مقام السيّدةِ زينب في قلوب المحبين 

مقام السيّدةِ زينب في قلوب المحبين 

مقام السيّدةِ زينب في قلوب المحبين 

بقلم: خالد محمد عبده 

لقد التقطت الرحمةُ الإلهيّة قطرات عرقٍ تصبّبت من جبيني، بشعوري بالخجل والنّدم على ذنوبي كأنها دررٌ ولآلي في نظرها!

محمد إقبال.

(1)

سألني صديق عن أحبّ الأشياء إليّ في مصر والتي تجعل الغريب يرغب في التعرّف على هذا البلد العجيب.. أخبرته عن السيّدة زينب وعن فضائها الواسع الذي يرحّب بالجميع.. فقاطعني هذا خاصّ بمن يحبّ الأديان فحسب أو يحبّ التصوّف فقلت: على العكس بعض فرق الإسلام وهم متدينون ويؤمنون بتعاليم هذا الدين لا يحبّون هذا الفضاء ويرون في القرب منه بعدًا عن تعاليم دينهم! فاندهش لمعرفته أنّ السيدة زينب من آل بيت النبيّ، صاحب الرسالة.. أخبرته أنّ الأمر معقّد على من لم يعش في بيئة دينيّة.. وتابعنا الحديث عن المرغوب في المحروسة (محروسة بآل البيت كما يُقال).. أخبرته أنّ في مصر قصصًا فرعونيّة ومسيحيّة قد يرغب في التعرّف عليها.. فقال: دعنا من الأديان والأساطير الفرعونيّة! ما الذي يرغّب الإنسان في زيارة هذا البلد.. فكان جوابي.. إن كنت غريبًا عن هذا البلد وزرته سيرحّب بك الناس كثيرًا.. ما دمت غريبًا وتملك المال.. تستطيع أن ترقص وتلهو وتفعل ما تشاء دون أن يحاسبك أحد، وطالما أنك لا تهتم ولا تعبأ بأحد.. تستطيع أن تدخّن في كلّ مكان.. تستطيع أن تجرّب كلّ أنواع الطعام.. وما دمت تحسن التصوير ستجد خرائط الزمن منحوتة على وجوه شباب وعجائز كُثر، تستطيع أن تلتقط العديد من الصور التي لن تجدها في مكان آخر.. وإن أحسنت الإنصات للنساء ستتعرّف على مرويّات ستبدو للوهلة الأولى لك أسطورة من أساطير الأزمنة الغابرة، لكنك ما أن تصغي السمع ستسجل بنفسك كتابًا من الكتب التي كفرت بها سابقا.. ظللت ساعة أتحدث مع صديقي وحينما أردت أن أجيب على السؤال لنفسي أصبحت في حيرة من أمري.. ما الذي يمكن أن نصف به هذا البلد العجيب ليرغب الناس في زيارته والتعرّف عليه؟  

ما زال مقام السيّدة زينب أفضل مكان ومقام زرته في رحلتي الحياتيّة. أذكر أنني بعد زيارتي للحرم النبويّ وعودتي إلى مصر من سفر أربعة أشهر كان أوّل ما فعلته أن اغتسلت من تراب ذلك السفر وتوجّهت إلى مقام السيدة الطاهر.. إحساس نادر! أشعر أنني بين أحضان السيّدة زينب أمّي وأمّ الحنان التي في رحابها لا يجفّ ماء عين وليدها أبدًا.. كلّ شيء يدعو إلى عيش الحياة في بساطة وهدوء وتسامح.. السيدات التي تصرخ وتستغيث.. والعجوز التي توزّع الحلوى.. والرجل الذي يسند ظهره إلى العمود ولا يعجبه أنّ فردًا من الشرطة يقف ويوزّع النفحات داخل المقام، وبصوت مسموع يخبر صديقه أنّه لا يقبل نفحة هذا الرجل فيسأله لماذا؟ فيجيبه بأريحيّة: لا أحبّ أن يكون أحدٌ من أهل السلطة هنا، فلا سلطة ولا مقام إلّا لسيّدتنا السيّدة زينب!

  أحد المجاورين للمقام لا يكفّ عن ترديد الصلوات على حضرة النبيّ بصوت عالٍ.. أحيانًا ينزعج من يزور معي المقام، نظرًا للزحام ورؤية ما لم يعتده في مكان آخر، أمّا أنا فأكون سعيدًا بكلّ ما يجري من حولي، فمن يضحك أشاركه الضحك ومن يلعب أشاركه اللعب ومن يخشع ويذكر يصيبني من تقواه شيء. كافة صور الحياة في المقام، ورغم اختلاف لغات الحضور ومقاماتهم إلّا أن جميعهم يعظّم صاحبة المكان ويلجأ إليها ويسعد بالقرب منها.. لا سيّدة مثل السيدة زينب في جمال مقامها ومكانتها.. ومكانها لا يشبهه غيره.

(2)

مولد السيدة زينب فرحٌ ينسي البسطاء الهموم ولو لوقت قليل، ويبعث في قلوبهم ألوانًا من السرور، الأطفال والنساء والرجال، الكلّ يغيب عن اليوم واللحظة ولا يذكر من هموم قلبه شيئًا، وإن ذكر شيئًا في المقام الحنون مما يزعجه فإنّما يذكره بقصد المحو، فخزانة الأسرار تستوعبه وتستوعب الجميع، وتضمد جرحه، وتسكّن ألمه، فالسيدة معطاءة ولا يخيب قاصدها، وترنيمة الدرويش الدائمة (كريمة يا سِتْ). لا فرق بين رجلٍ وامرأة في الطريق، الكلّ سواء، فالرجال والنساء في حضرتها معتقداتهم واحدة، وكلماتهم واحدة، فالسيدة زينب تُنادى بـ (ماما- أَمّه- أمّ الحنان) على لسان الذكر والأنثى، فالكلّ متعطّش إلى الحنان والمحبّة، ربما يتمثّل الاختلاف الوحيد في التعبير عن الفرح في زغاريد النساء التي تختصّ بها دون الرجال، وإن كان الرجال لا يتوقفون في الإعلان عن محبتهم وفرحهم، بترديد الصلوات على حضرة النبي وإنشاد بعض الأشعار فرحين مستبشرين. صوت النساء يعلو بالصلاة على النبيّ.. يتجسّد الفرح في كلماتهن.. إنشادهن لبعض القصائد والمدائح يجعلك خجلًا مما يقال عن الصوت والحجاب والحريّة وكلّ اللغط الذي تقرأه في وسائل الإعلام أو تسمعه ممن حولك وهم يتناقشون نظريًّا ولا يشاركون الناس حياتهم.. كلّ صوت غير صوتهن عدم.. تؤكد لك النسوة المتصوّفات أنّ الإيمان بالآثار والأفعال هو الأبقى والأنفع.. أمّا الدفاتر المعبئة بالأحبار الضعيفة مجرد ترفٍ. لا تقرأ كثيرات منهن للرّوميّ وبعضهن لا تعرف الجنيد أو الحلّاج.. تحمل إحداهن الورد ولا تلقيه على سنّة الشبليّ أو تعلن عن ألم وردة الحبيب على الصليب.. يكتفي بعضهن ممن لا تملك الزهور أن تجلب بعض العشب الأخضر.. أو توزّع الماء والتمر.. وأضعف الإيمان عند من لا تحسن القول والألحان زغردتها باللسان.. لا وقت للبكاء هنا.. فدمع العين خارج المكان قد جفّ من كثرة التعب..

(3)

أصحابُ الأحكام والمؤمنون بالصور ينشغلون دومًا بأحكام الرفض والقبول لمظاهر الفرح (القليل) الذي يعيشه البسطاء من زوّار مقام السيدة زينب، البسطاء المقهورون والمهدورون دائمًا من أهل الدين والسياسة! لا يرى المحاكون لهم في الفرح شيئًا طيبًا، فهم في نظرهم (مخابيل) غُرر بهم. لا يرون في (الفرح) شكلًا من أشكال التقوى والعبادة، لأنّهم لم ينظروا يومًا إلى غيرهم بعين الرضا، ولم يتمهّلوا للحظة في إصدار أحكامهم على أحد، ولو تريّثوا قليلاً ولمسوا إنسانًا من هؤلاء لعاينوا معنى قوله عليه السلام: (أطعموا الطعام، وأفشوا السلام) جسدًا وحقيقة عند (المجاذيب)، فكلّ من قصد (السيّدة الكريمة) يبذل كلّ ما في وسعه من عطاء، على قدر الطاقة، فالخبز يوزّع، والسلام ينتشر، والابتسامة لا تفارق وجه العجائز، والأنفاس التي تهدأ بعد توتّر تضفي على الأجواء دفئًا مفقودًا في غير هذه البقعة الطاهرة.

إنّ قراءة بعض الكلمات المنسوبة للسيّدة زينب كانت عونًا لشيخ جليل لا يزال كرمه يشمل الكثيرين، فقد أورد الشيخ حسن الشافعيّ رئيس مجمع اللغة العربية وأستاذ الفلسفة الإسلامية في سيرته الذاتية حياتي في حكاياتي موقفًا يحسن بنا أن نسرده للقارئ الكريم، يقول في معرض حديثه عن مرحلة سجنه السياسيّ في مصر: “أعادوني إلى الزنزانة، في حالة متدهورة، بعد ليلة كاملة من الضرب المتواصل تقريبًا، مع القيد الخلفي، ويدي وراء ظهري كخرقة بالية رُميتُ على أرض الغرفة.. ومرّت أوقاتٌ من الغيبوبة والصحو، حتّى تمالكتُ نفسي، ونظرتُ إلى حائط على يميني –وعلى شمال الباب- فإذا بأربعة أبيات كتبها زائرٌ قبلي بخطٍّ جميلٍ، قرأتها فيما بعد منسوبة إلى السيدة زينب رضي الله عنها:

وكم لله من لطفٍ خفيٍّ                  يَدِقّ خَفَاهُ عَنْ فَهْمِ الذَّكِيِّ

وكم همٍّ تساءُ به صباحاً                 وتعقبُه المَسَرَّة في العَشِيِّ

وَكَمْ يُسْرٍ أَتَى مِنْ بَعْدِ عُسْرٍ            فَفَرَّجَ لوعة َ القَلْبِ الشَّجِيِّ

إذا ضاقت بك الأسباب يوماً           فَثِقْ بالواحِدِ الأحدِ العَلِيِّ

لقد كانت هذه الأبيات الأربعة بلسمًا، وعونًا ربّانيًّا لهذا المسكين، الذي كان الجنود يضربون به المثل لمن عاد من الموت إلى الحياة”.

(4)

ناصبو المشانق ينكرون النذور والأضاحي في الموالد، لكنّهم يضحّون بحقوق الناس الموروثة، بفرحة قلوبهم، بهدوئهم، ويحاولون إلغاء وجود نمط من التديّن يبعث الراحة في قلوب كثير من الخلائق! مثل هذه المحاكمات للتدين أضحت مزعجة للقلوب والعقول، ولعل ما نحتاجه اليوم هو الكلمة التي تنبئ عن فهم عميق لخلفيات البسطاء وممارساتهم لتكشف لنا عن المغزى والدلالات، لا لتسجن الآراء وتحاكم المعتقدات، وتقتل المرح في قلوب تنشده كي تستريح من وعثاء هذا السفر الطويل.

نحتاج لمن يكون مصباحه منيرًا للُحمة هذه الثقافة العميقة، كما فعلت نادية أبو زهرة في دراستها عن السيدة زينب “النقاء والسلطة دراسة في الشعائر الدينية في المجتمعات الإسلامية” Abu-Zahra, Nadia, The Pure and Powerful. Studies in Contemporary Muslim Society, Berkshire, Ithaca Press, 1997.  إذ ركّزت على دراسة الطقوس التي تحيط بضريح السيدة زينب في القاهرة، فشعّ الدفْء والفهم والتعاطف في تقديمها لدراستها. فها هي السيّدة زينب في القاهرة وفي قلوب المصريين، ثمّ ها هي السيّدة زينب ولية النساء (الحلم والحقيقة) تشكّل (حيوات النساء وترشدهن). ولجت نادية عالم المولد (احتفال الناس والحكومة) و (الليلة الكبيرة واحتفالات الفجر) بدراسة ممتعة، فقد تمكّنت أن تقدّم صورة حيّة لقطاع عريض من الشعب المصري في جزئية من حياته اليوميّة ونشاطه في بؤرة محدودة من المكان، ولكنّها في الوقت نفسه تستشف روح هذا الشعب في أفراحه وأتراحه، وشجاعته في مواجهة الصعاب والحرمان.

ترددت نادية على مسجد السيدة زينب في القاهرة للقيام بدراستها الميدانية وأجرت مقابلات مع زوار ضريح السيدة زينب من النساء على وجه الخصوص، ومع إمام الجامع، وكثير من المسؤولين في وزارة الأوقاف وإدارة الموالد إلى غير ذلك من الجهات التي تساهم في إدارة شئون المساجد وإقامة الموالد في مصر ، كما اطّلعت على المصادر التاريخيّة التي تعالج حياة السيّدة زينب والمصادر الفقهيّة التي تتناول الإرشادات الخاصة بزيارة الأضرحة والمشاركة في الموالد، ولم تكتف بهذه المصادر ولكن عنيت أيضًا بنصوص أخرى لها أهميتها في تلمّس الوازع الدفين الذي تنطلق منه الطقوس الخاصّة بالسيّدة زينب في مصر، مثل بردة الإمام البوصيريّ (بعض أبيات البردة منقوشة قبالة المحراب في المسجد الزينبيّ)، إلى غير ذلك من نصوص تساعد في دراسة (رئيسة مملكة الديوان) والجالسة على عرش الولاية كما يعتقد أغلب الجمهور القاصد لمقامها.

(5)

 في وقتٍ سابق كان الانخراط في الموالد صعبًا للغاية، وبصورة خاصة لو كان مريد الانخراط من الباحثين، يحكي ج.و. مكفرسون شيئًا من تلك الصعوبات التي واجهته من أجل إنجاز كتابه عنالموالد في مصر يتعرّف القارئ من خلال حكاياته على مدى حرص الباحث ومثابرته من أجل الوصول إلى حقيقة يطمئن إليها وهو يسجل وقائع الملتقيات الصوفيّة، ولا يخجل من تكرار كلمة (أنا أجهل) و(لا يمكنني أن أقول) ولا يدّعي أنّه وصل إلى حقيقة يمكن القطع بها! فاليقينيّات والمسلّمات لا يمكن البدء بها في درس أو بحث حقيقيّ. ومن الطرائف التي يقصّها علينا مكفرسون في مشاركته وزيارته لمولد السيدة زينب عام 1940 أنّه تمّ تقديمه للشيوخ والأعيان كزائر تركيٍّ عظيم التقوى كما قُدّم صديقه هارولد بيز Harlod Base كدرويش أخرس، وتمّ استقبالهما بكرم بالغ، يصفه مكفرسون بالكرم الذي وخز ضمائرنا، “فقد أجلسنا وشربنا القرفة وقدّمتُ أفضل ما في جُعبتي من التركية والعربية، وكنا سعداء جميعًا، حتّى سنحت لأحدهم فكرة شريرة باستحضار أحد البكوات من استنبول إلى مجموعتنا الصغيرة، والذي اعتقد أنّه يجب أن (يدردش) مع بعض مواطنيه. وقع حامد وأولاد عرابي الذين ساعدوا مكفرسون في حضور المولد في رعبٍ شديد، وقبل أن نتحقق أنا وبيز من الإجراء الذي نووا عمله، سارع أولاد عرابي بالهرب من المسجد يتبعهم حامد الذي لم يكن قد أتقن بعد طرق الدبلوماسيّة ودون أن يدري الدرويش الأخرس وأنا بالمصير الذي ينتظرنا، تبعناهم خارج المسجد بغاية السرعة”.

الأمر مختلفٌ اليوم عما حكاه مكفرسون إذ يستطيع غير المسلم أن يشارك الحاضرين احتفالاتهم، وبخاصة إن لم تبد عليه مظاهر الترف والأعجمية، وقد شاركني بعض أصدقائي المسيحيين زيارة المقامات في مصر سواء في القاهرة أو في صعيد مصر، مقامات الأولياء براح يتسع للجميع لا أستطيع وأنا في حضرة أن أقف أو أفكر أو أتخيّل.. يتلاشى هناك كلّ تراب وطين خارج مقاماتهم الممتلئة بالسكينة والرحمة.. هناك لا فقيه ولا سلطان لا فخر ولا أمراض. وفي أصعب ظروف الحياة وأقساها لا تخلو المقامات من القلوب الطيبة، في المقام سماع صوت امرأة وهي تصدح بكلمة يا رئيسة الديوان كافٍ لأن يجعل جسدك يتخلّص من أوهامه.. الحياة النقيّة في رحاب هؤلاء! مسكين من يظن بالفعل أنّ المال يصنع إنسانًا أو يجعله يسدّ حاجة حقيقية أن تشاهد شخصًا بسيطا يطعم الطعام ويجود بما لديه يعلّمك أنّ العطاء عطاء قلب لا عطاء كيس وجيب.. مساكين نحن بالفعل.. جنتنا ونارنا لعبة صبيان كما قالت رابعة!

(6)

رغّبت صورُ الموالد الصوفيّة بعضَ الناس في الاهتمام بالتصوّف، وإن كان اهتمامًا بما هو شعبيّ، صورة الدرويش الذي يذكر الله وتظهر كلماته ما صدر عن قلبه ولمس فؤاده من ذكر ربّه اللطيف الجميل صورة مسعدة، وإن لم ينطق من أسماء ربّه سوى كلمة (هُو) هو الله الرحمن الرحيم. (قيمة المرء حديث قلبه) كما قال رحمانيّ العبارة النفّريّ. وقلوب هؤلاء الدراويش جميلة. في زيارتي الأخيرة للسيّد البدويّ اقترب مني بعض من ليس له صلة بهذه التظاهرات المبهجة للفقراء، نظر إلى الأرض ولم ينظر إلى السماء، كما ينظر بعضهم إلى مخلّفات الحجيج وهم مغادرون جبل عرفات، من ينظر للأرض وللوراء سيجد الكثير من الأجساد والأمراض بالطبع، لذا يرفع الدرويش يده للسماء لتعلو روحه، ويخفض الأخرى ليهبط طينه وينمحي في الطين، فما هبط من المحلِ الأرفع هو في شوقٍ للسّفر من جديد إلى ربّه الأعلى.

لم أفكّرْ ولو للحظة أن أبرهن على صحة أو خطأ أيّ فعل أشاهده وينكره من معي من سلوك البسطاء، فنحن لم نقدّم لهؤلاء شيئًا نافعًا في حياتهم حتّى نخدش ما بقي لهم من هامش حرّية لا يُرى، يمارسون فيه ما قُدّر لهم أن يمارسوه، نعم أن أؤمن بالجبر لا الاختيار، فمن يسمع خطب الجمعة في بلادنا والأدعية التي تكرر ليل نهار سيدرك أنّنا مجبرون من لحظة الميلاد هنا حتى الممات، وما بينهما نكابد فيه حتّى يحيا جزء منّا عزّ عليه الجبر ولم يقنع به وأراد أن يمارس فضيلة الاختيار.

قبّل رجلٌ عتبة المقام، وأحدهم مسح بثيابه مقصورة المقام، وأحدهم سجد، وأحدهم صرخ، وأحدهم طمع في مال يمكن حصره في ثانية واحدة فأخذه من غيره، وأحدهم قبّل امرأة في الزحام، وأحدهم تعاطى المخدرات، وأحدهم ترشده عصاه ويسعى، ورغم كفّ بصره لا تكفّ روحه عن السعي، وأحدهم أعطانا طعامًا طعمه لا يُنسى، وأحدهم وزّع الماء. فعلَ الجميعُ ما يفعله الشخص على مدار حياته في شبابه ومراهقته وهدوئه وسكينته وضجره وغضبه، بعض الأفعال ينكرها العاقل الواعي، ويحاول الصوفيّة دفاعًا عن كيانهم ضد خصومهم المتربّصين بهم أن ينزّهوا جناب الطرائق عن هذه الأفعال، كما يفعل المسلم اليوم حينما يعلّق أنّ أفعال المسلمين لا تمثّل الإسلام، ولا يمثّل الإسلام زيد أو عمرو أو خالد وإن آمنت ملايين من المسلمين بما يقوله زيد ويعلنه عمرو ويصرخ به خالد!

إن فعل البسطاء حقًّا لا يمسّ جناب أحدٍ ولا علاقة له بي أو بك ولا ينتظر تقييمك بالسلب أو الإيجاب، فحياته تستمر وأنت على وجه الحقيقة لا تعبأ به إلّا للحظة.. هذه اللحظة تتمثّل في إنكارك عليه، وتقييمك له، أو في أحسن الأحوال تدعو له أو تدعو عليه كما يفعل خطيب المنبر في دعائه في يوم الجمعة على كلّ مخالف عرفه أو لم يعرفه. من السهل أن نحاكم أهل المولد، لكن من الصعب أن نبحث لهم عن سبل الحياة.

(7)

يسأل أحدهم: هل ابتلاك ربّك ونزلت إلى أحد الميادين التي تقام فيها هذه البدعة الحسنة، وشعرت بما يحدث؟ هل بالفعل كما يقال إنّ الموالد والأضرحة هما شريان حياة الصوفيّة، فإذا انقطعا اضمحل التصوّف وهلكت الصوفيّة؟!  ماذا سيخسر التصوّف الإسلاميّ لو لم توجد الموالد أو الأضرحة؟ وماذا سيكسب مقابل هذا؟ هل أصبح التصوّف (المشرب القلبيّ الجميل الذي ينبغي للمسلم أن يأخذ بحظه منه) قائمًا على صناديق النذور وجثث الموتى؟ كل عين ترى ما تبحث عنه، لكن لم تكن الموالد يومًا شريان حياة الصوفية، وليست الأضرحة وحدها مقامات الصوفيّة، ولا يمكن تلخيص التصوّف في إنكار شخص كما لا يمكن قبول كلّ سلوك صادر عن المنتسبين إليه.

الأضرحة براحُ الحُريّة، تدخل مهمومًا قلقًا تخرج هادئًا.. الأضرحة مساحة بعيدة عن سلطة الواجب والإلزاميّ والقهر والتنظير.. لكلٍّ لغته التي يتقنها ولا يفرض على أحد أن يتواصل بها، يتواصل أحدهم بإنشاد أبيات مهداة لصاحب الضريح، وأحدهم يمدح المصطفى، وأحدهم يُسبّح، وأحدهم يقرأ القرآن، وأحدهم يُحدّث صاحبه، وأحدهم يدخل الضريح مريدًا لمكان لا يرى فيه زحام الأجساد وانتهاكها لها، فيرى نفسه في خلوة وإن كان بين مئات من البشر، لا ينشغل بأحد، تتساقط دموع عينه دون إرادة منه، يشعر بالخجل والندم أمام طُهر صاحب الضريح، يشعر أنّ صاحب الضريح يُحدّثه ويخفف عنه آلامه ويمحو عنه التعب، ويعتبر كلّ ما قاله سرًّا مكتومًا. أحدهم يسند ظهره المتقوّس على جانب الضريح لا ليعتدل بل لأنّه ما عاد يملك آلة للنطق أو الاعتراض، استسلم من الحوادث والفاجعات، ينظر وينتظر مدد السماء، أحدهم ينام من تعبه، أحدهم يُظهر محبّته ولا يخجل من تذكير الحضور بمقام صاحب المكان.. لا أحد من هؤلاء يؤذي أحدًا.. ولا يؤخّر حضارة.. ولا يدّعي أنه عالم عليه أن يُصلح العالم.. صلاح العالم في تركه يدور كما كُتب له. 

***

من المراجع التي قد تفيد القارئ للتعرّف على مقام السيّدة زينب في الفكر الصوفيّ:

نفحات من سيرة السيّدة زينب خطة جديدة في التربية الشعبيّة كتبها الأستاذ الشيخ أحمد الشرباصيّ وتناول فيها الموالد والأذكار والأضرحة والتعامل معها ووضح للقارئ كيفية الاستفادة من المواد الروحيّة لتكون آداة لصلاحه وخيريّته.

زينب للأستاذ الشاعر أحمد زكي أبو شادي، وتتميز كتابة أبي شادي بالعمق الصوفيّ والنقد العلميّ، كما هو الشأن في بقية كتاباته الإسلاميّة، ككتاب الإسلام الحيّ، وكتابه المميّز ثورة الإسلام.

تاريخ السيدة زينب للشيخ جاد الحقّ، وهو عملٌ إضافة لأهميته في التعرّف على سيرة السيّدة زينب، يعبّر عن معايشة دامت أكثر من عشر سنين لكاتبه، فقد كان إمامًا للمسجد الزينبيّ شاهد وعاين وتأمل فذاق ما ذاق من جمال ومحبّة.

الموالد في مصر، ج. و. مكفرسون، ترجمة عبد الوهاب بكر، وهو من الأعمال الوافية عن الموالد في مصر.

5- Abu-Zahra, Nadia, The Pure and Powerful. Studies in Contemporary Muslim Society, Berkshire, Ithaca Press, 1997.  ويعدّ عمل نادية أبو زهرة امتدادًا لاهتمامها بالتديّن الشعبيّ في مصر وتونس، وقد قدّمت الأستاذة سيزا قاسم عرضًا وافيًا للكتاب، اعتمدنا عليه في هذا المقال.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!