الجسد ولذة الألم عند نماذج من المتصوفة: أخبار الحلاج

الجسد ولذة الألم عند نماذج من المتصوفة: أخبار الحلاج

الجسد ولذة الألم عند نماذج من المتصوفة: أخبار الحلاج

بقلم: جليلة عاشوري – تونس

 

يعد موضوع الجسد من المواضيع الهامة في كل الدراسات القديمة منها وحتى الحديثة، فهو المحور الضروري لكل خطاب فلسفي وأخلاقي وميتافيزيقي…وهو مصدر خصب لعديد الاتجاهات النفسية والعرفانية والوجودية والدينية. وقد شكل موضوع الجسد أحد الجوانب الأساسية والهامة في التصوف الإسلامي وعند صوفية الإسلام، إلا أن حضور الجسد أو الحديث عن الجسد في التصوف عامة جاء في علاقة وطيدة مع الآلام وعرضة لأشد صنوف العذاب خاصة مع الحسين بن منصور الحلاج الذي تحولت آلامه إلى لذة فكان الفناء عن تلك الآلام دون الإحساس بها. وهذا الجانب الأخلاقي يكشف عن مبدأ الحلاج باعتباره الأساس الذي اعتمده في علاقته بالله. والفناء عند القوم وثيق الصلة بالبقاء، فالفناء عن الصفات المذمومة يعقبه بقاء بالصفات المحمودة حتى يظل الصوفي بالفناء مترقياً تاركاً صفة من صفاته البشرية ليكتسب صفة من الصفات الإلهية وصاعداً من حال إلى حال أسمى وأعلى. وعلى ذلك تبقى الحواس العادية أو الجسد غير قادر على إدراك أي دور مهما كان صغيراً في موضوعات هذا النوع من المعارف الروحية السامية التي تنأى عن كل ما هو مادي أو ما يتعلق بموضوعات العام الحسي، فيغيب السالك عن أمور الدنيا ويفقد العالم المحيط أهميته بالنسبة إليه حال فنائه، وفي هذا دلالة على أن الفناء مرتبط بالحالات النفسية المرتكزة على المشاعر الباطنية دون وجود للحس أو للعقل، وفي ذلك غيبة عن النفس أو فناء عن إدراكات الحواس، ويصل السالك إلي حال الفناء عن الآلام أو التلذذ لتلك الآلام لتعلقه الشديد بالذات الإلهية وعدم شعوره بنفسه ولا بشيء من لوازمها، أو فقدان الشعور بالآلام مؤقتاً.

فما هي العوامل النفسية التي تؤدي إلى الفناء عن الآلام؟

وكيف جسد الحلاج لذة الألم؟

إن المعرفة التي تتم حال الفناء عند الصوفية إدراك مباشر يتميز بالصدق والوضوح، وهي لا تتأتى ولا يتم الكشف عنها إلا عندما يغيب السالك عن أمور الدنيا حيث يبدو الطريق ممهداً إلى ما يبدو حكمة أسمى وعلماً لدنيا أشرف يأتي من الخالق هبة ومنحة وليس كسباً للسالك بأي معنى. فكانت بذلك المعرفة الصوفية لا تتم على هذا النحو الإشراقي إلا مع الغيبة عن النفس فينتقل مجال الإدراك من الجانب المادي إلى الجانب الروحي الخالص أي إلى الذات الإلهية بحيث لا يعود الشخص شاعراً بنفسه ولا بعدم شعوره بنفسه ويتفق هذا المعنى مع ما قاله الجبلي من أن الفناء “هو عدم شعور الشخص بنفسه ولا بشيء من لوازمها” ([1]).

ويقوم هذا الفناء النفسي على ضبط الحواس بدرجة تمكن السالك من السيطرة الكاملة على أهوائه وميولاته وغرائزه وكل ما يشده إلى العالم الحسي إلى أن يصير في حالة لا يشعر فيها بما يطرأ عليه من لذات وعذاب وآلام عن طريق قدرته الفائقة على إخماد ميولاته ورغباته. وهذا يخلق نوعاً من الاستغراق الفكري في موضوع واحد بعينه بحيث يفني السالك عن كل شيء عدا الموضوع الذي استغرق تفكيره، فيصبح الوجدان متأهباً للامتلاء بالمحبوب ولا شيء في قلبه غير ذلك.

ولعل قصة يوسف خير تجسيد للفناء عن النفس وللفناء عن الآلام، وهذا الفناء له أصل قرآني، فنسوة فرعون قد قطعن أيديهن عندما خرج عليهن يوسف فقد استلبهن جماله فلم يشعرن بآلام قطع الأيدي أو جريان الدم من الأكف الناعمة، لقد ذهلن عن كل شيء عدا يوسف، وهو لا شك فناء من وجهين، فناء عن قطع الأيدي أولاً وفناء عن الألم الذي يعقب ذلك، وتزداد صورة الفناء عن الآلام وضوحاً خاصة إذا ما تذكرنا رقة النساء وضعفهن وسرعة تأثرهن، فهذه غيبة عن الإحساس والشعور.

أما الوجه الثاني من هذا الفناء في هذه القصة فهو هذا الاستغراق الكامل في مشاهدة يوسف إلى درجة غابت فيها النسوة عن كل شيء حتى تلاشت كل الأشياء من حولهن ولم يعد هناك أمامهن إلا يوسف، وهذه الغيبة هي غيبة المحب في محبوبه. وهذا في مجال مشاهدة بشر له نظائر وأشباه فماذا لو كانت المشاهدة لمن ليس له نظير أو مثيل؟ وقد جاء في سورة يوسف الآية 31: “فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا” وقلن إنه ملك ولم يكن كذلك.

وقد أمكن القول بلغة الصوفية أن الفناء هو الوجه المقابل للخلق حيث لا فعل بلا إرادة أو تدبير، وأن البقاء هو الوجه المقابل للحق حيث الشمول واللانهائية والحكمة وكل هذا يتجلى خاصة حينما يصل الصوفي إلى حقيقة الفناء التي هي البقاء في الله وبالله. ومن علامات الفاني ذهاب حظه من الدنيا وما فيها ثم من الآخرة وما فيها بحيث لا يبقى للسالك من سبيل إلا الخالق.

إن هذا النوع من الفناء والذي يستدل عليه من القرآن هو في حقيقة الأمر فناء عن شهود ما سوى الله وهذا توحيد خالص غير متناقض مع كثرة المشاهدة في العالم حيث يبقى الخالق مفارقاً مخالفاً للحوادث ويبقى العبد عبد والرب رباً ولا يتأتى مطلقاً أن يصير العكس أي أن يصير العبد رباً والرب عبداً فيظل الإله مفارقاً ويظل المخلوق حادثاً. وفي هذا الإطار يقول أبو الوفاء الغنيمي التفتازاني “لقد قرر القرآن الكريم حقائق كثيرة تتعلق بالكون أهمها أنه حادث مخلوق وكل ما فيه من الكائنات له بداية ونهاية وليس ثمة موجود أزلي أبدي إلا الله ” الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ” ([2]) الآية 117 من سورة البقرة.

ولا شك أن كثرة الطاعة والمداومة عليها وبذل المجهود هو طريق العبد للفناء عن إرادته والبقاء بإرادة الله، ولا يتم هذا إلا بالاستغراق في العبادات والطاعة والذكر وقطع العلائق مع الدنيا وقطع الأمل فيها والتعلق بكل ما من شأنه أن يقربه من الخالق ويربطه به، ويظل الأمر كذلك دائماً حتى يصير العبد لا حركة له ولا سكون ولا إرادة ولا فعل، ولا اختيار له وقد ترك كل هذا وبقيت عنده إرادة الله واختياره حتى أن الحركة والسكون والفعل أصبحت تنفيذاً لأمره وطاعة له وهو معنى الحديث القدسي: “ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يسعى بها”.

إن حال الفناء في الآلام قد وجد صداه عند كثير من زهاد القرنين الأولين للهجرة، وصار منذ القرن الثالث من المناقب الرئيسية للصوفي الحق. ولعل ما قيل عن رابعة العدوية المتوفاة سنة 185 ه من أنها قد أماتت حواسها تماماً ووضعت عليها حائطاً سميكاً حجبها عن الدنيا وما فيها تعبير عن هذا الفناء عن الآلام فهي قد أقفلت أبواب الحواس بحيث يمكن أن يقال أنها ماتت من الدنيا فقد “ذكر أن رابعة العدوية كانت في الصلاة، فسجدت على البواري، فدخلت قطعة قصب في عينها فلم تشعر بها حتى إذا انصرفت من الصلاة” ([3]) فالحال التي تعبر عنها هذه القصة هي حال الفناء عن الحواس وعن الوجود الخارجي وذلك بفنائها في الوجود الباطن، وجود الحق حيث يغيب الوعي عنها وتؤول إلى حال اللاشعور الكامل فيسقط عنها التمييز، وهذا هو حال الفناء عن دنيا الحواس. يقول السري السقطي المتوفي (في 257 ه-870م) عن الصوفي “إنه لو ضرب وجهه بالسيف وهو في حال الفناء لما أحس بألمه” ([4]) وفي هذا ارتفاع فوق الآلام واستغراق في حب الخالق.

وإن كانت رابعة العدوية قد ظلت حتى موتها شعلة زيتها الألم، فالواقع أنها بقيت تتلقى حتى آخر حياتها دروساً في علم التأله في مدرسة الآلام، والألم هو من قوت الأرواح السائرة في طريقها إلى الخالق وهو طريق لن يفرغ منه المرء أبداً فلابد له من الاستمرار في هذا الطريق وفي معاناة الآلام أبداً. وقد كان لرابعة فضل كبير في تمجيدها لله. ودعوتها الملحة إلى ما يمكن أن نطلق عليه عبارة الألم، وهذا وجد صداه في الحياة الروحية في الإسلام لدى الصوفية وعلى رأسهم الحلاج. ويعتبر الألم بالنسبة إلى رابعة العدوية نعمة يمنحها الله لعباده المخلصين، وليس لها أن تسأل الله أن يخفف من آلامها، بل أرادت الخوض في امتحان الآلام من ذلك أيضاً رفضها لكل ما كان يعرض عليها من مال، وهي في شظف عيش وإملاق ترفض ذلك لأنها تريد أن تغتاب من ألم الحرمان.

والروايات حول رابعة العدوية كثيرة ومتعددة وكلها تلخص استغراق هذه المتصوفة في حب الله، هذا الحب الذي دخلت معه حال الفناء دون أن تتكلم عليه صراحة.

ولقد وصل حال الفناء في الآلام مداه عند أبي الخير الأقطع (المتوفي سنة 340 ه) ([5]) الذي قطعت يده أثناء صلاته لوجود علة بها ولعلم مريديه أنه يفقد وعيه عندما يدخل الصلاة فلا يشعر بشيء من الألم مطلقاً.

إن فكرة الفناء عن الآلام هي سابقة لكل أنواع الفناء لذلك اعتبرت خاصية مميزة لهذه الأنواع كافة. وهي عبارة عن فقدان الوعي أو الإحساس بالآلام لاستغراق الصوفي في العبادة والإقبال على الله. والفناء على هذا النحو يكون سلباً للعبد من دنياه بمحض استطاعته.

إن في هذه الروايات والأقوال وغيرها دليلاً قاطعاً على ما وصل إليه الزهاد من زهد بلغ حد الفناء وإن لم يستخدموا لفظ الفناء استخداماً واضحاً وصريحا.

ومن هنا وجب التسليم بأن استخدام لفظ الفناء استخداماً صريحاً بالمعنى الذي ساد القرنين الثالث والرابع كان على يد أبي يزيد البسطامي (المتوفي سنة 261هـ) فهو أول من استخدام المصطلح بالمعنى الصوفي الدقيق ولذلك اعتبره الكثيرون من كتاب التصوف “أول واضع لهذا المذهب” ([6]). ولا يطعن في هذا ما ذكرناه سابقاً لأن المرحلة السابقة كانت بدايات لم تبلغ حد النظرية.

أما إذا تقدمنا في الزمن ونظرنا في مفهوم الفناء عند الغزالي (المتوفي في 505هـ)، فإننا نجده يعتبر الفناء مما للمقربين الذين تنحى عنهم الكثرة بالكلية فلا يشاهدون إلا الواحد فهم قد فنوا بذلك عن أنفسهم وعن كل شيء في الوجود، وهذا الفناء الذي تحدث عنه الغزالي هو فناء خاصة المقربين حسب الهروي.

والفناء في التوحيد حسب الصوفية هو أن السالك لا يرى إلا واحداً فلا يرى نفسه أيضاً لكونه مستغرقاً بالتوحيد، فهو إذن فان عن نفسه في توحيده، بمعنى أنه فنى عن رؤية نفسه وعن رؤية الخلق عبر رحلة شاقة من التطهر والتصفية والتنقية، وهذه الرحلة لا تبلغ كمالها إلا بالفناء لأن غيبة عن كل ما يتعلق بأحوال الخلق، ويكون البقاء حضوراً بالله واشتغالاً بكل ما يوصل إليه ويقرب منه.

وعندما يصل الفناء أقصى مراحله في حالة التجلي الإلهي يفقد السالك وعيه تماماً لدرجة يمكن القول معها بأنه قد صعق كما حدث لموسى عندما تجلى ربه للجبل، يقول ابن عربي: “الصعق هو الفناء عند التجلي الرباني” ([7]).

وقد يوصف الفناء أيضاً بأنه السحق بمعنى “الاضمحلال أي ذهول العبد تجاه قهر الحق” ([8]) أي غيبة الصوفي عن العالم المحيط به وعن مشاهدات من عالم الخلق بمشاهدات من عالم الحق، أو هو فناء في الكون بالمكون، بل هو فناء عن الفناء أو هو فقد عن الفقد وذهاب عن الذهاب. وقد يوصف الفناء بأنه القهر على اعتبار أن الصوفي يكون مسلوب الإرادة لا حول ولا قوة، فالأمر والفعل والتدبير لله وحده، وهذا ما يمكن أن نسميه بالفناء عن الإرادة والتدبير.

إن هذه الألفاظ مثل الصعق والسحق والقهر … هي ألفاظ تعبر عن الحالة الوجدانية التي يكون عليها العبد الفاني الذي يغيب عن حواسه الجسدية ويكون ممزق الأعماق مضطرب الفكر لا يستقر له حال إلا بالفناء عن الخلق والمخلوقات والفناء عن عالم الكون والمادة والفساد، والبقاء بالله وحده وفي الله وحده فيكون الفناء بهذا أخلاقاً أو هو وسيلة للتحلي بمكارم الأخلاق وهو أيضاً استغراق شديد في أداء المفروضات والطاعات بإخماد الإرادة وقتل كل ما له علاقة بالجسد وفقدان الحس أو غيبة الحواس، وكل هذا كان نتيجة لعدم الشعور بالآلام التي يعانيها الزاهد أثناء ممارسته للعبادة أو حال استغراقه في التأمل والمناجاة، وهذا ما نجده جلياً في مذهب الحلاج الذي تعرض لأشد صنوف العذاب والتعذيب، إلا أن هذه الآلام قد تحولت لديه إلى لذة. فكيف كان ذلك؟

لقد كان الحلاج (توفى سنة 244ه) من أكثر الشخصيات سمواً في تاريخ الإنسانية، إلا أنه كان أيضاً أكثرها مثاراً للجدل والنقاش: هل هو صوفي أم زنديق أم ثوري؟ والبين هو إيمانه واتحاده بالله ذلك الذي أدى به إلى التنكيل والتعذيب وعلاوة على ذلك، ألم يكن يسمى بمسيح الإسلام وهو مثل كثير من المتصوفة كانت لحياته وأطوارها عبرة واعتبار، وكانت له بصيرة نافذة عرف بها وقد عرفته الأجيال المقبلة بلقت “حلاج الضمائر”.

وإن ما كان الحلاج يطلبه ويبتغيه أولا وآخراً إنما هو محبة الحق التي ترتفع به إلى حد المصافاة وهي درجة الوجد المذيب للأوصاف، وقد تميز طريقه بجميع الممارسات المتعارفة كلها، مثل التوبة والعبادة والإنابة والابتعاد عن عالم الوهم والضلال. كما أن إحساسه بحلول الله فيه لم يخيبه، إنه حضور كاد يستهلك وجوده كما نتبين ذلك في أشعاره، فهو يقول:

يا قدوس، أني احتضن بكل كياني حبك”

وكم كان تجليك يظهر لي” ([9])

وبمقدار ما كانت شهرته تتسع كانت الشبهات تحوم حوله، وانتهى الأمر إلى إدانته ومحاكمته سنة 910 ميلادية، وأخذت السلطات تتهم كل من بقي معه مخلصاً من تلامذته، وقد حوله عجز وصف تجربته عن الوجد فجعل بتحدث وكأنه الحق ذاته باعتبار أن كل واحد منها امتزج في الآخر وحينئذ تكاثرت حوله الشكاوى فتحاماه الناس وعابوه، فقد عاب عليه الساسة تصرفاته بأنه طالب للفتنة، وأخذ عليه الفقهاء أنه قد خلط الإنساني بالإلهي، واعتبره المتصوفة خارقاً “للسر المكتوم” بإفشائه أسرار الكشوفات والوجد دون تمييز.

وقد كان موته في النهاية مثلما حكاه ابنه الأصغر أكثر إثارة للأقلام في تاريخ الإنسانية، وهو موته بسبب ما آثار من انفعالات شبيه باستشهاد سقراط، وصلب المسيح.

لقد سلك الحلاج طريقه ضد الظلم والطغيان في النفس وضد الظلم والطغيان في المجتمع وثار على ظلم أصحاب السلطان وطغيانهم فساد سياستهم للناس، فصار يجاهد بنفسه وماله للتحقيق بالحق والتوحيد به، ولكن هذا التحقيق لا يحصل وهذا التوحيد لا يقوم إلا إذا سبقهما ترويض للجسد على تحمل الآلام واحتمال الصعاب حتى لا تعود صعابا، وعدم المبالاة بالعذاب حتى يتحول هذا التعذيب إلى لذة، وعلى ترويض النفس على إفناء الأنا وشحنها بقوة روحية في سبيل إحقاق الحق وتحقيق غايته.

وارتحل الحلاج إلى مكة حاجاً كان يمارس فيها رياضة روحية وجسدية عارمة فلم يبرح حرم البيت ليلاً نهاراً إلا للطهارة والطواف، كان لا يخشى الشمس ولا المطر، يصعد إلى جبل أبي قبيس على صفرة في الشمس والعرق يسيل منه على تلك الصخرة ([10]). ولا يخشى الجوع أو العطش طوال النهار إلى أن يؤتي إليه في العشاء بكوز ماء وقرص من أقراص مكة فيبقى الماء كما هو ويبقى القرص على حالة إلى الصباح لأنه كان يقتات بالقليل لأن القوت يأتيه روحياً.

وروى أحد مريديه وهو أحمد بن كوكب بن عمر الواسطي قال: “صحبت الحلاج سبع سنين فما رأيته ذاق من الأدم سوى الملح والخل، ولم يكن عليه غير مرقعة واحدة وكان على رأسه برنس. وكلما فتح عليه بإزار قبله وآثر به. ولم ينم الليل أصلاً إلا سويعة من النهار” ([11]) وفي هذه الرواية دليل على أن الحلاج قد سلك طريق التقشف في الحياة الدنيا ورفض كل ما يشده إلى العالم المادي وإلى عالم الحواس بهذا الترويض الجسدي حتى يقوى على احتمال الشدائد حتى يبلغ بروحه ما يريد الوصول إليه، إنه بذلك لا يعرف التصوف أو يفهمه زيا ولا انعزالاً، بل إنه سعي إلى المعرفة وجهاد ضد النفس، ودعوة إلى العدل وإحقاق الحق، وحرباً على الظلم والاستبداد. وقد توصل هذا الصوفي العارف بهذه الرياضة الجسدية وبهذه المجاهدات الروحية، ومن خلال هذا الشوق الإلهي وهذا الوجد وهذا الحب من التحقق بالوحدة الإلهية. هذا الحب الإلهي هو الذي حدا بالحلاج أن يجاهد في سبيله غير هائب الموت، بل مستعجلاً إياه في سبيل هذا الحق. فهو من فرط وجده وصفاء توجهاته وصدق مجاهداته وقتل أهواء النفس وميولاتها وإماتة الحواس جميعاً مكنه الله من الكشف ومعرفة ما غاب عن العباد، فقد روى أحمد بن القاسم الزاهد أنه سمع الحلاج في سوق بغداد يصيح: “يا أهل الإسلام أغيثوني فليس يتركني ونفسي فآنس بها وليس يأخذني من نفسي فأستريح منها وهذا دلال لا أطيقه “ثم أنشأ يقول: حويتُ بكـُلّي كلّ حُبِّك يا قـُدْسيتكاشفني حتـّى كأنـّك في نفسـي. ([12])

لقد تجلت المعرفة للحلاج من لدن الله بعدد فنائه عن نفسه والتنكر للأنا ونبذ كل شيء ما عدا عشق الله والفناء فيه، فالتوحيد الحق إنما هو توحيد الذات بالله وكل ما هو دون ذلك إن هو إلا تعلق بالوهم الخادع وتمسك بالدنيا التي تمرد عليها الحلاج وحذر منها، وفي ذلك روي عن الحسين بن حمدان قال: “لما دخل الحلاج داره كبر يصلي فقرأ الفاتحة والشعراء إلى سورة الروم فلما بلغ إلى قوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ وَالإيمَانَ” كررها وبكى، فلما سلم قلت: يا شيخ تكلمت في السوق بكلمة من الكفر ثم أقمت القيامة ههنا في الصلاة، فما قصدك؟ قال: أن تقتل هذه الملعونة، وأشار إلى نفسه .. لأن عندي قتل هذه من الواجبات” ([13]).

وعنه قال: سمعت الحسين يقول: من أراد أن يصل إلى المقصود فلينبذ الدنيا وراء ظهره، ثم أنشأ يقول:

عليك يا نفس بالتسلي العز في الزهد والتخلي

عليك بالطلعة التي مشكاتها الكشف والتجلي ([14]).

إن في قتل النفس إماتة للحواس ورفضاً لعالم المحسوسات والزهد في الدنيا، وبقي الحلاج يحارب النفس مثلما يحارب الفساد والاستبداد إلى آخر ساعة حتى إصدار حكم الإعدام عليه.

ولما أخرج الحلاج إلى ساحة الإعدام بباب خراسان على الضفة الغربية من دجلة تلي أمر الخليفة المقتدر، وفيه “واضربه ألف سوط، فإن لم يمت فتقدم بقطع يديه ورجليه، ثم أضرب رقبته وانصب رأسه وأحرق جثته” ([15]).

وتقدم الحلاج، فلما رأى الخشب والمسامير ضحك كثيراً حتى دمعت عيناه ([16]) فقال له أبو الحسن الحلواني، وهو أحد مريديه: “يا سيدي، ما هذه الحال؟ قال: دلال الجمال، الجالب إليه الوصال” ([17]) فالحلاج هنا لا يبدو أنه قد خشي الموت لأنه كان دائماً متأهباً له، وأما عن الحكم بصلبه فهذا يذكرنا بصلب المسيح فكلاهما عذب وصلب وكلاهما استغفر لصالبيه لأنهم لا يميزون الحق من الباطل، فلو كشف الله لهم ما كشف لما فعلوا ما فعلوا. ومفهوم الصلب هو أقدم من المسيحية، فهو كان منذ القديم رمزاً للفناء الذي هو شرط للتجدد، وهذا ما كان يقول به الحلاج، فلا تجدد إلا بعد الفناء من الأنائية، ولما كان التجدد هو غاية الفناء أصبح أوسع وأعم من الفناء، أما الصلب بالنسبة إلى الحلاج فهو إتحاف له بالكشف واليقين، إنه كان يتمنى الموت حتى تموت هذه الناسوتية وحتى يكون فناؤه عن هذه الأنانية وعن هذه النفس الأمارة بالسوء.

إن الحلاج وهو يحاكم ويحكم عليه بالتعذيب والقتل كان ذلك بالنسبة إليه فناء ذاته في الحق، ويتابع السياف تنفيذ الحكم فيه، جلده ألف سوط ([18]) وكان الحلاج مع كل جلده يقول “أحد أحد” ([19]) ولعله في ذلك يتذكر بلال الحبشي مؤذن الرسول عندما امتحنته قريش في دينه فلم يقل وهو تحت وقع السياط إلا “أحد أحد” أو أنه كان ربما يتهكم على جلاديه ويسخر منهم فهو قد أمات كل حواسه وفقد شعوره بالتالي بهذا الألم أو إحساسه بهذا العذاب، وهذا ما يبين فناء الحلاج عن الآلام التي فقد الشعور بها فتحولت معه إلي لذة أخذته إلي الفناء عن نفسه. وتم عدد السياط ألفا لدي جلاديه، وبقي على قيد الحياة، وكأنه أراد أن يبين للناس كيف يكون الصبر، إذ ذاك تقدم السياف وقطع يده ثم رجله ثم قطع يده الأخرى ثم رجله الأخرى ([20]) ثم أثر ذلك صلب على جذع ([21]) وهو صامت لا يتأوه ([22]) فقد غابت كل حواسه وغاب الشعور بها وغاب بالتالي الشعور بنفسه وهذه غيبة عن الدنيا أو هي غيبة عن العالم الحسي وإحساس بفناء الذات في سبيل الحق.

ثم أنزل الحلاج عن الجذع وقدم أمام السياف فضرب عنقه وسقط رأسه، ثم لفت جثته في حصير من القصب وصب عليها النفط وأحرقت، وحمل رمادها إلى باب الطاق في الضفة الشرقية لدجلة ليقي عن رأس منارة النهر ([23]).

إن الحلاج قد اتخذ من إراقة دمه ومن تقطيع جسده وسيلة للتحقق في الحب الأسمى وفناء في الخالق، إنه مليء حباً لله، فالحب عنده شرط أول للتقرب إلى الله والاستهلاك فيه.

لم يخف الحلاج من الحكم عليه، بل كان يتلذذ بتقطيع جسده لأن في ذلك قتلاً لأنانيته وهو يتوجه إلى الحق. هكذا نظر الحلاج إلى مقتله وإلى تقطيع جسده، وإلى إراقة دمه باعتباره ذبيحة “تنورز” الحياة في العالم وتجددها في المؤمن قوة إيمانه، فقد حقق الحلاج ذاته بحقيقة الله ومحا أنانيته في هوية الله لا خائفاً من نار ولا راجياً لجنة، بل عاشقاً لله وعارفاً بالله، إذ فني عن كل شيء، وامتحى وتلاشى في دوام الحق، فهو عاشق قد ترك كل شيء إلا العشق.

لقد كانت حياة الحلاج شبيهة بمماته، عاش ومات في سبيل أمرين الأول تحققه في الله والثاني إصلاح البشر في الله كذلك، ولم تصدق فئة من الناس قتله فقد رأت في هذا العاشق الثائر منجاة لها وملجأ كما كان الأمر لعيسى بن مريم من خلال ما أخبر عنه القرآن وذلك لما فيه من قدسية وتأله.

خــــاتمة:

إن الحديث عن موضوع الفناء في التصوف الإسلامي وما ينطوي عليه من معان صوفية انتهى بنا إلى النتائج التالية:

  1. إذا ما نظرنا في حياة الرسول محمد فإننا نجده يستغرق في العبادة والتعبد والنسك دون أن يقوده ذلك إلى الفناء الذي يفقد فيه وعيه أو شعوره أو إحساسه بذاته، كما أن صحابته لم يدخلوا في هذا الفناء الصوفي.
  2. وفي إطار الفناء أيضاً استنتجنا أن هناك حال الفناء في الآلام، وهو من أهم الجوانب في الفناء الصوفي، وقد وجدنا ذلك مع رابعة العدوية، ثم بلغ هذا الفناء في الآلام ذروته مع الحلاج، ولاحظنا كذلك أن مصطلح الفناء قد ظهر قبل الحلاج، ولكنه لم يتم الإفصاح عن صراحة، وكانت هناك ألفاظ أخرى مثل سلب الدنيا، أو إخراجها من القلوب، أو ذهاب سلطان النفس في مواجهة سلطان الله … ومن هؤلاء الذين لم يذكروا صراحة لفظ الفناء معروف الكرخي وذو النون المصري.
  3. لا يصل الفناء وهو الوجه المقابل للخلق غايته إلا بالبقاء في الله وهو الوجه المقابل للحق، وعليه نتبين هذه الصلة الوثيقة بين مفهومي الفناء والبقاء، فالفناء نفي وسلب للذات، والبقاء إثبات وإيجاب للحق، فلا يقوم النفي دون الإثبات، ولا يستقيم السلب دون الإيجاب.

 

الهوامش

 

[1]  الجيـلي، الإنسان الكامل، القاهرة 1316هـ، ج 1، ص 49.

[2]  أبو الوفا الغنيمي التفتازاني، الإنسان والكون في الإسلام، طبع دار الثقافة والنشر، القاهرة، 1975، ص 46.

[3]  عبد الرحمان بدوي، شهيدة العشق الإلهي، مطبعة النهضة، د. ت، ص 87.

[4]  المرجع نفسه، ص 88.

[5]  فريد الدين العطار، تذكرة الأولياء، دار الكتب، ج1، ص 277.

[6]  أبو العلا عفيفي، طائفة من الدراسات نيكلسون عنوانها المترجم “في التصوف الإسلامي وتاريخه” طبعة 1969، ص 23.

[7]  قاسم غني، تاريخ التصوف في الإسلام، طبعة النهضة المصرية سنة 1973، ج2، ص 885.

[8]  المرجع نفسه، ص 885.

[9]  جان شوفـيلي، التصوف والمتصوفة، إفريقيا الشرق 1999.

[10]  ماسينيون، كتاب أخبار الحلاج، الطبعة 1، منشورات الجمل سنة 1999، ص 43.

[11]  المرجع نفسه، ص 45.

[12]  المرجع نفسه، ص 57.

[13]  المرجع نفسه، ص 81.

[14]  المرجع نفسه، ص ص 84-85.

[15]  مسكويه، تجارب الأمم، ج1، ص 81.

[16]  ماسينيون، نفسه، ص 8.

[17]  المرجع نفسه، ص 123.

[18]  الخطيب البغدادي، ج 8، ص 127.

[19]  المرجع نفسه، ص 131.

[20]  المرجع نفسه، ص 140.

[21]  ماسينيون، المرجع نفسه، ص 36.

[22]  ابن الأثير، الكامل، ج8، ص 40.

[23]  ماسينيون، المرجع نفسه، ص 36.

 

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!