سيفُ الإسلامِ

سيفُ الإسلامِ

رُنيه جينو (عبدالواحد يحيى)

سيف الإسلام[1]

ترجمها عن الفرنسية الدكتور أسامة شفيع

اعتدناـ في الغرب ـ على أن نَعُدَّ تراث الإسلام في جوهر هذا صبغةٍ حربيَّةٍ، ونشأ عن ذلك أنه لا يكاد يجري ذِكْرُ الحسام أو السيف خاصة إلا قَصَرْنا هذه الكلمة على أكثر معانيها حَرفيَّةً، دون أن يخطر ببالنا البتةَ أن لها معاني أخرى. ومع ذلك فلا مرية في وجود جانب قتالي في تراث الإسلام، غير أن ذلك لا يخصه وحده، إذ لا تَعْدَمُ مثله أيضا في الكثرة الكاثرة من تراث الأمم الأخرى، ومنها المسيحية التي يُمدنا تاريخُها في العصر الوسيط ـ حيث بسطت سلطانها فعليا على المؤسسات الاجتماعية ـ بشواهدَ كافيةٍ في هذا الصدد.وليست بنا حاجة إلى أن نذكر أن المسيح نفسه قال:”ما بُعثتُ بالسلام، وإنما بعثت بالسيف”[2]، وهي الكلمة التي يمكن أن تُؤوَّلَ في المجمل تأويلا مجازيًّا.

ومن جهة أخري، فإن الهندوسية نفسها ـ التي لا يمكن أن توصف بنزوعها بحال نحو الحرب لما تُعاب به في العموم من قلة عنايتها بالعمل ـ تتضمن مع ذلك هذا الجانب أيضًا، على نحو ما نراه عند مطالعتنا للبَهَاجَاڤادجيتا(Bhagavad-gîtâ)[3].

ولولا الهوى المضِل لكان يسيرًا أن نَعِيَ أن هذا الأمر ليس منه بُدٌّ؛ لأن الحرب ـ التي تُشن في الميدان الاجتماعي ضد الخارجين عن النظام، وليس لها من غاية إلا أن تَرُدَّهُم إليه ـ عملٌ مشروع لا يعدو أن يكون في جوهره صورةً من صور تطبيق “العدالة” في أعمِّ معانيها.

ومع ذلك، فليس هذا إلا أهونَ جوانب الموضوع؛ لأنه جانبه الممعنُ في الحس. أما في باب الحقائق، فالذي يخلع على الحرب ـ بهذا المعنى ـ قيمتَهَا هو كونُها رمزًا لجهاد المرءِ عدوَّه الذي بين جنبيه؛ أعني كل ما يشوش عليه نظامَ باطنه ووحدتَه.

ففي الحالتين كلتيهما ـ الخارجية الاجتماعية والباطنية الروحانية ـ ينبغي أن تهدف الحرب إلى أن تقيم التوازن والانسجام (ولذلك فهي وثيقة الصلة بالعدالة)، وإلى أن توحد ـ بوجه من الوجوه ـ العناصرَ الكثيرةَ المتعارضة فيما بينها، وهو ما يعني أن غايتها الطبيعية، وهي أيضا السببُ الوحيد لوجودها، إنما هي السلام الذي لا سبيل إلى تحصيله ـ تحقيقًا ـ إلا بالخضوع (الإسلام) للإرادة الإلهية، مع وضع كل واحد من العناصر في موضعه حتى تتآزر جميعًا لتحقق خطة واحدة.ولعله من نافلة القول أن نذكر كيف يتواشج ـ في العربية ـ مصطلحا الإسلام والسلام[4].

ففي تراث الإسلام ترى هذين المعنيين للحرب وما بينهما من واشجة قد صيغتا أدقَّ صياغةٍ في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي قاله عَقِيب عودته من حرب عدوه الظاهر:”رَجَعْنَا مِنَ الجِهَادِ الأَصْغَرِ إِلَى الجِهَادِ الأَكْبَرِ”[5]. فإذا لم تكن الحرب الظاهرة إلا “الجهاد الأصغر”[6]، بينما تمثل الحرب الباطنة “الجهاد الأكبر”، فالحاصل أن الأولى ليس لها إلا أهمية ثانوية بالنظر إلى الثانية، وأنها تمثل فقط صورتها الحسية. وغني عن البيان أن كل سلاح يستعمل في الحرب الظاهرة يمكن أن يتخذ كذلك رمزًا فيما يتعلق بالحرب الباطنة، وهذا شأن السيف خاصة. ولقد كان يسع الجاهلين بهذا المعنى ـ وإن لم يبلغهم الحديثُ النبوي الذي أسلفناه ـ أن يلاحظوا في هذا الصددأن الخطيب في خطبته ـ التي لا تعلقَ لها ظاهرٌ بالحرب في معناها المألوف ـ يحمل سيفًا بيده، وأن هذا السيف لا يكون ـ في مثل هذه الحال ـ إلا محضَ رمز، وعَدِّ عن كونه مصنوعًا في العادة من الخشب، مما يعني بداهةً أنه لا فائدةَ منه تُرجى في الحرب الحسية، وهو ما يؤكد طبيعته الرمزية[7].

وفي الحق أن السيف الخشبي يرجع في الموروث الرمزي إلى ماضٍ سحيق، فقد كان يمثل في الهند أحد الموضوعاتالتي تظهر في شعائر القربان الفيدي sacrificevédique[8] فهذا السيف (إسفِيَا)، وعمود القربان، والمركبة ذات العجلات(أو بالأحرى محور العجلة الذي هو عمادها)، والسهم، كل أولئك قيل إنها وجدت من فاجرا vajra أو صاعقة أندرا d’Indrafoudre: “فعندما ألقت أندراالصاعقة على فريترا Vritra استحالت هذه ـ بعد رميها ـ أربعًا…فالبراهمة Brahmanes يستعملون شكلين من هذه الأربعة في قربانهم، بينما يستعمل الكشاتريّا Kshatriyas الشكلين الآخرين في القتال…وعندما يستل صاحب القربان سيفه الخشبي، فإنه يرمي بالصاعقة العدو[9]…”. وعلاقة هذا السيف بالفاجرا vajra نذكرها خاصة لما يكون لها من شأن فيما سيأتي. ولنضف ـ في هذا الشأن ـ أن السيف يمتزج ـ على العموم ـ بالبرق، أو يُنظر إليه بوصفه مشتقًّا منه، وهو ما تمثله صورة السيف الوهاجl’épée flamboyanteالمعروفةُ للعِيان تمثيلا مستقلا عن سائر المعاني التي تشير ـ في الوقت نفسه ـ إليها؛ إذ لا مرية في أن الرمز الحق يشتمل دائمًا على طائفة من المعاني التي لا تتجافى ولا تتعارض، بل تكون ـ على النقيض ـ متلائمةً متكاملة.

وعودًا إلى سيف الخطيب، نقول: إنه يرمز قبل كل شيء إلى قوة الكلام. وينبغي أن يكون جليًّا أن هذا المعنى خاصة مرتبط في العموم بالسيف، وأن ذلك كان مألوفا في التراث المسيحي، كما تَقِفُنا جليَّةً على ذلك نصوص سفر الرؤيا (النصوص الرؤيوية): “كان في يده اليمنى سبعةُ نجوم، وخرج من فمه سيفٌ عَضْبٌ ذو حدين، وكان وجهه مشرقًا كالشمس في وَضَحِ النهار”. “وأخرج من فمه[10]سيفًا مشحوذاً من جهتيه ليضرب به الأمم[11]…”. فبيقين ندري أن السيف الخارج من الفم لا معنى له إلا الكلام، وهو في هذين النصين خاصة ليس إلا الكلمة نفسها أو مجلىً من مجاليها.أما حدا السيف فيشيران إلى قوتي الكلام: الخالقة والحاطمة (الهادمة). وكل هذا يردنا بدقة إل الفاجرا،فهذه ترمز ـ في الواقع ـ أيضًا إلى قوة إن تكن واحدة في جوهرها فإنها تتجلى في صورتين متناقضتين ظاهرًا، ولكنهما متكاملتان في الحقيقة. وهاتان الصورتان تتجسدان هنا بالرأسين المتقابلين للفاجرا، كما تجسدتا بحدي السيف أو ما أشبهه من الأسلحة[12]. ومن جانب آخر، فإن هذا الرمز منطبق على كل مجموع من القوى الكونية، حتى إن إنزالها على الكلام ليس إلا حالة خاصة، غير أن هذه الحالة نفسها يمكن أن تُتخذ في مجموعها رمزًا لكل ما عداها، وما ذاك إلا لما للمفهوم التراثي للكلمة وما يتضمنه من قيمة[13].

والسيف لا يمتزج رمزيًّا بالصاعقة فقط، بل بشعاع الشمس أيضا، كالسهم سواءً بسواء. وإلى هذا يشير جليًّا ما أسلفناه في النص الأول من النصيين الرؤيويين الآنفين من أن الفم الذي كان يخرج منه السيف كان في “وجه مشرق كالشمس”. ومن هذا الوجه يسعنا أن نَعقد المقارنة بين أبوللون Apollon الذي يقتل الثعبان Python[14] بسهامه، وبين أندرا Indra التي تقتل التنين Vritra بالفاجرا (الصاعقة). وهذه المقاربة لا تدع أَثَارةً من شك في التوازن بين هذين الجانبين في الدلالةالرمزية للأسلحة، وليسا إلا نمطين مختلفين من التعبير عن شيءٍ واحد.

وحريٌّ بالذكر ـ فضلا عن ذلك ـ أنغالبية الأسلحة ذات الطابع الرمزي ـ وخاصة السيفَ والرمحَ ـ تُتَّخذ أيضا رموزًا لمحور العالم “l’Axe du Monde”، فهي إذن من نمط الرموز القطبية “polaire”، وليست من نمط الرموز الشمسية “solaire”. وعلى الرغم من أن أحدًا من هذين النمطين لا ينبغي أن يختلط البتة بالآخر، فإن بينهما آصرةً تأذن بما يمكن أن نسميه “الانتقالاتdestransferts” بينهما، فالقطب نفسه ربما شُبه في بعض الأحيان بـ”شعاع الشمس”[15]. وفي هذه الدلالة القطبية ترتبط الرأسان المتضادتان للفاجرا بثنائية القطبين اللذين يُعدان كطرفي المحور، بينما تشير الثنائية مباشرة في الأسلحة ذات الحدين ـ على نحو ما لحظناها في معنى المحور نفسه ـ إلى التيارين المتعارضين للقوة الكونية اللذين تومئ إليهما أيضًا بعض الرموز كثعباني صولجان هرمس. ولما كان هذان التياران كلاهما يتعقابان في علاقتهما بالقطبين وبنصفي الكرة[16]، فإن بوسعنا أن نرى ـ بناءً على ذلك ـ  أنه على الرغم من اختلاف الصورتين في الظاهر، فإنهما تلتقيان ـ في الحقيقة ـ في دلالتهما الجوهرية.

والرمزية “القطبية” تقودنا إلى فكرة الانسجام المتـَّخذ غايةً للـ”جهاد” بنوعيه: الظاهر والباطن؛ لأن المحور هو الموضع الذي تصطلح فيه المتناقضات وتتلاشى، أو هو ـ بعبارة أخرى ـ موضع التوازن الكامل الذي يُعرف في تراث الشرق الأقصى بـ”الوسط الثابت Invariable Milieu”[17].

 ففي ضوء هذا النظر العميق، لا يُعد السيف وسيلةً فقط، كما يمكن أن يتبادر إلى الذهن لو لم نَعْدُ معناه الظاهر، ولكنه أيضا غايةٌ تُتوخى، فهو يجمع في دلالته بين الأمرين على نحو من الأنحاء.

والحق أن عملنا في هذا المقال لا يعدو أن يكون جمعًا لبعض الملاحظات المتعلقة بهذا الموضوع، عسى أن تتلوها بحوث أكثر تفصيلا. على أننا نعتقدأن هذه الملاحظات في حالتها الراهنةقد بينتْ خيرَ بيان كيف خالف عن الحق من لم ير في السيف حين يذكر في تراث الإسلام أو في غيره من تراث الأمم الأخرى – إلا معناه المادي.

 

الهوامش 

[1]نشرت هذه المقالة في “الإسلام والغرب” سنة ١٩٤٧. قلت: وقد أعيد نشرها مع مقالات أخرى في كتاب:Symboles de la Science sacrée، في الصفحات من 175 إلى 179. (المترجم)

[2]Saint Matthieu, X, 34.

[3]معناه “أنشودة بَهاجاڤا”، وهو النص الأساسي عند الهندوس، والأقدس عند كثيرين منهم، ويمثل جزءًا من الكتاب السادس من المهابهارتا Mahâbhârata، وهو في ثمانية عشر فصلا، تحوي سبعمائة بيت تحكي أزمة الضمير التي عاناها المحارب أرجونا Arjuna في حربه مع بعض خصومه من ذويه، فقد تعين عليه قتالهم، مع أن ذلك ربما أفضى إلى قتلهم. راجع مزيدا من التفاصيل فيThe Oxford Dictionary of world religions، ص139. (المترجم)

 

[4]فصلنا القول في ذلك على نحو أوسع في الفصل الثامن من كتابنا Le Symbolisme de la Croix.

[5]قال العجلوني تعليقًا على هذا الحديث: “قال الحافظ ابن حجر في تسديد القوس: (هو مشهور على الألسنة، وهو من كلام إبراهيم بن عيلة) انتهى. وأقول: الحديث في الإحياء، قال العراقي: رواه البيهقي بسند ضعيف عن جابر، ورواه الخطيب في تاريخه عن جابر بلفظ: (قدم النبي صلى الله عليه وسلم من غزاة، فقال عليه الصلاة والسلام: قدمتم خير مقدم، وقدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، قالوا: وما الجهاد الأكبر؟ قال: مجاهدة العبد هواه)”، كشف الخفاء ومزيل الإلباس 1/424. (المترجم)

[6]غني عن البيان أن الحرب الظاهرة لا تعد جهادًا إلا إذا كانت ذات غايةٍ دينية، وهي فيما سوى ذلك تسمى حربًا، لا جهادًا. 

[7]قال النووي في المجموع (4/357): “يسن أن يعتمد (الخطيب) على قوس، أو سيف، أو عصا، أو نحوها”، وفي سنن أبي داود من حديث الحكم بن حزن: “شهدنا الجمعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام متوكئًا على عصا أو قوس”، قال الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير (2/65): “إسناده حسن، وقد صححه ابن السكن وابن خزيمة”. ولا يُعلم أنه صلى الله عليه وسلم اتخذ سيفا في خطبته، ولا عُلم ـ عند من قال بسنية حمله أثناء الخطبة ـ أن يكون من خشب. (المترجم)

[8]انظر كوأُماراسوامي Coomaraswamy ، “رمزية السيف Le symbolisme de l’épée”في É.T.، عدد يناير 1938؛ وعن هذا المقال نقلنا المقطعين التاليين.

[9]Shatapatha Brâhmana, 1,2, 4.

[10]المقصود “مَن عَلا صهوةَ الجواد الأبيض”،  le Kalki-avatâraمن التراث الهندوسي. 

[11]السابق، XIX,15.

[12]نذكر هنا على الخصوص الرمز الإيجي والكريتي للفأس المزدوجة. وقد بينا سلفًا أن الفأس خصوصًا رمزٌ للصاعقة، فهي إذن عِدْلٌ مطابقٌ للفاجرا.

[13]راجع في القوة المزدوجة للفاجرا وللرموز المماثلة (وخاصة “قوة المفاتيح”) المقاربات الي أوردناها في كتابنا:

 La Grande Triade, ch. VI

[14]لهذا الثعبان المهول مائة رأس، وكانت هيرا قد أرسلته ليبتلع ليتو التي كانت على وشك الولادة، غير أن هذه الأخيرة استطاعت الاختفاء، وولدت أبوللون وأرتميس. طلب أبوللون السلاح من هيفايستوس، ثم رحل لمحاربة الوحش على جبل بارناس (بارناسوس)، غير أن بيثون فرَّ، فتبعه أبوللون حيث قتله داخل معبد دِلف (دِلفي) أمام مغارة الأرض الأم.

Jean Ferré, Dictionnaire des mythes et des symboles, p. 525.(المترجم)

[15]إن كان لا يسعنا هنا بسط القول في هذه المسألة، فلا أقل من أن نذكر ـ تمثيلا ـ التقارب بين النمطين في الرمز الإغريقي لأبولون الشمالي Apollon hyperboréen.

[16]راجع في هذه النقط أيضا كتابناLa Grande Triade, ch. V.

[17]وهذا ما يمثله أيضا السيف المنصوب عموديًّا خَلَفًا لمحور الميزان، فمجموعهما يشكّل الصفات الرمزية للعدل.

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!