عهد العشق قد أتى 2/2

عهد العشق قد أتى 2/2

 

 

عهد العشق قد أتى 2/2

ليلي أنفار (الرومي دين العشق)

ترجمة عائشة موماد

 

أنا كالريح، وأنت كالنار، أنا من ألهبك. (الديوان الكبير)

 

يثبت تقليد السّيَر، من قديمه إلى حديثه، أن الرومي أصبح شاعرا بعد لقائه بشمس، وخاصة بعد اختفاء هذا الأخير (كأن الشعر كان طريقة لملأ فراغ الغياب، واستعادة الحضور الساطع للمعشوق من خلال الصور المجازية)، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، يؤكد أن الرومي لم يكتب أشعاره، بل كان يتلوها في أثناء جلسات السماع وهو في حالة وجد أو “امتلاء روحي وانفعالي، ومعرفي على الأخص”. إن كان صحيحًا أنه ابتداء من القرن الثاني عشر، قد ازدهر ما يسمى ببلاغة الوجد في الشعر الفارسي المستوحى من التصوف، ففي حالة الرومي، كان للأثر” الذي يحدثه العمل الشعري مسحة من العفوية المتدفقة والمسكرة. زيادة على ذلك، فالإهمال من حيث الأسلوب والهيكلة وتعدد التكرار، ثم التراخيص الشعرية المتعددة، يثبت أن الرومي لم “ينظم” هذه الأشعار بالمعنى التقليدي للعبارة، ممسكًا بريشته بين أصابعه. اللامبالاة الواضحة والمعلنة للرومي بالأسلوب البلاغي والصياغة الشعرية بالمعنى التقليدي للعبارة، كانت مصدرًا لهذه الحماسة التلقائية والعنيفة أحيانا، التي تنبعث من هذا العمل الأدبي.

لسنا أمام أثر أدبي أُعدّ لذاته، بل نحن أمام تعبير عن إلهام قد ارتبط ارتباطا وثيقا بحالات الوجد التي عاشها الشاعر، فأضحى متدفقا بأسلوب فجائي وغير متعمد. فيظهر أنه من الصعب لدى الرومي الفصل بين التعبير الشعري وتجربة الوجد والسماع الموسيقى والايقاعي التي تنتج عنه. من أجل ذلك، يتم اعتباره واحدا من أهم أساتذة العَروض. في الواقع، لقد استعمل كل أنواع الأوزان والإيقاعات، من الأكثر كلاسيكية إلى الأقل تداولا، ويبدو جليا أن هذا الإتقان الأساسي للإيقاع كان نتيجة معارفه الموسيقية، حتى وإن كانت تبدو عفوية، فلا يمكن لارتجاله الشعري أن يكون سوى ثمرة حميمية شديدة مع التقليد الموسيقي والشعري الفارسي، هذان التقليدان اللذان لا يمكن فصلهما عن بعضهما منذ العصور القديمة.

سوف نعود للحديث فيما بعد عن الأساليب الصيَغية التي استعملها ومصادر إلهامه الأدبي. ما يهم هنا، هو الدور الحاسم لشمس في المسار الذي جعل من الرومي شاعرا. الرومي نفسه يُذَكر بهذا التحول الجذري من خلال هذه الكلمات:

كان الكتاب دومًا بين يدي

لكن العشق منحني أجراسا

ومن هذا الفم الذي لم يكن سوى ابتهال

الآن تفيض الأشعار والأغاني والرباعيات. (الديوان الكبير)

لكننا لا نعلم بدقة إن كان هذا الإلهام الشعري المتدفق قد ظهر في الفترة التي كان فيها الرومي برفقة شمس، أو كما يُظهر اقتراح سلطان ولد، بأنه لم يُعبّر عنه حقا إلا بعد اختفاء هذا الأخير.

لم يستطع أحد أن يمده بأخبار عن شمس. لم يعرف أحد مكانه لأنه اختفى دون أن يترك أي أثر. لذلك، وسط الألم والهجر، غرق مولانا في جنون العشق، صار رأسا على عقب. صير العشق الشيخ الفقيه شاعرا. أصبح ثملا رغم أنه كان زاهدا، لكنه لم يثمل بخمرة العنب لأن أرواح النور لا تتغذى إلا على خمرة النور” .(ولدنامه)

ميزة الحنين الممزوج بالهيجان للعمل الشعري للرومي الذي اُلف في غالبيته حول “فترة شمس”، والذكر الدائم لشخصية شمس على أنها “غياب/حضور”، يسعيان في غالب الأحيان نحو تأكيد هذه الرواية. لكن هناك أشعار أخرى توحي بقوة إلى الاتصال والحضور، إلى الذوبان في السماع والرقص، وإلى السعادة النابعة عن أحاديث العشق. ولأن شعر الرومي استدعاء لصورة تجلي المعشوق، يتعذر علينا أن نحدد ما إن كانت قصيدة ما قد تم إهداؤها إلى شمس خلال حياته أم لا، وتظل بعض تعليقات شمس موحية بأنه كان شغوفا بسماع “الكلام العذب” لمولانا، وبأنه اعتبر الرومي متحدثا باسمه لكون هذا الأخير يحسن التعبير عن أقواله المبهمة بعبارات مفهومة. يمكننا بالتالي أن نتبنى فرضية نظم الرومي لقصائده الشعرية خلال أولى أيام لقائه بشمس مباشرة، أم هل يكون قد تدرب على ذلك قبل ذلك العهد، أي في عهد برهان الدين محقق الذي شجعه على قراءة أشعار الصوفية القدامى؟ لكن لا نملك أي وسيلة لنعلم حقيقة إن كانت بعض الأشعار التي وصلت إلينا قد كانت في عهد ما قبل اللقاء بشمس. يمكننا كذلك الاعتقاد في حالة وجود تلك الأشعار، أنها لم تصل إلى أجيال ما بعد الرومي. ما يمكن تأكيده، هو أن الرومي كان ماهرا بالشعر ومتقنا لقواعد نظمه، حتى وإن كان يهملها في بعض الأحيان ويسخر منها، ومن المؤكد أيضا أن غالبية أعماله قد أُلّفت بعد اختفاء شمس وكانت بالنسبة له وسيلة ضرورية وحيوية للعثور على روح معشوقه في جسد الكلمات والصور والإيقاعات:

أنا، رسمت الصورة،

لك أن تمنحها الروح.

أنت روح روح الروح،

وأنا، أنا الجسد الوعاء. (الديوان الكبير).

حتى من قبل، حينما كانا برفقة بعضهما البعض وحينما كان المريدون والمحبون المنجذبون لمولانا لا يفهمون شيئا من تعاليم شمس، وينعتونه أحيانا بالجاهل والساحر، كان هذا الأخير يثير فكرة أن الرومي سيكون لسانه الذي سيتحدث باسمه إلى أولئك الذين لا يستطيعون فهم قوله:

قلت لمولانا أمام الجميع:

“لن يبلغهم كلامي،

أخبرهم أنت،

لم يكلفني الله بأن أتحدث هذه اللغة الخاصة” (المقالات).

يمكن ل”اللغة الخاصة” أن تحيل على اللغة المبسطة أو على العكس، على اللغة المجردة والأقل وضوحا، كما يمكنها الإحالة على اللغة الشعرية، لأن التعبير الشعري لم يكن مدعاة للاحترام الفائق داخل الوسط الصوفي، وأكثر من ذلك داخل أوساط علماء الظاهر. ففي أحسن الأحوال هو وسيلة للتسلية، وفي أسوئها يعتبر لغة للزخرفة الكاذبة وتشجيعا على الشهوانية. والرومي نفسه يُلمح بوضوح إلى ذلك عندما يقول:

خوفا من أن يضجر هؤلاء الأصدقاء الذين يقومون بزيارتي، أقول بعض الأبيات لكي يتفكروا، وإلا ما عساي أفعل بالشعر؟ قسما بالله، الشعر يثير اشمئزازي ولا شيء أسوأ من ذلك. إنه كتنظيف الكرشة لإشباع نهم الضيوف الذين يحبون تناولها، علي أن أفعل ذلك (…). في بلدي، لا يوجد ما هو أكثر إهانة من التعاطي للشعر“.(فيه ما فيه)

إنه إقرار غريب لواحد من الشعراء الأكثر إدهاشا وعطاء في اللغة الفارسية. سوف نتحدث فيما بعد عن مكانة اللغة في فكره وفي أعماله وعن تصوره للشعر، فما يهمنا الآن هي تلك العلاقة الانعكاسية التي يقيمها مع شمس: كان شمس ملهما، أما الرومي، فقد كان عاكسا في أبياته للحضور المنير والمدمر للمعشوق ولفلسفته في العشق والفناء.

نقل شمس ما يجب نقله على لسان الرومي، ولعب الرومي دور “حملة الحزام” التي كانت مهمتها إيصال نور شمس. هكذا عاش تلك التجربة وذلك الشعور بكونه “مسكونا” بالحضور الشمسي للمعشوق بالمعنى الحرفي للكلمة، شمس هو الذي يخصب روحه ويحيرها ويتدفق في أعماله:

صورة خاطري تصل من نفختك

كأنني كلماتك وعباراتك. (الديوان الكبير).

وأيضا:

الجوهر هو أنت، أما أنا فمن أكون؟ مرآة بيدك.

كمرآة خبيرة، أَصير الشيء الذي تُظهره (الديوان الكبير).

في زمن أبعد من ذلك بكثير، وبعد اختفاء شمس بسنوات طويلة، عندما بدأ الرومي بنظم ديوانه المواعظي المثنوي، سوف يتذكر إلهامه الأول ولن يغفل عن الاستحضار مجددا لإشعاع شمس تبريز في عمله.

هكذا كان شمس تبريز: حاضرا أو غائبا، كان يوقظ شوق استحضار جماله وإشراقه في روح الرومي، ولسنوات طويلة بعد اختفائه، سيظل في مركز الحياة الروحية لمولانا وأعماله. حتى وإن كان الرومي قد نهل من منابع مختلفة، وإن غرف من معرفته الواسعة بمصادر إلهام متعددة، وإن حظي بمرافقة شيوخ آخرين وأحبهم، يظل شمس بلا منازع أكبر ملهميه، والشخص الذي فتح مجرى الشعر لديه، وتظل مجموعة أعماله قصيدة من أجل شمس ووسيلة لتخليد ذكراه وإشراقة حضوره وجوهر فكره.

ومن ثم، ففي الكتاب الأول من المثنوي ، وبمجرد ذكر الشمس يتذكر الرومي مجددا شمسا وتنبعث النشوة في روحه:

هاهي روحي وقد علقت بثوبي تتوسل لي من أجل البوح.
وها هي رائحة قميص يوسف وقد أعادت لها الحياة،
تخاطبني قائلة: “بحق ذكرى سنوات الصحبة تلك
تكلم، اذكر آية من آيات الفضل 
كي تصير السماء ضاحكة، والأرض 
كي ينشرح الروح والعقل والبصر

قلت لها: “من الأفضل أن تبقى أسرار المعشوق مخفية،

وعلى ضفاف الروايات،عليك اصطيادها

من الأفضل أن تذكر أسرار المعشوق في حكايات الآخرين.

أجابت:” لا، تكلم بدون حجاب، وبلسان فج

قصة الإيمان تصير أفضل واضحة مجردة

ارفع الحجاب وتحدث بوضوح

فمع الحبيب، لا نرتدي الثياب أثناء النوم.

قلت: “وإن تجلى في تجرده

لن يبقى منك شيء، لا شيء في الوسط ولا شيء بجانبك

نعم، يمكن أن تُمني النفس، لكن لتكن رغبتك معقولة

فالقشة لا تستطيع حمل الجبل

هذه الشمس التي خلقت الكون ببهائها

ستحرق العالم إن اقتربت

لا تبحثي عن الاضطراب والضجة والدم

وعن شمس تبريز، لا تقولي شيئا! (مثنوي 1).

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!