مريم الأبدية والأنوثة الصوفية

مريم الأبدية والأنوثة الصوفية

مريم الأبدية والأنوثة الصوفية

بقلم: خالد محمد عبده

(الفلق)

 

(والله ما أخلف الله لي خيرا منها ، وقد آمنت بي إذ كفر بي الناس،
وصدقتني وكذبني الناس) من كلام حضرة النبي عن خديجة

إذا ما كان المرءُ يرميني المرة بعد الأخرى بأنني أرى الإسلام بصورة رومانتيكية؛ فإنني يمكن أن أجيب بمقولة القديس أغسطين : “Res tantum cognoscitur quantum diligitur” المرءُ يستطيع أن يفهم شيئًا ما فقط على قدر ما يحبّه. ولأنني ومنذ طفولتي قد أحببت عالم الشرق، ولأنني أتواصل مع المسلمين بلغاتهم، ولأنني عشتُ مع أسرة مسلمة متدينة؛ فإنني أعتقدُ أيضًا أنني يمكنني أن أفهمهم بعض الشيء. بهذه الكلمات أجابت أنّا ماري شيمل على بعض الأسئلة التي كانت تلاحقها من قِبل الجمهور الغربي إزاء ما كانت تكتبه بشكل إيجابي عن الإسلام، مركّزة على جانبه الجمالي الذي اكتشفته عبر رحلة طويلة في العالم الأسلامي، درّست في جامعاته، ونشرت تراثه، وحاضرت في مجالسه العلمية، وخالطت الرجال والنساء والأطفال.
عرائسُ الله ورجالُ الطريق وصف أُطلق على النسوة المتعبدات في الإسلام، نقرأ هذا الوصف اليوم بفضل ما كتبته أنّا ماري شيمل في دراساتها عن (المرأة في التصوف) متبعة أثر مارجريت سميث مشيدة بعملها البكر في الدرس الاستشراقي عن رابعة وعن نساء الإسلام، قد ننشغل بـ هل للمرأة مكانة في الإسلام؟ وهل يصحّ أن تكون الأنثى ولية من أولياء الله؟ وكم عدد النساء من المحدّثات والفقيهات والعالمات؟ حتى نثبت أن للمرأة مكانة في الإسلام ترفعها عن آثام الحضارات السابقة، ونختلف فيما بيننا ونتقاتل على إثبات وجهة نظر كلّ منّا، لم يكن الانشغال بالمرأة على هذا النحو عند عميدة الاستشراق فقد نحّت الصور السابقة جانبا وبدأت في تسجيل ما شاهدته عبر معايشة في بلاد الإسلام طولاً وعرضًا، وبدأت في قراءة ما قاله القرآن وسجلته الصحابة من مرويات تُنسب للنبي الأكرم، وحاولت أن تتعقب أثره في معاملات النساء معها في مصر والبحرين والسعودية، في تركيا وإيران والهند وباكستان، وغيرها من بلاد الإسلام.
روحي أنثى
أهدت شيمل عملها (روحي أنثى) إلى صديقتها التركية المتصوفة (سميحة أويفردي) المتصوفة العالمة التي قصّت لنا كيف تعرّفت على حلقتها في استانبول في سيرة حياتها الغرب شرقية، وسمحت لها السيدة التركية أن تناديها (أبله سميحة)! وعرّفتها بعلماء وفنانين مسلمين ومسيحيين رجالاً ونساءً لم تنس شيمل أن تذكر كيف استفدت من كل هؤلاء في رحلتها العلمية ومعيشتها في تركيا.
نساء كثيرات لا تفتأ شيمل تذكرهم في سيرتها يمكن اعتبار كل واحدة منهن من (عرائس الإسلام) فالكرامة التي نتعرّف عليها بفضل شيمل لا تقتصر على النساء المذكورات عند فريد الدين العطّار أو سنائي أو مولانا جلال الدين، وكما تخطّت شيمل نموذج الولي الخرقاني الشهير في الأدبيات الفارسية وزوجته التي تذكّرنا بزوجة أرسطو، يمكن للمرء أن ينتقل عبر (حدائق الإسلام) التي تفتحها شيمل عابرة (جغرافية الشعراء) من الدفاتر إلى الحياة، ليتأمل من حوله من النساء كيف عاشت وأقامت بنيانًا من العدم؟!
اعتادت الأم البسيطة في الريف وفي أقاصي الصعيد في مصر على أن تبدأ يومها قبل الفجر تصلي وتكثر من الدعاء، ولا يصيبها ملل أو يتسرب إلى قلبها يأس أو قنوط، هي تفعل ذلك بصدق وإريحية في بساطة لا يمكن أن تراها عند أكثر (السالكات) اليوم، فمن أراد أن يكتب سير السالكات كما فعل الحصني الدمشقي في القرن التاسع الهجري، لا يحتاج إلى أن يرحل إلى جبل لبنان، أو يتفقد الصحاري ليعثر على عجوز مجهولة تتحدث مع ذي النون المصري، أو يتتبع صفة الصفوة لابن الجوزي، فالعزيز المفقود في حديث (التنوير) و (التراث) سهل وقريب المنال إن تأملنا ما حولنا أكثر، يقول مولانا جلال الدين الرومي في كتابه فيه ما فيه: (عيني تنظرُ إلى شخص آخر! فماذا أفعل؟ لُمْ نفسك لأن ضياؤها أنت)!
تعلّق قلبُ فريد الدّين العطّار بوالدته، فنقرأ في سيرته أنه عدّ أمه أفضل من رابعة العدوية، لا ذِكر لنساء كثيرات في كتب الطبقات والموسوعات الصوفية! ربما يقول ذلك من يحصي عدد النساء المذكورات عند القشيري أو الأصفهاني في الحلية أو المناوي وغيره، لكن المدقق سيعرف من خلال قراءة سير الرجال أن المرأة حاضرة منذ البداية عند الجميع فالمرأة التي يعبر المتصوف جسر بحرٍ من أجل أن يتلقي العلم والتربية حاضرة في تأسيسه وتطوير نظرته للدين والحياة، فالعين التي تبصر وشمًا أو حناء تُحرم من عطاء المعرفة الدينية، كما في قصة أحد المتصوفة الذي ظل أوقاتًا طوال يحضر مع امرأة درسًا وحينما التفت إلى زينة في يديها قالت الآن يجب أن ننتقل من فقه الأرواح إلى فقه الأجساد، يحتاج من تعلّق بالفاني أن يصاحب فانيًا وقت الدرس ليصل إلى الباقي الذي غُيّب مع ذِكر النفس.
الأمُ هي مريمُ التي لا تنتظر من ولدها رطبًا جنيًا، أو برهانًا مادّيًا على وفائه ومحبته، يشغلها فحسب أن يخرج من هذا المخاض عيسى يؤتى الكتاب ويرسم فيه ما تقرّ به عينها، كرامتها ملموسة عن كرامة رابعة، فكما أن رابعة أحبت حبّين حب الهوى وحبًّا خالصًا، كانت الأم ولا تزال كذلك، نتذكّر ذلك ونحن نقرأ مع شيمل ما قاله الرومي يومًا: جسمنا يشبه مريم العذراء: كل واحد منا يحمل عيسى بداخله. لكن مالم تظهر فينا آلام المخاض فإن عيسانا لا يولد.
مريم هي النفس التي، بصمت تتقبل قدرها، نفخ الروح من الله سبحانه. نفْسُ العاشقِ “نور على نور” مثل مريم التي حملت عيسى في بطنها. لأن النور الإلهي يجعل الصوفي حاملاً روحيًّا مثلها. مصابرتها ويقينها عُوضا فيما بعد بالرحمة الإلهية، كذلك الأم كما تروي الآثار تحت أقدامها الجنّة!
قد يبدو للبعض أننا نقع في أسر جمال النصوص الصوفية بانبهار يُنسينا مع فعله الصوفية من تهميش المرأة إضافة إلى تهميش متونهم، لكننا لم نر ذلك بالفعل، فالمادة التراثية الضخمة فيها من ذِكرٍ النساء ما يوفّر لنا مجلدات ضخمة تجعلنا أمام مشروع لم ينجز بعد عن (عاشقات الله)، ولعل محاولة الأستاذ سامي مكارم في هذا السياق كانت موفّقة إذ لم تقتصر دراسته عن تجارب السالكات على فرقة واحدة من فرق المسلمين كما هو شائع، بل ضرب لنا أمثلة عديدة من كافة الفرق الإسلامية على تعبد النساء، والورقة التي أنجزتها الأستاذة سعاد الحكيم عن الأنثى كولية، لم تكن يتمية في هذا الباب، فقد صنّف رحال بوبريك عن بركة النساء ما يساعدنا في التعرف على حضور النساء في عالم التصوف، وكذلك بعض الدراسات التي أجيزت في الجامعات العربية، هذا عن التأليف في صورته العامة، وبصرف عن كثرة التآليف التي كُتبت عن رابعة العدوية، فإننا نعثر على مؤلفات مستقلة عن امرأة صوفية أو عن حضور المرأة في تصوف كبار الأولياء، ومثال ذلك ما نُشر من سيرة مناقبية للسيدة عائشة المنوبية، وما كتبته نزهة براضة عن الأنوثة في المتن الأكبري، حتى تحوّلت موضوعة المرأة الصوفية مجالاً خصبًا للتأليف في بلادنا العربية، صاحبت اهتمام الباحثين والباحثات بمسألة الجندر والحريم، ولا تزال الدراسات تطالعنا بالجديد في هذا السياق، مما يعني أن أحكامنا السابقة في حاجة إلى مراجعة.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!