لغز الكلمة: مقالات شمس تبريزي

لغز الكلمة: مقالات شمس تبريزي
لغز الكلمة: مقالات شمس تبريزي
إيف لوبيسكور – Yves Lepesqueur
ترجمة: عائشة موماد 03/01/2020.
 
ليس من الضروري أن نُوليَ اهتماما خاصا بالعالم الإسلامي لكي نتعرّف على الرومي، الشاعر الكبير الذي تُرجمت أعماله على نطاق واسع إلى اللغات الأوروبية الرئيسية. نعلم أن الموهبة الشعرية للرومي تدين بالكثير لشخصية غريبة، شمس تبريزي الذي وصل يوماً إلى قونية ثم اختفى في ظروف غامضة بعد بضع سنوات.
كان الرومي صوفيًّا نمطيًّا للغاية قبل لقائه بشمس، فقد كان يُصوِّر روحانيَّةً لا تُزعج فيها التجربةُ الداخلية أي شيء بشأن الصور الخارجية للحياة الدينية، وقد كان كذلك واعظا مبجّلا. سوف يُغير لقاؤه بشمس كلَّ شيء، لكنْ دون أن يعترض على أحكام وطقوس الدين المشترك، سيصبح الرومي المعلنَ الصَّادمَ عن دينٍ من الوجد والعشق، مانحًا للطريقة التي يرأسها طبعَها الخاصَّ الذي يمزج بين الشعر والموسيقى والرقصات الشعائرية لجماعة الدراويش المولوية الشهيرة.
الحديث هنا عن أهمية شمس في سجلِّ الأحداث التاريخية، ليس فقط الدينية منها، بل الثقافية بصورة عامة، والفنية والأدبية بكل تأكيد. ألا يحمل أحد دواوين الرومي اسم ديوان شمس تبريزي (من المحتمل جدًّا أن يكون الشيخان قد كتبا سويا بعضًا من هذه القصائد)؟
لكننا لا نعرف أيّ شيء عن هذه الشخصية، مما سمح بمجموعة من التخمينات والأفكار الخيالية (فعلى سبيل المثال، تمحورت الرواية الشعرية لنَديم غُورْسيل حول اختفاء شمس، وهو المُؤَلَّف الذي يحمل عنوان: الدرويش والمدينة).
كان بالإمكان التعرّف أكثر على شمس من خلال مصدر معتمد: إنها مقالاته، وهي عبارة عن مجموعة من الخُطب ألقاها بين أيدي مريديه، وقد يكون هو من دوَّنها. لكنّ الكتاب ظلَّ غير معروف، وقراءته كانت صعبةً بل معقدةً. الصعوبة العادية هي ما نواجهه عندما نقرأ لفيلسوف غامض إلى حد ما، نعلم أنه سيتعيّن علينا متابعتُه في تطرّقه لبعض الأسئلة التي يمكن على الأقل تصورُ موضوعها ولو بصورة باهتة، لكن الأمر مختلف تماما في المقالات: لن يتوانى القاريء عن التساؤل: “لكن، عماذا يتحدث؟”.
لقد تطلب الأمر جرأة شارل هنري دو فوشيكور Charles-Henri De Fouchécour وعلمه وصبره التأملي – أستاذ أجيال عدة من المختصين بالدراسات الإيرانية (قد أُعجبنا بترجمته الكاملة وشروحاته لديوان حافظ سنة 2006) – لكي نتجرأ على ترجمة هذا الكتاب. ومنذ الآن، يمكننا قراءة مقالات شمس.
Shams de Tabriz, La Quête du joyau. Paroles inouïes de Shams, maître de Jalâl al-din Rûmi. Trad. du persan, introduction et notes par Charles-Henri de Fouchécour. Éditions du Cerf, 544 p.,
تتلاشى الألغاز الكاذبة على الفور، فلم يكن شمس من عالم آخر، ولم يكن المبعوثَ السِّري لجماعة مسلمة من الأقلية، ولا ناطقا باسم تصوف أهوج، وتمكن المعلومات السيرية التي يتضمنها كتابه من إيجاد صلة الوصل بينه وبين سلالة معروفة من شيوخ أذربيجان. إنه بعيد من أن يكون مخالِفًا للشرع، فقد تبين أنه مرشدٌ صارم إلى حدٍّ ما، رافضٌ للتجاوزات السلوكية أو اللفظية (فقد استحقت العبارة الشهيرة للحلَّاج [أنا الحقُّ] هذا التعليقَ الساخر: [لا يقول الحقُّ أبدًا: [أنا الحقُّ]).
تَلوح في نصّه -ضمنيًا- المذاهبُ الميتافيزيقية العظيمة التي ناقشها السلف كما المعاصرون، التي تتمحور حول العلاقة الأبدية بين [الخالق الكائن] المنزه عن أي صفة من شأنها أن تقلل من مطلقيته، و [كل الكائنات] التي يعد وجودها تجلِّيًا لصفاتِ ذاتٍ قد خلَتْ منه تمامًا. إنها العبارة الكلاسيكية لأفلوطين حين قال بصدور الأشياء عن الواحد مع اختلافها عنه، وهو المبدأ نفسه الذي يؤسِّس للفيدانتا والميتافيزيقيا الإسلامية خاصة عند ابن عربي، ونعلم من خلال قراءة المقالات أن شمس تبريزي كان يتردد على هذا الأخير دائما خلال إقامته بدمشق.
خلال عرض كتاب [البحث عن الجوهرة] بالمعهد الوطني للغات الشرقية في 24 يناير المنصرم، صار بإمكان كريستيان جامبي Christian Jambet أن يؤكد على أن المضمون العقائدي بالكتاب واضح للغاية. ها نحن الآن إذن فوق أرض آمنة، حيث تلاشت كل الألغاز الكاذبة، السيرية منها والعقائدية، وبقيت الحقيقة، ثم كتابٌ غامض بصورة مدهشة.
[يتعذر علينا الفهم]: هذه هي العبارة التي تناقلها مجموعة من الباحثين المرموقين الذين شاركوا في ندوة 24 يناير، لكن بنبرة يعتريها الإعجاب. لا نفهم شيئًا، لكننا نشعر بأن هناك شيئًا للفهم…لوجوده من اليقين ما يجعل الفهم متعذِّرًا. بفضل شارل هنري دو فوشيكور، نتوفر الآن على نص تمَّ التغلب فيه على صعوبات لغوية هائلة، فنحن الآن نفهم كلَّ الكلمات وكل الجمل، لكننا لا نفهم شيئًا.
تنسيق كلمات شمس غامضٌ بالأساس، وعظٌ وتوبيخُ لاذع، حكاياتٌ مفككة شيئا ما وغامضةٌ في أغلب الأحيان، لا تُدرَك علاقتها بما سبق من المواضيع، لمحاتٌ عقائدية سريعة وحادة، تتتالى دون أن نفهم جيدا ارتباط بعضها ببعض. لا ينتمي كتاب شمس لأي نوع أدبي صوفي تعبدي في الإسلام، ليس كتابا في الميتافيزيقا أو الشعر أو الإرشاد -رغم أنه قريب من هذه الأنواع في بعض الأحيان-، ويبدو من خلاله أن شمس تبريزي يتوجّه بالحديث كلّ مرة إلى المريد الحاضر أمامه، ذلك المريد الخاص الذي عليه سماع هذا الكلام الخاص، المفيد لشخص آخر دون شك، لكن يبقى ذلك المريد هو المقصود بالحديث نظرًا للشكوك التي عليه تبديدها، والقناعات -التي يجب تبديدها أيضا-.
إن كانت مقالات شمس ملَغَّزَةً، فلأنه يعتمد مقاربة التعليم باللغز -التي يمكن مقارنتها دون شك، مع ما يقتضيه اختلاف الحال، بتلك التي يتبناها معلمو مذهب الزِّن-: فعلى المتلقي أن يشعر بالحيرة،
وبفضل ما سيبدله من مجهود من أجل الفهم والاستيعاب، سيكتشف المضامين العقائدية التي تحدث عنها كرستيان جامبي بنوع من الحيرة. سيعثر عليها القاريء المستنير كذلك مسترشدا بتعليقات المترجم ليعيد الاتساق والترابط إلى المقالات. لكن ذلك لا يعدو أن يكون سوى مستوى أوَّل للمعنى، يمكن تبليغه للعامة من الناس، وإن لم نذهب أبعد من ذلك، فلا جدوى من هذا العرض الملغز، إذ سيكون الغرض منه إعمال الفكر – وذلك في أفضل الأحوال-، ويبقى الإشكال الخطير هو إفساح المجال إلى الكثير من سوء الفهم.
لذلك علينا ترقّب مستوى آخر من الفهم، وهو ما سيحدث لاحقًا، عندما يكتشف المريد فجأة أن تلك الكلمات لها معنى خاصٌّ يتعلق به فقط، يمنحه الإجابةَ عن سؤال يحمله بداخله دون أن يعلم بذلك. بيد أن هذا المستوى الثاني من الفهم يفترض إتمام التفكير في المسألة موضوع النقاش بعمق، ونقصان إجابة المستوى الأول، واستعصاء اللغز.
يكسو شمس مقالاته بآراء تأملية حول فضائل الكلمة الملغزة: [كلماتي (…)، إن رددتها مائة مرة، يكون لها معنى جديد كل مرة].
هناك شيء واضح داخل هذا الكتاب الغامض، قد كان صاحبه على اقتناع من أن الفعالية لا تشمل سوى الكلمة الملغزة. إنه موقف جذري لا يعني [أصحاب تخصص التخصص] فقط -أعني العلماء المتخصصين في مجال الدراسات الإسلامية-، بل يعني كلَّ من يتساءل عن الكلمة، وعن الكلمة الفعالة بامتياز قبل كل شيء، إذا ما كنا نعتقد بعلم أصول الكلمات: الشعر.
بعد أن تمّ تخليصها من غموضها اللغوي والتاريخي والفلسفي، يبقى لغز فعالية الكلمة اللغزَ الحقيقي للمقالات، يضاف إلى ذلك لغز ثان قد يكون هو نفسُه الأولَ لكن من منظور آخر: لغزُ اللقاء.
في قلب الحدث، نجد ذلك اللقاء المدهش بين شمس والرومي، ذلك الاعتراف الفوري البديهي الذي تستدعيه المقالات بشكل مستمر. وحده لقاءٌ من نفس النوع بين شمس وأحد مستمعيه، هو ما يضمن نجاح مقاربة التعليم باللغز، أي أن تأثير اللغز الذي يُطرح على شخص حقيقي ملموس لا يشبه أي شخص آخر، لا يتأتى إلا من خلال كونه قد طُرح من طرف شخص حقيقي آخر، ومختلف عن الجميع.
يكون الكشف عن الآخَر مفاجئا مثلما يكون الكشف عن معنى الكلمة، لكن قد يسبقه نضجٌ سِّري: [وتمر السنين قبل أن تظهر المحبة بشكل مفاجيء…]. هنا نواجه مرة أخرى سؤالًا يتجاوز حيزُه الحقلَ الضيق لتاريخ الأديان: ماذا يحدث بين رجلين ولا سيما بين مؤلف وقارئ؟ ماذا يحدث عندما يونِع أمام أعيننا إنتاج كاتب أو رسام أو مؤلف موسيقي بشكل فجائي، بعد أن كان شبه مستعص علينا؟
ومثل هنري بريموند Henrie Bremond الذي أحيى من قبل سيرة الآباء الروحيين الأكثر تهميشا في عهد لويس الثالث عشر، ليقودنا شيئًا فشيئًا -في حوالي خمسة آلاف صفحة- نحو هذا السؤال البسيط: [هل نعيش حقًّا؟]، نجد أن المترجم والمفسر شارل هنري دو فوشيكور قد مر بدرويش فارسي من القرن الثالث عشر ليقودنا إلى طرح هذه الأسئلة: [ما هي الكلمة الناجعة؟ ما هو لقاء الرجال داخل الكلمة؟ هل اتخذوا منعطفا طويلا؟]. لا أظن ذلك.
كان علينا المرورُ عبر هذه الشخصيات، فبالعودة إلى عمق ما عاشه أولئك المرشدون الروحيون، تبقى مثلُ هذه الأسئلة محميةً إلى الأبد، حتى لا يتم إضعافها وتشتيتها وسط جدالات المثقفين العقيمة.
 
 
 
 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!