حبات نور عابرة للدهور- بشر بن الحارث الحافي

حبات نور عابرة للدهور- بشر بن الحارث الحافي
حديث رمضان – حبات نور عابرة للدهور (الحبة السادسة)
بشر بن الحارث الحافي.. رجلٌ يستحي منه الملوك
بقلم الدكتورة سعاد الحكيم


 إنّ الصادقين الذين أمر الله تعالى المؤمنين أن يكونوا معهم بقوله عز وجل [التوبة/ 119]: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ)، ليسوا مستنسخين من أنموذج واحد، ولا على درجة واحدة من التشدّد في الورع والتوكل.. بل هم ألوان شتّى، مصابيح مشعّة تجذب جنود الأرواح الشقيقة، وتضيء زوايا نفوس الناس حولها؛ في شتّى ميادين العلم والحياة.. هذا التنوّع الممدود في أشخاص الصادقين عبر التاريخ، دليل بشري على الوسع الإلهي العظيم، وعلى حرص سيد المرسلين صلوات الله عليه على عدم تنميط الصادقين، بل إعدادهم ليكونوا منارات عالية تهدي سيَّارة الباحثين عن الصادقين؛ على اختلاف أمزجتهم الروحية والفكرية.

يطل بشر بن الحارث في أواسط القرن الثاني الهجري إلى الربع الأول من الثالث، بهامة صدقٍ شامخة تحفّز أصحاب الهمم العالية.. ولد عام 152هـ، في قرية من قرى مَرْو، وكان والده من الكتبة الذين يعملون في القصر الملكي، ويعاونون الوزير في تصريف الأمور، فنشأ في بحبوحة مترفة أتاحت له أن يقضي أوقاته مع رفاقه في لهو ولعب.. ثم حدث أمرٌ غيّر حياته كلها، وحوّل مساره من اللهو إلى الجدّ، ومن الغفلة إلى الحضور.. ولذا، فهو واحدٌ من كبار التوّابين في تاريخنا الديني. بعد توبته طلب العلم الموجود في بلاده، وعندما استوفاه ساح بعض الوقت فقَدِم دمشق واجتاز جبل لبنان، ثم استقر في بغداد.. وكانت عامرةً بعلماء وعارفين كبار؛ منهم الإمام أحمد بن حنبل، والجنيد البغدادي، وسفيان الثوري وغيرهم كثير.

عاش حياته زاهداً عابداً مجاهداً لنفسه مؤدباً لصحبه، يعمل بيده ليكسب رزقه فكان يصنع المغازل ويبيعها، وظل طوال حياته فرداً لم يتزوج. وفي ذلك قال الإمام أحمد بن حنبل: لو كان بشر تزوج، لتمّ أمره.. عاش حوالى 75 سنة وتوفي مطمئناً راضياً في بغداد عام 227هـ.

1 – التوبة الأولى والنهائية: كثرٌ هم المؤمنون الذين يجاهدون أنفسهم للتوبة، فينجحون حيناً ويفشلون أحياناً، حتى يستقر لهم الحال على أحسنه.. أما بشر بن الحارث، فالتوبة عنده نقلة نهائية، وفي لمحةٍ، من حال إلى حال؛ من حياة الغفلة عن الله تعالى إلى حياة الصحو والحضور لله تعالى في كل آن.

كان يَسْمر على عادته مع صحبة في دارته، وضجيج لهوهم ولعبهم يُسمع من خارج.. دقّ رجلٌ بابه، فخرجت الخادمة، فقال لها: صاحب هذه الدار حرٌّ أم عبد؟ قالت: حرّ. قال: صدقت، لو كان عبداً لاستعمل أدب العبودية وترك اللهو. ثم ولّى. دخلت الخادمة وأخبرت بشراً بما حصل، فخرج يعدو خلف الرجل حافياً حتى أدركه، وطلب منه إعادة كلامه، فأعاده له، فهام من وقته على وجهه حافياً حتى عُرف بالحفاء. وقيل له: لم لا تلبس نعلاً؟ فقال: ما صالحني مولاي إلا وأنا حافٍ، فلا أزول عن هذه الحالة.

يرى بشر بن الحارث أن هذه التوبة من الغفلة – غير المتوقعة وغير المعمول لها – هي منحة إلهية، ويحدثنا عن السبب الذي أهّله لها وهو تكريم شعائر الله تعالى. يقول: إنه كان يسير ذات يوم فإذا هو بقرطاس في الطريق، فرفعه، فإذا مكتوب فيه «بسم الله الرحمن الرحيم»، فمسحه وجعله في جيبه، وكان عنده درهمان ما كان يملك غيرهما، فذهب إلى العطار فاشترى بهما عطراً ومسحه في القرطاس، فنام تلك الليلة فرأى في المنام كأن قائلاً يقول له: يا بشر بن الحارث، رفعتَ اسمنا عن الطريق وطيّبته، لأطيبنّ اسمك في الدنيا والآخرة.. وهذا درس عظيم في العطايا الإلهية الممنوحة لمن يعظّم شعائر الله.

2 – ورع بشر بن الحارث وأختيْه: نفذ ورع بشر إلى دقائق لا يكاد يرصدها عقل إنسان، لقد تورّع عن المشي في ظل حائط لشخص دون إذنه. يقول محمد بن يوسف الجوهري: كنت أمشي مع بشر بن الحارث في يوم صائف، منصرفاً من صلاة الجمعة، فاجتزنا بسور دار إسحق بن إبراهيم، وله فيء، فجعلت أزاحم بشراً إلى الفيء، وهو يمشي في الشمس، فقلت في نفسي: واللهِ لأسألنّه؛ أمن الورع أن يمشي الإنسان في الشمس فيضرّ نفسه؟! فقلت: يا أبا نصر، أنا اضطرك إلى الفيء، وأنت تمشي في الشمس. فقال مجيباً: هذا فيء سور فلان.

وكان لبشر أختان عُرفتا بالورع أيضاً، فها هي واحدة منهما تأتي إلى الإمام أحمد بن حنبل تستفتيه، تقول: إنا نقوم نغزل بالليل، ومعاشنا فيه، وربما يمر بنا مشاعل بني طاهر ولاة بغداد، ونحن على السطح، فنغزل على ضوئها الطاقة والطاقتين، أفتُحِلّه لنا، أم تحرّمه؟ فقال لها الإمام أحمد: من أنت؟ قالت: أخت بشر. فبكى وقال: آه يا آل بشر، لا عدمتكم، لا أزال أسمع الورع الصافي من قِبَلِكم..وفي رواية: من بيتكم خرج الورع، لا تغزلي في شعاعها.

3 – حب الشهرة والمدح: كان بشر يحذّر من استمراء النفس للمديح ويقول: «سكون النفس إلى المدح، وقبول المدح لها، أشدّ عليها من المعاصي». وكان يقول ناصحاً: «لا تعمل لتُذكر، أكتم الحسنة كما تكتم السيئة».

وفي يوم جاء رجل إلى بشر، فقبّله، وجعل يقول (مادحاً ومعظّماً): يا سيدي أبا نصر. فلمّا ذهب، قال بشر لأصحابه: رجلٌ أحبّ رجلاً على خيرٍ توهمّه، لعل المحبّ قد نجا، والمحبوب لا يدري ما حاله.

وربما من خوف بشر من الشهرة لم ينصّب نفسه محدّثاً، مع أنه حصّل علم الحديث النبوي الشريف، واكتفى بأن يكون تحديثه لصحابته على شكل المذاكرة فقط.

4 – بشر وأعلام زمانه: تتلمذ بشر زمناً بصحبة الفضيل بن عياض وروى عنه حِكَمَه ومفاهيمه، ولم يلتقِ بسفيان الثوري (توفي في البصرة عام 161هـ) ولكنه تتلمذ على كتابه في الحديث الشريف «جامع سفيان». وكان يقول: «ينبغي للرجل إذا حفظ القرآن، وكَتَبَ جامع سفيان، أن يتفرّغ للعبادة».

وحجّ مع الإمام مالك بن أنس، إمام دار الهجرة، وسمع منه الحديث الشريف.

أما الإمام أحمد بن حنبل، فقد شهد لبشر شهادات عديدة تدل على قناعته بتفرده في الزهد والورع والعبادة، ومنها، أنه سئل مرة عن بشر بن الحارث، فقال: سألتني عن رابع سبعة من الأبدال… ما مثله عندي إلا مثل رجل ركز رمحاً في الأرض ثم وقف منه على السنان، فهل ترك لأحد موضعاً يقف فيه؟

وفي المقابل: فإن بشراً كان ميزاناً عدلاً يعترف بعلوِّ درجة الإمام أحمد في العلم والعمل وامتيازه عليه، يقول: فَضُلَ عليّ أحمد بن حنبل بثلاث: طلب الحلال لنفسه ولغيره، وأنا أطلبه لنفسي فقط. واتساعه في النكاح، وضيقي عنه. وكونه نصّب إماماً للعامة.

5 – دقائق بشر بن الحارث: لقد كان بشر واعياً للتنوع البشري المتجلي في كل مناحي الحياة الإنسانية، وكان يدرك أن فقراء الصوفية ليسوا على نهج واحد في سؤال الآخرين والأخذ منهم. ولقد أوضح ذلك لرجل شرع في محاكمته على قاعدة الأحادية. يروي بشر، أنه التقى برجل من المتصوفة فقال له [متهماً إياه بحب الجاه لعدم سؤال الخلق مالاً والأخذ منهم]: يا أبا نصر، انقبضتَ عن أخذ البِرّ من يد الخَلْق، لإقامة الجاه. فإن كنتَ متحققاً بالزهد، منصرفاً عن الدنيا، فخذ من أيديهم لينمحي جاهك عندهم، وأخرج ما يعطونك إلى الفقراء وفرّقه عليهم ولا تذق منه شيئاً، وكن بعقد التوكل تأخذ قوتك من الغيب.

اشتدّ هذا الكلام على أصحاب بشر، إلا أن بشراً قال للرجل: جزاك الله خيراً عني. ولكن إسمع الجواب: الفقراء ثلاثة: فقيرٌ لا يسأل، وإن أُعطي لا يأخذ، فذاك من الروحانيين، إذا سأل الله أعطاه، وإن أقسم على الله أبرّ قَسَمه . وفقيرٌ لا يسأل، وإن أُعطي قبل، فذاك من أوسط القوم، عقده التوكل والسكون إلى الله تعالى، وهو ممن تُوضع له الموائد في حظيرة القدس . وفقيرٌ اعتقد الصبر ومدافعة الوقت، فإذا طرقتْه الحاجة خرج إلى عبيد الله وقلبه إلى الله بالسؤال، فكفّارة مسألته صدقه في السؤال. فقال الرجل: رضيتُ، رضي الله عنك.

6 – أقوالٌ سائرةٌ حِكَماً: ترك بشر بن الحارث ثروة من الكلام الطيب والمواعظ الفاعلة، بحيث أننا كلما قرأناها نسمع صداها في دواخلنا، يقول: «إني لأجلّ الله تعالى أن أذكره عند من لا يجلّه».. «خصلتان تقسّيان القلب: كثرة الكلام وكثرة الأكل».. «حسبك أقوام موتى تحيا القلوب بذكرهم، وإن أقواماً أحياء تقسو القلوب برؤيتهم».. «صحبة الأشرار تورث سوء الظن بالأخيار، وصحبة الأخيار تورث حسن الظن بالأشرار، وإنّ الله تعالى لا يسأل عبداً قط: لِمَ حسّنت ظنك بعبادي؟».. «أمس قد مات، واليوم في النزع، وغداً لم يولد، فبادر بالأعمال الصالحة».. «الليل والنهار حثيثان، يعملان فيك، فاعمل فيهما».. «إياك والاغترار بالستر، والاتكال على حسن الذكر»..

«أسدّ الأعمال ثلاثة: الجود في القلة، والورع في الخلوة، وكلمة حق عند من يُخاف ويُرجى».. «إن لم تعمل فلا تعصِ».. وقال رجلٌ لبشر: لا أدري بأي شيء آكل خبزي. فقال: «اذكر العافية، واجعلها إدَامك».. وسأله رجل عن أفضل مكان يُعبد الله فيه، فقال: «أصلح سريرتك واعبده حيث شئت»..

وختاماً نقول؛ إن علاقة الملوك والحكام بالعلماء والصلحاء والزهاد والعبّاد تتنوع بحسب مكانة العالم وإمامته وفاعليته في العامة ومواقفه من السلطة.. فهناك العالم الذي تهابه الملوك وقد تحبسه وتؤذيه، وهناك العالم الذي تكرّمه الملوك ولا تردّ له كلمة أو شفاعة.. ولكن نادراً ما نسمع أن الملوك تستحي من أحد.. وها هو الخليفة المأمون يقول: لم يبقَ في هذه الكورة (الجهة) أحدٌ يُستحى منه غير هذا الشيخ، يعني بشر بن الحارث.

وآخراً، نرفع مع العالم الزاهد العابد بشر بن الحارث، رضي الله عنه وأرضاه، دعاءنا بألفاظه: «اللهم استر، واجعل تحت الستر ما تحب».

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!