التوحيد من حدود العقلانية إلى فضاء الروحانية

التوحيد من حدود العقلانية إلى فضاء الروحانية

التوحيد من حدود العقلانية إلى فضاء الروحانية 

بقلم:  عصام بوشربة

(التوحيد هو الخروج من ضيق رسوم الزمانية إلى سعة فناء السرمدية )

الجنيد(298ه/910م)

                                                                                                                               

 

تقديم :

يمثل التوحيد أصل العقائد الإيمانية، فهو يعبر عن صلة البشر بالغيب، والعالم المحدود المتناهي بالعالم المطلق اللا متناهي، ولهذا فالناظر في دعوات الأنبياء من لدن آدم إلى خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين يجد أنها قامت على هذا الأصل وجعلت منه قضية مركزية يقوم عليها  سلوك من بعثوا إليهم، يقول تعالى:وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ[الأنبياء: 25]، وتكون استجابة البشر لهذا الأصل بالتصديق، والخضوع، وكل ما يحمله معنى العبادة والعبودية بالمعنى الواسع، يقول تعالى:وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[الذاريات :56] .

وبالنظر في قضية التوحيد داخل دائرة الفكر الإسلامي، نلاحظ أن القضية عرفت رؤى ومواقف مختلفة حاولت التعبير عن هذه الصلة تنوعت بين الوقوف عند حدود الخبر من الوحي الإلهي، ومراعاة طبيعة العقل أحيانا، والمزج بينهما أحيانا أخرى-وإن كان الخطاب القرآني تحديدا-حوى كل هذه المواقف، في هذا الإطار نجد أن المدرسة الصوفية حاولت من جانبها أن تتخطى هذه المسافة بين الحق والخلق، وتنقل التوحيد من سلطة العقل وإملاءاته إلى دائرة أوسع وأرقى هي دائرة الروح، والتعبير عن التوحيد انطلاقا من معين ثقافتهم، وتجاربهم الروحية، فناقشوا المقصود بالتوحيد، وتكلموا عن أنواعه، ودرجاته…وهذا ما سأتناوله في هذه السطور محاولا من الإجابة عن سؤال التوحيد عند الصوفية .

بداية وردت مادة (وحد) في اللغة لإفادة معنى التفرد والإفراد ، وهو ما نجده عند صاحب المعجم الوسيط :

(وَحَدَ) – (يَحِدُ) حِدَةٍ ، ووَحْداً ، ووُحُوداً، ووَحدةً : انفرد بنفسه ، و الشيء وَحْداً : أفرده .

(وَحِدَ) – (يَوْحَدُ) وَحْداً ، وحِدَةً ،ووَحْدةً ، ووُحوداً: بقى مفرداً .

(وَحَّدَ) الله سبحانه : أقر وآمن بأنه واحد ، والشيء : جعله واحدا .

(تَوَحَّدَ) الله بربوبيته وجلاله وعظمته : تفرد بها . و فلان : بقى مفردا ، وبرأيه : تفرد به(1) .

ومنه:التوحيد: الإيمان بالله وحده لا شريك له، والله الواحد الأحد، ذو الوحدانية والتَّوحُّدِ،

قال ابن سيده : والله الأوْحَدُ والمُتَوَّحِدُ وذو الوحدانية ، ومن صفاته الواحد الأحد(2) .

ويتأكد معنى التفرد والفردانية المتعلقة بالذات الإلهية في تقرير ماهية التوحيد في المعنى الاصطلاحي الذي يقدمه الجرجاني في قوله:” التوحيد في اللغة : الحكم بأن الشيء واحد، والعلم بأنه واحد في اصطلاح أهل الحقيقة تجريد الذات الإلهية عن كل ما يتصور في الأفهام أو يتخيل في الأوهام والأذهان(3) .

فـ (التوحيد) ثلاثة أشياء معرفة  الله تعالى بالربوبية والإقرار بالوحدانية، ونفي الأنداد عنه جملة(4) .

ومن خلال هذا التعريف للجرجاني ندرك أن معنى الفردانية المتعلقة بالجناب الإلهي تطلب استعدادا ذهنيا عقليا للموحد، يدرك بها معنى التوحيد والوحدة مفارقا للعادة التي تلازم تصور الإنسان وإدراكه لصور الأشياء ، و معرفة كنهها وماهيتها .

كما نستخلص معنى آخر، وهو ما يلتمس من العبارة الثانية في قول الجرجاني، وهي كون التوحيد: معرفة الله بالربوبية أو بما يعبر عنه بتوحيد الله بأفعاله: كالخلق والرزق و..، والوحدانية : وهو توحيد الله بأفعالنا، أي توجيه طاعتنا وقرباتنا له وحده ، ونفي المشاركة  له حسيا ومعنويا  أن هذا التعريف للتوحيد يدخل ضمن مستوى التقرير العقلي لمعنى التوحيد، وهو ما درج عليه الدرس الكلامي والعقدي في عرضه لقضية التوحيد .

غير أن النظر خارج مجال البحث الكلامي في قضية التوحيد ، نرى البحث آخذ مجالا آخر وتأسيسا مغايرا للمنحى الكلامي وهو ما نجده عند  متصوفة الإسلام ، أو التوحيد داخل دائرة التصوف .   

بداية أشير أنه لم يرد عند الصوفية تعريف التوحيد بالحد والرسم كما هو سائد في تعريف بالمصطلحات ، فما هناك هو إشارات يمكن استخلاصها  من جملة أقوالهم  وتعبيراتهم ، وهذا راجع إلى منطلق التصوف في حد ذاته  كونه نتاج لسلوك عملي، وثمار لتجربة روحية ، يحاول كل صوفي من خلالها أن يعبر عن علاقته بالله انطلاقا من تجربته الشخصية، ويترتب عن هذا  المنحى بالضرورة  اختلاف التعبير  ومعناه ، وفي هذا يقول مرتضى مطهري(1399ه/1979م): (… التوحيد الذي  يعد في نظر العارف القمة المنيعة  للإنسانية هو بالطبع الغاية القصوى  لسير العارف ، وسلوكه … وفي نظر العرفاء أن الوصول إلى هذه المرحلة ليس من عمل  العقل والفكر بل هو من عمل القلب والمجاهدة ، والسير والسلوك ، وتصفية  النفس وتهذيبها …) (5) .

فقول مرتضى مطهري هذا يحدد لنا بداية ومنطلق النظر لمعنى التوحيد بالنسبة للعارف ليس العقل والفكر كما هو عند المتكلمين؛ إنما هو الإرادة التي تشمل عمل القلب في سير الصوفي، ومجاهدته في تهذيب نفسه وتربيتها لتصبح مهيئة لتلقي التوحيد، وليس هذا فقط، بل تحقيق لمعنى الإنسانية في أفقها الكوني التي هي مبتغى وأمل المتصوف الذي يسعى لتحقيقه . 

ويشير التهانوي (ت1158ه/1745م) إلى معنى التوحيد عند الصوفية في قوله:” التوحيد لغة: جعل الشيء واحدا، وفي عبارة العلماء اعتقاد وحدانيته تعالى ، وعند الصوفية معرفة وحدانيته الثابتة له في الأزل والأبد ، وذلك بألا يحضر في شهوده ” أي شهود الصوفي العارف ” غير الواحد جل جلاله ” .(6)

والملاحظ في هذا التعريف أنه احتوى  على نوعين من التوحيد :

التوحيد في عرف العلماء، وهو توحيد الاعتقاد، والتوحيد في عرف الصوفية، وهو تعريف توحيد المعرفة والشهود، والأول علم وتصديق إن كان دليله نقليا وهو توحيد العوام، وعلم وتحقيق إن كان دليله عقليا، وهو توحيد النظار من المتكلمين والفلاسفة(7) .

فمعنى التوحيد الذي جاء في تعريف التهانوي الخاص بالصوفية هو ما جاء في تعبيراتهم وأقوالهم في التوحيد، وهو (التوحيد الشهودي ) ، فما المقصود بالتوحيد الشهودي ؟

لبيان هذا المقصد(التوحيد الشهودي) نتتبع أقوال بعض المتصوفة التي حوت إشارتهم لهذا المبدأ في معرض كلامهم في التوحيد ، فهذا السراج الطوسي(ت378ه /988م) يعرف التوحيد بقوله:” تحقق العبد بالصفات الإلهية بفنائه عن الصفات البشرية ؛ من حيث تكون آخر حاله ما كان عليه في أول حاله ويكون كما كان قبل أن يكون “ (8) .

ويشرح الطوسي هذا المعنى بقوله: يرجع آخر العبد إلى أوله، فيكون كما كان قبل أن يكون، فيقول: بيان ذلك  فيما قال الله عز وجل:وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ[الأعراف :172] .

ومعنى: محو آثار البشرية : تبديل أخلاق النفس: لأنها تدعي الربوبية بنظرها إلى أفعالها، كقول العبد: أنا وأنا ، لا يقول إلا الله، إن الإنية لله عز وجل، فهذا معنى محو آثار البشرية، ومعنى قوله: تجرد الألوهية يعني إفراد القديم عن المحدثات(9) .

فالطوسي وهو يعرض مفهومه للتوحيد يحيلنا إلى معنى الفناء في السلوك الصوفي، وكأن التحقق بمعنى التوحيد يستلزم فناء الموحد عن كل أثر ناجم عن هوى النفس(صفات النقص)، والتمثل بصفات الله (الكاملة ) ، التي هي صفات الإنسان الأول .

و هذا الاقتران بين التوحيد والفناء عند المتصوفة، والذي يعبر عنه بالتوحيد الشهودي، هو المعنى الذي جاء كلام الخراز (ت277ه/891م): لتأكيده في قوله:” أول علامة التوحيد  خروج العبد من كل شيء، ورد الأشياء جميعا إلى متوليها، حتى يكون المتولى بالمتولى ناظرا إلى الأشياء، قائما بها، متمكنا فيها، ثم يخفيهم عن أنفسهم في أنفسهم، ويظهرهم لنفسه سبحانه وتعالى “(10) .

ويشرح لنا الطوسي هذا المعنى الموقف استنادا إلى قول الخراز بأن ” فناء ذكر الأشياء بذكر الله تعالى”: معناه خروجه عن كل شيء، حيث لا يضيف إلى نفسه واستطاعته شيئا، ويرى قوام الأشياء بالله في الحقيقة لا بهم (= الأشياء) .

ومعنى القول”حتى يكون المتولى بالمتولى ناظرا إلى الأشياء قائما بها ” يشير إلى تولية الحق له، وما يتولى عليه من حقائق التوحيد حتى يرى قوام الأشياء بالله عز وجل لا بذواتها (11) .

ويستند الصوفية*إلى أقوال الجنيد (ت298ه/910م) في تناولهم لقضية التوحيد، والذي ورد عنه أقوال متفرقة في بيان معنى التوحيد منها :

-الأول: قوله: “التوحيد إفراد القدم من الحدث” .

-والثاني: قوله:”إفراد الموحد بتحقيق وحدانيته بكمال أحديته، بأنه الواحد الذي لم يلد، ولم يولد، بنفي الأضداد، والأنداد، والأشياء، وما عبد من دونه، بلا تشبيه، ولا تكييف، ولا تصوير، ولا تمثيل، إلها واحدا، صمدا، فردا، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير”(12) .

فالتوحيد بهذا المعنى هو تمييز الله تعالى عن سائر الخلق في ذاته، وصفاته، وأفعاله، وهذا هو الإفراد المطلوب، فإن من أعطى القديم صفاته من الأزلية والبقاء والسرمدية، والعلم المطلق والإرادة المطلقة إلى غير ذلك مما يليق بالجناب الإلهي، وأعطى المحدثات صفاتها من الحدوث والتغير والتناهي والفناء وغير ذلك مما يليق بالمخلوقات الكائنات الفاسدة ، فقد وحد الحق توحيد الاعتقاد الذي يطالبه به الدين ، ويكون إفراد الموحد بأمرين:

أولا:”بتحقيق وحدانيته”أي بتقرير الصفات الإلهية، وتحقيق الوحدانية: معناه وصفه تعالى بوحدانيته صفاته على الحقيقة، أي الإقرار بأن صفاته له لا يشاركه فيها غيره ، فهو واحد في علمه ، وقدرته ، وإرادته ، واحد في قدمه، وأزليته، وغير ذلك من الصفات .

الثاني:”بكمال أحديته” أي الإقرار بكمال أحدية ذاته التي لا يدخلها كثرة ولا تعدد بوجه من الوجوه، وبهذا تنتفي عن الذات الإلهية الكثرة العددية ، والكثرة الكمية ، والتأليفية مادية كانت أو معنوية .

وكل ذلك مع نفي الأضداد، والأنداد، والأشباه، ويلزم من هذا أنه يستحيل في حق الله تعالى  التشبيه لمخالفته للحوادث، والتكييف: لأن الكيف عرض، وهو غير محل للأعراض، والتصوير: لأن التصوير فرع عن الإحساس، والله تعالى لا يدرك بالحس، فبالتالي لا يلحقه التصوير، والتمثيل لتنزهه تعالى عن المثيل والنظير (13)  .

وفي مقام آخر ينبه الجنيد على عنصر التفكر والتأمل كطريق لتحقق معنى التوحيد في النفس فيقول:” أشرف المجالس وأعلاها الجلوس مع الفكرة  في ميدان التوحيد “(14) .

وهكذا تستمر أقوال الجنيد في التوحيد  والتعبير عن حقيقته حتى أنه ينسب إليه بيت من الشعر أقرب إلى الغزل  يبين فيه التوحيد ، فقد سأله سائل  عن التوحيد ، فقال سمعت قائلا يقول:

غنى لي  من قلبي *** وغنيت كما غنى

وكنا حينما كانوا *** وكانوا  حينما كنا

فقال السائل: أهلك القرآن والأخبار ؟ فقال : لا ، ولكن الموحد يأخذ أعلى التوحيد  من أدنى  الخطاب وأيسره.(15) .

نستخلص من جملة هذه المعاني :

أن مفهوم التوحيد عند الصوفية يقوم على تنزيه الله عز وجل عن كل ما يمكن أن يلتبس بالمحدث من نقص ، وإثبات الكمال له تعالى مما يليق  به من قدرة وإرادة وعلم …، من غير تشبيه ولا تمثيل، ولا تكييف، ولا تصوير، واشترك الصوفية في إثبات هذه المعاني مع غيرهم من المدارس الفكرية كالمتكلمين والفلاسفة، غير أنهم  ساقوا حججهم مجردة عن الأدلة العقلية، وبعيدة عن طرق  الاستدلال الكلامي ، ذلك أنهم نظروا  إلى هذه المرحلة (الإثبات والاستدلال العقلي) على أنها مرحلة سابقة تليها  مرحلة أخرى يتشكل معنى التوحيد فيها بصورة أرقى ، وأكثر إيقانا وتثبيتا ، وهي (الفناء في التوحيد)أو (التوحيد الشهودي ) .

ويقدم لنا ابن القيم(ت751ه/1349م)مفهوم للتوحيد الشهودي(الفناء عن شهود السوى): التوحيد الذي يشير إليه أكثر الصوفية المتأخرين ، ويعدونه غاية ، وليس مرادهم  فناء وجود ما سوى الله في الخارج ، بل فناؤه عن شهودهم وحسهم .

 وهذا التوحيد كما يرى ابن القيم فيه ما هو محمود: في حالة إذا لزم  صاحبه التمييز بينه وبين الغير ، معفو عنه : عندما  يكون اصطلاما ومحوا وكان صاحبه معتقدا الفرق ، ولكن لم يميز ولم يدرك الفرق بينه وبين غيره لضعف قلبه وعقله عن احتمال التمييز والفرقان ، ويذم منه : ما كان  قاطعا لهذه الصلة أو هو مبادرا لها بقصد (16)  .

ومنطلق الصوفية في هذا أنهم أن المتكلمين اعتمدوا مسلك الجدل في تقريب درس التوحيد، إضافة إلى مفهوم العقل عند المتكلمين (17) المخالف لمفهومه عندهم ، وهذا ما جعل توحيد أهل الكلام مؤسسا  على جملة من السلوب * تجعل الله  تعالى في صورة  تباعد بينه وبين خلقه (التنزيه).

وهذا التنزيه كما رأى فيه ابن عربي(ت638ه/1240م) عين التقييد عن طريق حمل الصفات على الله ، والأفضل النظر  إلى الله من حيث أنه (هو) من غير أن يخبر عنه  بنفي أو إثبات قُلِ اللَّهُ  ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ[ الأنعام: 91 ] .

ولأن التوحيد الحقيقي فوق مقدور العقل والتنزيه يحمل الصفات فهو بذلك تقييد ، يبقى محصورا في حدود العقل وتصوراته ، وعلى الموحد كسر هذه الحدود ، والتحقق من معنى التوحيد روحيا وشهوديا .وما يجد سنده في ذلك المثاق الرباني أو العهد القديم عهد  (ألست بربكم ) في قوله تعالى:” وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ[الأعراف : 172] .

فالخطاب الإلهي هنا موجه لروح الإنسان ، فلو أسأل كياني وأحاسيسي عن ذلك المشهد ويومه لا أصل إلى أية نتيجة، فلا أذني تذكر أنها سمعت ، ولا عيني تذكر أنها رأت ، ولا خاطري يحفظ شيئا من هذا الحوار؛ “لأن  الحديث آنذاك  كان مع الأرواح  ، تلك الأرواح  التي انسكبت خيرا في أجسادها يوم خلقها الله عز وجل، ولقد استوعبت الأرواح  آنذاك  ذاك الحديث  مباشرة دون احتياج  إلى وساطة  أذن تسمع أو عين ترى  أو دماغ يدرك، وإذا أردت اليوم  أن تستنهض  شيئا  من كيانك  لتذكر ذلك العهد ، فاستنهض لذلك  روحك السارية  في كل ذرة  من  كيانك ، ولا تسأل الدار  الجسدية التي استودعت وأسكنت  فيها بالأمس ، وستفارقها عما قريب”(18) .

واصطلاح الصوفية على هذا المعنى للتوحيد، واعتبارهم له المسلك الأقوم لتحقيق معنى الوحدانية الحقة ، يجعلنا نتساءل عن نظرتهم لمفهوم التوحيد عند المتكلمين المؤسس على السمع والعقل على اختلاف وجه التقديم والتأخير بينهما ، أو المنحى اللغوي الذي يقف عند حدود ظاهر الخبر أو النص الأخرى، هنا نجد أن الصوفية يقدمون تقسيما للتوحيد والموحدين يعتبرون فيه توحيد الصوفية؛ الذي هو توحيد الخاصة يندرج ضمن أعلى مراتب ودرجات التحقق من معنى التوحيد ، وهو كما سبق أن أشرنا إليه وهو التوحيد الشهودي، أما غيرهم فهم يأتون في مرتبة دونهم، أي ضمن توحيد أهل الحقائق وتوحيد العوام، ولأخذ نأخذ على سبيل المثال تقسيم الجنيد للتوحيد لتأكيد المعنى الذي أوردناه حيث يقسم التوحيد  إلى ثلاثة أقسام*  :

_ توحيد العامة: وهو الإنفراد بالوحدانية بذهاب رؤية الأضداد ، والأنداد ، والأشباه ، والأشكال مع السكون إلى معارضة الرغبة والرهبة .

_ توحيد أهل الحقائق : وهو الإقرار بالوحدانية بذهاب رؤية الأسباب والأشياء بإقامة الأمر والنهي في الظاهر والباطن بإزالة معارضة الرهبة والرغبة مماسواه بقيام شواهد الحق مع قيام شواهد الدعوة والاستجابة .

_ توحيد الخواص: وهو أن يكون العبد بسره ووجده وقلبه كأنه قائم بين يدي الله عز وجل  تجري عليه تصاريف تدبيره ، وأحكام  قدرته في بحار توحيده بالفناء عن نفسه ، وذهاب حسه بقيام الحق له في مراده منه، فيكون كما كان قبل أن يكون، يعني في جريان أحكام الله عليه، وإنفاذ  مشيئته فيه(19) .

 

خاتمة :

التوحيد عند الصوفية هو معرفة لله تشرق بها النفوس، ومرآة تتجلى عليها الحقائق، فتتلقى المعارف والقيم، وبه تعرف النفس الإنسانية مكاسبها ومثالها، وتتطهر من عيوبها وأهواءها، وتتجلى بمكارم الأخلاق ، وتتخلى عن مفاسدها .

وانطلق الصوفية في صياغتهم للتوحيد من نظريتهم المعرفية ومنهجهم الذوقي، ولم يخرجوا عن معناه( الشهودي) دور العقل واستدلالاته، وإنما اعتبروها غير كافية في تحصيل اليقين وكمال العبودية، فكانت هذه مرتبة سابقة لمرتبة أخرى قالوا فيها بالفناء، وهي قضية أقرها حتى خصوم الصوفية كالتفتازاني(ت 792ه/1390م) من المتكلمين، و ابن القيم من المدرسة السلفية .

_ولقد جاءت تعبيرات الصوفية من خلال النماذج التي سقناها مختلفة التعبير عن مفهوم التوحيد من شخصية لأخرى وهذا لارتباط معنى التوحيد بالتجربة الصوفية التي تقر بفردانيتها وشخصانيتها، تختلف من حالة سالك إلى آخر، فكل يعبر بحسب مقامه والحال الذي ترد عليه، إلا أن التعبيرات حملت مقاصد مشتركة كتنزيه الله وخالفته للحوادث، وربط معنى التوحيد بالعمل والسلوك .

وأخيرا يمكن اعتبار الرؤية الصوفية  للتوحيد، وصياغته في قالب روحي أنها أخذت منحى تجديديا في عرض الدرس العقدي (الكلامي)، وإثراء قيميا ومعرفيا للفكر الإسلامي بتقديمه وفق أساس روحي أكثر انفتاحا ووضوحا في رؤيته لله والإنسان والعالم .

 

 

 

 

الهوامش :

(1)مجمع اللغة العربية ، المعجم الوسيط ، ط4 ، مكتبة الشروق الدولية ، 1425ه/ 2004م ، مصر ، ص1016 .

 (2)ابن المنظور ، لسان العرب ، عبد الله الكبير وآخرون ، دار المعارف، ص4781 .

(3) الجرجاني ، التعريفات ، ط1 ، المطبعة الخيرية ، جمالية مصر ،1306ه/ م ، ص31.

(4) المصدر نفسه ، ص 31 .

 (5) مطهري ، الكلام والعرفان ، تعريب علي خازم ، ط1 ،الدار الإسلامية ، بيروت ، لبنان، 1413ه/1992م ، ص68 .

(6) محمد علي التهانوي ، موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم ، تح علي دحروج ، ط1 ، مكتبة لبنان ناشرون ، بيروت ، لبنان ، 1996م ، ج1، ص528 .

(7) أبو العلا عفيفي ، التصوف : الثورة الروحية في الإسلام ، ط1 ، دار المعارف ،  القاهرة ، مصر ، 1963م ، ص161.

(8) أبو نصر السراج الطوسي ، اللمع ، تح: عبد الحليم محمود وطه عبد الباقي سرور ، د ط، دار الكتب الحديثة ، مصر 1380ه/1960م ، ص49 .

(9) المصدر نفسه ،ص51 .

(10) المصدر نفسه ،ص53.

(11) المصدر نفسه ،ص53.

* كالقشيري (ت465ه/1072م) في الرسالة ، والطوسي في اللمع ، وأبو طالب المكي (ت386ه/996م) في قوت القلوب وغيرهم..

(12) الطوسي ، المصدر السابق ، ص49.

* بمعنى الصفات السلبية ؛ حيث يقتضي  مدلول كل صفة سلب(عدم) أمر لا يليق بالله سبحانه وتعالى ، مثل الوحدانية = تقتضي سلب تصور الكمية  في ذاته وصفاته سبحانه وتعالى (انظر: البوطي ،كبرى اليقينيات الكونية ، ص111)

(13)أبو العلا عفيفي ، المصدر السابق ، ص169 .

(14) أبو القاسم عبد الكريم بن هوزان القشيري ، الرسالة القشيرية ، تح عبد الحليم محمود ومحمد بن الشريف ، دار المعارف ، مصر ، ج1 ، ص30.

(15) القشيري ، المصدر السابق ، ص302،303 .

(16) ابن القيم الجوزية ، مدارج السالكين ، ط1 دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان ، د ت ، ج1، ص ص174_175 .

(17) أحمد محمود صبحي ، التصوف إيجابيات وسلبيات ، دار المعارف ، القاهرة ، مصر ص54_ 55 .

(18) محمد سعيد رمضان البوطي ، الحكم العطائية (شرح وتحليل) ، دار الفكر دمشق ، سوريا ، 1424ه/2003م ، ج2 ، ص50_51

* يقسم أبو حامد الغزالي(505ه/1111م) التوحيد إلى أربع مراتب: لب – لب اللب – قشر – قشر القشر (أنظر أبي حامد الغزالي ، إحياء علوم الدين ، تقديم ومراجعة : صدقي محمد جميل العطار ، دط ، دار الفكر، بيروت ، لبنان ، 1423ه/2003م ، ج4 ، ص210  وكذالك  حامد إبراهيم محمد جعفر ، نور التحقيق في صحة أعمال الطريق، ط2 ، دار التأليف ، مصر ، 1390ه/1970م ، ص8 _9) ، كما يقسمه ابن عجيبة (11313ه/1895م)إلى قسمين : توحيد البرهان وتوحيد العيان (انظر: عبد الله أحمد بن عجيبة ، معراج التشوف إلى حقائق التصوف ، تقديم وتحقيق : عبد المجيد خيالي ، دط ، مركز التراث  الثقافي المغربي ، الدار البيضاء ، دت ، ص56 ) .

(19) الطوسي ، المصدر السابق ، ص51  .

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!