دراسات التصوّف المصريّة في تركيا ومكانة أبو العلا عفيفي

دراسات التصوّف المصريّة في تركيا ومكانة أبو العلا عفيفي

دراسات التصوّف المصريّة في تركيا ومكانة أبو العلا عفيفي

 بقلم: منار فرج محمود 

للتصوّف في مصر جذور متأصّلة بداية من القرن الثالث الهجريّ، منذ أن تحدّث ذو النون المصريّ عن الوجد، والسماع، والاذواق واحتفى الصوفيّة بأقواله وقصصه كما يقف عليه كلّ باحث في تاريخ التصوّف الإسلاميّ. ثمّ تلت ذلك مراحل عديدة وصولًا إلى انتشار الطرق الصوفيّة في القرن السابع الهجريّ، حتى شهد القرن الثامن عشر ميلاديًا نقطة تحول في تاريخ التصوّف المصريّ بإنشاء مشيخة الطرق الصوفيّة لتضيف طابعًا رسميًا لتلك الطرق التي ظهرت على أراضيها أو اتخذت منها موطنًا لها.

أما القرن العشرين في مصر فقد شهد ثورة علميّة وبحثيّة في العديد من المجالات، وكانت دراسة التصوّف وليدة ذلك القرن وتطورت معه تلك الدراسات على يد كبار الأساتذة المصريّين. ولا يمكن الاستهانة بتلك الدراسات التي كانت منبعًا زاخرًا لقي رواجًا في العالم العربي عامة وفي تركيا على وجه الخصوص. وسنركز في هذا المقال على العناية بجملة من الدراسات المصريّة لأساتذة القرن العشرين في تركيا حتى يومنا هذا، من خلال حركات الترجمة، ومن ثم تأتي أهمية ومكانة أبي العلا عفيفي في الدراسات التركية عامة وفي مقالنا هذا خاصة.

بدأت دراسة التصوّف كمادة علمية تهتم بتاريخ التصوّف في الجامعات التركيّة أو “دار الفنون” كما كان يطلق على مؤسسات التعليم العالي حينها بإنشاء كلية الدراسات الإسلامية “الإلهيات” في إسطنبول عام 1924م. وكان محمد علي عيني أستاذ الفلسفة في دار الفنون بإسطنبول أول الأساتذة الذين تولوا مهمة تدريس تاريخ التصوّف في كلية الإلهيات، وفي عام 1925م أصدر كتاب بعنوان تاريخ التصوّف. وفي نفس العام أصدر صادق وجداني كتابه طومار الطرق العالية والذي اهتم فيه بحصر الطرق الصوّفية وسلاسلها، أما حسين وصّاف فقد ألف كتابه سفينة الأولياء وقد حوى سيرة أكثر من ألفين متصوّفًا عاشوا في الفترة ما بين القرن الثامن عشر والعشرين ميلاديًا. لكن اول محاولة جادة لكتابة تاريخ التصوف كانت قد سبقت إنشاء كلية الدراسات الإسلامية، حيثُ أصدر فؤاد كوبريلي[1] دراسته عن أحمد يسوي ويونس إمره[2] في كتابه تحت عنوان المتصوفة الأولون في الأدب التركي[3] عام 1919م أي قبل إعلان الجمهورية.

ومن هنا بدأ الاهتمام بدراسات المستشرقين وآرائهم مثل أسين بلآسيوس، ولويس ماسينيون، ورينولد نيكلسون، وهنري كوربن، وآرثر آربري، والتي فتحت الطريق لمعرفة الأسماء المصرية التي تتلمذ البعض منهم على أيديهم. وفي النصف الثاني من القرن العشرين شاعت حركة الترجمة لتلك الدراسات إلى التركية وكانت في طليعة تلك الحركة دراسة الدكتوراه لأبي العلا عفيفي الفلسفة الصوفية لمحيي الدين ابن عربي[4] التي ترجمها محمد داغ إلى التركية ونشرها عام 1975م[5]. ثم تلتها العديد من الدراسات ففي عام 1980م ترجم شريف الدين جولجوق علم الكلام وبعض مشكلاته[6] لأبي الوفا التفتازاني وفي عام 1986م ترجم محمد داميرجي مقدمة كتاب مدخل إلى التصوف الإسلامي[7]. أما في التسعينات من نفس القرن توجهت الأنظار أكثر إلى الدراسات المصرية خاصة لدراسات الشيخ عبد الحليم محمود والتي ترجمت بعض اعماله إلى التركية، فعلى سبيل المثال ترجم سليمان تشاليك دراسته عن أبي الحسن الشاذلي[8] وترجم صالح اوتشان كتابه قضية التصوّف المنقذ من الضلال[9]، كما ترجم بشير أريرصوي له أستاذ السائرين الحارث المحاسبي[10]. أما دراسات علي سامي النشار فقد ترجم الجزء الأول والثاني من كتابه نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام[11] من قبل عثمان تونتش عام 1999م. وفي عام 2002م ترجم مُحرم طان كتاب دور العرب في تكوين الفكر الأوروبي[12] لعبد الرحمن بدوي. وفي أواخر التسعينات وأوائل الألفية الجديدة عادت الأنظار مجددًا لأبي العلا عفيفي، حيثُ حازت دراسته باهتمام خاص من قبل الأساتذة الأتراك والدارسين في كليات الدراسات الإسلامية. فلا يمكن إنكار ما تركه هذا المفكر من أثر على الدراسات الصوفية.

ويعد أكرم داميرلي رئيس قسم التصوّف في كلية الدراسات الإسلامية بجامعة إسطنبول أول من أهتم بشكل جاد بدراسات عفيفي، حيث حمل على عاتقه ترجمة أهم أعماله منها كتابه الثورة الروحية في الإسلام[13] مشاركًا ترجمته مع عبد الله قارتال في عام1996م. وفي عام 2000م ترجم فصوص الحكم والتعليقات عليه[14]ا وتلتها ترجمة لأهم مقالات عفيفي وجمعها في كتاب تحت عنوان مقالات حول الفكر الإسلامي[15]. وعلى الرغم من كل هذا الاهتمام الذي حاز عليه عفيفي إلا أنه لا يوجد دراسة جادة حول أفكاره وأرائه سواء من الجانبين التركي أو المصري بخلاف المقالات التي كُتبت عقب وفاته من قبل الأساتذة المصريين. وفي عام 2018م وبتكليف من أستاذي المشرف الأستاذ الدكتور أرجان ألقان أستاذ التصوّف في كلية الدراسات الإسلامية جامعة مرمرة أصبح أبو العلا عفيفي موضوعي لرسالة الماجيستير[16]. وفيها حاولت دراسة عفيفي من خلال أفكاره عن التصوف عامة وابن العربي خاصة، والوقوف على أوجه الشبه بينه وبين أستاذه رينولد نيكلسون وأوجه الاختلاف بينه وبين معاصريه.

كان أبو العلا عفيفي أستاذ من طراز خاص صاحب أفكار متميزة، نُشرت مقالاته داخل وخارج مصر بالعربية والإنجليزية.. ولا يمكن إغفال الفترة التي عاشها في إنجلترا ومدى تأثّره بأستاذه رينولد نيكلسون الذي ساهم في بلورة النتاج الذهني له. وقد جمع أفكاره عن التصوف المتناثرة في مقالات عديدة نشرها على فترات زمنية متباعدة في أخر اعماله كتاب التصوف الثورة الروحية في الإسلام الذي نُشر عام 1963م. فالتصوّف عنده جزء من ميدان الفلسفة الروحي وللصوفية موقف خاص في المسائل الدينية والعبادية والعقائدية يختلف عن الفقهاء والمتكلمين والفلاسفة، حتى لو اتفقوا في بعض الخصائص العامة في المنزع والمنهج. ولذلك لا يُرجح عفيفي أن نحمل الصواب أو الخطأ/ الكذب أو الصدق في فهم المسائل الدينية وتأويلها طالما هي قائمة على أسس من الكتاب والسنة. فهو يصنف التراث الروحي والعقلي الذي خلفه المسلمون على أساس العمق أو الضحالة في درجة الروحانية التي تجلت في فهمهم للإسلام وتعاليمه. من هنا يرى التصوّف وما فيه من التفسيرات العميقة والروحانية لدين الإسلامي، تشبع العاطفة ويغذي القلب لا تضاهي التفسيرات العقلية الجافة للمتكلمين والفلاسفة. فيصف عفيفي التصوّف بأنه “ثورة” انقلابًا عارمًا على الأوضاع والمفاهيم الإسلامية كما حددها الفقهاء والمتكلمون والفلاسفة. فأبو العلا عفيفي يحلق بالتصوف بعيدًا عن أي قيود فقيه أو فلسفية أو عقائدية، ويعكس أرائه المتحررة المعاصرة في وصفه إياه بأنه “ظاهرة عالمية” يزيل بها الحواجز بين التصوّف الإسلامي والتصوّف غير الإسلامي. فالميراث الصوفي عنده هو ميراث ديني أولا وفلسفي عالمي ثانيًا. وليس من الغريب أن نراه يرفض حصر التجربة الروحية الصوفية على أفراد معينة، بل كل شخص تمثلت فيه النضج الروحي والعقلي يمكنه أن يعيش تجربته الخاصة في سبيل معرفة “الحقيقة” والوصول لها. لذلك لا يفرق عفيفي بين روحانية أهل الديانات الوثنية القديمة وأهل الديانات السماوية في الشرق والغرب في العالم القديم والمتوسط والحديث. فكلها طائفة من الظواهر والتجارب الروحية غير عادية، حتى لو اختلفت في تفاصيلها وأشكلها وصورها، فهي تتفق في جوهرها ونتائجها. كما يبين عفيفي أن المعراج الصوفي هو المعراج الروحي الحقيقي إلى عالم الحقيقة ليس المعراج الفلسفي. ويرى أن التجربة الصوفية أو الحالة التي يعيشها العبد محاولًا الاتصال بربه تختلف كل الاختلاف عن أعمال العقل الواعي، بل هي الإرادة التي تدفعها ضروب من النشاط الروحي والوجداني. ويرجع عفيفي ليؤكد عالمية هذه التجربة الروحية وبما فيها من مراحل كالتوبة التي عاشها الغزالي والتي لا تختلف عن تجربة القديس أوغسطين الذي عكسها في أجمل عبارات شعرية. ولا يفرق أيضًا بين رابعة العدوية والقديسة تيريزا الإسبانية في عمق روحانيتهم وفي صدق التعبير عن تلك التجربة.

أما عن أرائه بخصوص نشأة التصوّف الإسلامي والعوامل التي أثرت فيه، ـ من أهم المواضيع الذي شغلت المستشرقين في القرن العشرين ـ فكان عفيفي له رأي محايد يختلف عنهم وعن معاصريه من الأساتذة المصريين. فهو يتفق مع محمد إقبال أنه من الخطأ أن نُرجع مسألة نشأة التصوّف لعوامل خارجية دون النظر إلى البيئة العقلية والدينية والسياسية والاجتماعية التي نشأ فيها. لذلك لا يرى أن التصوّف في صميمه هندي أو فارسي أو أفلاطوني لمجرد وجود بعض التشابه بينهم، بل يجب أن يؤخذ في عين الاعتبار ما يلي: مسألة التأثير والتأثر مع وجود أدلة للاتصال التاريخي، وألا يُهمل شخصية الفرد وعمله العقلي والروحي، والاعتراف بالمؤثرات الخارجية في صورها العامة لا في تفاصيلها. كما أوضح أن الإسلام لو ظل محصورًا في الجزيرة العربية لظل بلا تصوّف، فالدين الإسلامي مستند لعقيدة توحيد بسيطة يقتنع بها العقل بفطرته، ليس كما في التصوف من نظريات وجودية معقدة التي نتجت عن اتصال الإسلام بالثقافات الأجنبية غير الإسلامية. لذلك يقول ان التصوّف وليد تاريخ الإسلام الديني والسياسي والعقلي والعنصري، موكدًا على التفريق بين الاتصال الذي وقع بين الإسلام والثقافات الأجنبية وبين نتائج هذا الاتصال وما وصل إليه المسلمون في ميدان الفلسفة والتصوّف. أما عن عوامل التي ساعدت على نشأة التصوّف في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري، فيرى عفيفي أن هذه العوامل تختلف عن العوامل التي ساعدت على نشأة الزهد في الإسلام. وقد بين أن عوامل نشأة الزهد في الإسلام أولهما هو الإسلام نفسه وما جاء في كتابه وسنته من تعاليم، ثانيًا: هو ثورة المسلمين الروحية ضد النظام الاجتماعي وسياسي السائد وقتها، ثالثًا: تأثير الرهبان المسيحيين على بعض من الوثنيين العرب منذ الجاهلية، رابعًا: ثورة المسلمين ضد الفقه والكلام. أما عن التصوّف الإسلامي يرى عفيفي أنه جاء ثورة على الدينا ومظاهرها أولًا وعلى الفقه ثانيًا، كما أن له عدة مصادر لولاها لما هيأت الطريق لظهور التصوّف الفلسفي فيما بعد وهما: القرآن والحديث، وعلم الكلام، والأفلاطونية الحديثة، والتصوّف الهندي، والمسيحية. وهنا يقف عفيفي عند علم الكلام ويرى أن الصوفية قد مزجوا نظرياتهم وأساليبهم بنظريات وأساليب المتكلمين من الأشاعرة، والكرامية، والإسماعيلية الباطنية، وغيرهم. كما يتبع أستاذه نيكلسون ويشير أن فكرة وحدة الوجود ترجع أصل نشأتها لفكر كلامي بحت.

تشبُث عفيفي بعالمية التصوّف تنعكس أيضًا على أفكاره حول الطرق تارة وحول فكرة الولاية تارة أخرى، حيثُ إن مصطلح الطرق الصوفية عنده أعم وأشمل لا يقتصر على انتساب الفرد لطريقة صوفية أو شيخ بعينه، بل تحمل معنى فردي أيضًا. كما يوضح “إذ لكل سالك إلى الله حياته الفردية الخاصة وعالمه الروحي الذي كان يعيش فيه وحده.”[17] فنجده يصف أستاذه رينولد نيكلسون في مقدمة كتاب في تاريخ التصوف وتاريخه أنه صوفي شارك الصوفية أحوالهم ومواجيدهم حتى لو لم يعش بين جدران الزوايا والتكايا. وبالتالي فأن الولاية التي بمعنى القرب إلى الله هي تشمل جميع الناس على سواء ولا تُختص بذمره معينة منهم. وبخصوص الذكر يرى عفيفي أنه عمل إيجابي تتجه فيه حيوية الذاكر نحو الاتصال بالمذكور بحيثُ يستغرق فيه بكليته، فهو الحضور الكامل مع الله فرديًا أو جماعيًا. لكنه يقف عند حلقات الذكر في العصر الحديث وينتقد ما يحدث في حفلاتهم بما وصفه بترديد لساني الآلي والحركات البدنية الرتيبة. كما يوضح أن ترديد اسم الله ما هي إلا المرحلة الأولى من مراحل الذكر حتى ينعقد اللسان وينطق القلب وحده ويملأ ذكر الله كل كيانه الروحي وهنا يفنى عن وجوده. كما يؤكد أن الذكر حاله يعجز اللسان عن وصفها وأعظم ما يمكن أن يحدث في حياة الانسان، فهو الطريق المؤدي للفناء في الله.

ومن ناحية أخرى، بذل عفيفي مجهود كبير في دراسة الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي، في وقت كان الجميع سواء مصريين أو مستشرقين يخشوا الاقتراب من هذه الشخصية او يتعاملوا معها بكل حيطة. لذلك يعد أبو العلا عفيفي أول من اقتحم مؤلفات ابن عربي ودرسها دراسة علمية تحليلية في القرن العشرين من خلال دراسة الدكتوراه الفلسفة الصوفية عند محي الدين ابن عربي. ويخبرنا بنفسه عن معاناته في فهم ابن عربي سواء في مقدمة تعليقاته على الفصوص أو في مقاله ابن عربي في دراساتي. كما يذكر أيضًا الانتقادات التي نالته لأنه ترجم ابن عربي كفليسوف صوفي لعب الجانب العقلي دورًا هامًا في بلورت أفكاره. ويوضح أن نتاج قراءته لابن عربي جعلته يتوصل أنه فليسوف صوفيا له فلسفته الخاصة في الوجود، تليق بأن تحظى بمكانة وسط الفلاسفة العالمين كإسبينوزا وهيجل وغيرهم. فكما وضع التصوف الإسلامي ضمن التراث فلسفي العالمي، وجد أن ابن عربي ومذهبه يليق بمستوى العالمية أيضًا. ومن هنا تناول مذهبه في إطار مصطلح ” Pantheism” الغربي، موضحًا أنه قد أخفى مذهبه في طيات فصوص الحكم والفتوحات المكية، مقسمة بين مسائل وجودية، ومعرفية، ونفسية.

 في بداية الأمر خاصة في دراسته لدكتوراه، بجانب أسلوبه الحاد، يشرح ابن عربي بشكل مادي يخلو من الروحانية، ربما بسبب انتشار الوضعية المنطقية إنذاك. حيثُ اخذ على عتقه في هذه الدراسة فهم المؤثرات التي تعرض لها ابن عربي وساعدت في تشكيل ركائز مذهبه، من خلال تحليل مصطلحاته كالوجود المطلق، الوجود الكلي، الوحدة والكثرة، الحق والخلق، التشبيه والتنزيه، السببية، الأعيان الثابتة وغيرها، في ضوء مقارنات بينها وبين تيارات فكرية أخرى أهمها الافلاطونية الحديثة، ورسائل إخوان الصفا، والأشاعرة، ومنصور الحلاج، وغيرهم. ولعل لهذا السبب لم يفضل ترجمة دراسته هذه إلى اللغة العربية طوال حياته. لأننا نشهد فيما بعد تراجع ملحوظ في أسلوبه تجاه ابن عربي بداية من مقدمة تعليقاته على الفصوص ومن ثم في الفصل الذي خصصه له في كتاب التصوف الثورة الروحية في الإسلام حيث أشار قائلًا: ” لم يكن ابن عربي مجرد فليسوف صوفي عنى بالجانب الثيوسوفي من التصوف، بل كان إلى جانب هذا من أرباب المواجد والاذواق، تكلم بلسان الكشف والإشراق كما تكلم بلسان العقل، فجمع بين القول بوحدة الوجود والقول بوحدة الشهود.” إلا أنه ظل متمسكًا برأيه أن ابن عربي هو أول من أرسى مذهب كاملًا في وحدة الوجود، ولكنه هذه المرة يزيل الشكوك حول ماديته، مؤكدًا أنه الأقرب إلى روح الإسلام. بل كما يصف من ينكر قول ابن عربي بوحدة الوجود بالجهالة والمكابرة. حيثُ يوضح أن ابن عربي وضع الصورة النهائية من مذهبه في “فصوص الحكم” الذي يعده كتاب في الفلسفة الإلهية الممتزجة بالتصوف. أما مصطلحاته فقد استسقاها من مصادر عديدة كالقرآن والحديث، وعلم الكلام والفلسفة المشائية، والفلسفة الأفلاطونية الحديثة، والغنوصية، والمسيحية، والرواقية، بالإضافة إلى المصطلحات التي انتفع بها من الإسماعيلية الباطنية والقرامطة، وإخوان الصفا بجانب متصوفة الإسلام مثل بايزيد البسطامي، وجنيد البغدادي، ومنصور الحلاج. لذلك تختلف تعليقاته على الفصوص عن أي شارح أخر لان هدفه الأساسي منها هو إظهار أركان مذهب ابن عربي في كل فص ليؤكد نظريته في قوله بوحدة الوجود.

 ويلخص عفيفي مذهب ابن عربي أو كما يطلق عليه “القضية الكبرى” في تلك السطور: “الحقيقة الوجودية واحدة في جوهرها وذاتها متكثرة بصفاتها وأسمائها لا تعدد فيها الا بالاعتبارات والنسب والاضافات. وهي قديمة أزلية أبدية لا تتغير وإن تغيرت الصور الوجودية التي تظهر فيها. فهي بحر الوجود الزاخر الذي لا ساحل له، وليس الوجود المدرك المحسوس إلا أمواج ذلك البحر الظاهرة فوق سطحه. فإذا نظرت إليها من حيث ذاتها قلت هي (الحق)، وإذا نظرت إليها من حيثُ صفاتها وأسمائها: أي من حيثُ ظهورها في أعيان الممكنات قلت هي (الخلق) أو العالم. فهي الحق والخلق، والواحد والكثير، والقديم والحادث، والأول والآخر، والظاهر والباطن، وغير ذلك من المتناقضات التي يحلو للمؤلف أن يكثر من تردادها. وهذا هو المذهب هو المذهب المعروف بوحدة الوجود”.[18]

وفي مجمل القول، وصلت أصداء دراسات التصوّف المصرية إلى تركيا في النصف الثاني من القرن العشرين. وعلى الرغم من انتشار العديد من أسماء الأساتذة المصريين وترجمة البعض من أعمالهم مثل: عبد الرحمن بدوي، عبد الحليم محمود، أبو الوفا التفتازاني، علي سامي النشار وغيرهما. إلا إن المكانة التي حظي بها عفيفي لا تقارن بغيره، وهذا يرجع لأسباب عديدة أولهما: لأنه أول من اهتم بدراسة محيي الدين ابن عربي بشكل أكاديمي، ووقف على مصادر أرائه مستخدمًا المنهج المقارن. كما ساهمت تعليقاته على الفصوص في تبسيط أفكار ابن عربي على الدراسين. بالإضافة إلى النظرة المعاصرة التي أضفها على دراسة التصوف التي وضعته في مكانة مختلفة بين معاصريه. فالتصوّف وابن عربي عنده جزء لا يتجزأ من التراث الفلسفي العالمي. وعلى الرغم من السنوات التي قضاها في إنجلترا وتأثره بفكر المستشرقين إلا أن الأربعينات من القرن العشرين كانت نقطة تحول في حياته، حيثُ نشهد تحول في أسلوب كتاباته اتجاه دراسة التصوّف عامة وابن عربي خاصة. ويمكننا القول بإن أبو العلا عفيفي عاش تجربته الصوفية الخاصة التي ظل يحدثنا عنها في كتابه الأخير التصوف الثورة الروحية في الإسلام.

 

 

المراجع والمصادر

أبو العلا عفيفي، من أين استقى محي الدين ابن عربي فلسفته الصوفية، مجلة كلية الآداب القاهرة، مجلد: 1، ص: 3-45، 1933.

أبو العلا عفيفي، فصوص الحكم والتعليقات عليها، دار إحياء الكتب العربية، 1947.

أبو العلا عفيفي، ابن عربي في دراساتي، الكتاب التذكاري: محي الدين ابن عربي، دار الكتاب العربي، ص: 5-33، 1969.

أبو العلا عفيفي، الفلسفة الصوفية عند محي الدين ابن عربي، ترجمة: مصطفى لبيب عبد الغني، المركز القومي للترجمة، 2009.

أبو العلا عفيفي، التصوف الثورة الروحية في الإسلام، أقلام عربية للنشر، 2017.

رينولد نيكلسون، في التصوف الإسلامي وتاريخه، ترجمة: أبو العلا عفيفي، دار الجمل، 2015.

Afîfî, Ebü’l-Alâ, Muhyiddin İbnü’l-Arabî’nin tasavvuf felsefesi, (trans: Mehmet Dağ), Ankara: Ankara Üniversitesi İlahiyat fakültesi, 1975.

Afîfî, Ebü’l-Alâ, Tasavvuf: İslam’da manevî devrim, (trans: İbrahim Kaçar, Murat Sülün), İstanbul: Risale Yayınları, 1996.

Afîfî, Ebü’l-Alâ, Tasavvuf: İslam’da manevî hayat, (trans: Ekrem Demirli, Abdullah Kartal), İstanbul: Risale Yayınları, 1996.

Afîfî, Ebü’l-Alâ, Fususü’l-Hikem okumaları için anahtar, (trans: Ekrem Demirli), İstanbul, İz Yayıncılık, 2000.

Afîfî, Ebü’l-Alâ,, İslâm düşüncesi üzerine makaleler, (trans: Ekrem Demirli), İstanbul, İz Yayıncılık, 2000.

Bedevî, Abdurrahman, Batı düşüncesinin oluşumunda İslâm’ın rolü, (trans: Muharrem Tan), İstanbul: İz Yayıncılık, 2002.

en-Neşşâr, Ali Samî, İslâm’da felsefi düşüncenin doğuşu, (trans: Osman Tunç), İstanbul: İsnan yayınları, 1999.

Mahmoud, Abdülhalim, Ebü’l-Hasan eş-Şazeli, (trans: Süleyman Çelik), İstanbul: Bedir Yayınevi, 1996.

Mahmoud, Abdülhalim, el-Munkiz’ü-Mine’d-dalal şerhi ve tasavvufi incelemeler, (trans: Selih Uçan), İstanbul: Kayıhan Yayınları, 1990.

Mahmoud, Abdülhalim, Muhasibi: Hayatı eserleri ve fikirleri, (trans: M.Beşir Eryarsoy), İstanbul: İnsan Yayınları, 2005.

Teftâzânî, Ebu’l-Vefa, Ana konularıyla kelam, (trans: Şerafettin Cölcuk), Konya: Kitap Dünyası, 2000

Teftâzânî, Ebu’l-Vefa, Kelam ilminin belli başlı meseleleri, (trans: Şerafettin Cölcuk), İstanbul: Kayıhan yayınevi, 1980.

Teftâzânî, Ebu’l-Vefa, İslâm Tasavvufuna Giriş, (trans: Mehmet Demirci), Dokuz Eylül Üniversitesi İlahiyat Fakültesi Dergisi, 1986, Sayı:3, s.215-234.

 

 

 

 

الهوامش

[1] نشير إلى أن أول من ترجم لفؤاد كوبريللي إلى اللغة العربية كان الأستاذ الدكتور أحمد السعيد سليمان (1991- 1924) (عميد الدراسات التركية في الجامعات المصرية في القرن الماضي)، انظر: فؤاد كوبريللي، تاريخ الدولة العثمانية، ترجمة: أحمد السعيد سليمان،) القاهرة: دار الكتاب العربي، 1993م). وترجم له أيضًا عبد الله أحمد إبراهيم الغرب. انظر: فؤاد كوبريللي، تاريخ الأدب التركي، ترجمة: عبد الله أحمد إبراهيم الغرب، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2010م).

[2]  نشير أنه قد ترجم ديوانه إلى اللغة العربية، انظر: يونس إمره، ديوان الشاعر الأسطورة يونس إمره، ترجمة: بديعة عبد العال، شرح: حسين مجيب المصري، (القاهرة: الدار الثقافية للنشر، 2007م).

[3] ترجم هذا الكتاب أيضا إلى العربية، انظر: فؤاد كوبريللي، المتصوفة الأولون في الأدب التركي، ترجمة: عبد الله أحمد إبراهيم الغرب، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2002م)

[4] نشير إلى انه ترجم إلى العربية من قبل مصطفى لبيب عبد الغني. انظر: أبو العلا عفيفي، الفلسفة الصوفية عند محي الدين ابن عربي، ترجمة: مصطفى لبيب عبد الغني، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2009م).

[5] Ebü’l-Alâ Afîfî, Muhyiddin İbnü’l-Arabî’nin tasavvuf felsefesi, (trans: Mehmet Dağ), Ankara: Ankara Üniversitesi İlahiyat fakültesi, 1975.

[6] Ebu’l-Vefa Teftâzânî, Kelam ilminin belli başlı meseleleri, (trans: Şerafettin Cölcuk), İstanbul: Kayıhan yayınevi, 1980.

[7] Teftâzânî, İslâm Tasavvufuna Giriş, (trans: Mehmet Demirci), Dokuz Eylül Üniversitesi İlahiyat Fakültesi Dergisi, 1986, Sayı:3, s.215-234.

[8] Abdülhalim Mahmoud, Ebü’l-Hasan eş-Şazeli, (trans: Süleyman Çelik), İstanbul: Bedir Yayınevi, 1996.

[9] Mahmoud, el-Munkiz’ü-Mine’d-dalal şerhi ve tasavvufi incelemeler, (trans: Selih Uçan), İstanbul: Kayıhan Yayınları, 1990.

[10] Abdülhalim Mahmoud, Muhasibi: Hayatı eserleri ve fikirleri, (trans: M.Beşir Eryarsoy), İstanbul: İnsan Yayınları, 2005.

[11] Ali Samî en-Neşşâr, İslâm’da felsefi düşüncenin doğuşu, (trans: Osman Tunç), İstanbul: İsnan yayınları, 1999.

[12] Abdurrahman Bedevî, Batı düşüncesinin oluşumunda İslâm’ın rolü, (trans: Muharrem Tan), İstanbul: İz Yayıncılık, 2002.

[13] Ebü’l-Alâ Afîfî, Tasavvuf: İslam’da manevî devrim, (trans: İbrahim Kaçar, Murat Sülün), İstanbul: Risale Yayınları, 1996; كما ترجم مرة أخرى في نفس العام من طرف أساتذة أخرين ،  Afîfî, Tasavvuf: İslam’da manevî hayat, (trans: Ekrem Demirli, Abdullah Kartal), İstanbul: Risale Yayınları, 1996.

[14] Afîfî, Fususü’l-Hikem okumaları için anahtar, (trans: Ekrem Demirli), İstanbul, İz Yayıncılık, 2000.

[15] يحتوي هذا الكتاب على مقالات عديدة لأبي العلا عفيفي مثل: من أين استقى محي الدين ابن عربي فلسفته الصوفية؟، نظريات الإسلاميين في الكلمة، الملامتية والصوفية وأهل الفتوة، شارح مجهول من شراح الرسالة القشيرية، نظريات الإسلاميين في الكلمة، الأثر الفلسفي الإسكندري في قصة حي بن يقظان، كتاب البرهان لابن سينا وصلته ببرهان أرسطو، أبو القاسم بن قسي وكتابه خلع النعلين، شارح مجهول من شراح الرسالة القشيرية، الفتوحات المكية لمحي الدين ابن عربي، الأعيان الثابتة في مذهب ابن عربي والمعدومات في مذهب المعتزلة، The Rational and Mystical Interpretations of Islam، The Influence of Hermetic Literature on Moslem Thought. انظر: Afîfî, İslâm düşüncesi üzerine makaleler, (trans: Ekrem Demirli)، İstanbul, İz Yayıncılık, 2000.   كما ترجمت إلى التركية أيضًا مقاله ابن عربي في دراساتي.

[16]  Manar Eissa, Çağdaş Mısır’da tasavvuf araştırmaları ve Ebü’l-Alâ Afîfî’nin katkıları, Yüksek Lisans, Marmara Üniversitesi Temel İslâm Bilimleri Anabilim Dalı Tasavvuf Bilim Dalı, 2020.

[17] أبو العلا عفيفي، التصوف الثورة الروحية في الإسلام، (أقلام عربية للنشر، 2017) 139.

 

[18] أبو العلا عفيفي، فصوص الحكم والتعليقات عليها، (القاهرة: دار إحياء الكتب العربية، 1947) 24-25.

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!