الملامح الفلسفية للطريقة الشاذلية

الملامح الفلسفية للطريقة الشاذلية

الملامح الفلسفية للطريقة الشاذلية

بقلم:د. وفاء السوافطة

 تميّزت فلسفة الطريقة الشاذلية بميزات ثلاث هامة، وهي: 

  1 ـ التركيز على أهمية صحبة المريد للشيخ . إذ يقول السكندري، في الحِكَم، “سبحان مَن ستر سر الخصوصية بظهور البشرية، وظهر بعظمة الربوبـية في إظهار أوصاف العبودية([1]). فالشيخ، في عقيدته، ليس معلماً ومربياً فقط، بل هو وارث لحقيقة النبوة، ” وللوارث نسبة من الموروث ” ([2])،  بل إن الوارث يحمل سرّ الخصوصية خلف أسـمال البشرية،  فيخفيها عن نظر العامة . ولكن هذه معارف متفاوتة بين النـاس، لا يدركها إلا الخاصة، حسب عبارة الإسكندري.  ويعلّق زرّوق على هذه العبارة بقوله: إن الناظر في حال جري البشرية على العارف، إما أن يقف مع حاله فيها، فيكون محجوباً عن خصوصيته بها، وهم العوام؛ أو ناظراً لما في طينتها من خواص وجودها، ويكون متصلاً بها إليها، وهذا شأن الخواصّ([3]).

   لقد كان من الضروري أن يعطى الشيخ صفةً قياديةً، بل محوريةً، في الجماعة الصوفية، لأن وجود الجماعة، في هذه المرحلة، أضحى رهناً بوجود الشيخ. فقد صنّف ترمنغهام المراحل التي مر فيها التصوف الإسلامي إلى ثلاث: الأولى، كان فيها استسلام الفرد لله، وهي ما عبّرت عنها مرحلة الخانقاوات والفتوّة؛ والثانية، استسلام الفرد للقانون الصوفي الذي تمثله الطريقة؛ والثالثة، استسلام الفرد للفرد الذي يمنحه البركة([4])، وهي مرحلة الطائفة، التي بدأت بعد القرن الخامس عشر الميلادي([5]). وهنا جاء تميّز الشاذلية، عندما رفضوا فكرة الاستسلام، واستبدلوها بفكرة الاتباع الواعي، المقيّد بضوابط الشرع. يقول السكندري: ” لا تصحب من لا ينهضك حاله ولا يدلّك على الله مقاله”. ويقول، كذلك،: ” لإن تصحب جاهلاً لا يرضى عن نفسه، خير من أن تصحب عالماً يرضى عن نفسه” ([6]). وقد حمل عبد الوهاب الشعراني، بشكلٍ خاص، على بعض من يدّعون القطبانية، وأوجب عليهم التقيّد بقيود الشرع([7]).

   2 ـ التأسيس النظري للعمل الجماعي، لمواجهة بوادر الانعزالية، والتحلل الأخلاقي التي سادت تلك الفترة، إذ يقول عبد القادر عطا إن المعرفة الإسلامية تفردت بتحويل القواعد الأخلاقية إلى سلوك عملي، على العكس من الفلسفات الأخرى التي تفصل بين النظرية والتطبيق، بل تجعل العقل مجرداً مفارقاً بعيداً عن الواقع، كما هو في الفلسفة اليونانية؛ بينما تجعل المعــرفة الإسلاميـة، عامة، والصوفية، خاصة، العقل يخوض ” عملية ديالكتيكية  [ أي عملية تطوّر الجدل الخلاق بين الأضداد لتوليد الفكر الإيجابي]، مما يدعونا إلى تأمل الواقع الكوني بالعقل، ومصاحبة هذا الواقع، للوقوف على أبعاده الحقيقية التي تهدينا إلى سر الكون وروحه” ([8]).

وعلى الرغم من أن مؤلفات السكندري، ومن سبقه من شيوخ الطريقة، كانــت تحضّ على العزلة، إلا أننا لا نستطيع أن نفهم أن شيخاً لطريقة صوفية يدعو أتباعه لعزلة دائمة، إلا إذا كان المقصود بهذه العزلة هو الخلوة المؤقتة، التي يتاح فيها لِـمـَلـَكات المريد أن تصفو وتتركّز، حتى يعاود نشاطه في الحياة بشكل أكمل؛ فيقول السكندري: “ما نَفَعَ القلبَ شيءٌ مثل عزلةٍ يدخل بها ميدان فكرة ” ([9]).

 فالعُزلة هي المناخ المناسب لبدء رحلة التحولات لدى المريد، وتهيئة نفسه وروحه لنزول المعارف اللدنيّة عليه . وقد جاء تركيز الشاذلية على منهج لنزول المعرفة اللدنية، مِن لدن الحق إلى العبد، حلاً لشُبهة التناقض بين ما ينادي به المتصوفة، من عمل فردي، وجهد ذاتي لتجاوز مقاماتٍ متسلسلة، حتى يصل إلى المعرفة؛ وبين ما كان يدعو إليه شيوخ الطرق الصوفية، ومنهم الشاذلية، من توحيدٍ للجهود الفردية، والعمل ضمن الجماعة للوصول إلى الهدف المنشود. فالجماعة التي تتمحور حول تعاليم شيخ عارف، أو وارث، لا تحتاج لتعذيب النفس والعيش في ظروفٍ صعبة، كما كان شأن المتصوفة الأوائل، يعتزلون المجتمعات، ويلبسون ما خشن من الثياب؛ بل على العكس، طالب شيوخ الشاذلية أفراد جماعتهم بالانخراط في المجتمع، والاطلاع على مجريات الحياة. فقد فسر أحمد زروق سبب ترك الشاذلية، وأكابر الصوفية لسُكنى القفار، وترك الرهبانية، والتزامهم سكنى المدن، برغبتهم في النظر في تفاصيل الوجود ووقائعه، لأن تكرار الوقائع يؤكد الحقيقة، على حد قوله([10])

ورأي زروق، هذا، يحيلنا، بشكل مباشر، إلى نصيحةٍ يوردها ضمن كتابه قواعد التصوف، عن أبي الحسن الشاذلي، يقول فيها: “يا بُنيَّ بَرِّد الماء، فإنك إن شربت ماءً بارداً حمدت الله بكُـلـّية قلبك، وإن شـربته سـاخناً، حمـدت الله عن كزازة”([11]).

لقد نحا شيوخ الشاذلية بالفلسفة الصوفية نحواً عملياً، وابتعدوا بها عن كونها نظريات نفسية أو أخلاقية أو ميتافيزيقية، لتصبح طريقة في الحياة العملية والرياضة الروحيــة، لتحقيق الكمال الأخلاقي، بحسب تعبير عبد الحليم محمود([12]). ويرى بعضهم أن أبا الحسن الشاذلي قَـلَبَ مفهوم الزهد فنقله من تصوف الرسوم والأشكال إلى النوايا والأعمال، بحيث انعكس هذا على المفهوم (القَدْحِي) الذي كان بعض الصوفية القدامى يلحقونه بالعالم الأرضي، باعتباره سجناً للإنسان. فقد اعتبر الشاذلي أن “الإنسان أُنزل إلى الأرض ليتكمّل”، فكان ” نزول كرامة لا نزول إهانة “؛ ولذلك سُميت طريقته بـ (طريقة الشكر)([13]).

   3 ـ حافظ الشاذليون على التوازن المقسِط، بين الشريعة والحقيقة، ضماناً لاستمرارية الطريقة. وقصدوا، من وراء ذلك التوازن، جَعْلَ المعيار الذي يتم الحكم فيه على الأشياء معياراً متعالياً، ثابتاً بثبوت الشرع المحمدي، وبالتالي لا يخضع لمزاج أحد؛ وذلك لقطع الطريق على أدعياء الكرامات والأحوال، الذين أقاموا رؤاهم وما يدّعونه من إلهام مقام العقل والشرع، فأساءوا للعقل وللشرع وللتصوف، أيضاً . يقول السكندري: ” ما العارف مَن إذا أشار وجد الحق أقرب إليه من إشارته، بل العارف من لا إشارة له…” . ويقول، في موضع آخر: “من رأيتَه مُجيباً عن كل ما يُسأل، وذاكراً كلَّ ما عَلِم، ومعبّراً كلَّ ما شهد، فاستدلّ بذلك على وجود جهله” ([14]) .

وعند الحديث عن قضية المعيار في الحكم على الأشياء، لابد من الوقوف عند فكرة طرحها زرّوق في قواعده، فقال فيها: ” لا يوجد كامل إلا بتكميله تعالى، وتكميله من فضله.. وبحسب هذا، فطلب الكمال في الوجود على وجه الإحالة باطل”([15]). وفي هذه الفكرة الجوهرية، يدعو زروق إلى عدم الفصل بين إرادة العارف وإرادة الله. وبالتالي، فهو يدعو إلى أن يكون معيار العارف، في الحُكم على الأشياء، معياراً إلهياً، بمعنى أنه مستمدّ من الشريعة، فلا يخرج عليها. ولذلك، نراه يقول، في موضع آخر،: ” ليـس الزهد بتحريم الحلال، ولا بإضاعة المال. إنما الزهد أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك”([16]). بل ذهب إلى أكثر من ذلك، عندما أكد، في كتابه عدّة المريد الصادق من أسـباب المـقت في بيـان الطريق، وذكر حـوادث الوقـت أن الصوفية الحقيقيين عُرضة للخطأ، وأن مقالاتهم يجب أن تُعرض على الكتاب والسُـنّة. ومن هذا المنطلق، فهو يعلل انتشار المبتدعة والأدعياء، في هذا المجال، بانتقاص الإيمان، والجهل بأصول الطريقة، واعتقاد أن الشريعة خلاف الحقيقة. ولذا، فهو يشترط أن يكون الفقه والأصول شرطين من شروط الوصول([17]).

وقد قطع غالبية شيوخ الشاذلية، الطريق على كل مَن يتساهل في أخذ الحقائق والمعارف، وشدّدوا النكير على كل مَن يأخذ الطريقة استسهالاً، وهروباً مِن الالتزام والعبادة والتكاليف. فحارب أبو الحسن الشاذلي المفهوم الجامد للأوراد، وكثرة الوظائف، التي أصبح التصوف القديم أسيراً لها، كما أنكر، أو يكاد، الكرامات الحسية التي اشتهر بها المتصوفة قبله([18])؛ وقام أحمد زروق، كذلك، بفضح أولئك الطرقيين الذين لا تحركهم سوى ” لذة الرياسة والامتياز بالاختصاص” ([19]). ودعا العربي الدرقاوي إلى الابتعاد عن الإفراط والتكلف وإثارة الانتباه من خلال حلقات الذِكر([20]).

الهوامش

([1]) زروق، قرة العين، ج 1، ص ص 303-304 .

 ([2])زروق،  قواعد التصوف، ص 47 .

([3]) زروق، قرة العين، ج 1، ص ص 303-304 .

([4]) لم يكن دور الشيخ، في التصوف الإسلامي، منح البركة، فقط؛ بل إن الشيخ يُعدّ المرشد والمربي الروحي للمريدين، الذي يهديهم للطريق الموصل إلى الله، حتى تحصل لهم الإشراقات الإلهية.

([5]) Trimingham,The Sufi orders , PP.72,102.

([6]) زروق، قرة العين، ج 1، ص 185 و160 .

 ([7])سرور، التصوف الإسلامي، ص 34 .

([8]) عطا، التصوف، ص 276-277؛ والنص ليحيى هويدي من كتاب مقدمة في الفلسفة العامة، ص 204 .

([9]) زروق، قرة العين، ج 1، ص 89 .

([10]) م. ن، ص 319 .

([11]) زروق، قواعد التصوف، ص 20 .

([12]) عبد الحليم محمود، قطبا التصوف، ص 76 .

([13]) عبد المجيد الصغير، إشكالية إصلاح الفكر الصوفي، ص ص 34-35.

([14]) زروق، قرة العين، ج1، ص ص 254-255 و241 .

 ([15])زروق، قواعد التصوف، ص 86 .

([16]) م. ن، ص87 .

([17]) بنعبد الله، الصوفيون، ص107 .

([18]) الصغير، إشكالية إصلاح الفكر الصوفي، ص 36.

([19]) م. ن، ص38.

([20]) م. ن، ص41و 45 .

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!