فصلٌ في العشقُ

فصلٌ في العشقُ

 

Eva De Vitray-Meyerovitch : RUMI AND SUFISM 

إيفا دوفيتري ميروفيتش: كتاب “الرومي والتصوف“.

ترجمته عن الفرنسية: عائشة موماد

 

 

فصلٌ في العشقُ

الكلُّ يُبنى حول العشق! ألم يقل الله تعالى أنه أقرب للإنسان من حبل الوريد؟ فالصوفي يعثر عليه داخلَ قلبه عندما يعشق. يقول الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: (مَا وَسِعَنِي سَمَائِي وَلا أَرْضِي ، وَلَكِنِّي وَسِعَنِي قَلْبُ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ). ويقول جل جلاله [في حديث قدسيّ] (وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ).

يجيبُ الصوفي على منحة اللطف والمبادرة الإلهية. وهناك صلاة تقليدية تدعى صلاة داوود صيغت بهذه الكلمات: (يا الله، امنحني أن أحبّك، امنحني أن أحبَّ من يحبك، هبني أن أُتم الأعمال التي تكسبني حبّك، هبني أن يكون حبّك أغلى مني ومن ذوي ومما أملك).

يقول مولانا جلال الدين الرومي:

العشق هو تلك الشعلة، التي عندما ترتفع، تحرق الكل، ويبقى الله وحده.

أما الشاعر الصوفي الفارسي الكبير فريد الدين العطار فيقول: “ليس للعشق إلاّ ثلاثة سبل، النار والدموع والدم“.

ويقول صوفيٌّ آخر يُدعى الشيخ سيد ظريف أن “سبب الخلق هو تجلّي جماله، وأوّل الخلق كان العشق“.

العشقُ هو روحُ الكون على الحقيقة بالنسبة للتصوف، فبفضله يميل الإنسان إلى العودة إلى أصله.

الرقصُ والموسيقى ودوران النجوم وحركة الذرات، ومعراج الحياة على سلم الكائنات، من الحجر إلى النبات ومن الحيوان إلى الإنسان، وصولاً إلى الملائكة وما فوقها، كلّ ذلك عائدٌ إلى العشق، ذلك الأسطرلاب الذي يكشف الأسرار.

تطمح الروحُ البعيدةُ عن حقيقتها المطلقة إلى اللقاء الذي يكشف لها أن العاشق والمعشوق ليسا سوى واحد.

وقد حُكي في إحدى قصص المثنوي أنه في أحد الأيام طرق رجلٌ باب أحد أصدقائه، فأجاب الصديق:

من بالباب؟ فأجاب: “أنا”. ردّ الصديق قائلاً: “اذهب، فأنا لا أعرفك”.

 بعد سنة من الغياب، وبعد احتراق من العشق والحزن، عاد الرجل ليطرق باب صديقه ثانية، فسأل الصديق: من هناك؟ وهذه المرة أجاب الرجل: “أنا أنت”، ردّ الصديق: ” ادخل إذن لأنك أنا، فلا مكان هنا لوجود اثنين”[1].

عندما يختفي تحديد التفرد الذي يولد الوهم، يتجلى الله على أنه الحقيقة الموحِّدة الوحيدة والمعشوق الوحيد.

 عندما يصيرُ الرجل والمرأة واحدًا، فأنت ذاك الواحد

عندما تُمحى الآحاد فأنت ذاك الأحد

لقد صنعتَ هذا “الأنا” وهذا “النحن” لكي تلعب لعبة العشق مع نفسك

ولكي تصبح “الأنا” و “النحن” روحًا واحدًا، وتصبح في النهاية غارقة في المعشوق.  (المثنوي)

وكما جاء في القرآن الكريم، فإن الله قد خلق المخلوقات لعبادته [سورة الذاريات، الآية 56] [2]، فهو العابدُ والمعبود، وهذا العشق هو معنى كل موجود لدى الرومي:

 المعشوقُ هو الكلُّ، أما العاشقُ فحجابٌ

يريدُ العشقُ أن يُظهر كلمته. (المثنوي)

 

 العشقُ محيطٌ لا متناهٍ والسماوات زبد

اعلم أن أمواج العشق هي التي تدير دواليب السماوات.

دون عشقٍ يكون العالمُ فاقدًا للحياة.

كيف للجماد أن يتحوّل إلى نبات؟

كيف للنبات أن يضحّي بنفسه ليوهَب الروح؟

كيف للروح أن يبذل نفسه من أجل هذه النفخة، التي من فوحانها صارت مريم حبلى؟

كل ذرّة قد شُغفت بهذا الجمال وأسرعت نحوه..

وفي سرعتها تنادي: “العزة لله” (المثنوي)

 

عن العشق

 أينما تكون، وعلى أية حال توجد، حاول دائمًا أن تكون عاشقًا، وعاشقًا شغوفًا. عندما تحصل على العشق، ستكون عاشقًا دومًا، في القبر وعند البعث وفي الجنة، إلى الأبد.

عندما تزرع القمح فإن القمح سوف ينبت بالتأكيد، سيكون القمح في الحزمة وفي الفرن.

أراد المجنونُ أن يكتبَ رسالة إلى ليلى، تناول قلمًا وكتب هذه الأبيات:

اسمك على شفتي

صورتك في عيني

ذكراك في قلبي

لمن سأكتب إذن؟

صورتك ساكنةٌ في عيني واسمك لا يفارق شفتي وذكراك في أعماق روحي، فلمن سأكتب إذن، وأنت تتجولين في كل هذه الأماكن؟

كُسر القلم ومُزّق الورق.

هناك أشخاص كثيرون امتلأت قلوبهم بمثل هذا الكلام، لكنهم لا يستطيعون التعبير عنه بالشكل والكلمات، رغم أنهم عشّاق باحثون عنه ومشتاقون إليه. هذا ليس غريبًا ولا يمنع من العشق، لأن المصدر هو القلب والشوق والعشق والمحبة.

كما يحب الرضيع الحليب ويستمد منه القوة، لكنه لا يستطيع أن يقدم تفسيرات حوله. لا يمكن أن يعبر عن رضاه بالكلمات، لا يستطيع أن يتحدث عن لذة الحليب ولا كيف سيكون ضعيفًا وبئيسًا إن لم يتناوله، مهما كانت روحه عاشقة للحليب ومشتاقة إليه بحرارة.

لكن الراشد إن فسر الحليب بآلاف الطرق فإنه لا يشعر بأي لذة ولن يكون له من ذلك أي نصيب[3].  

(فيه ما فيه)

 ندقُّ طبلَ تحقيق الوعود ونكنسُ طريقَ السماء.

سعادتُك حاضرة، ما الذي يبقى من أجل الغد؟

طردتْ جيوشُ النهار جيوش الليل،

وامتلأت السماء والأرض بالصفاء والنور.

يا لسعادة من نجا من عالم الروائح والألوان هذا !

لأنه خارج هذه الألوان والروائح،

هناك ألوان أخرى في القلب والروح.

يا لسعادة هذا الروح وهذا القلب الهاربين من هذا العالم المصنوع من ماءٍ وطين

رغم أن هذا الماء وهذا الطين يخفيان قالب حجر الفلاسفة. (غزليات شمس تبريزي)

 

في كل لحظة، يندفع دويُّ نداءِ العشق من كل جانب
نحن ذاهبون نحو السماء، من يرافقنا؟
كنّا من السماء وكنّا أصدقاء الملائكة
وسنعود كلنا إلى هناك، فهناك وطننا.
نحن أعلى من السماوات وأنبل من الملائكة
لماذا لا نتفوق عليهم؟ فهدفنا الجلال الأسمى.
ما عساها تفعل اللؤلؤة الصافية في عالم التراب؟
لماذا هبطتم؟ احزموا حقائبكم. ما هذا المكان؟
الحظ رفيقنا وعلينا التضحية!
وكطيور البحر، يأتي الناس من المحيط، محيط الروح
كيف للطائر القادم من هذا البحر أن يبني عشا في هذه الدار؟
لا، نحن لآلئ وسط هذا البحر، نقيم هنا جميعنا
وإلا كيف تعقب الموجة تلك القادمة من بحر الروح؟
قد جاءت موجة (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) وحطمت وعاء الجسد 
وعندما يحطم الوعاء، تعود الرؤية ويجتمع الشمل. (غزليات شمس تبريزي).

 

 يغلي البحرُ من العشق كالقدر، ومنه تتفتت الجبال كالرمل

تتصدع السماء من العشق إلى مائة شق

ويجعل العشق الأرض في زلزلة ولا يأبه (…)

وإن لم يكن من أجل هذا العشق الصافي،

كيف كنت أخلق الأفلاك؟

لقد رفعت هذه القبة السماوية الرفيعة

لكي تتمكن من فهم رفعة العشق. (المثنوي)

 

جاء العشقُ، وهو كالدم في عروقي وجلدي

حطّمني وملأني بالمعشوق

اخترق المعشوق كل أجزاء جسمي

ومني لم يبق إلا الإسم، والباقي فهو.

قد يوجد من هو أجمل من هذا الوجه

إن كان هناك الأجمل، فليس مهما.

ليس بمعشوقي

ارفض كل الوجوه في قلبك

حتى يأتيك الوجه بلا وجه

إن كنت أبحث عن قلبي، أجده في حيك

إن كنت أبحث عن روحي ، أجده في جديلتك

وقت العطش أرتوي بالماء

وفي الماء أرى صورة وجهك

تظن أنني تحررت من حزني عليك

وأنه بدونك صرت صبورا هادئا

يا سيدي، اجعل ألا أقترب من السعادة للأبد.

لو مكثت لحظة دون حزن عليك. (الرباعيات).

 

 في هذه الدار، هناك آلاف الأموات
وأنت جالس تردد: “هذا ملكي”!

حفنة من تراب تقول: “كنت شعرًا”
وحفنة أخرى تقول: “كنت عظامًا”
حفنة تقول: “كنت شيخًا”
وأخرى تقول: “كنت شابًا”
حفنة أخرى من التراب تقول لك: “توقّف هنا، كنت أحدهم، الذي كان بدوره ابن أحدهم”
تظل مذهولا، وفجأة يأتي العشق
فيخاطبك: “اقترب، إنه أنا، الحي الخالد”. (غزليات شمس تبريزي).

 

 

 

 

 

[1] – يترجم الشيخ الصاوي شعلان هذه القصة بعنوان: الغرام.. الهادئ.. العنيف، على النحو الآتي:  قال لي المحبوب لمّا زرته.. من ببابي قلتُ بالباب أنا.. قال لي أنكرت توحيد الهوى.. عندما فرّقت فيه بيننا… ومضى عامٌ فلمّا جئته.. أطرق الباب عليه موهنا..قال لي من أنت قلتُ انظر فما .. ثم إلاّ أنت بالباب هنا.. قال لي أدركت توحيد الهوى.. وعرفت الحبّ فادخل يا أنا.

[2] – الإشارة إلى الآية الكريمة (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).

[3] – يستخدم مولانا كثيرًا مثال الحليب في أشعاره، ومنه ما ذكرته المؤلفة مقتبسة إياه عن كتاب فيه ما فيه، يرى مولانا أن الأصل هو العناية الإلهية ويضرب في الفصل المعنون بهذه الكلمة مثالاً على ذلك قائلاً: (تأمل الرضيع الذي يصرخُ، فتعطيه أمّه الحليب. لو قُدّر أن يفكّر ما الفائدة في بكائي؟ وما السبب لإعطائها الحليب؟ لبقي من دون حليب. وهكذا ندرك أنه لذلك السبب يصل إليه الحليب. وهكذا إذا استغرق الإنسانُ في التساؤل: ما الفائدة في هذا الركوع والسجود، ولِم أقوم بهما؟). راجع ص 306.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!