رحلةُ روحٍ في طريق التصوف

رحلةُ روحٍ في طريق التصوف

 

رحلةُ روحٍ في طريق التصوف

بقلم: محمد البرسيجي

الحمد لله، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وعلى آله الكرام، وارض اللهم عن أصحابه العظام، وعلى كل من استنور بهديهم وطلب مددًا من مشكاتهم إلى يوم القيامة، وبعد،

فما ستقرأه أخي وصاحبي، هو محض تجربة شخصية عاشها صاحبها على مدار أكثر من عشرين عامًا، بدأت هذه الرحلة منذ أن انفجرت بداخله عيون البواعث (بواعث الحق) ولا أدري على وجه اليقين كيف حدث هذا؟ ولكنها حالةٌ مُلِحَّةٌ تدفعك للبحث والتفتيش عن مطلوب ما، وقد بدأ البحث عن المطلوب، ولا أدَّعي الوصولَ إليه، ولكن الأمر جَلل، مقلق، مزعج، يسلبك لذَّة كلِّ شيءٍ، فتصير حائرًا، وربما تائهًا، يظن الناس أن بك جنونًا أو مسًا من الشيطان، ولا يدري أحدٌ ـ حتى أقرب الناس إليك ـ ما حَلَّ بصدرك، وما هبط بروحك.

هي تجربة الروح، هذا المخلوق العجيب الغريب الذي لا يعرف كنهه أحد، رغم وجوده بكل موجود، هذا (السِّر الإلهي) العجيب، هذا المكنون الذي لا يمكنك كشف سِتْره، ولا هتك سِرِّه، وكل روح لها ما ليس للأخرى من الصفات والطبائع، وهذا ملموس محسوس، ولكن رغم التعدد اللانهائي للأرواح وصفاتها إلا أن مصدرها واحد، وهذا في ذاته شأنٌ عجيبٌ، محيِّر غريب، كيف لهذا التنوع اللانهائي أن يكون مصدره واحد، بل الواحد؟! وتلك مسالك يحار فيها العقل، وأنى للعقل أن يسلك في دُروب الروح، أو يكون حكمًا عليها؟ فكم من عقولٍ تاهت! وكم من ألبابٍ طاشت! ولكل حاله وسِرُّه، ولكن هكذا العقل دائمًا، يدفع صاحبه للإنكار والاعتراض، وإلا فما فائدة العقل؟ وهل سُمِّي العقلُ عقلاً إلَّا لعَقْلِه صاحبه؟!!

فالعقل حجابُ الروح، وتلك أول المنازل، كيف تقود الروح العقل؟ وإن أمكنني القول كيف يكون العقل روحانيًا لا عقلانيًا؟! فمن جعل العقل وسيلةً فاز، ومن جعله هدفًا ومستقرًا حاس، وعلى روحه داس، فالعقل بطبيعته وكما هو اسمه عاقلٌ أي (مانع) والروح لا يمنعها مانع ولا يحاط بها شئت أم أبيتَ، فما السبيل وما الحل؟

إن خروج العقل عن طوره وطبيعته ليس سهلاً، فكيف يتخلى العقل عن عقله، وكيف يسلم نفسه وزمام أمره؟ هذا ضد صفاته وطبيعته، وهنا يبدأ الصراع الأول داخلك، تلك المعركة سوف تحدد من تكون وإلى أي طريق تسلك؟ تلك معركة الوجود أو اللاوجود، تلك منازلة حامية لا يعرف قدرها إلا من نزل ساحتها، وعاش كربها، وربما ينجو صاحبها وربما لا، والهالكون كثر، والعابرون ثلة من الأولين وقليل من الآخرين، والتوفيق لا التلفيق هو من يسلك بك تلك المسالك التي لا يعرفها أحدٌ قبلك ولا بعدك.

فطريقك هو طريقك أنت، لا طريق غيرك، إلا أنه طريق واحد ولكنه إن شئت قل طريقًا متلوِّنة، وعلى حسب لونك يكون طريقك، فإن صادفت توفيقًا لاحظه بعين عنايتك فهو دابتك التي ستركبها وليس لك غيره من دابة، ولا يغرنك ما تلقاه من دواب، فكلها عرجاء لن تبلغك المرمى، ولن تصل بك إلى الدار، وكم من أقوام ركبوا تلك الدواب التالفة الهالكة فهلكوا معها! فحذار ثم حذار من تلك الخوادع ومن هذه الشِّراك اللوامع.

وعلى هذا النهج بدأ الطريق قديًما منذ أن قال الأول: (إني جاعلٌ في الأرض خليفة) ومنذ أن نفخ الروح فيك، فالروح سابقٌ على العقل، فكيف تُحكِّمُ اللَّاحقَ في السابق؟! إن كنت ذا عقل حقًا، دع القديم الأول يسلك بالحديث المتأخر، ولا تعكس فتنتكس. ومن هنا بدأت الأرواح الطيبة، وكل الأرواح طيبة، فمصدرها طيب، وما لوَّثها ولا دنسها إلا العقل العاقل، فمن ترك الزمام للأول وصل، ومن قاد زمام روحه بعقله انفصل. ولا بيان أجلى من ذلك.

وهامت الأرواح بعد ظهروها تبحث عن المصدر الذي منه صدرت، وهاجت الأشواق داخل تلك الأرواح تطلب الدار الذي عنه انفصلت، فلا الأمر بيدها ولا التقدير تقديرها، بل هو أمرٌ كُتب من قبل نفخها، ولا سبيل لها، ولا حيلة سوى البحث عن الدار، وربما وصلت الروح لمصدرها وربما تاهت وضلت (حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا).

وقد ظهرت بالميادين أرواحٌ وصلت للمصدر، ولشدة جمال ما وصلت له لم ترد أن تستأثر بهذا الجمال العجيب وتلتذ به وحدها، بل أرادت مشاركة هذا الجمال الصِّرف والصفاء المحض مع سائر الأرواح التي كانت تبحث مثلها، فهي تعرف كيف تكون المعاناة وكيف يكون الألم!

فنصبت لنفسها بعد الاستئذان من الواصل الأول منابر، عَلَّها تكون مرشدةً في تلك المسالك، وهاديةً في هذه المفاوز البعيدة، كثيرة المهالك، فلم تَدَّعِ تلك الأرواح الواصلة سوى الإرشاد، ولا يمكن لها أن تكون إلا مرشدة فحسب، فطبيعة الطريق لا تكون إلا هكذا. ومن ادعى غير ذلك فقد ضل وأضل كثيرًا وضل عن سواء السبيل.

ومن هنا نشأ الإرشاد والتسليك، بالإذن من الواصل الأول كما أسلفتُ، ولا يكون الإرشاد إلا بإذن من الواصل الأول أو من يأذن له، وتلك آفة أخرى، فويل للروح من تلك الآفات التي لا تنتهي.

فما الإرشاد في الطريق إلا إيناس وتعليم، حب ومعرفة، فقد أحبت الأرواح الواصلة ألا تستأثر بلذة الوصول وحدها، وقد حلَّت البلوى الكبرى بالطريق (طريق الروح) وإن شئت قل (طريق التصوف) من تعيين المرشدين كأوصياء على سائر الأرواح، فلا وصي على الروح إلا موجدها ونافخها، ومن الذي أذن للمرشدين أن يكونوا أوصياء على شيء لم يوجدوه ولا يعرفوا كنهه ولن يعرفوا. فهيهات ثم هيهات للمرشد أن يكون وصيًا، أو يدعي ذلك فضلاً عن تعيينه في تلك المرتبة المزعومة.

ونشأت (الطُّرق) أولاً على الإرشاد القائم على الرحمة والمحبة وبذل النصيحة مع الاحترام التام لطبيعة كل روح وخصائصها، وإلا لما قال الواصلون: (الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق) وهل أنفس الخلاق محصورة؟ فلماذا تم حصر الطرق؟ ولماذا تم تعيين طرقًا للسلوك؟ فطرق الروح إلى باريها لا سبيل إلى حصرها ولا يحصرها إلا جاهل لم يذق للطريق طعمًا ولم يشم له شذًا أو عطرًا.

فقبل الطرق الصوفية كيف كان الوصول إلى الله؟ هل كان منعدمًا؟! بالقطع لا، فالتصوف موجود قبل الطرق، فخذ بالتصوف ولا تأخذ بالطُّرقية، وبمثال يتضح المقال: الشاذلي رضي الله عنه من أكابر المرشدين، مَنْ شيخه؟ وما طريقته؟

وهل وقت الشاذلي كانت شاذلية؟ وهل بعد الشاذلي كانت شاذلية؟ الإجابة: لا، فلا وقت الشاذلي كانت شاذلية ولا بعده كانت شاذلية، كان وقته مرشدًا وبعده مرشدًا، فما لبس أبو العباس المرسي وهو خليفة الشاذلي لباس شيخه وسمى نفسه أبا العباس الشاذلي، فافهم، ولا قيل عن العارف ياقوت العرشي الشاذلي، وكذلك الشيخ ابن عطاء الله السكندري، كلهم أبناء الشاذلي ولكنهم ليسوا شاذلية، والفرق شاسع والبون واسع.

فلماذا تفرَّعت الشاذلية عشرات الفروع، فصار لدينا أسماء محدثة مبتدعة، لم نعرف لها أصلاً ولم نجد لها مثلاً، وتلك ثالثة الأثافي، وداهية الدواهي، والعجيب أن كل واحدٍ لبس رداء غيره يريد أن يلبسه كل من معه عنوةً، فلو كان هذا التفرع هو المراد لقام به صاحب الإرشاد نفسُه أو تلاميذه.

ونسوا أن الواصل الأول يقول: (اعملوا فكل ميسَّر لما خلق له) وتلك عِلَّةُ الوجود أصلاً لو كنت تفهم، وكان الموجد الأعلى يقول: (قل كل يعمل على شاكلته) فمن أين جاءت هذه الآفة التي أفسدت الطريق وحولته رسومًا ودندنة ولهوًا ولعبًا، وأخلته من معناه الذي من أجله وجد، فصار الطريق قفرًا، والسعي كدًا ولا ثمار ولا أنوار.

هل تريد أن تلبس كل الأرواح لبسة واحدة، أو لبستين أو ألفًا؟!! عجبًا لتلك الأرواح التي عقلها العقل عن المعرفة، فكيف أن تلبس اللامحدود لباس المحدود؟! أي عقل هذا؟ أي روح طوَّاقة تقبل السجن داخل محبس غريب عن طبيعتها، فلما سجنت الروح خمدت نار شوقها، وحجبت عن النور الذي كان يدعوها، وظنت مع تقدم الأزمان وتكاثر الفتن والأمراض أنها وصلت، ولكنها لا تدري أنها تعطلت ولم تخط في طريقها خطوة واحدة، ذلك أنها فقدت أهم شيء في الطريق، فقدت التجربة، وهذا لب الطريق وجوهره، فليس لتلك الأرواح تجربة تعلمت منها ما يناسب طبعها الخاص الذي يختلف عن أي روح أخرى، فالطريق تجربة خاصة من فقدها فقد الطريق، ومن عاشها فهو على الطريق، والتجربة فيها الألم والشوق، والحيرة والشك، ولا راحة إلا بالوصول، وقطع تلك المفاوز البعيدة.

ونفيض في ذلك شرحًا فنقول: جاء رجلٌ إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن أفضل الأعمال فقيل له: (الصلاة لوقتها، وبر الوالدين..)، وقيل لآخر: (إنَّ من أحب الأعمال إلى الله إدخال السُّرور على قلب المؤمن)، وقيل لثالث أراد الجهاد في سبيل الله: (ألك والدان؟ قال: نعم، فقال له: ففيهما فجاهد) فلكل سائل جواب، ولكل روح دواء، ولكل سالك طريق، فافهم.

فقد يكون السبيل والطريق في إطعام الكلاب، كما كان الشيخ الجليل شاه نقشبند يفعل لسنواتٍ بناءً على أمرٍ من شيخه، وكان هذا ورده وطريقه، أو قد يكون السبيل في رعاية مسكين، أو أرملة، أو يتيم، أو كف أذى، أو إطعام جائع، أو الصبر على محنة، وقد يكون الطريق دمعة، وقد يكون الطريق كلمة، ففي الطريق لا رسوم ولا طقوس، الصدق والعمل فحسب.

ولكن ـ وآهٍ من لكن ـ مرضت الأرواح وضعفت، ولما ضعفت تعطلت، ولما تعطلت عجزت، ولما عجزت تكبَّرت، ولما تكبَّرت لُعنت، ولما لُعنت طُردت، ولما طُردت تأبلسَتْ، فويلٌ لها إن لم تتب وترجع لطبيعتها.

أهل الطُّرق مساكين، حُبست أرواحهم، وبنيت بينهم وبين المقصد الأسمى أسوارٌ من زجاجٍ لا يرونها؛ لانعدام نور شمس الحقيقة، فلو سطعت الشمس لشعروا بما هم فيه، ولكن تسرمد ظلامهم فمن يأتيهم بضياء، يبصرون فيه؟! وكذلك كنا من قبل فمنَّ الله علينا!

ولما سألتُ المرشدين هل قلتم للناس نحن أوصياء؟ قالوا: لا ورب الكعبة، إنما أردنا أن نكون أدلاء على الطريق لا أن نكون الطريقَ نفسَه. وهم صادقون فيما أجابوا، تشهد لهم أنوار وصولهم، وصدق ما وصوفوه في طريقهم، فأين طريقك أنت؟ هم قد عرفوا الطريق ووصلوا، فأين أنت؟ إن كنت تظن أن محض تقليدك لهم هو الطريق، أو أن مجرد ترديدك لكلماتهم هو الدرب القويم، فهذا عين الجهل، ونهاية الضلال، فأفق، فَتِّشْ عن طريق روحك أنت، فروحك لها حقٌ عليك، ولا تُلبس روحَك لباسَ روح أخرى، وتذكَّر قول الرب: (قل كل يعمل على شاكلته) وتدبَّر قوله: (قل الروح من أمر ربي) وتذكر قوله: (إني جاعل في الأرض خليفة) فأنت المخاطب بكل هذا.

فهل فقدنا المرشد فعلاً كما قال بعض المشايخ: إن (شيخ التربية) قد انتهى من قرون، أم إن المرشد موجود، ولكننا نتعامى عنه لأن نفوسنا لا تريد مرشدًا، وقنعت بما هي فيه من أشكال ورسوم؟

 فيأيها السالك قُد دابتك بنفسك، ولا تركب دابةَ غيرك، فدابتك أفضل لك، وهي التي ستوصلك لغايتك، أما إن كان الكسل والراحة قد أعموا عيني بصيرتك، فاقشع هذا الضباب، فسترى النور فاتبعه، أنت لست شاذليًا ولا برهانيًا ولا نقشبنديًا، كن كما أراد الرب: (ولكن كونوا ربانين) وهكذا كان الشاذلي، والدسوقي والنقشبندي، كانوا أدلاء ربانين كما أراد الله، ولم يريدوا أن يكونوا أكثر من ذلك، فمن جعلهم غير ذلك فقد أساء الفهم وأساء الأدب.

هذا هو طريق التصوف، فمن حوَّل طريقَ التصوف إلى تصوُّفِ الطُّرق، فقد حوَّل الخمر خلاً، وجعل الشحم ورمًا، وهذا آخر المراد بيانه.

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!