داريوش شايگان: المتصوف الذي أرهقته أزمات الهوية

داريوش شايگان: المتصوف الذي أرهقته أزمات الهوية

داريوش شايگان: المتصوف الذي أرهقته أزمات الهوية

بقلم: علي المدن 

رحل صباح هذا اليوم أحد أهم مفكري إيران المعاصرين. إنه داريوش شايگان الذي ودّع عالمنا رسمياً في (22-3-2018) بعد أن فقد اتصاله بالعالم إثر إصابته بجلطة دماغية منذ أكثر من شهر مضى. لست معجبا كثيرا بجميع ما كتبه هذا الرجل. ففي مراحله الأولى، وانسجاما مع مواقف أحمد فرديد (مفكر إيراني شفاهي معاد للثقافة الغربية)، وآراء هنري كوربان (المفكر الفرنسي والداعية القوي للعقل المستقيل في الشرق)، كان راديكاليا تجاه الغرب والثقافة الغربية. مال إلى الاهتمام بالثقافة الهندية فكتب “الأديان والمدارس الفلسفية في الهند” و”الهندوسية والفلسفة الإسلامية” و”الهندوسية والتصوف”. ثم اتصل بأفكار نيتشه وهيدجر وياسبرز من نقاد الحداثة الغربية فكتب “الأوثان الذهنية والذاكرة الأزلية” (تحدث فيه عن الفوارق بين الشرق والغرب)، و”آسيا في مقابل الغرب” (قابل فيه بين الحضارات الآسيوية والتفكير الغربي).
ثم جاءت الانتقالة الأخرى في فكره بعد الثورة الإيرانية فكتب نقدا لها في كتابين مهمين، هما: “ما هي الثورة الدينية؟” و”النفس المبتورة، هاجس الغرب في مجتمعاتنا”. وفِي هذين الكتابين نتعرف على بعض الأفكار التي سبق وتداولها القرّاء العرب في أعقاب هزيمة 1967 وانتشار كتب محمد أركون والجابري وأبو زيد وطرابيشي وأمثالهم من المفكرين العرب. إلا أن أهم مفكر عربي نجد له حضوره في ذهن شايكان في هذه المرحلة هو عبدالله العروي. فمع أن القارئ سيقف بسهولة في أول مراجعة له لكتاب (النفس المبتورة) على إطلاع شايكان على بعض أفكار أنور عبدالملك وعبدالرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا، إلا أن حضور العروي بقي طاغيا في جميع تفاصيل الكتاب الأخرى، ولاسيما في إستعارة تطبيق مفهوم فوكو حول “القطيعة المعرفية” على مجال العلاقة بالتراث الإسلامي. مضافا إلى فكرة العروي حول (الماضي/المستقبل) التي تجعل من ماضي المجتمعات الغربية مستقبل المجتمعات العربية والإسلامية، واعتبار التطورات الفكرية الغربية من “المتاح للبشرية جمعاء” (وهذا مفهوم عرويٌ بامتياز)، تتقاسمها المجتمعات الغربية وغير الغربية على حد سواء. وقبل ذلك فإن أهم ما استعاره شايكان من العروي هو تقسيم العروي الثلاثي لاتجاهات الأيديولوجيا العربية وعلاقتها بالغرب (من الشيخ إلى السياسي إلى داعية التقنية). لقد ردد شايكان مطلع الثمانينيات ما كتبه العروي نهاية الستينيات، وإن أي مقارنة بين كتابي “النفس المبتورة” و”الإيديولوجيا العربية المعاصرة” تكشف للقارئ الكثير من التحليلات العروية التي استفادها شايكان في النظر لقضايانا في مجال التراث والهوية والعلاقة بالغرب والأدب وغير ذلك. وما ذكرناه مجرد عينية يمكن متابعة أمثالها لمن أراد معرفة المزيد.
المرحلة الأخيرة من فكر شايكان كتابته “الخداع الجديد، هوية الأربعين قطعة والفكر السيال” وفيه يواصل شايگان تطوير تحليلاته حول أزمة الهوية في مجتمعاتنا (الإيرانية والعربية وغيرها من المجتمعات الإسلامية) وإشكالية علاقتها بالغرب، وتمييز ما هو ثابت وما هو متحول في تلك الهويات المتحولة.
هذه إشارات مفتاحية عاجلة حول بعض تراث هذا الرجل (وهناك كتب أخرى له في النقد الأدبي لم نشر لها كما في “فانوس الزمان السحري” وهي دراسة أدبية تحليلة لأعمال مارسيل بروست). لقد فقدنا برحيل شايكان عقلا تحليلا جرئياً، وروحاً نبيلة صادقة في تناول هموم مجتمعها. وسأنتظر بشوق ترجمة كتابه الممتع (تحت سماوات العالم) عن الفرنسية لنقف بنحو أقرب على فهم هذه الشخصية التي أرهقها تأمل أزمة الهويات الإسلامية وهشاشتها وعصيانها على الاندماج بعصرها. وأقول ترجمة الكتاب عن “الفرنسية” وليس “الفارسية”، لأن النص الفارسي يضفي معاني على نصه الفرنسي “المعلمن” أشك كثيرا في أن شايكان يستخدمها في نصه الأصلي. كتابه هذا هو حوار مطول أجراه معه صديقه الفكري والعائلي القديم (رامين جهانبگلو)، وهو أشبه بسيرة ذهنية وفكرية لشايگان، فيه الكثير من التفاصيل المهمة في معرفة تطوره وتكوينه وهواجسه وآلامه.
وبمناسبة حديثي عن كتابه هذا، أختم هذا المقال بترجمة أحد مقاطعه عن اللغة الفارسية، المقطع الذي يسلط الضوء على بعض معالم هذه الشخصية وكيفية تعاطيها مع هذا العالم.
إليكم نص ما كان يقوله داريوش شايگان “تحت سماوات العالم”:
***

جهانيگلو:
لديك ميل خاص إلى التجربة الصوفية، مضافا إلى مرورك شخصياً بها؟

شايگان:

انشغلت بهذه التجربة ما يقرب من ست أو سبع سنوات. ومع ذلك فإني أتضايق من جميع أشكال الانغلاق الذهني مهما كان هذا الانغلاق ثريّاً، إذ مع توغلي في أعماق هذه التجربة فإنني حررت نفسي منها بعد ذلك. في الواقع أنا لا أحب أن أحبس نفسي أو أقيّدها في دائرةٍ ما. كذلك فإني لست خبيرا منقطع النظير في “الهنديات”، ولم أكن متصوفا “معترفا به”. لقد كان همي في جميع الأوقات أن أعبر الحدود من حدٍ إلى آخر؛ لأنني أخشى دائماً السير في الطرق المُعَبّدة. مهما كانت العقيدة أو المذهب الذي نؤمن به فإن بنيته المغلقة سوف تخنقنا. ولطالما شعرت بعدم الراحة في العيش داخل خلية ضيقة، وهذا سبب ترنحي في المسير بين اليسار واليمن.

جهانبگلو:
هل يمكن القول إذن إنك رجل سائح بين المعاني والأفكار؟

شايگان:

لعله! ولكن أعمالي تحمل في أعماقها هذا التنوع في تجربتي الشخصية. ما فيها لم يقع من السماء، إنما جميعه عشته وشعرت به، فباستثناء مؤلفاتي البحثية، جميع أعمالي البقية هي ثمرةٌ لحياتي الجوانية. لقد مررت بمراحل مختلفة: المرحلة الهندية، المرحلة الإسلامية، المرحلة العملية، المرحلة النقدية. ولعل هناك مراحل أخرى أيضا سأمرّ بها. لا أعلم! وإلا فسيكون عملي قد وصل إلى نهايته.

جهانبگلو:
هل ترى أن عملك بلغ نهايته؟

شايگان:
لا أدري. لكني لم أعد قلقا كثيرا بشأن ما أقول. إن كان ينبغي علي قول شيء فإنه بنفسه سيأتي تلقائياً. لست مفتوناً بعملي المستقبلي. إن كان لدي ما سأقوله فسأقوله، وإلا فسأسكت. ليس لدي الدافع للإنتاج أبدا. في ظني أن أي كتاب يجب أن يكون نتيجة إشكالية ما، ألمٍ ما. أنا في حلٍّ من الثرثرة المجانية.

جهانبگلو:
ولكن بصدق ألا يقلقك عالم اليوم؟

شايگان:
لست قلقاً، بل نفضت يديّ من الأوهام بالكامل. أحيانا أشعر بدمي ولحمي بما في الفكر الهندي حول (المايا)، أي الوهم العظيم بهذا العالم. يقال إننا عالقون في فقاعات عظيمة من الصابون من الممكن أن تنفجر في أي لحظة. ويقال، بعد هذا كله، أننا جميعا نعيش في طيف. ولكن، على الرغم من هذا الشعور بالعزلة والانفصال، فإننا على إتصال بنحو من الأنحاء اللامعقولة بأحداث هذا العالم. وبتعبير هيجل: (اليوميات، هي درس الفيلسوف اليومي). أنا شديد الفضول في معرفة الطاقات الدفينة التي تدير عالمنا. فضوليٌ، ولكني نفضتُ يدي من الوهم. في المقابل أنا محصن من اليأس. لكي تكون يائسا يجب أن يكون قلبك في غاية السذاجة).

*تحت سماوات العالم، حوار رامين جهانبگلو مع داريوش شايگان.

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!