التصوف في السودان: الفكي والمسيد

التصوف في السودان: الفكي والمسيد

 

التصوف في السودان: الفكي والمسيد

بقلم: مختار خواجه

 في مقابلة الرباط الصوفي الذي انتشر في العالم الإسلامي عموما، ظهرت مؤسسة المسيد الصوفي في السودان، وتفتقد هذه المؤسسة للإحصائيات الدقيقة، وتورد بعض الإحصائيات التقريبية العائدة للعام 1990م، بأن عددها يبلغ 14684 مسيدا أو خلوة، ويقر معدو الإحصائية بأنها ليست شاملة لأسماء الخلاوى كلها في السودان،[1]ويربط الباحثون بين ازدهار هذه المؤسسة، وبين ظهور الممالك الإسلامية في السودان[2] ومصطلح المسيد مستخدم في المغرب العربي، حيث يتضمن المسجد الذي تلحق به مدرسة دينية في بلاد المغرب العربي،[3] ولهذا دلالته بتقديري في حضور وتأثير المغاربة في الثقافة السودانية والصوفية على ما أبين لاحقا.

ويمكن وصف المسيد بأنه مسجد محاط بحجرات يسكنها الطلاب، الذين يدرسون ويتعبدون، وتسمى كذلك بالخلوة إشارة للخلوة الخاصة التي يدخلها المريد المتعبد، ليختلي فيها بربه، حيث يجتمع المريدون وفقا لمنهاج شيخهم في العبادة والخدمة اليومية والتعبد.[4]

وقد بدأت الخلاوى منذ وقت مبكر، يسبق عهد مملكة الفونج (1500 -1821)، حيث تشبر الروايات إلى مسيد علي ود[5] حاج بلال في كورتي بشمال السودان الذي يروى أن تأسيسه يعود لعام 888هـ،  ومسيد كترانج –وسط السودان – إذ يعود تأسيسه للشيخ عيسى بن بشارة الأنصاري الخزرجي في القرن العاشر الهجري، وخلاوى البديرية الدهمشية كخلوة عبد الله الأغبش بن محمد بن ماجد المعروف بكندمر بمنطقة بربر في شمال السودان،[6] غير أن مسيد كترانج يمتاز بكونه أول مكان أطلق عليه لفظ مسيد.[7]

 أما عن العلاقة بين النمط الفردي والمؤسسي في الممارسة الصوفية في السودان، فالبروفيسور يوسف فضل يشير لسبق وسيادة النمط الفردي في الممارسة الصوفية وعدم انتظامها في صورة مؤسسية مستدلين على ذلك بظهور مؤلفات في مجال التصوف بين فقهاء السودانيين، تقريبا له للعامة، وهذا ما يظهر من كتابات عبد الرحمن بن جابر (المتوفى عام 892 هجرية) صاحب (مرشد المريدين إلى علم التصوف)، وتبعه في الأمر الشيخ الاعسر بن عبد الرحمن بن حمدتو، ومحمد بن هدوي صاحب (وصفة الفقير)،[8] غير أنني أقدر تلازم المسارين معا، بحيث تلازم الأداء الفردي، مع تطور المؤسسة تدريجيا، خاصة مع تقارب تواريخ المؤلفات أعلاه مع ظهور مؤسسات الخلاوى والمسيد، ويبدو جليا أن الأمر قصد منه ضبط وتوضيح أصول الممارسة الصوفية للعامة بسهولة.

  لكن ظهور الممالك الإسلامية في السودان، سمح للمسيد بالازدهار، فمنذ النصف الثاني من القرن السادس عشر، هاجر السودانيون طلبا للعلم، واستقدم ملوك سنار العلماء من الحجاز والمغرب ومصر،وقد تميز الأثر المصري بالفقه، بينما كان التصوف من نصيب الأثر الحجازي، فيما جمع المغاربة بين الأثرين معا، وبدا للعامة أن الطريق الصوفي أكثر مرونة من طريقة الفقهاء، وأقرب للنفوس، ولهذا فانخرطوا بكثافة فيه.

  في المقابل، مثلت مؤسسة المسيد من الناحية العلمية والمنهجية حلا وسطا، بين الفقهاء المالكية الحذرين من التصوف كعادة فقهاء المسلمين، وبين شيوخ الصوفية،  ولم يخل الأمر من اختلاف في المنهجية نتجت عن تباين الفقهاء عن الصوفية في الجوانب المتصلة بالمحصول العلمي، فيؤثر في هذا حوار دار بين الفقيه ود كنان، والشيخ محمد التوم اليعقوبابي القادري حيث كان الأول يفضل أن يدرس الطلبة الفقه قبل التصوف، فرد الشيخ القادري بأن ما يفعله المتصوفة هو (تلهيف) الناس أي تشويقهم وتهذيبهم قبل العلم، فرد الشيخ ود كنان بأنه من المتعذر إصلاح من تبدؤون أنتم معه، لكن سرعان ما انتهى الخلاف، فترافق المشربان الفقهي والصوفي فصارت كلمة الفكي (تحوير لكلمة فقيه) دالة على الفقيه والمتصوف في آن معا.[9]

ويبدو أن الصوفية قد حافظوا على استقلالية كبيرة في عهد السلطنة الزرقاء، فقد تمكتوا من الاضطلاع بأدوار سياسية كالصلح بين الفونج والعبدلاب إثر القتال الذي دار بينهما، حيث عقد الصلح الشيخ إدريس ود الارباب بمسيده،[10] واضطلاع الشيخ إدريس بهذا الدور يشير لأهمية وزن الشيخ الديني وهيبته، وكون الأطراف  المتقاتلة تثق فيه على اختلافها.

ويفخر الصوفية في السودان بأن المسيد كمؤسسة المسيد وفرت الحياة الاقتصادية السليمة، والتي كفلت للمريدين الحياة الاقتصادية التي يستطيعون عبرها تدبر شؤونهم اليومية،[11]وبتفديري فإن المسيد بهذا يمتاز عن مؤسسة الرباط الصوفي في المشرق العربي، حيث مثلت المؤسسة الصوفية السودانية هنا مركزا للتجمع الحضري، والعمران، فقد نشأت مدن حول المسيد، حيث نشأت مدينة (ود مدني) مثلا، حول مسيد الشيخ محمد الأمين بن مدني العقيلي الهاشمي، وأسس مسيده عام 1489م،  لتنشأ المساكن الأولى لطلبته، ولاحقا لصانعي المراكب الشراعية.[12]

  كما غدا المسيد مركزا للسلام الاجتماعي، فقد صالح الشيخ العبيد ود بدر بين قبيلتي البطااحين والشكرية بد حرب ضروس دامت لست سنوات (1870-1876)، وعقد الصلح بواد اسمه وادي حسيب، واختتمها بعبارة شهيرة: البتعدا حسيب عَقابو يسيب،[13] وهي عبارة تنطوي على التحذير من أن العقاب أي الذرية والخلف، سينفلتون عن جادة الصواب، حيث يخشى السودانيون عقوبة إلهية تحدث لمن يخالف كلام الشيوخ.

 وعندما اشتدت الثورة المهدية زار الحكمدار عبد القادر باشا حلمي عام 1883 مسيد الشيخ ود بدر، فنصحه بمغادرة الخرطوم، قائلا: أحسن تريف قبل الخرطوم تصيف،[14]والعبارة تعني أن المغادرة إلى مصر أفضل من البقاء حين يصبح الوضع في الخرطوم صعبا.

ولم يتمكن الإنجليز من القضاء عليها رغم مناكفتهم لهذه الخلاوى تاريخيا، بسبب ارتباط التصوف في أذهانهم بالثورة المهدية التي خرجت من رحم الصوفية لتقضي على الحكم المصري- التركي، فلجأت للمهادنة والسماح لهذه الطرق بممارسة نشاطها، وذلك لما لها من تأثير كبير على العامة، حيث يعتقد كثير من مثقفي السودان بأن الطرق الصوفية ساهمت بصورة غير مباشرة في استتباب الهدوء إبان الحكم البريطاني.[15]

إلا أنه وبتقديري كذلك، فإن الطرق الصوفية ارتأت عدم المقاومة المسلحة، واتجهت لدعم التيارات الوطنية السياسية، وخاصة عقب انتهاء الحرب الأولى، وانطلاق الأنشطة السياسية بين السودانيين، حيث وفرت الغطاء اللازم للخريجين، وهذا ما يظهر من تطور العلاقة بين الخريجين والسيد علي الميرغني زعيم الختمية والسيد عبد الرحمن المهدي زعيم الأنصار –أنصار الدعوة المهدية – منذ منتصف الثلاثينات، وهو الذي بقدر ما قاد لانقسام بين الخريجين بين اتجاهات الرجلين السياسية بقدر ما أفاد الحركة الوطنية ورفدها بالأنصار والمؤيدين خارج نطاق المثقفين.[16] وهو ما سمح بانتقال الحركة للجماهير السودانية، وترافق ذلك مع ازدهار المدن السودانية ونموها اقتصاديا وثقافيا.

 إن التصوف السوداني كان متميزا في تفاعله مع المجتمع واندماجه فيه، ولم يقتصر مطلقا على الإطار الطرقي، أو ينغلق في إطاره، وتمكن عبر مؤسسة المسيد من التفاعل أكثر مع السودانيين كجماعات وأفراد، وقدم عطاء ثقافيا للساحة السودانية لا يمكن إغفاله.

 

 

 

 

 

القوم، مركز التوثيق والدراسات والنشر، إحصائية بعدد الخلاوة والمساجد في السودان.

http://www.alqoum.com/arb/page.php?49

تاريخ الاطلاع: 25 أكتوبر 2016م.[1]

راجع: يوسف فضل، لمحات من التصوف الإسلامي في السودان: جذوره وتطوره، (مقال)، موقع السودان الإسلامي، 3 مايو 2008.

 تاريخ الاطلاع: 25 أكتوبر 2016http://www.sudansite.net/?option=com_content&view=article&id=1017[2]

تيميزكيدا أو المسيد منارة في خدمة تحفيظ القرآن بالمغرب، تحقيق صحفي: عبد الله العسري عن:

تاريخ الاطلاع: 25 أكتوبر 2016، http://www.pjd.ma

[3]وبروفيسور عمر السيد الطيب العباس بدر، تعريف بمسيد الشيخ العبيد ود بدر، تاريخ الاطلاع/ 28 أكتوبر 2016.http://omdoban.his-forum.com/t418-topic

يوسف فضل، نفسه.[4]

كلمة ود تنطق كما في لهجة أهل الصعيد بمصر تستخدم في السودان بمعنى ابن، حيث تشيع الأسماء المركبة، فترد كلمة ود للفصل بين الأسماء[5]

القوم، مركز التوثيق والدراسات والنشر، الخلاوى: الإقليم الشمالي:

http://www.alqoum.com/arb/page.php?63[6]

[7]بدر، نفسه، تاريخ الاطلاع: 28 أكتوبر 2016

يوسف فضل، سابق.[8]

يوسف فضل، نفسه.[9]

بروفيسور: عمر السيد الطيب العباس بدر، تعريف بمسيد الشيخ ود بدر (مقال) تاريخ الاطلاع: 28 أكتوبر 2016.

 اhttp://omdoban.his-forum.com/t418-topic

وقد جرت الإحالة على مقال بروفيسور عمر بدر لذكره مسيد الشيخ إدريس ود الارباب، أما تفاصيل الحرب بين الفونج  والعبدلاب فيمكن الاطلاع عليه في: مكي شبيكة، السودان عبر القرون، دار الجيل، بيروت، لبنان، 1991م.67.[10]

عمر السيد بدر، (مقال) تاريخ الاطلاع: 28 أكتوبر، 2016م.[11]

موقع مدينة ود مدني (أهلي) تاريخ الأطلاع: 28 أكتوبر 2016.[12]

بدر، نفسه، تاريخ الاطلاع: 28 أكتوبر، 2016م.[13]

بدر، نفسه، تاريخ الاطلاع: 28 أكتوبر، 2016م.[14]

انظر، فضل نفسه.[15]

مكي شبيكة، السودان عبر القرون،دار الجيل، بيروت-لبنان، 1991م: 544-545[16]

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!