مستوى تماسك المنظومات من الداخل بقدر ما هي في الموقف الأوّل منها والذي يسبق النّظر في الدّاخل.

من كان قابلا بالتصوّف يرى تماسك منظومته ويقبل بها ويدافع عنها. كذلك عندما يتعلّق الأمر بمنظومة السنّة أو الشيعة أو المعتزلة إلى غير ذلك من منظومات شاعت وانتشرت. وإذا كانت قدرة على أخذ المسافة فبإمكان المرء أن يخلُصَ إلى أنّ هذه المنظومات ليست باطلا كلا و ليست حقًّا كلا وإنّما تقتبس بتوفيق قد ينقصُ في موضعٍ ويزيد في موضع آخر من ذات المصدر. ولكنّه مصدر قديم ضاعت الصّلة المباشرة به وصرنا لا نتواصلُ معه إلا عبر وسائط الرواة والمفسّرين والمؤرّخين وبين هؤلاء إختلاف ليس بالهيّن ولا البسيط بل إنّه في سياقات حاسمة وكثيرة عظيم. وبمزيد من المسافة، والمسافة في مثل هذا السياق محمودة وخطيرة في ذات الآن، يمكن للمرء أن يفهم أنّ الأمر شبيه بموقع الشجرة من الغابة.

 كلّ منظومة إنّما هي شجرة تعرّف نفسها وتقدّم نفسها من جنس الغابة الإسلامية والمحمّدية الأولى والأصيلة أمّا سواها فأشجار لقيطة لا تمتّ بصلة ولا علاقة لها بالغابة وهكذا يكون التشاجر، أو صراع الأشجار. وكلّ شجرة عندما تقف هذا الموقف تغطّى الغابة. وليت التشاجر بقي في مستوى الأشجار. لا، هو زاد عن ذلك بمراحل وصار شجار أغصان وأوراق. من ذلك تشظي المنظومات فبعد سباب سني شيعي وسباب سني صوفي وسباب أشعري معتزلي صار السباب داخل كلّ منظومة وصولا إلى حالٍ من العبث والعدمية. ليس الصوفية أمّة واحدة ولا السنّة أمّة واحدة ولا الشيعة فالمشيخات والمدارس والمرجعيات تكفّلت بمزيد من تفتيت أضاف إلى ثقوب الإسلام وتوشك أن تمزقه إربا إربا.

كانت المعنوية هي الجامعة والمعنوية ليست شكلا ولا قالبا ولا مؤسّسة. لا هي حالة ذهنية وعقلية وقلبية. هي ليست كمّا يضبطُ ويقاس ويراكم وإنّما كيف لطيف يتخلّل السلوكات ويحكم العلاقات ويحضر، إذا حضر، في كلّ ما نتحرّكُ فيه. هذه المعنوية ضعفت وتهاوت لتحضُر النصّية ويحضر الحجاج وتحضر المؤسّسات والهيئات والمدارس خاوية أو تكاد ومفرغة من المعنوية التي يعود إليها الفضلُ بداية وفي كلّ ما كان. ذكرنا سابقا أنّ المسافة خطيرة وهي كذلك لأنّها مانعة للتماهي والمنظومات، ومن دون إستثناء، تطلب منك التماهي مُطلقًا شرطًا للإعتقاد وتطلب منك مزيدًا كعربون ولاء. هي تطلُب تنصّلا حاسمًا من كلّ ما عداها. في المقابل فإنّ الإيمان بما هو ربطٌ للصّلة بالمعنوية الأولى وعودٌ إلى البدء يفرض عليك تمرينا دائما ومتّصلا على المسافة. هي مسافة ذهنية حيوية لتردع ما طرأ من مسافة فحوّل جنّة محمدية أولى  إنكسار أغصان وتناثرَ أوراق. قد ننجح فرادى في هذا التمرين ولكنّ نجاحنا الإسلامي الجمعي إذا توفّر وكان فإنّه يكون برحمة إلاهية عامّة محيطة أو بجهد عقلي جبّار وبصحوة أخلاقية ضخمة ومن المؤسف الإعتراف بكلّ المرارة أنّنا لا نسير في إتّجاه هذا العقل وهذا الضمير. نحن نسير تماما في الإتجاه المعاكس.

الحاجة إلى التصوّف مترتّبة عن الحاجة إلى هذا العقل وهذا الضمير فهما القادران على إعادة المعنى إلى الإسلام والدخول بالإسلام معنى إلى العالم فهذا العالم يعاني من عطش مفجع إلى المعنى ولا عيب في هذا العالم إن هو بقي متوجّسا من إسلام لا يرى ولا يعاين أنّه ضمانة معنى. بل إنّ الإسلام يبدو لشرائح واسعة من ساكنة العالم خصما للمعنى وضدًا له.

 ولكن أيّ تصوّف وكيف؟ فقد ذكرنا التصوّف الأوّل وليس السّابق كاللاحق والتصوّف الذي مثّل بداية احتجاجا على الشكلية بكلّ تجلّياتها المعنوية والمادّية سقط في الكثير منها. التصوّف هنا استحال مؤسّسة بحجّاب ووزراء ومقرّبين وأهل حلّ وعقد وهناك حضر فلكلورا وشعوذة. هذا يعني أنّ التصوّف ذاته وفي كثير من البيئات والسياقات فقد صلته بالمعنى وصار محتاجا لمعنى قلنا أنّ المعوّلَ على التصوّف لنستردّه ونظفر به بعد طول عناء. قد تكون الروحية الأولى التي انطلق منها التصوّف حاضرة بعدُ ولكنّها واقعا مغمورة فالمشهد الصوفي العامّ يبدو مُثقلا بالغيوم، تتنازعه هو أيضا الولاءات والحسابات والمصالح. بل إنّ المتابع لشأن التصوّف والزائر لكثير من مواقع التصوّف المتقدّمة حشدا وشهرة يفهمُ أنّ اللّحمة الصوفية غائبة، الوعي بأنّ التصوّف واحد وأنّ رسالته معنوية إنقاذية مفقود وفي المقابل تكثُرُ دعاوى القطبية والوراثة المحمّدية ويكثر التعصّب لشيخ بعينه دون غيره وتبجّح بسلسلة صوفية نكاية في أخرى إلى غير ذلك ممّا يجعل الواحد يفرّ من صوفية الزوايا والتكايا إلى كتب التصوّف والمتصوّفة.

كلّ هذا مُحبِط ومستفزّ ويقود إلى شبه قناعة بأنّ التصوّف صار فاقدًا لما كان مُنتظرا منه أن يعطيه إذ فاقد الشيء لا يُعطيه. وإذا كان عطاء فبالكاد لأفرادٍ منفردين غلبت نواياهم وقويت إرادتهم فمن فرطها سُقوا بعض زلالٍ لا يتجاوز شفاههم. ولقد كشفت السنوات القليلة الماضية وعرّت هشاشة الأوساط الصوفية التي أظهرت قابلية مزعجة للإستدراج وللاختراق حتّى صار الواحد يسأل في حقّ بعض وجوه الصوفية المرموقين إن كانوا شيوخا حقًا أو عملاء بوليس ومخابرات.

 ليس مطلوبا من التصوّف الخوض في السّياسة ولا الانخراط فيها في أيّ إتّجاه كان. ليس التصوّف امتدادا للإسلام السياسي ولا الإسلام السياسي امتداد للتصوّف وبعض نكبات الإسلام السياسي من غفلته عن التصوّف ومنهجه المعنوي وعبقريته التواصلية. ولكنّ التصوّف ليس خادما لعسكر ولا لبوليس. معركة التصوّف الحقيقية فوق سياسية وهي كما أكّدنا معركة معنوية وجوهرية وروحية. أمّا وسائلها فأخلاقية وتربوية وتوعوية. صرنا نرى زوايا تهلّل لهذا الحزب أو ذاك أو تلعنُ هذا الحزب أو ذاك. لقد بدأ التصوّف من مأزق السياسة وتجاوزا له فكيف يسقط في ذات المأزق بعد كلّ هذا الميراث؟ يبدو حال التصوّف اليوم، وخصوصا في الدائرة العربية أقرب إلى المفارقة وأهله الصّادقون مطالبون وبإلحاح بسرعة التدارك.

ذكرنا سقوط التصوّف عبر مسار ملتو وطويل في الشكلية وهو الذي مثّل بداية سؤالا جريئا عن الجوهرية الضائعة والمتشضية. وليس صعبا رصدُ هذا السقوط والتعرّف عليه فأحيانا تتجاوز الطقوسية الصوفية كلّ حدّ وتجعل الناظر إلى التصوّف من بعيد وكأنّ القوم يستدعونه إلى عالم مواز ونقيض وهو ما لا يمثّل بكلّ الأحوال حلا ولا يكشف عن ذكاء تواصلي. تجمّد التصوّف أو يكاد في الزاوية وتوابعها الطقوسية وهذا وإن كان يفهمُ ضمن سياقه التاريخي فإنّه ليس جوهريا في التصوّف بل إنّ الجوهري إشاعة المعنى وإشاعة القيم الروحية والإجتهاد بالأخلاق في تغيير العالم، القريب فالأبعد.

إنّ الإنزواء لترصّد الكرامات وتحصيل الأسرار أغراض طارئة لا علاقة لها بالأصول. ومن حقّنا، بما نعلم ممّا يكمن في التصوّف من معاني، أن نأمُل ثورة صوفية تنقُل الروحانية، والتي هي مناط التصوّف، إلى حركية اجتماعية متعدّدة الأبعاد. وبعكس ما يعتقد كثيرون من الحريصين على إحياء الإسلام فإنّ الميراث الصوفي أهمّ بكثير لإنجاز هذا الإحياء من التراث السياسي والفقهي والكلامي. طرأ على التصوّف ما طرأ على غيره من إنحطاط ولكن إذا تأمّلنا جوهر هذه المدرسة العظيمة فإنّنا نزهد في غيرها. هذا إذا وفّق الله وتوفّر بعض الذكاء.

 

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!