دراسة التفسير الصوفي للقرآن في ضوء نظرية التأويل

دراسة التفسير الصوفي للقرآن في ضوء نظرية التأويل

دراسة التفسير الصوفي للقرآن في ضوء نظرية التأويل[1]

A Study on the Sufi Interpretation of the Qur’an and the Theory of Hermeneutics

بقلم:  د.مريم مشرّف

ترجمة: د.علي السعيدي

مقدمة

     انبثقت حركة التصوف نتيجة لظهورالإتجاه الاستبطاني (التأويلي) لقراءة الدين والذي يسعى لإيجاد حافز تعبيري قوي في العلاقة بين الله والإنسان. وبناءً على هذه الحيثيّة، بدأ المتصوفة تفسيرهم للقرآن وفقا لتجربتهم الدينية فأنتجوا خطاباً لغويًّا خاصًّا بهم يكشف عن رؤيتهم وتصورهم للعلاقة مع الله. وقد أطلقو على ذلك الخطاب ” لغة الحقيقة ” .لقد بُنيت تلك  اللغة التفسيرية بشكل أساسي على اعتباراتهم الفردية الخاصة إلى الحد الذي بدتْ فيه مثيرة لسخط العديد من رجال الدين الظاهريين. ورغم ذلك، فقد وجدت طرائق المتصوفة الخاصة في التفسير تطابقا مع علم التأويل في العصرالحديث من نواحٍ عديدة. ويُعدّ إكتشاف الوسائل التي تحرّر اللغة من أسرالقراءة الشكلية هي السمة المشتركة بين أقطاب التصوف العظماء كالحلاج والحكيم الترمذي وبين الشخصيات البارزة في العصر الحديث كريكور وهوسرل.

المتصوفة وتفسير القرآن

يعتبر التصوّف، الذي يعود تاريخه للقرن الهجري الثاني، حركة إسلامية مهمة يمكن تلمّس جذورها لدى الأشخاص الذين يقترب نمط سلوكهم الحياتي من سلوك النبي ومن توجهاته في الحياة، الأمر الذي كشف السبب الكامن وراء عدم قدرة كبار المفكرين على إقصاء كل التأثير الذي شكّلته قوة هذه الحركة وثرائها المعرفي، بل إن العديد منهم قد أبدى إعجابه بها. ورغم ذلك فإن عدد كبيرا من العلماء المسلمين قد أظهروا رفضهم  للتصوف.

       لم يتمكن جميع العلماء التقليديين، الذين اختصروا الإسلام في أداء الواجبات الدينية، من إقرار ودعم قراءة الاتجاه الصوفي  للدين وللقرآن . ويُشبه الإيمان، وفقًا للصوفية، نواة البذرة أما الإسلام (أي تطبيقات الشريعة) فبمثابة القشرة التي تحيط بها. كما أن منح المتصوفة الأصالة لباطن القرآن لايجعلهم يبخسون حقّ الشريعة أو المظهر الديني، بل تحاول الصوفية إثبات التماثل بين رؤاها وأفكارها وبين أفكار النبي ومضمون القرآن.

ووفقا لرؤيتهم، يعتبر الالتزام بالشريعة والقواعد الدينية في الحياة هو الخطوة الأولى لبلوغ الإيمان، الذي يعد جوهر الدين، والذي يطلق عليه الصوفية مصطلح ” الباطن” كونهم لم يقتنعوا بالمعني الظاهر لآيات القرآن بل سعوا جاهدين لاكتشاف المعاني الكامنة وراء التعابير القرآنية. لهذا نحن أمام طريقتين متباينتين في التفكير: الطريقة التي تتبنى تفسير وشرح الدين وفقا للمعنى الباطني وتلك التي تهتم بالمعنى الظاهري للفظ فحسب [2]

 لقد انعكست تلك المواجهة من خلال اتجاهين مختلفين نحو تفسير القرآن، ورغم عدم استطاعة رجال الدين المتمسكين بالمعاني الظاهرية إنكار طبقات المعاني الكامنه في تعابير وألفاظ القرآن لكنهم كانوا لايفتئون يجادلون المتصوفه حول الكيفية التي يفسرون بها تلك المعاني. ويعتقد رجال الدين التقليديون أن عملية التفسير لا تخضع للمزاج الشخصي للمفسر، كما ليس له أن يُدخل تفكيره الذاتي في الكيّفية التي يُشرح بها القرآن.

ولهذا فإن الإتجاه الذي تقوم عليّه معرفة العلماء الظاهريين بخصوص معنى الآية الكريمة يتّسم بالموضوعية الخالصة بشكل كبير. فهم إمّا أن يحاولوا شرح القضايا النحوية واللغوية للنصوص المقدسة أو يوضحوا السياق التاريخي لنزول الآية القرأنية. ولهذا ينصب جُلّ اهتمامهم بالنص المقدس من الناحيتين الموضوعية والتاريخية الظاهرة من الأية.

أمّا المتصوفة فلهم منهجهم الذاتي في تفسير القرآن مضافا للبعد الباطني للتفسير، والذي لايتأتي من المعنى التاريخي الظاهري للقضايا ولا من أسباب النزول، بل هو في الحقيقة نتاج التجربتين الذاتية والباطنية (بالتركيز على المعاني المضمرة). بل هو علاوة على ذلك إتجاه ابستمولوجي (معرفي) باطني قد أثار ثائرة علماء الشريعة، باعتبارهم السلطات الأكثر مصداقية فيما يتعلق بالقرآن، فقد شعروا بالفزع حين رأوا تلك السلطة الروحية للمتصوفة.

ومثالاً على ذلك يرى أصحاب الاتجاه الظاهري أن الإشارة في الآية 40 من سورة التوبة “فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ” هي مجرد إحالة موضوعية تاريخية لاغير. فهم يعتقدون أن الآية الكريمة تشير إلى المواجهة التي حصلت بين النبي وأعدائه ولأن النبي قد إختبأ مع أبي بكر في الغار فقد بعث الله الملائكة لنصرته[3]. كما أن الآية نفسها تشير للملائكة الذين نصروا المسلمين في معركة بدر مما أدّى إلى هزيمة الكافرين.[4]

وفقًا لرؤية المتصوّفة في تفسيرهم فهذا الجيش اللامرئي هو لطف الله وعونه الخفي للعارفين به لمنعهم من فقدان طريقهم العرفاني في الوصول إليه. إنه بمثابة جيش من الصبر والتوكل[5]، هذا إضافة لتضمّن الآية الكريمة معنى منح النبي تلك الطاقة اللامحدودة من الجَلَد في أوقات الشدة[6] ويعني هذا أن العارفين بالله في حرب مع الخطايا والمغريات ومطامح  النفوس، وأنّهم معرّضون  للهزيمة، لهذا يرسل الله لهم مددا روحياً لنصرتهم.

أمّا المفسرون الظاهريون فيرون أنّ الحوادث تقع في نظام تسلسلي يتطلب بناءا سرديا للكلام كنتيجة للترابط المنطقي بين القضايا. ويمكننا رؤية مثل هذا النظام في القصص القرآني حيث أن تطور الأحداث يجعلها تتخذ مسارا متصلا يتكامل فيها كل جزء من القصة، صغيرًا كان أم كبيرًا، مع بقية الأجزاء. وتتجلّى هذه الحالة في التفسير بالمأثور، والذي يتعامل بشكل أو بآخر مع البعد التاريخي للآيات وأسباب نزولها وخلفيتها التاريخية مضيفا بُعْدَ الواقعية التاريخية للنصوص المقدسة، التي تمتد جذورها في الأحداث الحقيقية في العالم الواقعي، والتي تعتبر مزيجاً من العناصر السردية. وفي مثل هذا الحالة يواجه المفسّر بنية لغوية أفقية ويسهم هو في خلقها.

       أمّا في التفسير الصوفي فلا يحاول المفّسر اكتشاف وتوضيح العلاقة بين النص المقدس والعالم الواقعي، فهو لايهتم بالنظام التسلسلي للأحداث ولا بالترابط اللغوي بينها، بل ينصبّ جهدُه في محاولة شرح معنى الآية بناءً على تجاربه الدينية (الجوّانية) فقط. مثال على ذلك وجود الكثير من التفسيرات للآيات الكريمة من الآية الأولى حتى العاشرة من سورة النجم والتي ينبثق منها سؤال حاسم يتعلّق بمعنى” النجم” في الأية الأولى. فكما يقول الإمام جعفر الصادق (المتوفي عام 148 هـ/ 765 م وهو الإمام السادس عند الشيعة) أن معنى النجم هو المكان الذي يُودع  الله به الإلهام (الوحي) في قلوب ذوي البصائر (من الخلق)[7].

ولهذا يحمل هذا النوع من التفسير جَنبة لاعلاقة لها بالواقع التاريخي بل تتضمن بُعدًا يتجاوز التاريخ، ومن خلال استبعادهم لعلاقات الأحداث الواقعية بالعام الخارجي، تمكن المتصوفة أن  يشّكلوا رؤيتهم التفسيرية  بحرية مطلقة. واذا اعتبرنا  أن النص المقدس منظومة من الإشارات فمنتهى سعي الصوفي هو البحث عن دلالات تلك الإشارات بغض النظر عن الوقائع الموضوعية المرتبطة بها. لهذا  ليس هنالك معنى ثابت كون الجزء المخفي الباطني من التفسير مضمومًا ومندمجا بدلالة الإشارة اللغوية، التي تُعد جوهرالأية، والتي يمكن أن تتنوع تبعا للتجربة الداخلية للصوفي. وعبر التقليل من دورالأحداث الواقعية يدخل المفّسر في مضمار سريالي يمكنه من خلاله أن يسهم في خلق المعنى بل يمكنه أن يخلقه بكليته بالفعل.

وخلافا لمناهج المفسرين الظاهريين، لايسعى المتصوّفه للعثورعلى المعنى الباطني فحسب بل يشرحون ذلك المعنى بلغة تختلف عن تلك التي يتعاطاها المفسرون المهتمون بالمعنى الظاهري للقرأن. ويرى المتصوّفة أن إيجاد المعاني اللغوية والخلفية التاريخية للآيات يمكن أن يكون مجديا لعامة الناس لكنّه لن يكن مقنعا للخَواص (النخبة) منهم. 

لكن، مالذي يسبب احتدام الغضب والحنق (ضد التفسير الصوفي) لدى اتباع الإتجاه التقليدي الشكلي من علماء التفسير؟  هل السبب هو أن هذه القراءات الباطنية هي رسائل تذكير بمناهج غير المسلمين كمنهج فيلو[8] الذي يجعلهم يشعرون بالتهديد؟ والجواب بكلا، كون المسلمين قد استثمروا تفسيرات اليهود والنصارى ليترجموا النصوص والقصص القرآني ولم يكن ذلك محضورا. أن ما يثير رعب المفسريين التقليديين هو أمر يتجاوز تأثير التفسيرات اليهودية والنصرانية وحتى الزرادشتية والمانوية الى شعورهم بأن سلطتهم الدينية باتت على المحك. أنهم يريدون تأكيد أنهم الورثة الحصريون لسنة النبي والوسطاء الوحيدون بين الله والناس بعد عصر النبي(ص). وبإعتبارهم أنفسهم العلماء الأكثر مصداقية ودراية بالمعرفة القرآنية فقد شعروا أن ظهور هؤلاء المفسرين الجدد يشكل تهديدا لهم.

    لقد أضاف المتصوفة بعدا شخصيا للتفسير التقليدي وقد تسببت شخصنة التفسير في خلق مساحة من الحرية والذاتية لحقل التفسير وذللك السبب هوالذي أخاف ومازال يثير خوف أتباع المنهج التقليدي في التفسير.  ولدينا، بناءا على ذلك، اتجاهان لغويان في التعامل مع القرآن وقد أثر كلاهما في الآخر تأثيرا كبيرا. مثال على ذلك أن تفسير ” روح المعاني في تفسير القرآن الأعظم” للآلوسي[9] ( ت 1270 هـ/ 1854 م)، وهو تفسير سني، وتفسير “الميزان في تفسير القرآن” لمحمد حسين الطباطبائي ( ت 1321 هـ/ 1981 م) وهو تفسير شيعي، وكلاهما تفسيران مهمان ومعتبران وليسا تفسيرين صوفيين، غير أنهما متأثران بشكل كبيرجدا بالمفسرين الصوفية. وعلى وجه الخصوص، تتميز التفاسير الشيعية بتأثرها بروحية المفسرين المتصوفة. ومن بين النماذج البارزة هو التفسير الكبير المعنون بـ ” المحيط الأعظم” لحيدر أملي[10] (ت 720 هـ / 1320 م) وهو (في تأثره بالتصوف) مزيج بين صوفية ابن عربي والفكر الشيعي. ومع ذلك فأن هذا التمازج لايمنعنا من إعتبار أن ذينك المنهجين واللغتين التفسيريتين معطيان مختلفان يحاول أحدهما مواجهة الأخر بطريقة معينة.

يقوم المفسرون التقليديون بشرح إشارات النص المقدس أخذين بنظر الإعتبار موضوعية النص والإحالات الخارجية. أما منهج المفسرين المتصوفة فيتشكل،علاة على ذلك، بالإعتماد على ذهنية المفّسر وهي ثمرة ونتاج حالات الإلهام الربانية(التي يتلقاها).

لم يقتنع المتصوفة بمجرد الإعتكاف في المسجد والإكثار من الصلاة منعزلين عن الواقع كونهم من بين الشرائح المفكرة في المجتمع وليس من الناس العاديين، كما أنهم يسعون لنشر لغة التصوف والتي يسمونها ” لغة الحقيقة”. لقد بدأوا بعملية إصلاح للغة بغية كسرالسلطة الحصرية للمفسرين التقليديين،مقررين وبشكل حاسم أن أولئك الذين يفهمون الحقيقة المتفردة للتصوف هم وحدهم العلماء المؤهلون لفهم القرآن بشكل صحيح. لهذا أصبحت لغة التصوّف بمثابة آلة الحرب ضد قيود الشكل اللغوي وسلطة علماء الكلام وذلك من خلال تفكيكهم للصيغ النحوية. وقد أطلق الإمام جعفر الصادق على هذا النوع من التفسير بالإستنباط وهو يشبه عملية إستخراج الماء من الينبوع أو استنباط الحقيقة من قلب العارف. لقد كان ذلك في نهاية القرن الثالث الهجري حين ألّف ابو عبد الرحمن السُلامي( ت 412 هـ/ 1021 م) المجموعة الأولى من التفسيرات الصوفية معتمدا على النصوص التي تعود لمئات من العرفاء المتصوفة البارزين[11]. لقد تعرّض المتصوفة، خلال القرنين السابقين، الى صنوف التعذيب واتهموا بالكفر تارة وبالجنون اخرى حتى أنّ بعضهم قد فقدوا حياتهم،  كل ذلك لتوظيفهم تلك اللغة العرفانية الفريدة. لقد أطلق السُليمي على مؤلفه المذكور إسم ” حقائق التفسير”، وقد أعلن بشكل رسمي في مقدمته للتفسيرالمذكورعن “لغة الحقيقة” مقابل لغة رجال الدين التقليديين معتبراً أنّ من يتكلمون لغة الحقيقة أعلى مقاما عند مقارنتهم بصفوة المفسرين التقليدين المهتمين بظواهر النصوص.وربما يكون ذلك هو السبب الذي دفع ابن تيمية ( ت728 هـ/ 1328 م) الى إعتبار مجرد قراءة تفسير السلأمي ممارسة للكفر. مع ذلك، بدأت بعض شرائح المجتمع الديني تولي ترحيبا بهذه اللغة الجديدة بشكل تدريجي والسبب وراء ذلك هو تلك الصلة العقلانية بين الطبقات الدلالية لهذا النوع من التفسير وبين النص القرآني المقدس.

          وفي مثال أخر من أجل التوضيح ،حين كلم الله موسى موجها له السؤال التالي: ” “وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَىٰ. قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا …” ( طه: 17 -18) ما يثير الفضول هو السؤال الموجه من قبل الله لنبيه موسى. ألا يعلم ما الذي يمسكه الأخير بيده؟ لقد قدّم معظم المفسرين معلومات تخص هذه المسألة معتبرين أنها قضية بلاغة ليس إلا ولديهم اسبابهم لتوضيح اسلوب تواصل الله (مع البشر). فالطبري( ت 310 هـ/ 923 م)، على سبيل المثال، يبين أن الله أراد إزالة الخوف عن موسى. غيرأن للمتصوفة تفسيرهم المختلف لهذه الآيات، فهم يقولون أن عصا موسى هي اشارة للاعتماد على الآخر. ويُعتبر موسى نفسه في التفسيرات الصوفية رمزاً للإنسان الإلهي الكامل. يقول الحسين بن منصور الحلاج( ت309 هـ/ 922 م) لقد أراد الله أن يُنذر موسى بخطورة الإعتماد على الآخرين و يظهرله أن كل إستعانة بغير الله ليست سوى عوناً مزيفاً وخطيراً، ولهذا مَثًّل له العصا بالحيَّة. بعد ذلك، أمدَّه الله بالأمان طالباًّ منه أن لايخاف من العصا وان يلقي بها جانبا. ويتضمن هذا التفسير نقداً لإعتماد العلماء على علمهم والتكبُّر الذي يشعرون به جرّاء ذلك.

لقد استفاد المفسرون المتصوفة، بشكل أو آخر، من إتجاه في التفسير يُشبه لغة التشفيرأو المجاز وهو إتجاه مألوف في تفسير الكتاب المقدس. ووفقا لهذا الإتجاه، من الشائع إستعمال خصائص الكلمات متعددة المعاني ومن التعابيرالمجازية لتوسيع الأفق الدلالي( للكلمات). وفي مثل هذه الحالة تصبح الكلمة إشارة لشيء أخر إعتمادا على أوجه الشبه بينهما أو تستخدم دلالات مختلفة لنفس الكلمة، وهو إتجاه في التفسير كان قد أدركه المعتزلة من قبل. علاوة على ذلك،أن التفسيرالصوفي قد أدخل قوة بيانية وتوضيحية هائلة للدراسات التفسيرية، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، أرسى المتصوّفة المعتدلون، كأبي القاسم القُشيري ( ت 405 هـ/ 1072 م)، تفسيراتهم الصوفية على المعاني الضمنية للترادف اللغوي أو التورية أو المجازات المرسلة،لهذا كان من السهل فهمها. ومن الممكن جدا توضيح الفرق بين التفسير التاريخي والتفسير اللغوي اعتمادا على النظرية التأويلية لحكيم الترمذي[12](ت300 هـ/ 912 م) وعبد القاهر الجرجاني[13]( 471 هـ/ 1078 م). لقد قدم عبد القاهر الجرجاني نظرية الأبعاد الدلالية وتعدد المعاني( بمعنى استخدام كلمات تكتب بنفس الشكل لكنها تحمل معاني مختلفة) معبدا الطريق لشيء يتجاوز التفسير التاريخي للمعرفة القرآنية. وقد بين الترمذي أن أيَّة كلمة يمكن أن تحمل معاني متعددة أخذا بنظر الإعتبار ظاهرة تعدد المعاني الأمر الذي أضاف غنى وثراءا لنصوص التفسير.[14]  مثال على ذلك كلمة ” النور” التي استخدمت في القرآن بعدة معاني من بينها ” كلمات الله” و ” وجود الله” و ” النبي محمد”و ” الحكمة” أو “جبرائيل”.  ويوجد 18 معنى مختلفا لكلمة النور في تفسير “كشف الأسرار” وكلها معاني موثوقة[15]. لقد ألًّف الترمذي كتاباً بهذا الخصوص محاولا فيه إثبات أن المفّسر يسافر من الطبقة الظاهرية للمعنى الى دلالات ومضامين مختلفة للكلمة مفضلا معنى واحد بإعتبار سياق الكلمة وموقف المفَّسر الشخصي من ذلك. ولهذا تكون رحلة المفَّسر من ظاهر اللغة نحو جوهرها وبالعكس. مضاف لذلك، أن عبد القاهر الجرجاني قد أبرز أهمية السياق في تحديد المدلول وأثبت أن فك شيفرات التعابير المجازية يتم من خلال أعتبار مجمل النص المقدس بنفس الطريقة التي يتم التعامل بها مع لوحة فنيّة بإعتبارها مزيج من الخطوط والألوان ،وأن جودة تلك اللوحة نتاج التفاعل بين كل عناصرها مجتمعة[16]. ومن خلال تقديمه لنظرية النظم ( الترابط اللغوي) والسياق، سلَّط الجرجاني الضوء على مبنى النص القرآني ومعناه مشددا على أهمية السياق في تفسير مجازات القرآن وتعدد المعاني فيه. لقد أحدثت أفكاره تحولات مدهشة في نظرية الهرمونطيقا( التأويل) الإسلامية لأنه شدد على أننا لانستطيع تقييم الكلمة بمعزل عن سياقها والنص الذي وردت فيه .

ووفقا لنظرية التأويل في تلك الفترة، فقد تم التأكيد على الفرق بين التفسير اللغوي التاريخي والتفسير المجازي والمتعدد المعاني، وهما أتجاهان مختلفان وبارزان في التفسير.وتحمل نظرية التفسير تلك الكثير من أوجه التشابه مع الأفكار التأويلية للفيلسوف الفرنسي بول ريكور ( ت 2005 م). كما أن النظرية التأويلية التي قدمها ريكور تحمل تشابها كثيرا بالأفكار التفسيرية لعبد القاهر الجرجاني. وحسب نظرية ريكور، أن الشرط الأكثر أهمية للإبتكار في الجمل هو توظيف خاصية تعدد المعاني التي تتسم بها الكلمات. ومن خلال رمزية الإشارة اللغوية، يمكن تحديد مديات المعنى الذي تحمله الكلمة. إن علم رموز الكلمات يحدد بُعْد الكلمة وحقلها. وهو في حقيقة الأمر يحدد السِمة الدلالية للكلمة في نظام اللغة. لكن ريكوريؤمن، كما الجرجاني، أنه لايمكن فك شفرة الكلمة مالم توضع في سياقها النحوي داخل الجملة ثم في إطار السياق الكلي بشكل عام. إن المعنى الجديد للكلمة ضمن سياق معين هو نتاج التفاعل بين الحقول الدلالّية. بمعنى أخر كأنَّ الحقل الدلالي في النص بمجمله يحل بديلا عن حقل آخر. وفي مثال النبي موسى تعتبر العصا مجالا دلاليا للتفسير التقليدي حسب سياقها شبه التاريخي وهي تشير الى حقيقة أن موسى كان راعيا كما تشير لحادثة لقائه بالسحرة. أما في المجال الدلالي الثاني فموسى عبارة عن شفرة لغوية تدل على أي قديس يقلل بشكل تدريجي إعتماده على الأسباب المادية في مساره الروحي.لهذا يتم استبدال إشارات لغوية بأخرى بغية خلق سياق دلالي جديد. ففي السياق الدلالي الأول، كانت عصى موسى اشارة للخوف من السحرة، أما في السياق الثاني فهو لخوف موسى نفسه.

ونحن في التفسير اعلاه مفصولون عن النواحي التاريخية للقصص القرآني متجاهلين الزمان والمكان والمؤشرات الموضوعية الأخرى منخرطين في حيَّز ذاتي للتفسير.ومع ذلك لايزال من الممكن توضيح العلاقة بين المجالين الشخصي والموضوعي من خلال أدوات الإتجاه العقلاني. ويمكنن أن نجد أوجها للشبه بين العصا وأي نوع من العون عبر التفاعل العقلاني.

وفي مثل هذا النوع من التفسير لانزال نعتمد على القياس والتشابه اللذين يعملان كإشارات يقوداننا للمعنى المطلوب. وكما رأينا فقد كانت العصا إشارة للعون بأي شيء سوى الله غير أنَّ هذه الطريقة غير كافية للتعبيرعن التجربة الدينية ونقلها وهي نوع من التجربة التي يبدو من الصعوبة بل من الإستحالة ايصالها للآخرين كونها تعكس العالم الباطني للأفراد. لايمكن للغة المجاز وحدها أن تكون كافية لهذا الغرض. نحن لانعني التقليل من قيمة قوة التفسيرات البيانية والمجازية للقرآن وأهمية دورها في تطور المعرفة القرآنية. أما في مجال التجربة الروحية فيبدو أن الإعتماد على التشابه ونظريات القياس اللغوي غير كاف، والسبب في ذلك أن هذه النظريات لاتزال مستغرقة في حيثيات العقلانية والموضوعية، ولهذا لاتترك مجالا لذهن القاريء لأن يتوسع في الفهم. لقد كسر المتصوفة قواعد اللغة التي تعتمد على العقلانية والتقليد اللغوي محاولين خلق حوار أكثر مرونة واتقادا بالحماس والعاطفة. لقد تطلب الأمر سلسلة من النصوص( الخطاب) لتحليل جميع المجازات اللغوية وجماليات النص التي استخدموها لكسر قواعد اللغة المألوفة، ولكي نقدم مثالا على ذلك، علينا دراسة تفسير كلمتي ” الْبَرِّ” و” الْبَحْرِ” في الأية التالية:

”  هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ …” ( يونس: 22)

تشير كلمة الْبَرِّ في التفسير الصوفي الى أفعال التقوى والعبادة بينما يعتبر البَحْر رمزا للفرح والنشوة وهو يشير الى أعلى مستويات التجربة الصوفية[17].

 لقد أولى المتصوفة محلا عاليا للتجربة الروحية ،الغير قابلة للتفسير، في سياق اللغة وقد أسهم ذلك في توسيع مجال اللغة بشكل واسع. ويدخل الصوفي، في قرائته للقرآن، الى طبقات دلالية أعمق للنص المقدس لايمكن بلوغها من خلال الفكر العقلاني لأن هذا المجال ذو ابعاد مختلفة للإدراك وهو نتاج اللإلهام والتأمل.  وفي هذه الحالة لايستخدم الصوفي المجازات والتوريات عن قصد فحسب بل هو لايتجاوز الدال للمدلول ولا ينتقل من النص المقدس لأدراك المعنى من خلال المحاكاة، إنما يُلقى اليه معنى النص المقدس عبر الكشف والإلهام وبطريقة مدهشة.

ويوجد عدد هائل من الأمثلة لهذه التفسيرات الصوفية خصوصا مايتعلق منها بالحروف المقطعة في بداية السورالقرآنية. وبما أن تشكيل اللغة هو نتاج الإشتراط الصوفي، لهذا نجد تعويما مطلقا للمعاني لدى المتصوفة يتطلب إدراك تفسيرها دائرة تأويلية، وهي نوع من الدوائر تجعل من المستحيل إستنساخ تجربة الصوفي إلا بالطريقة التي يريدها هو. إن غرض الصوفي وغايته حين يقرأ ويفَّسر تتخذ مسلكا ثابتاً غير أن من المستحيل علينا بلوغ ذلك. لذلك تصبح عملية التفسير والإدراك لتلك النصوص الرفيعة ممكنة فقط حين نتجاهل نيّة المؤلف ونحاول ممارسة دورنا في لعبة الأبتكارهذه. وبالتالي، يمارس الصوّفي لعبة خطرة ،من خلال تشكيل اللغة وتفسيرها، تقود بالنهاية الى نوع من التفسير للقرآن في غاية السمو والتعقيد. لقد عبّدت لغة أولئك المفسرين الطريق لأنواع من الإبداع كتلك التي تجلت في أعمال جلال الدين مولوي ( الرومي)[18] ( ت 672 هـ/ 1273 م) وإبن عربي[19] ( ت 638 هـ/ 1240 م). أنهما يدينان بقدر كبير من مفرداتهما للتفسيرات الصوفية للقرآن وكتابات المتصوفة في الماضي. فعلى سبيل المثال، يبين ابن عربي في تفسيره للحرف الأول ” الألف” في كلمة ” الله” أنه رمز لإستقلالية الله وغناه لأن هذا الحرف غير مرتبط بأي حرف أخرفي تلك الكلمة. لهذا يقترح ابن عربي أن حرف الألف هو رمز لغنى الله( عن العالمين) فهو غير معتمد على أي مخلوق أخر بينما جميع المخلوقات مفتقرة اليه. وتعود هذه الفكرة بشكل أساسي الى تفسير الحلاج[20] لـ ” بسم الله” والتي ظهرت في كتاب حقائق التفسير للسُلامي[21].

لقد تم تقديم ثلاثة إتجاهات في التفسيرحتى الآن هي : (أ)  الإتجاه الموضوعي التاريخي (ب) الإتجاه اللغوي المجازي (ج) الإتجاه الذاتي الخالص( القائم على التجربة الذاتية للمتصوف). ورغم أن خصائص التفسير الصوفي متمحورة بشكل رئيسي في الإتجاه الثالث إلاّ أن الإتجاهات الثلاثة بأجمعها تم توظيفها في التفاسير الصوفية للقرآن بحيث تضيء كل منها حقلا متفردا للإدراك. فنحن في الإتجاهين الأول والثاني نسعى وراء الشرح والتوضيح بينما يرتبط الإتجاه الثالث بعملية الفهم. وقبل سنين مضت ،اي حوالي نهاية القرن التاسع عشر، بيّن الفيلسوفان الألمانيان شليرماخر( ت 1834) وديلثي( ت 1911) الفرق بين شرح النصوص وبين فهمها في الإتجاهات التأويلية. فحسب ديلثي فأن شرح نص ما ( أي وصف ما قيل) يختلف عن فهم ذلك النص ( أي ما يعنيه المؤلف). وقد دلل على أن عملية الفهم ترتبط بالجوانب الروحية للفرد. لقد أسهم شلايرماخر ودلثي بإضافة العوامل الذاتية والشخصية لعلوم التأويل[22]، غير أنهما لم يُنكرا دور المعرفة التاريخية. ومع ذلك فإن هوسيرل( الفيلسوف الألماني المتوفى عام 1938) هو من ذهب بنظرية المعرفة( الإبستمولوجيا) الى مستوى جديد كل الجدة من خلال إضافته للأبعاد الذاتية الخاصة( في فهم اللغة).

وبناءا على أعمال هوسيرل، لاتنوي الهرمونطيقا عدم شرح الحقائق الموضوعية بل تتجاوز ذلك الى إضفاء البعد المثالي على التفسيرات وفقا لحالة المفَّسر الذهنية مددلا على ذلك بأن شرح نص ما هو مجرد طريقة واحدة لتوفيرالمعلومات حول العالم الخارجي وإرساء نظام لضبط تيارالتجارب (الشخصية) المضطرب. إلا أن القدرة الذهنية للمفسر( قاريء النص هنا) غائبة هنا وأن على المفسر أن يخضع للحقائق الموضوعية فقط. لهذا لايمكنه الفصل بين الزمان والمكان المرتبطان بأصول النص. فشرح نص معين ،وفقا لهوسيرل، لايقود لسوى التقليل من عملية فهم واستيعاب النص ولذلك فهو مضر بعملية الفهم. يقدم هذا النوع من التفسير بيانا ليس إنسانويا لتفسير محتوى إنساني وبناءا عليه لايمكن لقاريء هذا التفسير أن يدرس نفسه وينتج فهما عميقا لها، وهو نوع من التجربة التي تعتبر الهدف الأساسي للتفسير، أي فهم النفس. في محاضرته الشهيرة في فينا عام 1935، أوضح هوسيرل أن العالم( lebenswelt ) هو عبارة عن بُنية روحية تكمن في أعماق حياتنا ووجودنا التاريخي. ولهذا من غيرالمجدي لشخص يركّز على الروح أن يبحث عن أي شيء خارج نطاقها حيث لايمكنه حينها أن يقدم شرحا دقيقا[23].

وتعد هذه الرؤية سارية على كل أنواع الأداب ،و مثال على ذلك أن مجرد إستماعنا لمعزوفة باخ المعنونة ” شجن القديس يوحنا” فإننا نجد إنفسنا فيها. يمكننا أن نكررأفراحنا واتراحنا وتجاربنا الشخصية من خلالها وهنا تكمن قيمة الروائع (في الأدب والفن)، إنها تساعدنا على إكتشاف انفسنا ومن ثم تشكيل فهماً أعمق وأسمى لأنفسنا من خلال تجربة شخص آخر. من الجيد  الحصول على المزيد من التفاصيل التاريخية والقصصية حول قصة صلب المسيح غير أن كل تلك التفاصيل توفر أرضية لفهم رائعة باخ لكنها لاتحمل أيّة قيمة إضافية . تعتبر جميع تلك التفاصيل ضرورية لأعطاء مقدمة عن الموضوع، لكنها لاتكفي لفهم رائعة باخ، ولو كان الأمر كذلك، لتوجب أن يكون لكل شخص فهما ثابتا لتلك الرائعة، لكننا نرى العكس من ذلك تماما. فكلما كانت تجارب المتلّقين أكثرعمقا كلما تعمّق أرتباطهم بفن باخ وكلما كان أكثر إبهاجا لهم. هذه التجربة التي تمزج بين التاريخ والفهم هي ما عبّر عنها هوسيرل بكلمة lebenswelt اي العالم الديناميكي( المفعم بالنشاط). حتى أن فهم التباينات والتباعد والطرافة لرائعة معينة يتسبب في فهم أعمق للنفس وتلك مهمة المفّسرأن يعمّق هذا الجانب من الفهم. إن نهج هوسيرل هو الأكثر ملائمة لفهم التفاسير الصوفية لأن الصوفي يحاول توضيح نفسه من خلال النص.أمّا من خلال قرائته للنص ينتج الصوفي فهماً هو نتاج الألهام والتأمل، وهو مجال للفهم ليس بالإمكان بلوغة عبر العقل المجرد. وفي مثل هذه الحالة، لاينفصل الصوفي عن الزمان والمكان فقط بل يتجاوز الفهم المتأتي عبر تعدد المعاني والمجازات. فهنا يتواجد فيضان كامل للمعاني، وهنا يتجاوزتفسير الصوفي الحيّز المألوف للغة، وهذا هو السبب الذي يجعل التفسيرات  والنصوص الصوفية نفسها بحاجة للشرح والتفسير. يقارن إبن عطاء الآدمي ( ت 309 هـ/ 921 م)، وهو صديق مقرب للحلاج، هذا النوع من الفهم بالمطرالذي ينساب في جميع بقاع الأرض ( أي جميع القلوب) ويخصب كل جزء من التربة تبعا لقابليتها وفهمها الروحي[24].  

ووفقا لهيرش يمكن أن يكون مغزى الصوفي وطريقة تفكيره ثابتتين بما يتعلق بهذه النصوص المعقدة غير أن من المستحيل بلوغ وتكرار تلك اللحظة الحدّسية من قبل القاريء العادي. لهذا نحن نتجاوز المجالين التاريخي والمجازي لندخل في المجال الذاتي.  في تفسير الميثاق القرآني الأولي ” وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ  قَالُوا بَلَىٰ  شَهِدْنَا …” أن الله هو نفسه المتلكلم والمستمع[25] ( الأعراف: 172) ويبين الحلاج معنى كلمة  ” بَلَى”  الواردة في الأية قائلا ” أن المتكلم منكم ومنفصل عنكم ومستمع لكم لكنه مباين لكم”[26].

وفي مثل هذا البيان التفسيري، ليس لدينا أيّة اشارة لفهم تجربة المتكلم بالتحديد. لهذا علينا إعادة تفسير كلماته لأنفسنا أكثر من مرة. وفي مثل هذه الحالة يعتبرالتفسير محاولة للتلائم مع عالم غرائبي[27].إن التفسير،بهذا المعنى، عبارة عن معركة ضد حالة الإغتراب. إن تفسير النص هو مزامنة لدلالته في اللحظة الراهنة وليس بالضرورة أن تتعلق تلك الدلادلة بكاتب النص بل بأي شخص يستصحب ذلك النص. يسأل النص قارئه أن يتدخل معترفا بأهمية طريقة تفكيره، لهذا يعد هذا النوع من الفهم للنص فهما عميقا وديناميكيا بدلا من التفسير الجامد الذي لاحياة فيه. ويقف رجال الدين المهتمين بالتفسيرالظاهري على النقيض من المتصوفة بسبب هذا التفسيرالمتحرر والمنطلق.  

روزبهان البقلي الشيرازي ( ت 606 هـ/ 1209 م) صوفي شهير ومؤلف لتفسيرعظيم للقرآن يبين فيه شروح وتفسيرات كلمات المتصوفة ولغتهم المتفردة ومعركتهم المستمرة مع رجال الدين بخصوص اللغة. ويوضح كذلك ،في مقدمته لهذا التفسير، أن المتصوفة يعانون دائما من تطاولات الإكليروس المتمسك بالظواهر ومن تنكيلهم وسجنهم والسبب في ذلك ، كما يرى روزبهان، أن رجال الدين أولئك ليسوا على قناعة بمجال عملهم ذاته لأنهم يفتدون القدرة على تلك المستويات الرفيعة من الفهم ولهذا يشعرون أن المتصوفة يشكلون تهديدا لهم، لذلك فهم يعارضونهم دائما.

ويصنف روزبان كتابات المتصوفة الى ثلاثة طبقات ويسمي لغة فريدة لكل منها.يتعلق الصنف الأول بأولئك المنقطعين للصلوات وهؤلاء يحظون برضا رجال الدين( الظاهريين)  والسبب أن فعلهم ذلك له أصوله في القرآن والحديث. أما الصنف الثاني فيرتبط بالأعمال التي كتبت حول مباديء التصوف وهي مزيج من القرآن والحديث، وهذا واضح لمن يفهمون الحقيقة. وحسب ما يرى روزبهان أنَّ ”  تلك المعارف واضحة في القرآن والحديث لكنّها مجرد شفرات واشارات لايدركها إلا المؤمنون لأن تلك المعارف هي جوهر القرآن. أما اتباع الإتجاه الظاهري فلا يبحثون عن سوى الشريعة في القرآن( أي أنهم مؤمنون فقط، لكنهم بعيدون عن حقيقة القرآن). ويقول روزبهان أن الصنف الثالث فمتعلق بكتابات أولي العلم. وأولو العلم (العمران: 18)، على حد قول روزبهان، هم المؤمنون حقا ( أتباع التصوّف).

“لهذا لديهم ثلاثة انواع من اللغة: النوع الأول هو لغة الصحوأي المعرفة العلمية، والنوع الثاني فهو لغة العظمة وتسمى معرفة التوحيد. أما النوع الثالث فلغة السُكرويطلقون عليها كذلك لغة السرواللغة المخفية ولغة الغموض( الشعث)”[28].

” أما لغة السكر فهي غريبة عليهم، فهذا الصنف الثالث من اللغة مختص بأتباع الصوفية السكارى (بحب الله) اللذين يحاولون رؤية الأغطية ( الحواجز) المخفية، فإن هم باحوا بتلك اللغة فستثورثائرة الإكليروس الظاهريين ولسوف يصرخون ويشنون هجومهم على المتصوفة.”[29]

ولهذا فإن المتصوفة واعون بمستويات الفهم المختلفة وبخصائصها المحّررة والمَرنة. وفي مثل هذه الحال، يعتبر التفسير جهادا(كفاحا) من أجل الحرية ومعركة ضد الإغتراب. ويمككنا الآن معرفة السبب الذي جعل المتصوفة يصرون على التفسير الصوفي رغم تعدد أنواع الكفاح( في سبيل ذلك).  لقد قاد منهجهم في تفسير النص القرآني المقدس الى مدار تأويلي يستأصل الرؤية االغوية أحادية المعني التي لاروح فيها، أنه معركة تحّجِم النظرة أحادية المعنى لرجال الدين الظاهريين وسلطتهم الأيديولوجية وتجلب رؤية تعدد الأصوات للتفسير والتي هي أكثر مدعاة للتحرر من القيود. وتعد التأويلية الصوفية جهدا مميزا لتحريرالعقل واللغة من الدعوى التعسفية والأنانية لأولئك الذين يقبلون فقط بفهمهم للنصوص المقدسة معتبرين ذلك الفهم حقيقة مطلقة. إنها معركة لم تنته بعد.

 

 

[1] . هذه ترجمة لدراسة كُتبت بالإنكليزية بعنوان : ” A Study on the Sufi Interpretation of the Qur’an and the Theory of Hermeneutics ” و نشرت في مجلة البيان (2013)، قسم القرآن والحديث، أكاديمية الدراسات الإسلامية، جامعة الملايا، كوالا لامبور، ماليزيا. والباحثة مريم مشرّف هي أستاذ مساعد في اللغة والأدب الفارسي، جامعة شاهد بهشتي، طهران، إيران.

*مترجم هذه الدراسة الدكتور عبد علي السعيدي أستاذ مساعد في علم اللغة وتداوليات الترجمة، جامعة ذي قار، كلية الأداب، قسم اللغة الإنكليزية، ناصرية- العراق.

[2] . للمزيد من المعلومات التفصيلية يمكن مراجعة المصادر التالية:

  • محمد حسين الذهبي، التفسير والمفسرين، (بيروت: دار أهل التراث العربي ، 1976)
  • Paul Nwyia, Exegese coranique et language mystique,( Beirut: Dar El-Machriq Sarl Editeurs, 1991); Ignac Goldziher, Die Richtungen der Islamischen Koranauslesung,( Leiden:Brill 1920); Ibid, Madhahib al Tafsir al-Islami,(trans, Abd al-Halim al-Najjar, Cairo: Maktabat al Khanaji,1374/1955); Gerhard Bowering: “The Qur’an Commentary of Al-Sulami”, in B.Hallaq and Donald P. Little. ed, Islamic Studies Presented to Charles J.Wael,( Leiden:Brill,1991),pp.41-56; Louis Massignon: Essai Sur Les Origines du Lexique de la Mystique Musulmane,( Paris: Libraric Orientaliste Paul Geuthner 1922).

[3]. . جلال الدين المحلي وجلال الدين السيوطي، تفسير الجلالين: تحقيق واخراج  في جداول السيرة/ إعداد وتحقيق أبو فارس الدحداح، راجعه عبدالله رابح محمود.( بيروت: مكتبة لبنان ناشرون، 2000) ص. 196.

[4] . . مقاتل بن سليمان، تفسير القرآن، تحقيق عبد الله محمود شحاتة 5 مجلدات (بيروت: دار أهل التراث، 2010) جزء 2 ، ص 135.

عتيق بن محمد السرابادي، تفسير القرآن، تصحيح سعيدي سيرجاني، 3 مجلدات (طهران: ناشر طاووس، 1978) ج 2، ص 937/  ابو الفضل رشيد الدين الميبدي، كشف الأسرار وعدّة الأبرار، بسعي واهتمام علي أصغر حكمة، 10 اجزاء( طهران: بنياد فرهنك، 1952، جزء 4، ص 138.

[5] .أبو عبد الرحمن السُلمي، حقائق التفسير، تحقيق سيد عمران، جزأين ( بيروت: دار الكتب العلمية، 2001)، ج1 ، ص 271.

[6] .ميبودي، نفس المصدر.

[7] . السُلمي، المصدر نفسه، ج2 ، ص 283، وانظر

Paul Nwyia, ” Le Interpretation Mystique attribute a Gafar Sadiq” Melanges del’ Univesrsite St.Joseph, t.43,fasc.4,(Beirut: University St.Joseph 1968), pp.23-181.; Gerhard Bowering, Ziyadat Haqaiq al-Tafsir li Abi Abd ql-Rahman Mohammad ibn alHusayn alSulami; Haqqaqahu wa-qaddama la-hu Jirhard Burwaring, ( Beirut, Dar al-Mashriq, al-Maktabah al-Sharqiyah, 1995), p.22.

[8]. فيلو الأسكندراني ( ت 50 قبل الميلاد) وهو من استخدم المجاز للتوفيق بين الفلسفة اليونانية والمعتقدات اليهودية.

[9] مؤلف التفسير

[10] .  المتصوفة الشيعة والمفسرين.

[11] . للمزيد من التفاصيل أنظر الهامش رقم 5 وانظر كذلك،

Gehard Bowering: “The Qur’an Commentary of Sulami”, in B.Hallaq and Donald P. Little. ed., Islamic Studies Presented to Charles J.Wael,( Leiden:Brill,1991),pp.41-56.

[12].متأله وصوفي مشهورمن خراسان.

[13]. عالم عظيم ومؤلف في اللسانيات والتفسير ويعرف أنه مؤسس البلاغة العربية.

[14]. Paul Nwyia, Exegese coranique et language mystique,( Beirut: Dar El-Machriq Sarl Editeurs, 1991); P. Nwyia, Zaban Qur’ani va Tafsir I Irfani (Trans. Isma’il Sa’adat, Tehran: Markaz-c Nashr-e Daneshgahi,1994),p.97-99.

[15]. ميبودي، المصدر نفسه، ج2، ص 786-787.

[16]. عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز في علم المعاني، تحقيق ياسين أيوبي،( بيروت:  المكتبة الأثرية،2000) ص 102.

[17]. السُلامي، حقائق التفسير، ج1،298، ج2،126.

[18]. شاعر صوفي فارسي عظيم.

[19]. متأله وصوفي أندلسي.

[20].صوفي فارسي تم  إعدامه عام 309 هـ/ 921 م.

[21].  السُلامي، المصدر نفسه، ج1،ص 248.

[22].  Pual Ricour, John Thompson, Hermeneutics and the Human Sciences: Essays on Language, Action and Interpretation,( Cambridge: University Press, 1981), pp. 145.

[23].See Gary Brent Madison, The Hermeneutics of post modernity studies in phenomenology and existential philosophy, (Indiana, University Press, 1990), p.10-16 .

[24] .Al-Sulami, Haqaiq, vol.1,p.330-331,q.v.Qur’an 13:17.

[25]. Massignon: Essa Sur Less Origines Du Lexique de la Mustique Musulmane,( Paris: Librarie Orientaliste Paul Geuthner 1922), p.370-371, Abu Abd alRahman Sulami, Majmua Athar: Bakhshhai az Haqaiq al-Tafsir va Rasaili Digar, Bi ihtimam Nasrullah PourJavadi, 2 vol.(Tehran: Markaz-c Nashr-c Danesgahi, 1990-1993), vol.1,p.250.

[26]. Massignon, ibid, Al-Sulami, Haqaiq, vol.1,p.249 .

[27] . Ricoeur, ibid, p.186.

[28] .  Ruzbihan Baqli Shirazi, Commentaire sur Les paradoxes des Soufis ( Sharb-i Shathiyat), Henry Corbin ed.: Bibliotheque iranienne,no.12(Tehran: Department d’Iranologie de I’Institut Franco Iranien, 1966), p.36.

[29] . روزبهان، المصدر نفسه.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!