رسالة الروح القدس للشيخ الأكبر ابن عربي

رسالة الروح القدس للشيخ الأكبر ابن عربي

من أصلح نفسه لم يتهدم بيته

“قراءة في رسالة الروح القدس لمولانا محي الدين بن عربي”

محمود عبد الله تهامي

توطئة

    يظل التراث الإسلامي الروحاني مصدر إثارة ومحل دهشة لهؤلاء الذين ينعمون بالعودة إليه للاستمتاع به، ولا يفوته الصواب من ينادي بإحياء التراث بالقراءة والدرس وإعادة النهل منه، إن تراثنا كبير ولا يزال بحاجة إلى إعادة البحث فيه وتنقيته.. والشيخ محيي الدين بن عربي صاحب تراث عظيم وضخم.. تستشعر الجمال حين تقرأ كلام الباحثة اللبنانية سعاد الحكيم عن مولانا ابن عربي:

يقولون‏ في ابن عربي ما يقولون، وتظل تربة ضمت رفاته في قاسيون وجهة أتقياء زائرين، وتستمر تجربته الروحيّة مداداً لكتابات عارفين عالمين، ومتطلعين متعلمين.‏ وما بين عوام يعتقدون ولايته، ويتبركون بزيارته، وبين خواص أرباب تدوين وتسطير، يغمسون أقلامهم في تصورات فكره ولحظات تجربته، مسافةٌ لا يردمها إلا تفرّد شخصه، الذي استطاع وصل القمة بالقاعدة.. فارتقى عوالي مراتب الخصوصية، دون أن يفارق جموع عوام المسلمين.”(1)

  • الشيخ الأكبر والنور الأبهر محيي الدين بن عربي.

     هو محمد بن علي بن محمد بن العربي الطائي، ولد بمدينة مُرسية بالأندلس– أسبانيا في العام 560هـ/1165م. “وكان ابن عربي من أسرة نبيلة غنية وافرة التقوى. وهو يذكر عن أبويه أخبارا تدل على شدة التقوى، وكان له خالان سلكا طريق الزهد.”(2) ويحلو لي أن أسجل سؤلات الدكتور نصر حامد أبو زيد التي طرحها في محاولته لمعرفة أسباب تحول ابن عربي من حياة الصيد واللهو إلى حياة الزهد والتصوف يقول: “لكن حياة ابن عربي اتخذت مسارا مختلفا لأسباب ليست واضحة تماما. هل كانت رؤيا ظهرت له هي التي غيرت المسار المتوقع لحياة الصبي المُنعم؟ أم كانت تجربة مرض ألمَّ به في طفولته؟ أم كان الأمر كله مفاجأة بسبب ما لاحظه في سجود أحد الأمراء من ذل وخضوع لله، فقرر ألا ترتبط حياته إلا بالله الذي تسجد لجبروته جباه الحكام والأمراء؟”(3) وكلها روايات جاءت في كتب الشيخ، توضح بدياته في الطريق، والتزامه بالأدب الصوفي. “ومن يدري لعل نصائح زوجته، والقدوة التي شاهدها فيها قد حملت ابن عربي على أن يغير مجرى حياته، تواكب هذا دعوات أمه التقية.”(4)

ونَعِم الصوفي برؤية الفيلسوف ابن رشد وانتهى اللقاء بينهما بمدح ابن رشد للشيخ ابن عربي، وللباحث السوري محمد قجة مقالا حول ابن عربي وأثره الحضاري في حوض المتوسط يقول فيه:

“وفي الوقت نفسه كان الأندلس ساحة للحركات الفكرية العميقة المستنيرة، وللحوار الفكري بين التيارات المختلفة، وكان خلفاء الموحدين، وبخاصة يعقوب المنصور، على قدر وافر من التسامح وسعة الأفق، ورحابة الثقافة. وقد عرف البلاط الموحدي أعلاماً كباراً في الفكر من أمثال ابن طفيل وابن رشد وابن زهر وسواهم. وقد شهد ابن عربي جثمان ابن رشد محمولاً على بعير ومعه حمل من كتبه.  

 تتلمذ ابن عربي في التصوف على بعض أعلام عصره من أمثال:
موسى بن عمران الميرتلي.
أبي العباس العرياني.
أبي عبد الله مجاهد.
أبي عبد الله قسوم.
أبي الحجاج الشبربلي.
وتعرف إلى عجوز تدعى فاطمة بنت المثنى القرطبية فلزمها وأخذ عنها رياضات النفس الصوفية. وتمثلت له شخصية «الخضر» في إطارها المتزهد المتعبد الورع.
غادر ابن عربي اشبيلية في جولة على مدن الأندلس والمغرب. فزار قرطبة، وبجاية . حيث التقى بن الحسن الاشبيلي المعروف بأبي مدين، وهو المتصوف المشهور في التاريخ الإسلامي، كما زار تلمسان وتونس، وأقام بعض الوقت في فاس. وعاد إلى الأندلس فزار بعض مدنه. وعاد إلى المغرب حيث زار مراكش عاصمة الموحدين وعاودته الأحلام والرؤى، ثم قصد بجاية ثانية، وتطورت رؤاه إلى حلم رأى فيه أنه يتزوج بنجوم السماء. كان ابن عربي في الثانية والثلاثين من عمره حينما اتجه إلى المشرق لأداء فريضة الحج، ولم يعد من يومها إلى الأندلس ولا إلى المغرب . أقام الشيخ ابن عربي في مكة ثلاث سنين تعرف خلالها إلى إمام الحرم المكي المعروف بأبي خاشه. وتزوج ابنته «نظام» وكتب فيها ديوانه «ترجمان الأشواق» وهو شعر رقيق في الغزل الذي يوحي بمعان صوفية رائعة من خلال صور الغزل الحسّي الجميل . كانت بلاد المشرق تحت حكم الأسرة الأيوبية من سلالة صلاح الدين. وكان حكمهم يمتد على مصر والشام والحجاز، وقد قام ابن عربي برحلة طويلة زار خلالها مدن المشرق. وكان الصليبيون لا يزالون يحتلون أجزاء من أراضي المسلمين في الشام. ولا يزالون في إمارتي أنطاكية وطرابلس. وهذا ما يفسر لنا آراء ابن عربي المتشددة في هذا المجال وكراهيته الشديدة للأجانب الصليبيين . في الموصل التقى ابن عربي الشيخ المتصوف «علي بن جامع» ولبس بين يديه خرقة الصوفية. وفي القاهرة قال بوحدة الوجود فتألب عليه الفقهاء، وأثاروا العامة، ولكن العادل الأيوبي صاحب مصر كان متسامحاً فلم يلحق أذى بابن عربي. وفي قونية منحه ملكها داراً يسكنها قيمتها مائة ألف درهم. وذات يوم طرق بابه سائل يطلب صدقة، فقال له ابن عربي: إنني لا أملك إلا هذه الدار فخذها لك. وفي بغداد اجتمع حوله نفر من المتصوفة، وعاد إلى قونية ثم إلى ملطية، ثم قصد مدينة حلب أيام الظاهر غازي بن صلاح الدين الأيوبي، ولقي عنده ترحيباً حاراً وإكراماً رغم ضغوط الفقهاء المتشددين ومطالبتهم بطرد ابن عربي أو معاقبته.
استمرت إقامته في حلب حتى ٦٢٠هـ، ثم غادرها إلى دمشق التي لزمها حتى وفاته يوم ٢٨ ربيع الثاني ٦٣٨هـ الموافق ١٦ / ١١ / ١٢٤٠م، ودفن هناك…. وقد أحصى له الباحث عثمان يحيى ٩٩٤ مؤلفا بين كتاب ورسالة لم ينقسم الباحثون حول مفكر كما انقسموا حول ابن عربي بين مؤيدين ومعارضين، والمؤيدون متحمسون، والمعارضون شديدو العداوة ينقلون الرجل إلى دائرة الكفر والزندقة. ومن أبرز مؤيديه في التاريخ الإسلامي المخزومي والفيروزآبادي والصلاح الصفدي وابن العديم والزملكاني والقطب الحموي وعمر السهروردي والنووي والسيوطي والكاشاني والمقري وجلال الدين الرومي والشيرازيان سعدي وحافظ. ومن أبرز معارضيه ابن تيمية وابن إياس والبقاعي وجمال الدين بن الخياط وعلي الفارسي وسواهم.(5)

  • الرسالة / الروح القدس

     كتب ابن عربي رسالة الروح القدس(6) أثناء إقامته في مكة لصديقه التونسي في العام 600هـ كما صرح بذلك في نهاية رسالته، ولقد كتبها الشيخ لصديقه أبي محمد بن عبد العزيز بن أبي بكر القرشي المهدوي نزيل تونس، وهو بذلك يجري على نفس عادة القدماء، في توجيه مؤلفات صغيرة الحجم، كرسالة لصديق أديب أو عالم مُقرب، ولا يبعد عنا رسالة الغفران التي أرسلها أبو العلاء المعري في الرد على رسالة ابن القارح.

   يكتب هذا النص إلى صديقه، يبتغي في المقام الأول الثواب؛ لأنها على أية حال فيها ذكر لله، وذكر الفضلاء من أهل الله يجلب النفع والبركة أيضا، وهو بحاجة إلى أن يثبت لصديقه أن الزمان مهما تقدم لا يخلو من الرجال السائرين “إنما ذكرت لك هؤلاء – يقصد رجال الطريق – فرحا أن الزمان والحمد لله لم يخل من الرجال الجارين على أسلوب المتقدمين باختلاف أحوالهم” والرجل الصالح الذي نَعم بلقاء رجال الطريق يتألم، ويجد نفسه في حاجة لذكرهم، والتأكيد على أن فراقهم يتعب النفس، في الوقت الذي يحرضها على الاقتداء بهم والتأسي بأحوالهم” تعال نقم مأتما للفراق ونندب إخواننا الظاعنين”

إن النص الرائق الذي كتبه الشيخ استهدف تنبيه النفس، فرسالته تحوي حوارا ماتعًا، دار بينه وبين نفسه، يقيم عليها الحجة؛ ليأخذها بالشدة بدلا من أن تأخذه هي باللين. نص متدفق سهل يستدعي فيه حال أويس القرني(7) وحال فقراء الصحابة وأحوال السادة الفقراء إلى الله في طريق القوم. والشيخ يذكر ذلك ناصحا نفسه قبل أن يوجه نصيحته إلى صديقه؛ لأن النصح واجب عليه لأحبابه يقول: “إن النصح أولى ما تعامل به رفيقان وتسامر به صديقان. وقلما دامت اليوم صحبة إلا على مداهنة… وكل إنسان يقبل النصح من غيره لا من نفسه… لأن النفس عمياء عن عيوبها بصيرة بعيوب غيرها.”

والنصيحة لها مكانة عالية في التراث الصوفي يقول المحاسبي :”واعلم أن من نصحك فقد أحبك، ومن داهنك فقد غشك، ومن لم يقبل نصيحتك فليس بأخٍ لك.”(8) ورسالته مليئة بالمسائل والمواعظ التي يقصد بها النصح والتذكير وإتحاف السامع وإمتاع المتلقي. 

  • الرفق بخلق الله

    ويحلو لي أن أعود مرة لاحقة، أتحدث بمزيد من البحث والإحاطة بقيمة “الرفق بخلق الله” هذه القيمة الصوفية الراقية الملموسة في العمل الصوفي. فإرشاد المريد إلى الترفق بمخلوقات الله بدءا من الجمادات مرورا بالنبات والحيوان والإنسان. فلا عجب أن يدخل داره الخالية فيلقي التحية، وإذا أغلق بابه جذبه بهدوء، ولقد كتب الأستاذ عبد الفتاح أبو غدة مقالا سماه “من أدب الإسلام” وأرفقه بتحقيقه لكتاب رسالة المسترشدين للمحاسبي يقول الأستاذ: إذا دخلت دارك أو خرجت منها، فلا تدفع الباب دفعا عنيفا، أو تدعه ينغلق لذاته بشدة وعنف، فإن هذا مناف للطف الإسلام الذي تتشرف بالانتساب إليه، بل أغلقه بيديك إغلاقا رقيقا، ولعلك سمعت ما روته عائشة رضي الله عنها من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:” إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه.”(9)

ويحسن بنا أن نطالع كلامه عن أبي محمد مخلوف القبائي: “كان يعم بدعائه أهل السموات وأهل الأرض حتى الحيات في البحر.” وحكايته عن أبي الحجاج الشبريلي الرجل الذي يربي قطة “كانت له هرة سوداء لا يستطيع أحد أن يمسكها ولا يلقي يده عليها وكانت ترقد في حجره.” وهي قطة عجيبة، لا يستطيع أحد أن يمسكها، يربيها الشيخ، تنفر من خلق الله ولا تأنس إلا بأوليائه.

ويحكي عن أبي يعقوب الكومي: “ما تلقاه إلا مُقطب الوجه وإذا أبصر فقيرا تبرق أسارير وجهه.” وأهل الله يدنون الفقراء، ويعتزون بقربهم، فكانت الطرق الصوفية مثل تلك الجمعيات بشكلها الحديث المعروفة برعاية الفقراء.

وعن أبي محمد عبدالله بن إبراهيم القلفاط:” ما تراه يمشى قط إلا في حق غيره … داره للفقراء مباحة.” فهذا القلفاط يفتح داره للفقراء، ولا يطلب حكام البلاد وأصحاب الأمور إلا لكونه يقضي حوائج الناس. وأبو عبدالله محمد الشرقي شاهد غلامًا يحمل مكتل (وعاء) يبيع الرازيانج (الشمر) فأدخل الشيخ يده في المكتل يرى حباته ثم مدح بضاعته فأغرى ذلك الفعل بعض التجار أن يشتري بضاعة الغلام، إنما استغل الشيخ مكانته بين الناس لخدمة اليتيم.

   الحنو بالناس قيمة إنسانية راقية، التفت إليها رجال الطريق، وترسموها بأفعال بائنة. وقصة إبراهيم بن طريف ذلك الرجل السمح الخلق اللين الجانب، له قصة تحمل الكثير من النبل الإنساني، الذي يستشعر الندم والألم من المرة التي يجور فيها على حق أخيه الإنسان، يقول الشيخ: “… أن رجلا مر به فقال له يا سيدي مر عليك فلان- يسأله عن إنسان من أهل البلد وكان ذلك قد ابتلاه الله في عنقه بداء نسميه عندنا نفنفة- فلم يعرفه الشيخ جدا فألح عليه الرجل في السؤال فقال: أراك والله تسأل عن ذلك الرجل صاحب النفنفة في عنقه. قال: عنه أسأل. قال الشيخ فناداني الحق في سري يا إبراهيم ما تعرف عبادنا إلا بما نبتليهم ما كان له اسم تذكره به لأميتنك بها.”

  • التسامـح الصـوفي.

   التسامح أدب صوفي عال، تجده في مؤلفات القوم ومعاملاتهم، وتحوي رسالتنا شواهد معززة لهذا الأدب، ونحن نطالع ذلك النص المرسل إلى الصديق التونسي، وقد ذكر فيه رجال القوم على اختلاف طرقهم فهذا صحب ابن المجاهد، وغيره تبع المحاسبي، والآخر سعى في درب أبي مدين شعيب التلمساني، فاختلاف الطرق واختلاف المربيين لا يحمل المريدين على التنابذ والتباعد بل كانوا على محبة وقدر كبير من التصافي..

وعن أبي عبدالله محمد بن أشرف الرندي حكى أنه لم يستطع أن يكتم غيظه. والإنسان المسلم مطالب بكظم الغيظ يقول:” سألته عن بكائه يوما فقال آليت أن لا أدعو على أحد فأغاظني رجل فدعوت عليه فهلك فندمت على ذلك إلى الآن.” والفعل لا يصدر عن الرندي عفويا إنما صفة دائمة إذا يقول ابن عربي وصفا له فكان رضي الله عنه رحمة للعالمين.

والمربية العابدة فاطمة بنت أبي المثنى أم ابن عربي النورانية التي تعلم على يديها المواهب الصوفية لمدة عامين “ضربها أبو عامر المؤذن بالدرة في الجامع ليلة العيد فنظرت إليه وانصرفت متغيرة النفس عليه فبات تلك الليلة فلما كان السحر سمعت ذلك المؤذن يؤذن فقالت: رب لا تؤاخذني تغيرت نفسي على رجل يذكرك في دياجي الليل والناس نيام. هذا ذكر حبيبي يجري على لسانه اللهم لا تؤاخذه بتغيري عليه.” والنفس الإنسانية تقابل المواقف الحياتية على طبيعتها، رغم ما تقاسيه مع المريد من جهاد.. فاطمة لم تفعل شيئا لكن نفسها تغيرت على المؤذن الذي أخطأ بحقها لا شك، فتعود سريعا وتعاتب نفسها التي تتبدل ناحية رجل يذكر اسم المحبوب الأول وسط ظلام الليل.

  • العمل / نكران الخمول.

    شاع عن بعض المتصوفة ركونهم إلى الدعة والخمول، والاعتماد على ما يأخذونه من مال الصدقة والزكاة، فهم يعيشون عالة على أصحاب النفقة والعطاء. متلقي الرسالة يجد من الشيخ إصرارا على ذكر رجال الطريق الذين يحبون العمل ويحبون حرفهم، والتكسب من وراء عمل اليد، وهم بذلك يعملون بإرشاد النبي الذي امتدح فعل الأنبياء قبله أنهم كانوا يأكلون من عمل أيديهم. ويستطيع القارئ أن يدحض فرية البعض عن المتصوفة أنهم يميلون للخمول. وعموم القول غير صحيح.

حكى عن الشبريلي أنه “كان يعيش من عمل يده”

وعن أبي عبد الله قسوم أنه “كان يعيش من خياطة القلنسيات”

وعمل أبو علي الشكاز في دباغة الجلود أو شيء قريب من هذا يقول: “والشكاز عندنا المشتغل بهذه الجلود الرقاق على نوع ما ويبيضها ويلينها كثيرا بعد شدتها فاتخذ أهل البلدة هذه اللفظة لفظة شكاز لقبا للرجل.”

وابن جعدون الجناوي: “كان ينخل الحنا بالأجرة، قل ما تراه إلا مكحول العينين، أشعث أغبر؛ وإنما كان يكحل عينيه من أجل غبار الحنا.”

وأبو عبد الله الرندي: “كان يحترف، يجمع البابينا من الجبال ويأتي بها إلى المصر يبيعها وينصرف”

وصالح الخراز: يخرز النعال.

وإبراهيم بن طريف السائر الذي أراد العزلة لكن مشاغل الحرفة منعته من ذلك “كان يحن إلى العزلة ولا يقدر عليها من أجل الحرفة وكان يبيع الفخار”

  • رياضة النفس / الجهاد الأكبر

    وورد من الإرشاد النبوي أنه قال: رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر. يقصد تربية النفس ورياضتها، والنصيحة الصوفية التي يتلقاها المريد من شيخه أثناء تلاوة العهد أن يحارب هوى النفس.. “واعلم أن رياضة النفس أصعب من رياضة الأُّسد، لأن الأسد إذا سجنت في البيوت التي تتخذها لها الملوك أُمن شرها، والنفس إن سجنت لم يؤمن شرها.(10)

وللسائرين أراء في الزهد ونهي النفس عن الشهوات، فمنهم من يرى أن الزهد في معرفة حقوق النفس وواجباتها، ومن يرى أن الزهد كائن في إماتة النفس عن حقوقها فلا تمتد إلى الشهوات. ووسائلهم في تربيتها تختلف.. أبو يعقوب الكومي من السائرين الذين يروضون أنفسهم بخدمة الفقراء  “يدني الفقير من نفسه حتى يجلسه على فخذه يخدم أصحابه بنفسه.” والرندي رجل سائح يعيش في الصحراء والجبال لا يأوي إلى معمور.. وأبو عبد الله محمد بن جمهور “يضع خده لينام فيقول: يا خد إنك إن توسد لينا وسدت بعد الموت صم الجندل.” وعلى الرغم من اعتبار الشدة أساس الطريق حيث يقول الشيخ “وما كان الطريق إلا بالقعود في مرابض الكلاب مجاهدة.” فإنه يعترف أن الإنسان العارف بحقائق النفس لا يستطيع أن يميتها عن صفاتها “ولا يصح عندي أبدا موتها عن صفاتها لمعرفتي بحقائقها.

   وما تعددت أماكن العزلة والبعد عن مخالطة الناس؛ خشية تعاطي أخلاقهم الفاسدة. إلا دليل على أخذ النفس بالشدة والاستعداد للجهاد الأكبر، حيث تكون مواطن الشهوات. وأنت تطالع أسماء الأماكن التي يلجأ إليها السائرون؛ لممارسة نسكهم وعباداتهم، فتجدها متعددة متغيرة كاالتالي:

  • الأضرحة: قبر يُبنى للصالحين يحيطه سياج وبناء معروف.
  • الخانقات: مكان تجمع الصوفية.
  • الرباطات: خلوة، ملجأ للزهاد والمتصوفة.
  • الزوايا: الزاوية المسجد غير الجامع ليس فيه منبر، والزاوية مأوى للمتصوفين والفقراء.
  • المساجد.
  • الساحات: الأماكن الرحبة والواسعة.
  • التكايا: رباط الصُّوفية، التَّكِيَّة: مكان يعدّ لإيواء فقراء المسافرين.
  • الكهوف: الكَهْفُ: مغارة، بيت منقور في الجبل أو الصَّخر أو كالغار في الجبل إلاّ أنّه واسع.
  • المغارات: كهوف صغيرة منحوتة داخل الجبال.
  • المقابر.
  • الصحاري.
  • الجبال.
  • الصوامع: الصَّوْمَعَةُ: الصَّوْمَعُ؛ دَيْر، بيت العبادة عند النَّصارى، متعبَّد الناسك ومنار الرّاهب، معبد الرُّهبان في الأماكن النَّائية.(11)
  • سواحل البحار.

وينقل الشيخ عن أحدهم أنه “قال مررت بالساحل فرأيت شابا قد احتفر لنفسه حفرة في الرمل فسألته فتأوه وقال يذم أهل زمانه: توعرت السبل وقلَّ السالكون.”          

  • الجوهر / علماء الرسوم.

    البحث عن معادن الأشياء أصل، والتمسك بالظاهر والقشور لا عماد عليه، ويجب على الإنسان الواعي أن يعمل في سبيل نقاء الباطن وملائمته للحسن الظاهر، ونصيحة الشيخ لأبناء الطريق أن يكونوا على قدر عالٍ من العلم ومراعاة العمل به. وهو يمدح هؤلاء السادة الذين يجمعون بين العلم والعمل كي لا يكونوا أبواقًا فقط.”إياك ياوليي والمغالطة فإن الناقد بصير وإليه تصير الأمور وقد مضت العبارات وما بقيت إلا تسبيحات فلا يغتر العالم بعلمه ما لم يستعمله ولا يغتر باستعماله ما لم يخلص ولا يغتر بإخلاصه ما لم يفن عنه.”

   وأعتقد أن تعلق الفقه بالأحكام الشرعية من حيث الحلال والحرام، وإنزالها على فعل الإنسان، أكسب بعض أصحابه تسلطا عل أفعال الناس، واهتمام زائد بالظاهر دون النظر إلى القصد أو النية. ومن هنا نشأ خلاف دائم بين الفقهاء والمتصوفة، ويعجب ابن عربي حين يقابل فقيها أو محدثا من السائرين ويستغرب الأمر، يقول: “ومنهم رضي الله عنهم أبو الحسن يحيى بن الصائغ بـ”سبتة” من المحدثين وهو صوفي وهذا من الأعجوبات محدث صوفي… ومنهم رضي الله عنه عنهم ابن العاص أبو عبدالله الباجي بأشبيلية رحمه الله كان فقيها زاهدا وهذا أيضا غريب: فقيه زاد لا يوجد.”

   وخشى الشيخ أن يتسرب الظن إلى البعض أنه يعادي الفقه والفقهاء فقال: “فإياك يا أخي عافاك الله من الظن السوء: أن تظن في أني أذم الفقهاء من أجل أنهم فقهاء أو لنقلهم الفقه لا ينبغي أن يظن هذا بمسلم، وإن شرف الفقه وعلم الشرع لا خفاء فيه، ولكن أذم من الفقهاء الصنف الذي تكالب على الدنيا، وطلب الفقه للرياء والسمعة…” وهذا الصنف الذي يذمه، أصحاب المراء والجدال، لا يكفون عن محاربة المتصوفة، وهم في الأساس يجهلون الطريق وعلومه “ولو سئل عن شرح لفظة مما اصطلح عليه علماء الآخرة ما عرفها وكفى به جهلا.” وجهل الفقهاء في أحيان كثيرة بمفردات الصوفية كان سببا في الخلاف الدائر بينهم، ومن المُسلّم به أن السادة الصوفية أصبحت لهم مصطلحات لا تُحمل على معانيها الحقيقية فكان أولى بالفقهاء أن ينظروا علم القوم قبل التعرض لهم بالنقد والجرح.. والولاية عند الشيخ أوصافها معروفة، فإذا عاين صفاتها في أحد الأشخاص فإنه يريها للفقيه فينكرها الأخير” ثم إذا وصف الفقيه أفعال الأولياء أقيدها عليه ثم أريه تلك الأفعال في شخص فإذا رآه يقول إيه من قال إنه أخلص فيها لو كان مخلصا ما اطلعت أنت ولا أنا إنما نصب هذا لحيلة ما فلا تراه يحسن الظن بأحد قط.”

    وحمل ابن عربي في رسالته حملة قوية على الفقهاء، وقال إن العبادات بحكم التسخير والمشقة هو للفقهاء “وأما هذه الصوفية المحققون فعبادتهم لا بحكم التسخير لكن من طريق الشكر… فلم يقدموا أعمالهم ليجدوها ويلحقوا بها، إنما عملوا لأن السيد قال لهم “اعملوا”  فلهم العمل والطرح، وللسيد إن شاء القبول وان شاء الرد، فهؤلاء توجه عليهم بالتكليف، وارتفع عنهم معناه أي ما فيه من الكلفة و المشقة.” ووصفهم أنهم علماء الرسوم وهذه جرأة شديدة من الطبيعي أن تحمل الفقهاء على طرده من بلادهم أو الوشاية به عند السلطان أو تكفيره “والفقيه الضعيف الجاهل صاحب علم الرسوم الذي قد ختم الله على قلبه بشهواته فتراه يلتفت يمينا وشمالا في صلاته ويحرم الإمام وهو بعد بقدر ركعة في حضور نيته للصلاة”

   ولا تخلو الرسالة من الحكي عن الذين يدَّعون العلم، وهم يتهالكون أمامه في محاولته الأولى التي يختبر فيها علومهم، أحدهم بمصر يلقبونه بشيخ الشيوخ يدَّعي أنه لا يوجد ببلاد المغرب متصوف حق فيذكر له ابن عربي خلاصة الأبرار أبا مدين شعيب التلمساني، ويقص طرفًا من أحواله فيبهت الرجل ويتراجع. وغيره بمكة عرفه الشيخ ويدَّعي أن الزمان فارغ من جميع المراتب في كل فن وما هي إلا تلفيقات وخرفات، ويتعرض له ابن عربي بالسؤال عن سفراته وطوافه بالبلاد، ويسأله: مَنْ أكثر الذي رأيته أم الذي لم تره؟ ويتضح جهل الرجل وتضائله أمام الشيخ. 

  • الألوهية داء في جسم الانسان.

     الرياء والسمعة والشهرة أمراض تصيب النفس الإنسانية، يحرص الولي والشخص النقي أن يتخلص منها أثناء مجاهدة النفس. تجده مع كل ما حصل من علم لا يطلب سلطة، ولا رفعة فوق رقاب الناس، ويسمون هذه الأمراض بالحجب التي تصدك عن طريق الاستقامة وهي غير معدودة لكثرتها. ورسالة الشيخ الأكبر تحوي من الشواهد ما يؤكد رغبة الأتيقاء في التستر عن عيون الناس، ومن الرجال عبد الله الخياط قابله ابن عربي في مسجد العديس بأشبيلية لكن الخياط كانت لديه رغبة في التخفي والابتعاد عن كل الناس فلا يرغب حتى في لقاء  أحد يجعل منه وليا أو يرفع مكانته. ويرى الشيخ أن صفات الألوهية تغرى أبناء آدم للتشبه بها ومنها الكبرياء.. الإلوهيةَ داءٌ في جسم الإنسان، وحتى لا يصاب بالداء أعطاه اللهُ المعرفةَ دواء، فإن أصابك الداء ولم تشرب الدواء خرجت مع فرعون والنمرود وكل من ادَّعي الربوبية علي قدره من كلمة فرعون.. الإنسان يقول لولا أنا لهلك الزرع، لولا مالي ما جاءه الكسب، هذه أدني مراتب في الإلوهية، حتى الشيخ في هذه الطريقة يقول لولا همتي مع فلان ما طلع لمقام في الطريق ، وهذه علل وأمراض سر الإلوهية.

****

 

 

 

 

الهوامش والمصادر

 

  • سعاد الحكيم: المرأة ولية وأنثى.. قراءة في نصّ ابن عربي. مقالة على شبكة الإنترنت

 http://www.hurriyatsudan.com/?p=845

  • آسين بلاثيوس: ابن عربي حياته ومذهبه، ترجمة عبد الرحمن بدوي، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة 1965م، ص6.
  • نصر حامد ابو زيد: هكذا تكلم ابن عربي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2015م، ص30.
  • ابن عربي حياته ومذهبة: مصدر سابق، ص10.
  • محمد قجة: الشيخ محيي الدين بن عربي و أثره الحضاري في حوض المتوسط ، مقال على شبكة الإنترنت http://iranarab.com/Default.asp?Page=ViewArticle&ArticleID=542
  • محيي الدين ابن عربي: رسالة روح القدس، قدم لها بدوي طه علام، دار عالم الفكر، القاهرة 1989م، النسخة التي اعتمدنا عليها في الدراسة.
  • شخصية إسلامية، وصى النبي من يراه من صحابته أن يقرأه السلام، ويعتبر من النساك الزاهدين من طبقة التابعين، وله مزار في مدينة الرقة السورية تم تدميره أثناء الأزمة السورية التي بدأت عام 2011م.
  • الحارث بن أسد المحاسبي: رسالة المسترشدين، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، دار السلام، القاهرة 1982م، ط4، ص71.
  • رسالة المسترشدين: مصدر سابق، ص186.
  • ابن حزم الأندلسي: رسائل ابن حزم الأندلسي (رسالة في مداواة النفوس) مج1، تحقيق إحسان عباس، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1980م، ص394.
  • معجم المعاني: على شبكة الإنترنتhttp://www.almaany.com/ar/dict/ar-ar/%D8%B1%D8%A8%D8%A7%D8%B7/

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!