بول نويا الذي تفوّق على ماسنيون

بول نويا الذي تفوّق على ماسنيون

بول نويا الذي تفوّق على ماسنيون 

بقلم: إبراهيم العريس 

 

صحيح أن الأب بولس نويّا اليسوعي مات في باريس في الخامس من شباط/ فبراير 1980 وكان يشغل كرسي تدريس التصوف الاسلامي في جامعة السوربون الفرنسية منذ العام 1974، وانه كان في ذلك الكرسي يحتل، عن جدارة، مكان استاذه الكبير لويس ماسينيون، وهو مكان اعتاد ان يشغله، في الجامعات الفرنسية والغربية عموماً، مستشرقون درسوا الشرق العربي والاسلامي وثقافته ومتصوفيه، لكنهم بقوا مع ذلك غربيين في افكارهم وطرائق استنتاجهم، ومع هذا فإن الاب بولس نويّا لم يكن مستشرقاً، على رغم ان الكثيرين يعتقدون هذا. فهو عراقي الاصل، لبناني النشأة والتربية، عربي الهوى، إسلامي الثقافة، ومن هنا فانه كان واحداً من اوائل العلماء العرب الذين درّسوا التصوف الاسلامي في جامعة فرنسية، وكان لهذا مغزاه الكبير في ذلك الحين، حيث لم يكن من المعتاد ان تسلم مثل تلك الامور لمؤلفين او باحثين عرب، حتى ولو كانوا، في الاصل رهباناً مسيحيين. قبل نويّا كانت العادة قد جرت على ان “يدرسنا الآخرون”، معه، صرنا “نحن الذين نوجه طلاب تلك الدراسات في الوجهة التي تتفق مع رؤانا وتاريخنا. ومن هنا يقال عادة من ان دراسة التصوف اتخذت، مع نوياّ، ثم خاصة مع تلاميذه، منحى جديداً، اكثر تعمقاً في فهم العلاقة بين التصوف والاسلام، واكثر اقتراباً، من جوهر التصوف نفسه.

مهما يكن، لا بد من الاشارة ها هنا الى ان تلمذة بولس نويّا على لويس ماسينيون لم تكن لا صدفة ولا عبثاً، فماسينيون نفسه، على رغم كاثوليكيته وفرنسيته، كان واحداً من أبرز الذين اختطوا طرقاً في فهم التصوف واساليب في تدريسه، تبعد به، مثلاً، عن الاساليب التي كانت سائدة لدى المستشرقين من قبله. فبالنسبة الى ماسينيون، لا يمكن الاكتفاء كما كان يفعل المستشرقون، بالقول ان التصوف انما هو توجه في الاسلام ذو أصول مسيحية او يهودية او حتى هندية، بل ان أصوله تعود الى الاسلام نفسه وتحديداً الى القرآن.

وبولس نويّا تابع مسار استاذه هذا، وطوّره بشكل متميّز، وهذا بالتحديد ما جعل له تلك المكانة الاساسية في تاريخ الدراسات الاسلامية ودراسات التصوف بشكل خاص.

ولد بولس نويّا العام 1924 في شمال العراق، وتوجه الى لبنان باكراً حيث عاش القسم الأكبر من حياته، وحيث انضم، شاباً، الى الرهبنة اليسوعية واندفع في دراسة التــصوف الاسـلامي بعد ان درس الآداب العربية القديمة، متتلمذا على لويس ماسينيون، متأثراً بنظرة هذا الاخير الاساسية التي ترى ان “المتــصوفة المـسلمين هم نتاج تجربتهم الخاصة وتجربة القرآن بشكل أساسي”. غير ان ما ميّز نظرة بولس نويا، وتجلّى في العديد من الكتب التي وضعها وحققها، وفي مقدمها كتبه عن “ابن عباد الرندي” و”ابن عطاء السكندري” و”التفسير القرآني واللغة الصوفية” ومقالاته عن “الحكيم الترمذي” و”رسائل ابن العريف الى اصحاب المريدين في الاندلس” و”الاسلام والتاريخ”، كان – كما يرى رضوان السيد – ان “التصوف، يتملص من الذاتية المتضخمة – التي الصقها به ماسينيون – وجعلت حتى ارجاع التـصوف الى القرآن امراً عسيراً، كما انه يتخلص من الفردانية التي تحرم من امكانية فهم التجربة الصوفية الجماعية المتمثلة في الفرق الصوفية المتعددة والتي ظهرت ابتداء من القرن الخامس الهجري وما زالت تتوالى حتى مطالع قرننا هذا”. ويرى رضــوان الســيد ان “بولس نويّا ينجو من الشمولية القاســية التي فرضها ماسينيون على نفسه معتقداً ان ابراز الجامع المشترك مفيد حتى في فهم أشد الظواهر فردية وتفرداً”. ويضــيف الســيد ان “بولس نويّا بدأ دراساته الموضعية في التصوف بنشر نصوص صــوفية جديدة مع ترجمــتها الى الفرنسية ودراسـتها، وكانت طريقــته تنصب على فهم المفاصل المصطلحية في النص وموطن قوة النص وتعثره، فكانت تتكشف له شيئاً فشيئاً حقائق مذهلة فيما يتعلق بالتطور المزعوم لبعض المصطلحات والالفاظ والافكار”، ويخــلص السـيد الى ان نهج نويّا يمكن اعتباره استمراراً متطوراً لنهج استاذه ماسينيون، يتصف بموضوعية أدق، واستشعار للظاهرة الصوفية اكثر وعياً”.

عندما رحل بولس نوياّ، لم يتنبه لرحيله الكثيرون، وحتى في ايامنــا هذه تمــر ذكرى رحيـله، من دون ان يســتوقف ذلك احداً، مع ان الرجل أسدى لدراســات التــصوف الاســلامي خدمات باقية.

الحياة 5/2/1998 .

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!