موتوا قبل أن تموتوا – جلال الدين الرومي

موتوا قبل أن تموتوا – جلال الدين الرومي

موتوا قبل أن تموتوا

الفصل الثالث من كتاب

فيه ما فيه
لمولانا جلال الدين الرومي
ترجمة: عائشة موماد

عن النسخة الفرنسية للسيدة إيفا دوفيتري ميروفيتش.

 

موتوا قبل أن تموتوا

يقول الأمير بروانة: “قلبي وروحي في خدمتك ليل نهار، لكن انشغالي بقضايا المغول جعلني غير قادر على هذه الخدمة”.

أجاب مولانا: ” هي أيضا أعمال مقدمة من أجل الله، لأنها تكفل السلم والأمان للمسلمين، لقد ضحيتَ بمالك ونفسك لكي تسترد قلوبهم، ليستطيع بعض المسلمين الامتثال لأمر الله بكل طمأنينة. إن الله قد وهبك الميل لهذا العمل الحسن، وهمتك البالغة دليل على الرعاية الإلهية. وعلى غرار ذلك، عندما يفتر هذا الميل، فتلك علامة على انقطاع الرعاية الإلهية، لا يريد الله تعالى بهذا أن يتحقق ذلك العمل المهم على يد واحد من الأشخاص ممن يُمنحون المكافآت والمراتب العالية.

ولنضرب مثلا على ذلك بالحمّام الساخن، تنبعث سخونته من الوقود المستعمل داخل المدفأة، وهو من الأعشاب الجافة وقطع الحطب وفضلات البهائم إلى غير ذلك. وعلى النحو نفسه، فالله تعالى يكشف وسائل شائنة ومنفرة في ظاهرها، لكنها في الحقيقة أدوات العناية الإلهية. ومثل الحمّام، فالإنسان الملتهب بمثل هذه الأسباب يصير حاميا ويعمل على خدمة جميع الخلق.

وفي هذه الأثناء وصل بعض الأصدقاء، اعتذر مولانا قائلا: “إن لم أهتم بكم ولم أخاطبكم، إن لم أسأل عن أحوالكم فهذا في الحقيقة دليل على الاحترام. فاحترام الشيء هو ما يليق بالمناسبة. عندما يكون الإنسان مستغرقا في الصلاة، عليه ألا يسأل عن أبيه أو عن أخيه أو يظهر لهما الاحترام. قلة العناية التي يبديها في حق أصدقائه ووالديه هي قمة العناية والأدب، لأنه لا ينفصل بسببهم عن الصلاة والخشوع ولا يقع ضحية الارتباك، حتى لا يتعرضوا للتوبيخ والعقاب. قمة الاحترام والعناية أن تجنبهم ما يعرضهم للعقاب.

سأل أحدهم قائلا: “هل هناك طريق للتقرب إلى الله أقصر من طريق الصلاة؟”

فأجاب: ” إنها الصلاة. لكن الصلاة ليست تلك الصورة الظاهرية فقط، ذلك “هيكل” الصلاة. للصلاة الصورية بداية ونهاية، وكل شيء ينطوي على بداية ونهاية فما هو إلا هيكل. التكبير بداية الصلاة والسلام نهايتها. وعلى غرار ذلك فالشهادة ليست ما نتمتمه بالشفاه، لأن لهذه العبارة بداية ونهاية. وكل ما يعبَّر عنه بالحرف والصوت ويمتلك بداية ونهاية ما هو إلا صورة وهيكل. لكن روح الصلاة لا متناهية وغير مشروطة، لا بداية لها ولا نهاية. وأخيرا، فإن الأنبياء صلوات الله عليهم هم من جاؤوا بالصلاة، والرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي علمنا إياها حين قال: ” لي مع الله وقت لا يسعني فيه نبي مرسَل ولا ملَك مقرب[1]. فروح الصلاة لا تقتصر إذن على الصورة فقط، إنها إعداد من أجل الاستغراق في الله وفقدان الشعور بالذات، بذلك تمكث كل الصور في الخارج ولا يبقى مكان في الروح حتى لجبريل، تلك الروح الصافية النقية.

يحكى أن مولانا سلطان العلماء وقطب العالم، بهاء الحق والدين[2] (قدس الله سره العظيم) كان مستغرقا في التأمل وقد حان وقت الصلاة. وجده بعض الرفقاء على هذا الحال فصاح بعضهم: “لقد حان وقت الصلاة”. لم يعرهم مولانا اهتماما فذهبوا لأداه الصلاة، بقي اثنان من المريدين بصحبة الشيخ ولم ينهضا للصلاة. كان من المصلين مريد يدعى خواجي، فكشف الله له بعين الباطن أن كل من كان يصلي خلف الإمام قد أداروا ظهورهم للقبلة، وأن المريدين اللذين بقيا بصحبة الشيخ كان وجهاهما متجها نحو مكة. بعد أن صار الشيخ خارج التمييز بين “أنا” و “أنت”، وعندما انمحت ذاته في الله وفنيت في نوره “موتوا قبل أن تموتوا[3]” صار نور الله. كل من يدير ظهره لنور الله ووجهه نحو الجدار، فإنه يدير ظهره للقبلة حتما، فالله هو روح القبلة. هؤلاء الناس يديرون وجوههم نحو الكعبة التي جعلها الرسول صلى الله عليه وسلم قبلة للعالَم. والأقوى من ذلك أن الله هو القبلة الأصلية. لم تكن قبلة مكة إلا من أجله.

في أحد الأيام، عاتب الرسول صلى الله عليه وسلم واحدا من أصحابه قائلا: “لماذا لم تجبني عندما ناديتك؟”، فأجاب: “لقد كنتُ منشغلا بالصلاة”. استأنف الرسول كلامه قائلا: “ألم أكن أنا من يناديك؟”، فأجاب: “لستُ سوى بائس عاجز”.

قال مولانا: “من الخير أن تضل بائسا عاجزا على الدوام، في حال القدرة كما في حال الضعف، ففوق قدرتك هناك قدرة أخرى، وأنت محكوم بالقدرة الإلهية في كل أحوالك، لن تستطيع أن تُشطَر نصفين، فتكون بائسا أحيانا وسعيدا أحيانا أخرى. انظر إلى القدرة الإلهية واعتبر نفسك بائسا عاجزا، وضعيفا مسكينا على الدوام. الأسود والنمور وأسماك القرش، كلها عاجزة مرتجفة أمام الله، فماذا يكون وضع إنسان ضعيف؟ السماوات والأرض محكومة بأمره، إنه ملِك عظيم، لا يشبه في نوره نور الشمس ونور القمر الذي تثبت الأشياء أمامها. عندما يتجلى نوره دون حجاب، لا تصمد سماء ولا أرض، ولا شمس ولا قمر، لا يبقى أحد سوى الملِك.

قال أحد الملوك لأحد الدراويش: “عندما يتجلى الله لك ويدنو منك، تذكرني حينئذ”، فأجاب الدرويش: “عندما أصل إلى حضرته وتغمرني أشعة شمس جماله، لا أتذكر حتى نفسي، فكيف لي أن أتذكرك؟”

عندما يصطفي الله العبد ويفنيه فيه، فكل من تعلق بذيل ثوب هذا العبد وطلب حاجة منه، لبى الله حاجته دون أن يَذْكره ذلك الوسيط أو يَعرض طلبه.

يحكى أن كان لأحد الملوك خادم مفضل محبوب. كلما أراد ذلك الخادم الذهاب إلى القصر، كان لكل من لديه ملتمس أو مطلب أن يستودع هذا الخادم قصصه ورسائله لعرضها على الملك، فيضعها في محفظته، لكنه كلما صار في حضرة الملك أصابه الإغماء إذ لا يتحمل النظر إلى بهاء طلعته. حينئذ، يدخل الملك يده في صرة الخادم {في صدره} وجيبه ومحفظته ويقول بكل لطف: ” ماذا يحمل خادمي الذي فقد وعيه من جمالي وصار مستغرقا فيه؟” فيأخذ الرسائل ويكتب على ظهر كل عريضة الأمر بتنفيذ رغبات كل المتوسلين ثم يضعها في محفظته حتى لا يُرفض أي طلب وحتى يضاعف الجزاء لأصحابها بل ويصير أضعافا مضاعفة. لُبِّيت كل الطلبات دون أن يعرض الخادم واحدا منها. أما الخدام الآخرون الذين كانوا في حالة صفاء عقلي وكان بإمكانهم سرد حكايات أصحاب الحاجات على الملك، فمن بين مائة قضية ومائة مراد، نادرا ما يُستجاب لواحد منها.        

 

الهوامش 

[1]  حديث مشهور يذكره الصوفية كثيرا جاء في كتاب “المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة” للعلامة الشيخ محمد عبد الرحمان السخاوي المتوفى سنة 902 للهجرة، دراسة وتحقيق محمد عثمان الخشت، دار الكتاب العربي، الطبعة الأولى، بيروت 1985، ص 565.

وقد ذكر هذا الحديث بعبارة أخرى: “لي وقت لا يسعني فيه غير ربي عز وجل” في الرسالة القشيرية للإمام أبي القاسم القشيري المتوفى سنة 465 للهجرة، دار الكتب العلمية، بيروت 2001، ص 115.

[2] بهاء الدين ولد والد مولانا جلال الدين الرومي والملقب بسلطان العلماء

[3] حديث يتداوله الصوفية كثيرا.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!