عهد العشق قد أتى (شمس تبريزي والرومي)

عهد العشق قد أتى (شمس تبريزي والرومي)

عهد العشق قد أتى 1/2

بقلم: ليلي أنفار

ترجمته عن الفرنسية: عائشة موماد

(1)

درسٌ في العشقِ

يمكننا أن نتساءل بمشروعية عن الجديد الذي أتى به شمسٌ، والذي كان غائبًا عن مولانا. بالتأكيد ليست العلوم الدينية أو الفلسفية حيث حاز مولانا الريادة أكثر من معاصريه. كان مولانا بعيدًا عن الجهل بالنظريات والأساليب والممارسات الصوفية الكلاسيكية. لقد اشتغل على نفسه وسمع عن العشق الروحي عن طريق برهان الدين محقق أو مباشرة عن طريق والده. لكن ذلك لم يجعل منه سوى شيخًا محترمًا ومبجلاً. علينا ألا ننسى أنه خلال تلك القرون الذهبية لبزوغ التصوف داخل المجتمعات الفارسية، كان هذا النوع من الروحانية في البداية خارج مجال المعايير الاجتماعية والدينية السائدة، فانتهى به الأمر إلى اتخاذ طابع معياري وإتاحة الفرصة لشيوخه ومريديه لولوج مراكز تشريفية ومربحة في بعض الأحيان.

الإشارة إلى هذا الشكل من أشكال الانحراف وانتقاده من طرف مجموعة من الصوفية يعد في حدّ ذاته رمزًا لاتساع ظاهرة الاعتراف الاجتماعي بالتصوف. عند وصول شمس إلى قونية، كان مولانا في أوج مجده على هذه الطريق، وكان ممتلئًا بالعلوم والمعارف على الإطلاق كما يشير إلى ذلك شمس:

هل رأيته، هو الذي كان ألمعيًّا في كل شيء، خبيرًا في العلوم الشرعية، وفي الطقوس والقواعد وأصول الفقه؟

كل ذلك لا ينتمي إلى طريق الله، ولا إلى طريق الأنبياء، بل على العكس، يشكل حجاًبا أمامه.

يجب الهروب من كل هذا قبل كل شيء، ثم رفع الإصبع بالشهادة: “أشهد ألا إله إلا الله”

لذلك، إن لم نتخل عن تلك العلوم المكتسبة التي لا تعمل إلا على تضخم الأنا بدل محوه، لا يمكننا أن ندعي التوحيد، لذلك ينتقد شمس في أماكن عديدة غرور العالم الذي أبعد الرومي عن شخصيته الحقيقية وعن الله.

إن لم يذكرنا ذلك بالانتقادات التي وجهها برهان الدين محقق ضدّ “علمٍ بلا ضمير”، فقد كان منهج شمس أكثر عنفًا، يتطلب القضاء التام على كلّ ما يحول دون رؤية النور الإلهي، يقتضي التخلي عن رؤية روتينية للعالم، عن المعارف المتراكمة التي لا تحيي النفس، عن الأساليب المألوفة في التفكير، عن القيود وعن كل تفكير معياري. هذا هو تصوره لتراكم العلوم المجردة من أي رؤية باطنية:

أقسم بذات الله

لو قرأ أحدهم ألف كتاب
في غير حال التدبر
لا يفيد هذا في شيء
كمن يثقل حمارًا بحمولة من الكتب!

مقالات: 694

 

يذهب بك العقل حتى عتبة الدار. ..
لكن ليس إلى عقرها..
هنا، العقل حجاب..
القلب كذلك حجاب..
والرأس أيضا.

مقالات 180

نجد عند الرومي تلك الفكرة التي تشير إلى أن العقل وكل تلك الوسائل العقلية والوجدانية المتاحة للإنسان، يمكن أن تكون مفيدة في بعض مراحل التدرج الروحي، لكنها لا توصل الروح إلا إلى عتبة المعرفة الحقة. يكمن المشكل في اتخاد الوسيلة هدفًا وتحويل العلم إلى حجاب يمنع من رؤية الهدف الحقيقي. علم يصبح حاجزا أمام الرؤية الإلهية.

نعم، رأيت جمعًا غفيرًا يرتعد من الخوف
قد بادر بالهروب
اقتربت…
حذروني…لعل الذعر يتملكني. وقالوا:
“إن ثعبانا ضخما قد ظهر. .يلتهم أي شيء في طريقه”
لم أكن خائفًا…اقتربت أكثر..
رأيت بابًا من حديد..
بابا ضخما يصعب وصفه
أحكم إغلاقه بقفل ضخم
قيل لي:
“إنه بالداخل، ذلك الثعبان ذي الرؤوس السبعة!
احذر!
لا تقترب من هذا الباب!”
أثار الكلام غضبي وفضولي
فكسرت المزلاج…ثم دخلت..
فلم أر سوى دودة
تقدمت خطوة..ثم ضغطت عليها
سحقتها…أرديتها قتيلة!

مقالات: 659

هذا “الثعبان ذو الرؤوس السبعة” ليس سوى العلم الظاهري، علم القال الذي تحدثنا عنه سابقا، الذي يثير الخوف لدى الناس العاديين لشدة تأثيره وشموليته، وإلى حد ما، فالعلماء أنفسهم هم الذين احتجزوه داخل سجن حديدي من فرط استعلائهم ورضاهم عن ذواتهم، فغدا أكثر إثارة للرعب.لكن في الحقيقة فالخوف الذي يمارسه اللاهوت على العقول الجاهلة والبسيطة لا يرتكز على شيء.

 فهذا العلم ليس سوى دودة أرض بائسة محاطة بالتخيلات. وبصيغة أخرى، فهو لا يساوي شيئًا، بل هو أقل من لا شيء أمام من لا يخشاه ومن كانت معرفته الحقة (معرفة الروح) سبيلا لمحو ذاته في لحظة واحدة. كانت الصور المجازية التي وظفها شمس شديدة العنف، تعبر عن عظيم احتقاره للعلوم الدينية التي لا تعدو أن تكون سوى معرفة تقليدية. ففي وجهة نظره، يأتي هذا النوع من العلوم بعكس ما يجب أن يكون عليه العلم الإلهي: بعيد عن جذب القلوب نحو الله، يخيفهم ويبعدهم، له وجه الشيطان.

لكن في كتاب “المقالات” لشمس التبريزي الذي وصل إلينا، نرى جليّا أن شمسًا كان يتمتع بمعارف واسعة، كان محيطا  بالقرآن والأحاديث النبوية كما كان متقنا لعلوم التفسير والتأويل. كان له آراء واضحة حول مختلف فروع الإسلام والمذاهب الفقهية والطرق الصوفية. التقى خلال أسفاره المتعددة كبار شيوخ عصره، من علماء بارزين في العلوم الدينية والفلسفة بشتى أنواعها، ومرشدين روحيين ودراويش من مختلف الأنواع والمدارس. لكنه كان يعيش في عالم آخر، ما وراء كل تلك التيارات والاتجاهات والمجادلات. كان يبحث عن شيء آخر، كان باحثا عن علم كامل وعن معرفة تحمل الروح إلى ما وراء نفسها والعالم. كان يقول:

لا تكتف بكونك عالمًا ربانيًا
اطلب أكثر من ذلك
ارغب في أن تتعدى كونك صوفيًّا
أن تكون أكبر من عرفاني
اطلب دائمًّا أكثر مما يعرض عليك (…)
ارغب في ما هو أكبر من السماء

مقالات: 221

كان هذا هو الشوق الذي أيقظه شمسٌ في الرومي، أهداه عطشًا لا يرتوي ليتجاوز كلَ ما حققه، فالطبيعة الإلهية لا منتهية، وبذلك يكون الطريق نحو المعرفة الإلهية بدون نهاية. فمن الممكن دائما الوصول إلى أعلى المراتب وتوسيع مجالات المعرفة واكتشاف عوالم جديدة. يكره شمس “الطائر” بشدة كل ما يعيق انطلاق الروح: الرغبات الجسدية والروابط الدنيوية، بالإضافة إلى العوائق الفكرية، يكره المعرفة عندما تصبح مصدرا للغرور (حتى وإن تعلق الأمر بمعرفة قرآنية!)، ولا يحب ادعاءات الوصول إلى مراتب روحية ووهم الفهم والمعرفة وسراب بلوغ الهدف.

في نظر شمس، لا داعي من تحديد الأهداف، ليس من الضروري سوى الانفتاح على وجوه الله المتعددة. لذلك نجد عند الرومي ذلك الطموح للارتقاء نحو الأعلى ولتجاوز الذات.

هل تعلم لماذا يزبد المحيط موجة بعد موجة؟

أنصت لجوابي لأني محيط وسط المحيط

لأنه يشعر بالضيق ويطمح لمساحات واسعة

فيندفع الماء بلا توقف نحو السماء

لأن له في السماوات روحًا هائمة

من السماء ذات السيل، ومن الجبل ذي العيون، يا معشوقي!

ماء حياتنا ليس أقل من ماء البحر

نرتفع في أمواج من النشأة نحو العدم

في عالم الطين هذا، لا يعرف الروح الراحة

ولا حتى في سماء هذه القبة وانعطافاتها

يشتاق الروح إلى الحديقة التي تفتح فيها

إلى جوار الملك المجيد، خالق الأرواح.

الديوان الكبير: 1704

ما يلفت النظر في طيات هذه القصيدة هو رفض شمس لهذا الضيق، وقد تبنى الرومي نظرة شمس حول جمال العالم وسعة الروح:

هذا القلب الأكثر سعة ولطفًا وإشراقًا من القبة الزرقاء

لماذا تغرقه في سواد نزواتك وأفكارك العقيمة؟

لماذا تجعل من هذا العالم الرائع سجنا ضيقا؟

أمن المعقول أن نُصيّر هذه الحديقة سجنا؟

لماذا أصبحنا كالديدان

نحيك حولنا شرانق من الأهواء والأوهام والأفكار المريبة،

نُحبَس داخلها ونختنق؟

نحن من أولئك الذين حولوا السجن إلى حديقة.

مقالات: 610

لذلك، فإنه ليس من قبيل الصدفة ألا يكون لشمس أي تعلق بهذا العالم، وأن تكون أفكاره مستحيلة التناول في إطار نظام محدد. شمس التبريزي رجل حر بصورة فطرية، فهو لا يعترف بالسير على هدي أي شيخ حقيقي، يُفترض منه تعليمه أو خلع الخرقة عليه كما يقال بتعبير صوفي، ولا ينتمي لأي مدرسة معروفة. لا يقول إلا بالانتماء إلى التقليد المحمدي:

تسلمت ثوب المبايعة من يدي الرسول صلى الله عليه وسلم

لم يكن ثوبًا رثًّا

يصير خرقة بالية بعد يومين

نلقي به داخل المدفئة.

أو نستخدمه للطهارة

كلا،

إنه ثوب الخلة

خلة تتجاوز كل الإدراك

خلة تفر من الماضي والحاضر والمستقبل

ما الأمس أو اليوم أو الغد بالنسبة للعشق؟

مقالات: 134

دعا شمس مولانا لأن يتبعه في بحثه عن المطلق، أن يكتشف بقربه بعدًا جديدًا يفلت من الزمان والمكان والكلمات، لكن مولانا وجد الكلمات لوصف ما لا يوصف بالقول. لقد باح لمولانا بما لم يبح به لأحد: أبدى له وجه المعشوق لكي يلج إلى العشق. كان له كما لمولانا علاقة باطنية بين تجربة العشق ورحابة فهم الحقائق، وبالتالي، تأكيد تسامح كوني من أجل كل المخلوقات.

لكن أكثر من كل شيء، فقد أهّل شمسُ شيخَ قونية إلى العشق في إطار علاقة تبادلية. يمكن القول أن شمسًا قد أظهر له معنى العشق عبر العشق الذي كان يكنه له.

في الحقيقة، رؤية وجهك غاية السعادة

أيريد بعضهم رؤية رسول من الله؟

فلير مولانا بكل بساطة (..)

سعيد من وجد مولانا

من أنا؟

وجدته وامتلأت بالفرح!

في الحقيقة أني غير قادر على معرفة مولانا

أكتشف أشياء جديدة كل يوم

عن أحواله وأفعاله

تختلف عن الأيام السابقات

تعلموا كيفية معرفة مولانا

لكيلا تبقوا خاليي الوفاض بعد ذلك (…)

لا تكتفوا بهذه الصورة الجميلة

وبهذا الوجه الجميل

لأن ما وراء ذلك، يوجد شيء آخر،

هذا ما يجب البحث عنه.

مقالات 749

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!