فى ذكرى ميلاد أنا ماري شيمل: الصوفية والتبادل الثقافي

فى ذكرى ميلاد أنا ماري شيمل: الصوفية والتبادل الثقافي

فى ذكرى ميلاد أنا ماري شيمل

ورشة عمل عن الصوفية والتبادل الثقافي بين الغرب والعالم الاسلامي

تقرير: يسرا صلاح – ايرفورت

 

انعقدت فى مدينة ايرفورت الألمانية ورشة عمل بمناسبة ذكرى ميلاد المتصوفة العالمة أناماري شيمل فى الفترة من 15-17 إبريل.

بدأت الورشة أعمالها بافتتاح معرض لمقتنيات وأعمال شيمل فى إحدى قاعات مكتبة الجامعة الرئيسة فى إيرفورت، وكذلك الأوسمة وشهادات التقدير التى حصلت عليها من دول مختلفة لاسهامتها العظيمة فى دراسة الإسلام والصوفية.

        ثم استهلت الورشة جلساتها النقاشية بعرض من البروفيسور “كارل ارنست” – أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة نورث كارولينا- لورقته البحثية حول “دبستان-مذاهب، والإرهاصات الأولى للصوفية فى الشرق”، حيث عرض فيها لأهم ما تضمنه كتاب “دبستان- مذهب” من شرح لبعض المذاهب الدينية فى جنوب آسيا. وأكدت المناقشات لهذه الورقة على أهمية التفرقة بين مصطلحات مثل الفرقة والمذهب والطريقة وما يشبهها، لأن بعض هذه التعبيرات يكون متصلاً بالسياق المجتمعي أكثر من كونه متعلقاُ بالمعتقدات الإيمانية. [تُرجم له إلى العربية كتابه (على خطى محمد) following mohammad وقد استفاد كثيرًا من أنا ماري شيمل في هذا الكتاب].

 كذلك، عرض البروفيسور “ألكسندر كنيش” –الأستاذ بجامعة ميتشجان- لورقة بحثية عن الجدل حول التعريفات المختلفة للصوفية، خاصة وأن الصراع بين ما هو ديني وما هو سياسي أدى إلى اتساع رقعة هذه التعريفات ونقلها إلى آفاق جديدة، ولكنه أكد فى الوقت ذاته أن البحث عن تعريف للصوفية أصبح بشكل عام ملتقى للإبداع والتخيل وليس مجرد جدل عقيم لا فائدة منه. ونتيجة لهذا الإبداع والتنوع فى التعريفات أصبح من غير الممكن الاعتماد على تعريف بعينه، ولكن الأكثر فائدة هو تبني مجموعة العوامل المشتركة بين هذه التعريفات سواء كانت من قبل مستشرقين أو من قبل المسلمين. وبناء على ذلك، فإن أى تعريف جاد وشامل للصوفية يجب أن تدمج فيه السياقات الحضارية المختلفة فى الشرق والغرب معًا، ذلك أن الصوفية ليست ظاهرة آحادية ولكنها تشمل تنوعاً ثرياً يجب عدم إغفاله.

 وتساءل “كنيش” عن جدوى الحاجة إلى تعريف محدد للصوفية خاصة فى ظل تأثرها بعوامل كثيرة تتعلق بالسياق التاريخي الذى تمر به، وما يتعلق بهذا السياق من عوامل اجتماعية وثقافية. غير أن عدم الاهتمام بوضع تعريف للصوفية لا يعني على الاطلاق عبثية الحديث عن مصطلحات مثل “التقاليد الصوفية” أو “الخبرات الصوفية” لأن هذه المصطلحات لها فى الواقع دلالات عملية واضحة يمكن الاستدلال عليها. [راجع عرضًا لورقة بحثية أنجزها كنيش سابقًا عبر هذا الرابط].

        وفى الجلسة الثانية، عرض البروفيسور “جمال مالك” – أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة إيرفورت ومنسق الورشة- لورقة بحثية عن السيرة الذاتية لـ “السيد أحمد خان” أشهر المجددين فى الفكر الإسلامي فى منطقة وسط وجنوب آسيا فى القرن التاسع عشر. وركز بروفيسور “مالك” على كتابات “السيد خان” قبيل عام 1857 وأفكاره المناهضة للمنهج السلفي، وربطه بين الصوفية والعقلانية “Rationalism”. وكذلك تأسيسه للمدرسة المحمدية فى “عليكرة”، والتى أصبحت فيما بعد تعرف بالجامعة الإسلامية، وإصداره لمجلة “تهذيب الأخلاق”، ودورها الذي تم تجاهله لعقود طويلة فى نشر التعاليم الصوفية فى تلك المنطقة من العالم. [عنه نبذة هنا].

        وتناولت الدكتورة “رشيدة شيه” –من المركز الوطنى الفرنسي للدراسات العلمية- نشأة الطريقة المحمدية فى مصر كأحد فروع الطريقة الخلوتية. وأشارت فى ورقتها إلى الأصول التاريخية للطريقة المحمدية، لا سيما إبان فترة الخلافة العثمانية، وكيف كان التواصل بين “المجاورون” فى المدينة وبين أتباع الطرق الصوفية فى شمال أفريقيا سببًا مباشرًا لانتشارها فى مصر. كما أوضحت أن الطريقة المحمدية كانت فى بدايتها نظام قيمي يقوم على نشر الأخلاق والفضيلة، ثم تحول هذا النظام فى القرن التاسع عشر إلى طريقة مؤسسية. وشرحت الدكتورة رشيدة كذلك دور الشيخ أحمد القشاشي فى نشر تعاليم ابن عربي، حيث تتلمذ القشاشي على يد الشيخ أحمد الشناوى ابن الشيخ محمد الشناوى أحد المريدين المقربين لابن عربي. فضلًا عن ذلك، ذكرت الدكتورة رشيدة أن التقاليد المصرية المتبعة فى الطريقة المحمدية الآن إنما تنبع بالأساس من تعاليم شيخ الإسلام “زكريا الأنصاري”. [صدر تحت إشراف لأستاذة في مصر عن المعهد الفرنسي للدراسات الشرقية، كتاب الصوفية في مصر العثمانية].

        وألقى البروفيسور “وايزمان” الضوء على السيرة الذاتية لـ”عبد الرحمن الكواكبي”، حيث أشار فى بداية حديثه إلى أن الكواكبي –الذى اعتبره بمثابة ناشط اجتماعي- كان من القلائل الذين أعطوا أنفسهم وصف “صوفي”. وقال البروفيسور وايزمان أن أفكار الكواكبي التى كانت تتسم بالاعتدال تم تجاهلها لفترة طويلة من الزمن، ولم يتم تناولها والتركيز عليها إلا خلال منتصف القرن العشرين كجزء من المعارضة السياسية للأنظمة الحاكمة فى الوطن العربي. وأوضح وايزمان أن كتاب “أم القرى” يبلور بشكل عام الأبعاد الصوفية فى فكر عبد الرحمن الكواكبي. وأثناء النقاشات التى دارت حول هذه الورقة، برز رأى يؤكد على أن غالبية رموز السلفية فى القرن العشرين كانت لهم خلفية صوفية ومنهم على سبيل المثال “حسن البنا” الذى اعتمد على فكرة “الرابطة” الموجودة بالأساس فى الطرق الصوفية بين الشيخ ومرديه لتكون نواه للرابطة التى يؤسس عليها علاقة مرشد الجماعة بأعضائها، ولكن بطبيعة الحال باتباع منهج سلفي وليس صوفي. وأشار وايزمان أن انتهاج البنا لهذا النهج يعتبر تغييرا لما كان مألوفًا من قبل فى الفهم السلفى. [نُشر لـ أيتزاك وايزمان في كتاب( رفيق كامبريدج للتصوف) ورقة عن أثر العولمة على الصوفية، رأى أنه من منتصف القرن التاسع عانت الصوفية، لكن العولمة منحت حياة جديدة للصوفية. وقدم في ورقته الحركيات التي جعلت الصوفية تستعيد عافيتها].

وفى الجولة الثالثة من المناقشات، تحدثت البروفيسور “مارسيا هيرمنسن” –من جامعة لايولا بشيكاغو-  عن السيرة الذاتية لبعض الصوفيين الغربيين المعاصرين وخاصة من النساء؛ مثل “رابعة برويدبك” التى قصت تجربتها فى التحول من المسيحية وعشقها للرقص في الإسلام ثم تعمقها فى الصوفية فى كتاب يحمل عنوان “رقصة الحياه” “The Dance of Life”. ومن بين ما كتبته فى هذا الكتاب:

“أنا لم أتحول..

ولكنني فقط اكتشفت الكنز المدفون بداخلى..

أنا لم أغيّر معتقداتى..

ولكني أتيت من حياة مليئة بالضلال لا معنى لها مقارنة بحياة الثراء الأبدي..

أنا لم أرحل من الغرب إلى الشرق..

ولكني جئت من مرحلة اللاوعي.. وواجهت حقيقة وجودي..”.

والمثال الثاني الذي أشارت له البروفيسور “مارسيا” هو الشيخة “مريم كبير فايي” التى ولدت فى الولايات المتحدة لأسرة يهودية ثم سافرت إلى الهند ونيبال وأفريقيا، وأقامت فى بعض الأديرة فى أوروبا، وأخيرًا اعتنقت الإسلام على يد أحد المتصوفة، ثم ما لبثت أن تعمقت فى دراسة الصوفية على يد عدد كبير من المتصوفة فى أرجاء العالم. وبعد زيارتها للأماكن المقدسة ورحلتها فى أرجاء المعمورة واختلاطها بألوان من البشر، وضعت الشيخة مريم خلاصة تجربتها فى كتاب “Journey Through Ten Thousand Veils” أو “رحلة العشرة آلاف حجاب”. ومن المقولات الشهيرة لها “الحقيقة هي أن حياه كل البشر متصلة ببعضها وأن حياه الآخرين متحدة مع حياتنا الخاصة”. [الشيخة مريم كبير فايي، كاتبة أمريكية، راجع عنها مقالاً منشورًا في طواسين بعنوان: التصوف والمرأة الغربية]

        وخلصت بروفيسور “مارسيا” من عرضها إلى أن ثمة صفات مشتركة يمكن ملاحظتها في السيرة الذاتية للمتصوفين المعاصرين فى الغرب؛ فهم يرتحلون من مكان إلى آخر، ثم من مرحلة إلى أخرى، وأخيرًا من مجال إلى آخر. كما أنهم ينتقلون من مرحلة السعي للمعرفة إلى رحلة المعرفة ذاتها وأخيرًا إلى استكشاف الدليل وانتهاجه والعمل به. كذلك فإن النساء منهن عادة ما تكون لهن خلفية فنية. وأخيرًا، فهم جميعًا اتخذوا لهم صحبة في سعيهم نحو المعرفة.

        وفى نهاية عرضها، أشارت بروفيسور “مارسيا” إلى عدد من كتابات “أناماري شيمل” التى سردت فيها تجاربها فى السفر والترحال فى العالم الإسلامي، مثل كتاب “أخي إسماعيل؛ ذكريات تركيا” 1990، وكتاب “الجبال، والصحراء، والأضرحة؛ رحلاتى إلى باكستان والهند” 1994، وكتاب “على خطى المسلمين؛ حياتى ما بين ثقافتين” 2002.

[عن مارسيا هيرمنسن راجع كتاب مقالات الإصلاح السياسي، الصادر عن دار الفارابي ببيروت، إذ خصص كاتبه مبحثًا عن شخصيات إسلامية في الفكر الأمريكي، ركّز فيه على عرض جهود مارسيا هيرمنسن في دراسة الإسلام].

كذلك، تناول الدكتور سعيد زرابي زاده –المحاضر بجامعة ايرفورت- أنماط ومسارات الصوفية فى الغرب وتداخلها مع الحضارة الغربية، حيث قسّم هذه الأنماط إلى ثلاثة أقسام رئيسة وهي؛ التجارب الصوفية الحية التي يمارسها الناس بشكل فردي سواء من خلال إحدى الطرق أو لا، والصوفية الأدبية المتمثلة فى ترجمة النصوص الصوفية من لغتها الأم إلى اللغات الغربية وكتابة بعض النصوص الأدبية الجديدة المبنية على التقاليد الصوفية، وأخيرًا، الصوفية الافتراضية ويقصد بها الحضور الصوفى على شبكة الانترنت والتجمعات الصوفية على المواقع الإلكترونية. كما حدد الدكتور زرابي ثلاثة انتماءات رئيسة للطرق الصوفية المنتشرة فى الغرب؛ فهي إما تتبع الطرق الصوفية السنية وأهمها الشاذلية، والنقشبندية، والجشتية، والقادرية بأفرعهم المختلفة. وإما أنها تتبع الطرق الصوفية الشيعية وأهمها؛ النعماللاهية (نسبة إلى نعمة الله الولي العلي الحلبي)، والطريقة الأويسية.

واستهلت آخر جلسات الورشة أعمالها بعرض من البروفيسور “علي آساني” -من جامعة هارفارد- عن الموسيقى والفن الصوفي فى مناطق مختلفة من العالم. غير أنه بدأ حديثة بالإشارة إلى أن “شيميل” كانت قد تأثرت ببعض المقولات التى أطلقها كل من “يوهان هردر” (الشاعر والفيلسوف والناقد اللاهوتى الألماني)، و”فريدريش روكرت” (أستاذ اللغات الشرقية والشاعر الألماني). ونقل بروفيسر “آساني” إحدي تلك المقولات الملهمة لـ”يوهان هردر” التى ذكر فيها:

“من الشعر نتعلم الكثير عن العصور والأمم، وبشكل أعمق من ذلك الذي يقصه علينا التاريخ السياسي والحربي المخادع والبائس”

        كما عرض لإحدى مقولات “روكرت”:

“الشعر لديه القدرة على ربط أناس مختلفين لأنه جزء من كل الحضارات، فالشعر هو اللغة الأم للجنس البشري”

        وتناول بروفيسور “آساني” السيرة الذاتية لكل من “سلمان أحمد” و”جيمي باج” الذين اشتهروا بموهبتهم فى عزف موسيقى الروك الغربية، وكيف استطاعوا دمج هذا النوع من الموسيقى مع الموسيقى الصوفية المستوحاه من عدة مناطق فى العالم. ولم يغفل “آساني” الإشارة إلى التناقض بين هذا الإسلوب الراقي فى نشر الموسيقى الصوفية، وبين التشدد الذى مارسته العديد من الأنظمة التى أدعت أنها إسلامية (كنظام الجنرال ضياء الحق فى باكستان) ضد الموسيقى والغناء والفنون بشكل عام.

وتناولت الدكتورة “كاترينا رودفير” –الأستاذة بجامعة كوبنهاجن- حياه الصوفيين المعاصرين فى البوسنة، وعرضت نماذج لبعض السيدات اللاتي يقمن بترتيل القرآن فى المساجد. ودار جانب كبير من المناقشات فى تلك الجلسة حول نتائج الدور السلفي/ الوهابي فى إعادة إعمار التراث الإسلامي فى البوسنة بعد الحرب على انتشار الصوفية هناك؛ حيث تبين أنه بالرغم من تعاظم ذلك الدور إلا أن جزءًا كبيرًا من المسلمين يميل إلى التعرف على الخبرات الصوفية، لاسيما فى ظل الانتشار الذي تحظى به بعض الطرق فى أوروبا بشكل عام.

وكان آخر المتحدثين فى هذه الورشة الدكتورة “مارتا دياز” –من جامعة سانت جالن بسويسرا- حيث تناولت بالتفصيل انتشار الطريقة البودشيشية (أحد فروع الطريقة القادرية) فى دولة المغرب، وقامت بعرض خلاصة رحلاتها إلى المدن المغربية التى يشتهر سكانها باتباع هذه الطريقة، وعرضت مجموعة من الخرائط التى توضح التوزيع الجغرافي لانتشار تلك الطريقة فى المغرب وفى الدول المجاورة وكذلك فى العالم. وأكدت الدكتورة “مارتا” أن هذه الطريقة أصبحت تجتذب بشكل خاص الذين يعتنقون الإسلام حديثًا، سواء كان يدينون بأى ديانة أخرى فى السابق، أو المتحولون عن الالحاد واللادينية، وهم فى الغالب كانوا يدينون سابقًا بأحد الديانات السماوية ولكن رفضوا تلك الخلفية الدينية فى مرحلة ما ثم وجدوا فى الطريقة البودشيشية سبيلاً للخلاص والعودة للإيمان.

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!