Images of Islam – Seeds of Divergence

Images of Islam – Seeds of Divergence

Images of Islam – Seeds of Divergence

Frithjof Schuon

صور الإسلام (بذور الافتراق)

 فريتجوف شوان

ترجمة: محمد فاروق

مقدمة

___________________________________________________________________________________

نشر المقال الأصلي تحت عنوان  “Seeds of a Divergence” في مجلة “Studies of Comparative Religion” عام 1974. وأعاد الكاتب تنقيحه بشكل موسّع،  ونشره بعنوان “Images of Islam”  ، ليصبح فصلاً مضمنًا في  كتابه

Christianity / Islam: Perspectives on Esoteric Ecumenism”. وقد اعتمدنا في الترجمة على هذه النسخة.  

من هو فريتجوف شوان؟

by  Frithjof Schuon

يعتبر فريتجوف شوان (1907-1998 (المولود في سويسرا من أبوين ألمانيين، من أهم المتحدثين باسم المدرسة التراثية وفلسفة الحكمة الخالدة ((Traditionalist School & Perennial Philosophy التي ظهرت في بدايات القرن العشرين، ويعد كذلك فيلسوفاً مهماً في التيار الميتافيزيقي لشانكارا وأفلاطون. التحق شوان بالتصوف الإسلامي على يد الشيخ أحمد العلاوي المستغانمي في الجزائر، واتخذ اسم “عيسى نور الدين”‘. تنوع الإنتاج الفكري لشوان، فقد كتب أكثر من عشرين كتاباً حول موضوعات ميتافيزيقية وروحية وفنية، وكان مساهماً منتظماً في المجلات الدورية لدراسات مقارنة الأديان في كل من أوروبا وأمريكا. إلى جانب كتاباته النثرية، كما كان شاعراً غزيرَ الإنتاج ورساماً موهوباً مهتماً بتصوير الجمال والقوة الإلهية، ونبل الفضيلة الإنسانية البدائية.

من مؤلفاته:

Understanding Islam (فهم الإسلام ) ,World Wisdom Books, Bloomington, Indiana, 1994

Esoterism as Principle and as Way (المسلك الباطني مبدأً وطريقة), trans. William Stoddart, Perennial Books, London, 1981 

 Spiritual Perspectives and Human Facts رؤى روحية وحقائق إنسانية) ), trans. P. N. Townsend, Perennial Books, London, 1987

 Gnosis: Divine Wisdom (العرفان: الحكمة الإلهية), trans. G. E. h. Palmer, Perennial Books, London, 1990

Logic and Transcendence  (المنطق والتعالي), trans. P. N. Townsend, Perennial Books, London, 1975

 

______________________________________________________________________________________

ظهر الإسلام و انتشر في الأرض بشكل يمكن وصفه بالملحمي: تاريخ بطولي تُكتب سطوره بالسيف. وفي السياق الديني يقوم ذلك السيف بدور مقدس، إذ يصبح فيه القتال بلاءً واختبارًا. إن طبيعة أي دين، أياً كان، تهدف في النهاية الى خلق نموذج أخلاقي وروحي جديد نسبياً. وفي الإسلام يتأسس ذلك النموذج على توازن – وهو توازن قد يبدو متناقضاً من المنظور المسيحي- بين النزعة التأملية والنزعة القتالية من جهة، والفقر (بالمعنى الصوفي الروحي)  والنزعة الوجدانية للجنس من جهة الأخرى. فحياة العربي – بالإضافة الى من تم تعريبهم بسبب انتشار الإسلام- كانت تقوم على أربع ركائز: الصحراء، والسيف، والمرأة والدين. وقد تم استبطان تلك الركائز الأربع داخل نفس العابد المتأمل بحيث أصبحت الصحراء و السيف و المرأة والدين أحوالاً و أدواتٍ للروح.

بشكل عام  وعلى مستوى ظاهري بداهةً، يعبرالسيف عن الموت- سواء الموت الذي يذوقه المرء أو الموت الذي يواجه احتمال حدوثه-  فرائحة الموت حاضرة دوماً. وتمثل المرأة مقابلة مشابهة، فهي الحب الذي يمنحه المرء وهي الحب الذي يستقبله أيضاً. ومن ثمَّ فهي تجسد فضائل الأريحية والعطاء وتقوم بتعويض رائحة الموت تلك عن طريق بث عبير الحياة. أما على المستوى الأكثر عمقاً فيرمز السيف الى حقيقة أنه لا يمكن تحصيل مقام النبل إلا عن طريق الاستعداد الكلي للتخلي عن الحياة. لذلك نجد أن صيغة عهد دخول الطريق الصوفي- وتحديداً بالنظر إلى علاقته التاريخية ببيعة الرضوان- كانت تتضمن وعداً بالقتال حتى الموت: جسدياً كما هو الحال لدى المحاربين (الشهداء)، وروحياً كما هو لدى الدراويش (الفقراء). ويشكل ذلك التعايش بين الحب و الموت  داخل إطار الفقر والتوجه نحو المطلق أساساً للنبل عند العربي. في واقع الأمر يمكننا أن نقول بلا أي تردد أن جوهر الروح المسلمة لتلك المرحلة البطولية يكمن في هذا التعايش؛ وهو جوهر يعمل التصوف دوماً على تخليده والتسامي به.

عندما نقول أن الإسلام قد ولد في شكل ملحمة فإن ذلك يعني أنه تضمن بعدًا سياسيًا بدرجة أساسية، وهو بعد كان غائبًا في المسيحية المبكرة. وحتى عندما أصبحت المسيحية ديانة الدولة فإنها تضمنت ذلك البعد فقط من حيث هو أمر دنيوي لاحق . السياسة بطبيعتها تؤدي إلى الفرقة بسبب تعدد الحلول المحتملة والمؤهلات الشخصية لأطرافها. اختلف صحابة النبي سياسياً بحكم الظروف، في وقت كان انتصار الإسلام ذاته واستمراريته على المحك بالدرجة الأولى. كانوا يعيشون معاً ولكن برؤى خاصة ومنظورات دينية مختلفة لدى كل منهم من غير أن يفهم أحدهم الآخر، وكان كل منهم يرى نفسه وحدة قائمة بذاتها لها معيارها في تحديد ما هو صواب وفعال. ويثبت الاستقرار الذي تمتعت به المؤسسات الإسلامية عبر تقلبات العصور أن الطموح الأرضي الشخصي لم يكن في ذهن الصحابة، وأن همهم الرئيسي، حتى في خضم الصراع، كان الثبات وتجنب الانحراف عن جادة الصواب. باختصار يمكن القول أن كلاً منهم كان متمحورًا حول وجهة نظره بنوع من “العناد المقدس” إذا جاز التعبير، بحيث كانت تلك الصلابة في مواقفهم نتيجة لإخلاصهم في مسعاهم.]1[

بخلاف الحواريين، لم يعش الصحابة في ظل حماية الإمبراطورية الرومانية، فقد كانوا بناة إمبراطورية ومدافعين عنها بغض النظر عن الجانب الديني. كان موقف الإسلام حديثُ الولادة شديدَ التعقيد بسبب المنافسة الحتمية بين القرشيين سادة الإسلام وبين الأعراب الذين أصبحوا أبطالًا وغزاة من جهة، القرشيين أنفسهم أي بين الأمويين والهاشميين من جهة أخرى. الفريق الأول، وهو الذي يمثل قبيلة النبي، يعبر عن وجهة نظر دينية بالدرجة الأولى، في حين يمثل الفريق الثاني، وهو قبيلة عدو النبي القديم أبي سفيان، توجهاً سياسياً دنيوياً. بالإضافة إلى ذلك، فإن العنصر الرئيسي الآخر الذي عارضه الأعراب المنتصرون وحديثو العهد بالثروة لم يكن قريشاً فحسب، بل الأنصار أهل المدينة كذلك. وقد شكل هذان العنصران تلك النخبة الروحية التي عرفت بالصحابة. ولكن، بالإضافة إلى ذلك وعلى نحو متصل بهذا التنافس العام، كان هناك خلاف بين مؤيدي علي وجميع المطالبين بالخلافة الآخرين. كان ذلك الخلاف في منطق الأشياء -ودعونا نتذكر الولادة الدموية للمسيحية اللاتينية في وقت كلوفيس وشارلمان- وليس هناك من مسوغ لاعتبار أن مثل هذه الاختلافات كانت قائمة على أساس المصلحة الشخصية عندما وقعت في سياق كان السيف وحده صاحب القرار. التاريخ نفسه يثبت العكس، ويظهر  أنه بالتوازي مع لعبة السياسة، كان هناك تجلٍ لقيم أخلاقية عليا، ناهيك عن ثبات الدين نفسه واستمراريته، من حيث هو محل تجلٍ للمقدس.

من الأمور التي ينبغي أخذها في الاعتبار هو أن النفس العربية بطبيعتها تجمع بين العنف والميل للاندفاع، وأكثر الحالات صفاءً وسكوناً. [2] وبالإضافة الى امتلاك تلك الصفات التي أضفت عليها طابعاً مميزاً تحديداً بسبب ما تتميز به من اندفاع، فقد أورثت الروح العربية  تلك الصفات للآخرين بدرجات متفاوتة وخصوصاً الأعراب وأنصاف الأعراب عبر انتشار الإسلام. تتعدد الأحداث التاريخية التي تتجلى فيها روح الشهامة العربية وسنذكر هنا مثالين: الأول عندما رفض الخليفة عمر أن يصلي في الكنيسة بعد فتح بيت المقدس، حتى لا يكون ذلك ذريعة لمطالبة المسلمين بها بعد ذلك. والمثال الثاني عندما أنهى جيش المسلمين حصاره لمدينة طليطلة عندما ظهرت الملكة على أسوار المدينة لتخبر المقاتلين المسلمين أن زوجها الملك غائب عن المدينة.]3[ باختصار، تضفي تلك الأريحية الخاصة طابع النبل بالضرورة على القوة؛ ويعني ذلك أن القوة يجب أن تتحلى بالأريحية كلما كان ذلك ممكنًا. [4]

*******************

يوجد في كل دين ثلاثة مجالات أو مستويات: الرسولي، واللاهوتي، والسياسي. المستوى الأول يتصف بقدر معين من الإطلاق، في حين يتصف المستويان الآخران بنوع من النسبية بدرجات متباينة جداً. في المسيحية يرتبط العنصر اللاهوتي بنظيره الرسولي بشكل مباشر، في حين بدأت المرحلة السياسية فقط مع قسطنطين. ولكن في الإسلام  تزامن العنصر السياسي مع نظيره الرسولي، وظهر العنصر اللاهوتي (العقائدي) وتطور بدقة في مرحلة لاحقة. كانت الدائرة القريبة من النبي، أحد جوانب المستوى الرسولي، تشهد خلافاً  كلما كان العنصر السياسي حاضراً في المشهد، وظهر ذلك الخلاف في شكل تقديم حلول مختلفة للمشاكل العملية التي كانت تعرض لتلك الدائرة حينذاك. ولكن لم يحتوِ هذا الخلاف على أي عناصر من النفاق أو الدناءة. كان اختلافاً في زاوية رؤية الأمور وليس صراعاً بائساً تافهاً في سبيل مصلحة شخصية. المجال الرسولي يجب أن يكون نقياً، وإلا فإنه حينئذٍ يفقد قيمته. [5] ومن هذا المنطلق يُعَرِف التوجه السني تلك المرحلة من الإسلام . ولكن السردية السنة التقليدية للأحداث تنطوي أيضاً على مراعاة الطبيعة شبه النبوية لنسل فاطمة، ويتجلى ذلك من خلال فكرة أهل البيت أو الأشراف: [6] فأهل البيت لا يجوز أن يُلعنوا، وأي ذنوب قد يرتكبونها تغفر لهم مقدماً، ويستحقون كل احترام ومحبة لأنهم بسهولة يمكن أن يصبحوا عرفاء وأولياء لله؛  حتى لو كانوا كذلك في معظم الحالات فحسب وعلى نحو افتراضي. كل هذا لا يعني أن شخصاً ذا قدرات نفسية لا يستطيع أن يصبح ولياً، أو أنه لا يوجد عرفاء وأولياء خارج نسل أهل البيت، هذا أمر لا يحتاج الى توضيح. [7]

من وجهة نظر معينة تمثل المعارك التي دارت بين الأمويين ومؤيدي علي صراعاً بين الفعالية السياسية من جانب وبين الورع والقداسة من جانب آخر، وهما أمران نجح عدد قليل من الرجال في الجمع بينهما. نجح أبو بكر وعمر في ذلك بصرف النظر عن أخطاء معينة لا تعنينا في هذا السياق. أما فيما يتعلق بخلافة عثمان – وبقدر أكبر بالنسبة لعلي- فمن المهم ألا نقلل من مدى الصعوبة الرهيبة لجمع الكلمة بين رجال على ذلك القدرمن العاطفة والطموح وعدم الاستقرار كالذي كان عليه العرب الأوائل. فقد كانوا دائما منقسمين فيما بينهم ومن ثم فإنهم لم يعتادوا على الوحدة والانضباط.

كان الخلفاء الأوائل يدركون تماماً مدى خطورة أن يتبنى البدو المتقشفون الذين أصبحوا غزاة، العادات الفاسدة للساسانيين والبيزنطيين. وهذا ما وقع فيه الخلفاء اللاحقون بمنتهى السهولة إلى حد تنصلوا فيه من شيم الكرامة والفضائل الأخرى المرتبطة بالأصل العربي. وهذا هو ما رغب الشيعة في منعه بطلب الخلافة لأبناء علي دون غيرهم. كان موسى قد كسر ألواح الناموس الإلهي عند رؤية العجل الذهبي، وبعد ذلك، كما يقال، تلقى موسى نواميس أقل صرامة. هذه الصورة تعبر عن مبدأ التذبذب أو التكيف الذي يمكن ملاحظة آثاره في المناخات التقليدية والتراثية المتنوعة، وبخاصة في البدايات السياسية للإسلام كذلك، حيث تشكل واستقر النظام السياسي في نهاية المطاف على نحو غير متوافق مع النموذج المثالي الأصلي. استسلم السنة لذلك القدر المحتوم في حين أغرق الشيعة أنفسهم في الذكرى المريرة لفقد ذلك النقاء الأصلي ومزجوها على مستوى الحياة الروحية بدراما كربلاء، ومزجوها أيضاً بالحزن النبيل الذي يؤججه الوعي بالحياة على الأرض على أنها منفى. وهو منفى يمكن شهوده بالنظر الى حالة الظلم والقهر والإحباط الناتجة عن البعد عن عصر الفضيلة الأولى والحق الإلهي وكل ما يمثلهما.

*******************

وبأخذ ما سبق بعين الاعتبار، فإن التفسير الأساسي للتشيع وأسباب وجوده لا يمكن أن يختزل في الجانب السياسي وحده. واقع الأمر أنه يوجد في الإسلام، وقبل كل شيء في شخص النبي نفسه، نزعتان أو “طلسمان”- و تشير تلك الكلمة الأخيرة الى أمر متأصل في النظام الإلهي لخلق الكون- وهما تحديدا “الخوف” و “الحب”، أو “البرودة “و”الحرارة “، أو” اليبوسة “و” الرطوبة “، أو” الماء “و” النبيذ “. هناك أسباب تدعو للقول بأن علياً وفاطمة والحسن والحسين يمثلون الطرف الثاني من تلك الثنائيات، في حين أن عائشة، وأبا بكر وعمر، وعثمان يجسدون الطرف الأول، على الأقل من وجهة نظر تعنى بالميول الظاهرة لتلك الشخصيات. اصطدم علي وآل بيته – وهم على ما هم عليه من نقص في الفعالية السياسية-  بعالم من “الخوف”و “اليبوسة”. ومما يلفت النظر هو أن فاطمة قد خرجت ضد هذا العالم ليس فقط في شخص الخليفة الأول ولكن حتى فيما يتعلق بوالدها النبي، الذي جمع كما قلنا بين كلا النزعتين. وغني عن البيان أن عنصر الحب لم يكن ناقصاً لدى أبي بكر والآخرين، ويثبت ذلك المحبة الجمة التي كان يكنها كل الصحابة للنبي .[8]  وبالمثل،  فإنه من غير الوارد أن يكون عنصر الخوف معدوماً في علي و من والاه، لأن المسألة  في حالتهم أيضاً هي مسألة تركيز على نزعة أكثر من الأخرى وليس وجود نزعة دون الأخرى. [9] باختصار، عبر الشيعة بوضوح وصراحة عن ما هو مفهوم ضمنياً عند السنة. من السهل على المرء أن يسترسل في تضخيم حجم ذلك الاشتباك الشائك في المواقف الدينية، ولكننا فضلنا عدم القيام بذلك، ولا سيما وأن إعطاء الموضوع حقه في كلمات قليلة تحيط بجميع وجهات النظر لهو أمر في منتهى الصعوبة. ولكن على الرغم من ذلك هناك ملاحظة مهمة ينبغي توضيحها: عند الاحتكاك بالعالم السني حيث يتميز الجو العام بحالة من التسليم لله والسكينة النابعة من الإيمان، لا يأخذ المرء انطباعاً تلقائياً بحضور مفهوم الحب، في حين يشعر المرء بهذا الحضور في البيئة  الشيعية، بغض النظر عن الأسباب. صحيح أن التسليم لله والسكون يميزان الإسلام بشكل عام؛ ولكنه صحيح أيضاً أن العنصر العاطفي قد تمت إضافته في التشيع إلى درجة تكاد تطغى على سمات التسليم والسكينة تلك. وهذا العنصر له ما يقابله بشكل مقارب في الجانب السني عند الجماعات الصوفية فقط.

في ضوء ذلك هناك نقطة مهمة يجب توضيحها: عندما نتحدث عن عنصر الحب لدى النبي فإن ذلك يعني بلا شك حب الله وليس شيئاً آخر. في حين أنه عندما نتحدث عن الحب لدى الصحابة فإن موضوع ذلك الحب (أي المحبوب) يصبح أقل تحديدًا، حيث يمكن أن يكون الله أو النبي أو كليهما، أو يمكن أيضاً أن يكون علياً وعائلته. ولكن عند الحديث عن عنصر “الخوف” فإنه دائماً “خوف” من الله فحسب. وما ينبغي فهمه قبل كل شيء أن حب الله في الإسلام هو ليس نقطة البداية؛ إنه المنة الإلهية التي قد يسبغها الله على من يخشاه من عباده. نقطة البداية إذن هي الطاعة والالتزام بالشرع والخوف من العقاب. وما يهم حقاً هو ليس أن تحب الله ولكن أن يحبك الله، وهذا ما يظهر في قول مأثور عن النبي.[10] ونرى في هذا القول أيضاً ما معناه : إذا أردت أن يحبك الله يجب أن تحب رسوله وتتبع سنته. حب الله إذن يتحقق عبر حب النبي، وعند الشيعة حب النبي يتحقق، بطبيعة الحال، عبر حب علي وأبنائه، وهذا ما يضيف إلى تلك الحالة الروحانية -وذلك لأسباب مفهومة تاريخيًا- عنصرًا من السخط والحزن على نحوٍ يمكن أن تتوافق فيه تلك الدوافع مع السير إلى الله.  

ويمكن فهم الطابع الروحي للإسلام على نحو عام من خلال هذا الحوار: سأل رجل رابعة العدوية “هل سيشملني الله برحمته إذا ما توجهت إليه بالتوبة؟” قالت رابعة “لا، بل ستتوجه أنت إليه إذا ما توجه هو إليك”. بلا شك سيتم الاعتراض على هذا النسق من التفكير باعتباره يفضي إلى السلبية والتواكل. لذلك يجب أن نوضح أن المقصود هنا هو استثارة الوعي داخل الإنسان بفقره وعجزه تجاه الله حتى لا ينسب لنفسه الأعمال الصالحة، ومن ثمَّ يدرك أن العلة الفاعلة وراء تلك الأعمال في الحقيقة هي العلة الإلهية. وفي المنظور الإسلامي, عدم وجود اليقين الراسخ بذلك يجعل ثمرة أعمال الإنسان نفسها على المحك. ولا شك أن تلك مسألة تعتمد على وجهة نظر المرء، ولكنه لوجهات النظر فعاليتها الخاصة بها.

*******************

لكن دعونا الآن نعود إلى مسألة الخلافات المذهبية. بالنسبة للشيعة، ومن خلال منظور مبسط وتجريدي، أصبح أنصار البعد “اليابس”- أي ذلك البعد الذي يمثل الفعالية العملية الأرضية- تشخيصاً لعالم” الدنيا”. وأصبح علي وآله تمثيلاً لعالم “الروح”. لا شك أن ذلك لا يشكل فارقاً يذكر من الناحية الروحانية البحتة، ولكن على مستوى أكثر ظاهرية فإن ذلك يجعل من الجدل القائم ضد الشخصيات الرئيسية في الإسلام السني أمراً مفهوماً بدرجة أكبر خصوصاً أن العقيدة السنية تولي تقديرًا كبيرًا ليس لعلي وفاطمة فحسب، بل للأئمة العظام الذين يعظمهم الشيعة خاصة.[11] إنه لمفارقة مأساوية أن يحتوي مذهب -يفترض أنه يسعى للتركيز على الجانب الروحي الباطني- على  عنصر ظاهري إشكالي يجنح إلى الإقصاء بدرجة كبيرة. التشيع على المستوى العام يمثل روحانية الهزيمة القدرية والمرحلية (التي ستتحول إلى نصر في النهاية) للكلمة الإلهية ( Logos ) في منفاها على الأرض. وبهذه الطريقة فإنه يتمشى مع التعبير الباطني للقديس يوحنا: “وظهر الضياء في الظلمة ولكنها لم تستوعبه”. وهكذا فإن فكرة النصر الفوري تبدو بعيدة في هذا المنظور، وهو نصر يتطلبه الأصل الإلهي للرسالة. وهكذا فقد قلبت المعايير: فقد أصبح كون الشيعة أقلية يمثل لديهم علامة على صحة موقفهم وتفوقهم (تمشياً مع قول القديس يوحنا)، أما بالنسبة للسنة الذين يمثلون في المقابل فكرة الرسالة الإلهية، التي يجب أن تنتصر أو التي قد انتصرت فعلاً (ولذلك يجب أن تتبنى الأغلبية ذلك التوجه)، فحالة الأقلية علامة على الابتداع. تنطبق تلك المعيارية بلا شك في المجال الروحي الباطني  لكلا الاتجاهين السني والشيعي، فالتصوف السني يعتبر أقلية واضحة وسط الفضاء الديني العام. وينسب التشيع لنفسه السمة الروحية  الباطنية ذاتها التي يمثلها التصوف. ولكن الذي يبدو أن التشيع يحاول أن يقول: “الإسلام هو الجانب الباطني”، ويبدو أن الإسلام السني  يرد قائلاً: “دعونا نضمن انتشاره واستقراره أولًا”. أو نستطيع أن نقول  أن الإسلام السني يرد على دعوى الشيعة القائلة بأن الروحانية الباطنية تكمن في التشيع، بالقول بأن الروحانية وحدها لا يمكن أن تكون دينًا قائمًا بذاته، وأن الباطن (الحقيقة)  يوجد حيثما كان الظاهر (الشريعة) قائماً. وكون التشيع بما هو عليه يقر بالتمييز بين الظاهر والباطن لا يغير حقيقة دعواه الباطنية الأساسية المتمثلة في “نظرية الإمامة”.[12]

نعود الآن إلى رمزية مقولة القديس يوحنا المشار إليها سابقاً. إذا كانت الهزيمة السياسية لعلي وأبنائه تثبت أن زوج ابنة النبي لم يستطع وحده أن يكون تجسيدًا لكل جوانب السلطة الروحية والزمانية للإسلام، فإن وجود التشيع في حد ذاته يثبت وجود جانب انتصار يتمثل في علي نفسه و في نسله بالتبعية. ولا ينكر السنة ذلك المقام، فهم يصلون على النبي وعلى آله وصحبه، ويقدرون الأشراف أيضاً.[13]

تجدر بنا الإشارة إلى أن عناصر “النور” و”الشهادة” (الاستشهاد) المتعلقة بعلي ونسله  تساعدنا على فهم مسألة “فدك” على نحو خاص.  بعد موت النبي رفض الخليفة أبو بكر أن يعطي فاطمة حق وراثة واحة فدك التي كان يملكها النبي، وقد كانت ترغب فاطمة في الاحتفاظ بها.[14] من الواضح أنه لم يكن هناك نية سيئة من جانب أبو بكر ومن باب أحرى من جانب فاطمة. فقد كان مستعدًا للموافقة على الوراثة إذا كان هناك حديث شريف ينص على ذلك، لكنه كان مقدَّرًا له أن يقوم بدور سلبي على المستوى الظاهري. فبالنظر إلى كون فاطمة تمثل جانبًا من نور العالم الآخر، فقد كان لازمًا أن يقوم أبو بكر بذلك الدور العرضي على المستوى المادي الدنيوي بحكم دوره الظاهري كحارس للمبادئ الشرعية أو، بمعنى أدق، الناحية الشرعية المجردة. مسألة فدك هي مثال لمعضلة الصراع بين الالتزام بالتوجه العام المتمسك بالأصول، وحالة خاصة تقع خارج نطاق ذلك التوجه.

هذا التشابك بين الشخصيات و الأقدار فيما نعرض له هنا يشمل بالتأكيد حالة فاطمة. فكثيرًا ما رُوي في الأثر ما يؤكد أنها تمثل حالة خاصة من النقاء و الطهارة.[15] تم تهميش فاطمة وحرمانها من حقوقها ومعاملتها بقسوة أحيانًا حتى، فيما يبدو، من قبل والدها النبي. تعتبر تلك الحالة تمثيلًا لدراما الروح العلوية المقدر لها أن تكون شهيدة الحياة الدنيوية. ما تعرضت له من إذلال هو عبارة عن ظل ألقت به مكانتها الروحية، بحيث كانت الشخصيات التي ظهرت في حياتها أدوات لرحلتها الروحية المؤلمة. هناك أمر مماثل في حالة مريم العذراء التي تم التعامل معها بشيئ من البرود والتجاهل في العهد الجديد لكي تظهر من جديد بعد ذلك في بهاء عظيم. يمكن أن نرصد حالة مشابهة أيضًا في أساطير عالم مختلف تمامًا كما في حالة “سيتا” زوجة “راما”، التي لم تكن سعيدة على الأرض وتحولت فيما بعد إلى كيان إلهي في السماء، أو في حالة “مايا” أم “بوذا”، التي تم نسيانها تقريبًا ثم تم تمجيدها في شكل “تارا أم جميع المستنيرين”. الهدف من ذكر تلك الأمور هو بيان أن أقدار الأولياء الكبار تتجلى فيها رمزيات من المستحيل تحليلها من وجهة نظر المسؤولية الشخصية فقط. فبالنسبة لفاطمة، اصطدم تعلقها بوالدها بعد وفاته بعدم مرونة الخليفة الأول الذي رفض مطالبها الأساسية لأنه أخذ في الاعتبار فقط مبادئ الإسلام الصلبة التي كان يمكن في واقع الأمر أن تسمح بنطاق أرحب في التفسير في تلك الحالة الخاصة. ولكنه كان مقدرًا لفاطمة أن لا تتم مواساتها من قبل  عالم الدنيا. ويساعد ذلك المثال على فهم الخلاف بين الصحابة، الذي لم يكن خلافًا بين أهواء ولكن بين نوايا طيبة مستوحاة من عقلية شمولية تميل الى خيارات لا مفاوضة فيها.      

وبأخذ ما سبق بعين الاعتبار فإن مأساة الخلاف بين الصحابة هي مأساة الخصوصية الذاتية. لم تكن لتوجد المشكلة إذا كان هناك فقط طرفان أحدهما يمثل الخير والآخر يمثل الشر، لكن المفارقة الكبرى هي وجود أطراف خَيِرة مختلفة فيما بينها، إلى حدِّ عدم إمكانها فهم بعضها بعضاً. وهو ليس اختلافاً في الطبيعة بقدر ما هو اختلاف في الموقف والخيار والدور. تعبر القصائد الملحمية مثل الإلياذة وأغاني النيبلنجز بنوع من المهابة المأساوية عن ذلك التشابك بين المواقف والأمزجة والمسؤوليات والواجبات والأقدار: قتال في العالم الظاهري المتجسد، ولكنه اتحاد داخلي في بحث دائم عن النور الذي يحرر النفوس. 

 

كانت الشجاعة النفسية للنبي هائلة. وكانت الشجاعة الجسدية لعلي كبطل منقطعة النظير في ميدان المعركة في القدر نفسه. كان محمد يحب الحديث في الأمور العامة للدين وإعطاء النصائح العملية، وكان علي من المهتمين بما وراء الطبيعة حتى أنه كان يتطرق إلى أكثر المواضيع تجريدًا أثناء فترات الراحة في المعارك. يختلف الناس فيما بينهم، وكان يمكن أن يلعب قانون الميول أو قانون التكامل دورًا في صالح علي؛ وهذا يمكن أن يعطي انطباعًا (وهو ليس انطباعًا خاطئًا بشكل كامل) أن بعض الناس كانوا متعلقين بعلي أكثر من تعلقهم بالنبي. ولكن حتى لو لم يكن الأمر كذلك فإن المرء يجب أن يقر بأن أسلاف الشيعة إن لم يكونوا من الصحابة الذين كانوا يحبون النبي حبًا جمًا، فإنهم كانوا ممن وضع حب آله في المقدمة على حساب  – بحسب رأي السنة فيهم- المبادئ غير المتعلقة بأشخاص للرسالة الإلهية والرؤية الأكثر موضوعية للأشياء. ربما نستطيع أن نقول أن أسلاف الشيعة كانوا هؤلاء الصحابة الذين كانوا لا يطيقون الحياة بدون حضورالعائلة المحمدية ولم يكن لهم خيار آخر غير التعلق بمن تبقى من نسلها، بينما كان السنة هم هؤلاء الذين لم يستطيعوا تقبل أي بديل لذلك الحضور، ولذلك لم يكن لهم بديل آخر غير الحياة على ذكراها من خلال السُنة  الخاصة بها.

لا بد للمرء أن يفترض أنه كان هناك جانب مبهر في شخصية علي. شيء فرض نفسه في شكل جماعة خاصة لها شبه خصوصية ضمن جماعة محمد. فعلي يظهر كبطل سماوي وكأسد لله. يحبه المرء كما أحب الجوبيز كريشنا في الأساطير الهندية.[17] أضفى عليه موته المأساوي هالة الشهادة التي تطالب بقصاص كوني يشوبه غموض الأسرار الروحية. على الرغم من ذلك- وتلك مسألة أخرى- فلم يكن ذلك البطل رجل دولة أو رجل تخطيط استراتيجي. كان يستخدم سيفه بشكل منقطع النظير ولكنه لم يمارس الدبلوماسية. كان يزدري الدبلوماسية بدافع من النقاء والاستقامة كما يؤكد مواليه الذين ينسون أن النبي كان رجل دولة باقتدار، وكان قادرًا – بغير أن ينتقص ذلك من نقائه واستقامته- على الخداع عند التعامل مع العدو، وعلى تقديم تنازلات كانت تبدو مفاجئة في الوهلة الأولى ولكن يظهر فيما بعد أنها على درجة عالية من  الفعالية والحسم. كان علي يفتقر إلى النظرة المستقبلية بسبب روح النزاهة ولم يكن حاسماً بالقدر الكافي لأنه كان بعيدًا عن الأمور الدنيوية، ويفسر ذلك عدم الإجماع عليه وقت اختياره كخليفة.[18] في المقابل لم يكن عنصر البطولة الجسدية هو العنصر الطاغي في شخصية محمد، بل كان عنصرقيادة الرجال ووضع الاستراتيجية. كان رجل دولة بعيد النظرلا يمكن هزيمته. لم يكن يكن مجرد مقاتل ينتصر في المعارك بسيفه ، بل كان رجلاً أعطى للوجود إمبراطورية عالمية بسبب عبقريته على المستوى الإنساني. كان أبو بكر وعمر وآخرون أقرب إلى ذلك النوع من القوة أكثر من تأثرهم بوهج البطولة الخاص بعلي. وبالتأكيد لم يكن للخلفاء الثلاثة الأوائل أي نزعة عدائية تجاه زوج ابنة النبي.

يمكن بشكل مبدأي أن تُفسِر تلك النزعة شبه الإقصائية في التشيع لما أسميناه سابقاً بعنصر “اليبوسة” – وإن كانت لا تسوغ- تحريف الشيعة لصورة أول ثلاثة خلفاء بالإضافة إلى زوجة النبي المفضلة. هذا هو الثمن الذي دُفِع في سبيل بلورة التشيع كمذهب في الظاهر.  في واقع الأمر تجنح كل الاتجاهات الروحية الباطنية إلى الاستغراق في جانب واحد من جوانب الحقيقة وتفسر كل شيئ في ضوء حصرية ذلك الجانب. [19] دعونا نتذكر في ذلك السياق تلك الإدانة العامة من قبل الديانات التوحيدية الثلاث لكل أشكال “الوثنية”، أو بشكل محدد استهانة المسيحية بالتوراة والجانب الباطني للديانة اليهودية، أو اختصار الإسلام لدور المسيح كمجرد مبشر. بالنسبة للروحانية الشيعية، السؤال المعني بماهية أبي بكر أو عائشة، على وجه الحقيقة، ليس مطروحاً أصلاً: ما يعول عليه هو المبادئ الأساسية فقط- سواء كانت إيجابية أو سلبية وأياً كانت أشكال تجليها. في ضوء ذلك فإن مدى انتشار الخطاب الأكثر عدائية والأكثر حماسية والأقل إقناعاً تجاه السنة كان متبايناً نوعاً ما. يوجد هذا الخطاب أكثر ما يوجد في المؤلفات اللاهوتية التي ظهرت في المرحلة الصفوية، وهي مؤلفات لا تمتلك أي مرجعية مطلقة. ولكن، لأن مجال الاجتهاد الشخصي عند الشيعة أوسع منه عند السنة فإن ذلك يفتح الباب لخلافات أكثر صراحة، وهو ما يسمح بالتعبير عن آراء بلا مرجعية إلزامية.

بالنظر إلى أصول التشيع فإن الاهتمام الذي أوليناه لتلك العوامل السابقة لا ينبغي أن يجعلنا نغفل عن دور الوضع السياسي الطارئ الذي عقب مقتل عثمان -ومقتل علي قبل كل شيء- عندما حاولت مدينة الكوفة أن تستمر كعاصمة للامبراطورية الإسلامية، ولم تكن تتصور أن تزول لصالح دمشق عاصمة معاوية. صحيح أن الأفكار تخلق حقوقاً مكتسبة ومصالح مرتبطة بها، ولكن أيضاً لا يمكن إنكار أن الحقوق المكتسبة والمصالح يمكن بدورها أن تخلق أفكاراً أو أيديولوجيات لأن تلك المصالح تدفع إلى التركيز على أمور بعينها وعلى ما يدعم تلك الأمور من اعتقادات وتصورات لا تخلو من تحيز وإقصاء. أحياناً يصعب فك الترابط بين عاملي المصلحة والفكرة وخصوصاً في مناخ مشبع بعاطفة روحية وسياسية في آنٍ واحدٍ. من وجهة نظر مختلفة تماماً يمكن أن نقول أن التشيع الذي كان في الأساس حركة عربية صرفة،  قد تعرض لاحقاً إلى التأثر بمفاهيم ذات أصول بابلية ومزدكية؛ وتحديداً الأفكار الميتافيزيقية المتعلقة  بالنور وفكرة رجل الدين الباطني الذي يمتلك قدرات غير عادية.[20]

هناك من تمنوا أن يروا الجانب الباطني للإسلام متمثلاً في التشيع، ومن الخطأ أن نستنتج من ذلك أن التشيع مذهب باطني محض، وأن الإسلام السني يمكن اختزاله كمذهب ظاهري مقابل.  ولكن العبارة تحمل شيئا من الحقيقة  بالقدر الذي يمكن به أن يُفسر التشيع بميله إلى “الباطن” والذي يمكن التعبير عنه بسهولة في شكل عقيدة ظاهرية شبه باطنية و ذات طابع عاطفي[21]، بينما يحتوي الإسلام السني على البعدين الظاهري والباطني كبعدين منفصلين في الأساس وفي حالة توازن.[22] على سبيل التقريب يمكن القول أن التشيع هو “مسيحية الإسلام”[23]، بمعنى أن موضوعه الأساسي هو “الألوهية الإنسانية” لمن يمثله من قديسين[24]، ثم استشهاد ذلك النور الذي لم يستوعب في الأرض، وأخيراً الوجود المقدس لذلك النور في شكل الإمامة.[25]   

الإمامة هي جوهر التشيع: فبدلاً من أن تتجلى الكلمة المقدسة ( Logos) في النبي وحده، تتجلى أيضًا في الاثني عشر إمامًا عن طريق انعكاس نورها فيهم بداية من علي. إن البصيرة المحضة الكامنة في قلب كل إنسان، ولكنها متحققة لدى الحكماء والأولياء فحسب بأشكال ودرجات مختلفة[26]، هي في حد ذاتها معصومة، وهي شعاع من الكلمة الإلهية. وبما أن الكلمة لم تأخذ صورتها الإنسانية في النبي فحسب ولكن في الأئمة كذلك، فإنهم يصبحون فعلياً مصدراً للبصيرة البشرية حسب التصور الشيعي. لا يمكن تحصيل الحكمة أو القدسية بدون بركة الإمام حتى لو كان غائباً. معرفة الله تحدث عن طريق معرفة الإمام لأن كل المعرفة الروحية تحصل عبرالبصيرة. هذا هو موضوع التشيع بالإضافة إلى ما استتبع ذلك من إضفاء الطابع الإنساني والسياسي على الحقائق الجوهرية.[27]

تكمن المكانة الرفيعة الخاصة بالأئمة، بما فيهم فاطمة بالتأكيد، في هذا الربط  بين ما يمكن تسميته بالماهية السماوية العلوية والقدسية الشخصية لهم. انتقلت تلك القدسية حتى وصلت إلى الإمام الثاني عشر الذي انسحب من المشهد البشري، ويفترض أن تظهر تلك القدسية ثانية في شخص المهدي في آخر الزمان. ولكن هذا الربط الذي نرى له مثالاً في طبقة البراهمة (Brahman) القدماء التي ظهرت من حكماء الريشي (Rishis)، وفي أول أباطرة اليابان كذلك الذي انحدر من نسل جيمو تينو، لا يعني أن تلك القدسية لا يمكن أن تظهر خارج النسل النبوي. فالأئمة يتم تعريفهم عن طريق الكلمة المقدسة (Logos) ولكن لا يتم تعريف الكلمة عن طريق الأئمة [28]. القطب عند السنة يمثل ما يمثله الإمام عند الشيعة ولا يلزم أن يكون من الأشراف. ويمكن أن نضيف إلى ذلك أنه إذا كان وجود التشيع في حد ذاته يثبت وجود مكانة خاصة لآل بيت النبي، فالمنظور السني يشير في المقابل إلى نسبية حقيقة الإمامة ومحدوديتها.

بالنظر إلى أن الشيعة لديهم طريقتهم الخاصة في التركيز على أفكار معينة أو حقائق مرتبطة بالإسلام المبكر أو الإسلام عامة، فإن ذلك لا يعني أن تلك الأفكار أو الحقائق تخص الشيعة وحدهم، أو أن كل من يقر بها ملزم بالتشيع، أو أن من يقول بها شيعي بشكل علني أو حتى سري. من وجهة نظر عامة لكنها مرتبطة، بهذا السياق نستطيع أن نقول أن القديسين يملكون حق التفكير والتحدث بالقدر الذي تسمح به رسالتهم وفي إطار البيئة المذهبية التي يوجدون فيها، ولكن تعاليمهم لا يجب أن تجعلنا نغفل عن حقيقة أن كل الحكمة الإسلامية تنبع بالأساس من التعبيرات الجوهرية الأصلية، أي صيغة الشهادة وبعض الآيات والأحاديث [29]، التي تتميز بمقاصد واضحة وأساسية ومحددة فيما يتعلق بمبدأ الوحدة وبالعقيدة كذلك.[30]

*******************

لا يوجد مؤمن يشك في أن الله يمكن أن يضحي بإمكانات معينة من الرحمة لأجل المتطلبات الواجبة للحقيقة، فبدون ذلك لن يكون العدل ممكناً. ولكن يجب أن نقر أيضاً – على الرغم من عدم التماثل بين الحالتين- أن الله يمكن أن يضحي بحقائق ثانوية لأجل متطلبات الرحمة والخلاص، فبدون ذلك لن يكون هناك اختلافات دينية أو مذهبية. هذا يعني أن الحقيقة الثانوية فعلياً لن تبقى أو تعد حقيقة عند التغاضي عنها في سبيل حقيقة رئيسة، كالمصباح تماماً، الذي لا يقتصر أمره على أنه لا يعد نوراً في وجود الشمس بل على كونه سبباً للالتباس بسبب الظل الذي يلقي به. ويعني ذلك أيضاً أن الخطأ في حد ذاته لا يمكن أن يأتي من الله، ولكنه، في مقابل ذلك، متمثل ومقدر في بنية الكيان الإنساني من قبل نشأته- كما هو متمثل ظاهريا في الرمزية التراثية. لا يمكن أن يعطي الله أقل مما وعد ، ولا أن يذهب بشيء إيجابي من غير تعويضه بشيء آخر أو إعادة منحه على مستوى أعلى. لذلك فإن الأخطاء الخارجية العرضية للأديان أو المذاهب السليمة[31]  تتوافق بالضرورة مع الحقائق الروحية، على الأقل مع تلك الحقائق ذات الطابع السلبي (النافي). [32]  

عندما تقول الكتب المقدسة أن الشمس تشرق وتتحرك وتغرب فإنها لا تكذب، حتى وإن كانت الشمس على وجه الحقيقة ثابتة بالنسبة لكواكب مجموعتها. ببساطة تستخدم تلك الكتب اللغة الخاصة بعالم المظاهر الأرضية. ينطبق ذلك أيضاً على الحقائق الإنسانية المتضمنة في المنظور المقدس: كل عنصر ينتمي إلى عالم الصورة يخضع لنسبية “الجوانب” و”وجهات النظر”. الشيء الوحيد الذي لا يتغير هو المقصد الإلهي المكون من الحقائق الجوهرية وتلك الجاذبية التي تعمل على انعتاق الروح من أسرها. قال المسيح: سيأتي إلياس، وهو يعني يوحنا المعمدان، على الرغم من إنكار يوحنا أنه إلياس. صحيح أن المسيح كان يشير فقط إلى الدور أوالوظيفة وليس الشخص، ولكن يوحنا كان يتحدث عن الشخص لا عن الدور. فالتعبير غير المباشر للمسيح  بما فيه من إضمار لغوي يوضح مدى الحرية التي يمكن أن تمارسها اللغة النبوية في التعامل مع الحقائق عندما تكون الحقيقة الجوهرية على المحك.

أياً كانت الاختلافات والتشعبات بين المذاهب الإسلامية، فإن المنظور الميتافيزيقي المرتبط بالوحدة كحقيقة مبدأية  يسود أفق الفكر بالقدر نفسه عند الشيعة والسنة. وفي التحليل النهائي، يعد المسلم مسلماً حقاً على قدر ما يتحقق بالطرح الأساسي للإسلام، ويأخذ على عاتقه تبعات ذلك الطرح. على هذا الأساس يمكننا القول أن جوهر الاعتقاد السليم هو تلك القدسية التي تجمع أو تتجاوز كل الحقائق الجزئية في نقاء تجربتها في التحقق.

 

الهوامش

 [1] سيكون مخالفاً لطبيعة الأشياء – على الرغم من الطابع العرضي لدوافعه- أن يكون ذلك العناد المقدس غير مشروطٍ. فقبل معركة الجمل الشهيرة كان الصحابة على وشك التصالح، ولكن حدثت المعركة بسبب خطأ الأتباع الذين كان لهم مصلحة في الانقسام.

 [2] يذكرنا ذلك المزيج بين الشراسة والأريحية الذي يميز العرب الأقحاح بواقعة حدثت بين البدو: وقع شجاربين امرأتين، وكانت كل واحدة تشد شعر الأخرى مع تراشق بالإهانات الغاضبة، ولكن فجأة تركت كل واحدة الأخرى وذهبت في حال سبيلها بكرامة كأن شيئا لم يحدث. لا يمكن أن ننسى تعبير التجرد الذي اعتلى وجهيهما في تلك اللحظة.

 [3] في هذه الحالة يجب أخذ شرف الفروسية في الاعتبار؛ لا يقاتل المرء امرأة ضعيفة حتى وإن كانت محاطة بالمقاتلين.

 [4] لا يخفى على أحد سمو نفس صلاح الدين- الكردي. ففي قلب المعركة أهدى صلاح الدين جواداً ثميناً لعدوه ريتشارد قلب الأسد الذي قُتل جواده. ويعتبر هذا أقل ما قام به من أفعال تعكس كرمه وأريحيته.

 [5] تعكس رسائل القديس بولس صدى لحالة الارتباك الشديد للكنيسة المبكرة. ولكن الأفراد والمجموعات المعنية كانوا من الوثنيين الذين تحولوا للديانة المسيحية وليس الحواريين. لذلك كانوا خارج الدائرة الرسولية، مثلما كان العرب الذين دخلوا الإسلام بعد فتح مكة خارج دائرتي المهاجرين والأنصار.

]6[ من انحدر من نسل النبي عن طريق فاطمة؛ وتعني كلمة شريف باللغة العربية: “نبيل”.

 [7] الشخص” النفساني” يحصل على الخلاص عن طريق “تغيير الدين” بينما يحصل “الروحاني” على الخلاص عن طريق “الطبيعة”. أبو بكر وعلي مثال على النوع الثاني حيث تقبلوا الحقيقة بلا أدنى تردد قبولاً قلبياً بمقتضى فعل “تذكر” شبه وجودي. ويجب على المرء أن يضع في الحسبان أن “الشخص النفساني” – بتعبير بولس- هو إنسان قريب من طبيعته الدنيوية الحسية. ومن ثم فهو الإنسان المادي الذي تحدثت عنه الغنوصية.

 [8] يمكن أن نرى هذا الحب في زماننا أيضًا، من طرف العالم الإسلامي إلى طرفه الآخر، في صور مذهلة في حدتها ومؤثرة في تلقائيتها. تجدر بنا الإشارة هنا إلى أن السنة ينتقدون الشيعة في عدم حبهم للنبي بالقدر الكافي، بينما يحبون علياً وفاطمة ونسلهما حباً عظيماً. ودعونا نذكر ذلك الحديث المهم: “لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين”.

 [9] مسألة الخيار بين الحب والخوف لا يمكن أن تكون مطروحة في حال علي أو أبي بكر. ولكن ضمن العرفان نفسه من الممكن أن يسود جانب من جانبي “الرطوبة” أو “اليبوسة”.

 [10] الأنوار المحمدية للفقير يوسف ابن إسماعيل النبهاني. يبدو هذا القول وكأنه يتناقض مع قانون المحبة المذكور في التوراة، الذي عبرعنه المسيح، ولكن الأمر ليس كذلك. فالاختلاف يمكن أن نعده مسألة اصطلاحات. فبينما يحمل حب الله في الكتاب المقدس أهمية ذات طابع اختياري ومؤثر في المقام الأول، فإن نفس ذلك التعبير يشير في الإسلام إلى بركة التأمل، وهي بركة فعالة بدون شك ولكنها مشروطة بالإلهام الإلهي. فكأن المسيح يقول “أحبب الله ولذلك أطعه” . بينما يرد الإسلام قائلا “أطع الله إلى أن تحبه”؛ ومن الواضح أن المنظورين يلتقيان ويمتزجان عند نقطة ما.   

 [11] يقابل الأئمة عند الشيعة الشيوخَ عند السنة الذين يحكمون إلى حد التأثير على الممالك. يود الشيعة أن يدعموا الشرعية – أو حالة التجاوز- للأئمة على أساس رمزيات ما عددية وكونية، ولكن يستطيع السنة القيام بنفس الشيء إذا ما تم اللازم من تركيز على صياغات معينة : الخلفاء الراشدون أربعة، ومؤسسو المذاهب الفقهية أربعة مثلما يوجد أربعة أنهار في الجنة وأربعة رؤساء للملائكة، وأربع كلمات في لفظ البسملة وأربعة جوانب للكعبة.

 [12] تجدر الإشارة هنا إلى أن غالبية نسل علي وفاطمة من السنة، وأنه قد قامت ممالك تحكمها عائلات من نسل علي، وعلى الرغم من ذلك لم يكونوا شيعة.

 [13] هناك أحاديث كثيرة مقبولة في التراث السني تأخذ ذلك في الاعتبار. يثبت ذلك مجددًا أن المرء لا يستطيع أن يتهم السلطة السنية أنها قد أخفت، بسوء طوية، نصوصاً شاهدة لعلي ومؤيدة للطرح الشيعي، خصوصاً وأن الخليفة عمر الثاني (ابن عبد العزيز)، الذي بُدِئ تدوين الأحاديث في عصره، لم يكن يضمر عداء للشيعة.

 [14] يجب أن نعترف أن ذلك يشكل مشكلة معينة لغير المسلمين في ظل غياب الوثائق التي يمكن أن تفسر ذلك السلوك في إطار سياقه المرتبط بكتابة سيرة آل البيت.

[15] لا يحتوي التراث المدوَّن على هذا، على الرغم من ذلك، يجب أن نقر بوجود تلك الطهارة والقدسية لأنه لا يوجد تأثير بلا علة. فالاعتقاد بخصوصية فاطمة في الإسلام وعبر العصور لا يمكن أن يفسر بدون وجود تلك القدسية والطهارة الشخصية. وفاطمة تنتمي إلى عالم قريب العهد بنا فلا يمكن أن يكون ذلك العالم أسطورياً بالنسبة لنا في ملامحه الرئيسية.

 [16] بحسب شهادة الحسن البصري، علي هو “متكلم الأمة”. وقال النبي في حديث مروي في التراث السني: “أنا مدينة العلم وعلي بابها”؛ وهذا يعني أن علياً كان مهتماً بتفسير ما تحدث النبي به بشكل مختصر ومضمر.

[17] يقول حديث شيعي “حب علي يمسح كل الذنوب كما تأكل النار الحطب”. بالنسبة للمتطرفين علي يحتل مكانة أعلى حتى من النبي.

 [18] تأثرت مكانة علي في أثناء حربه مع خصمه معاوية في نفوس بعض مواليه. فبعد أن ضغط عليه معظم جيشه لقبول التحكيم الذي اتضح فيما بعد أنه كارثة، ثار ضده جزء من الجيش- الخوارج- وانفصلوا عنه. وقد كان واحد من هؤلاء الخوارج هو من قام بقتله فيما بعد في الكوفة انتقاماً لهزيمتهم على يده في معركة النهروان. تجدر الإشارة إلى أن الحسن البصري وابن سيرين، وهما معاصران لعلي في مقتبل عمرهم، اللذان كانا شخصين رئيسين في  خضم الصوفية المبكرة، كانا سُنيين تماماً.  فقد انتقدا بعض الجوانب في أفعال علي، وقبلا بدون تردد خلافة أبي بكر وعمر، وبكثير من الانتقاد لكن مع الاستسلام قبلا خلافة الأمويين مع إعذارهما لعثمان؛ وهو سلوك لا يمكن تصوره من قبل قديسَي تلك المرحلة لو كانت الحقيقة والحق محصورين في دعوى الإمامية دون غيرهم. وتظهر أهمية ذلك خصوصاً بالنظر إلى السلسلة الروحية للصوفية التي تربط الحسن البصري بعلي نفسه، وهو ما يدل في الأقل وإن لو لم تكن الصلة مباشرة – رغم أننا لا نرى سببا للشك في تلك الصلة- على وجود صلة روحية خاصة ومثالية بينهما.

[19] هذا النوع من الإقصاء- بالإضافة إلى الترميز السلبي للأسماء الأصلية- موجود في كل مكان تقريباً، حتى عند الهندوس، وخارج المذاهب الظاهرية. فبالنسبة لأتباع مادفا، شانكرا هو تجسيد للشيطان؛ ويصبح اسمه الذي يعني “المخلص” بالنسبة لهم سانكرا أي “الوغد”. يقوم أتباع شانكرا بفعل نفس الشيء في المقابل، فيعلنون أن مادفا كان وغداً وضيع الأصل، يسعى في مهمة تحريف تعاليم  الفيداتنا.

 [20] لا نميل بشكل عام إلى الإقرار بوجود هذا النوع من الاستعارة، ولكن في التشيع- على الأقل وقبل كل شيء في صوره المتطرفة والمتأخرة- تبدو تلك التأثيرات محتملة إن لم تكن مؤكدة. يمكن أن تفسر تلك التأثيرات في هذه الحالة بتشابه وتقارب في الدوافع.

[21] تجدر بنا الإشارة إلى فرع معين، وهو التصوف الشيعي، وهو شديد الشبه بالتصوف السني. تشير إحدى التفسيرات الخاصة بمصطلح صوفي،  وهو أنه كان يترجم دائماً في اللغة الفارسية بكلمة باشميناه-بوش، أي “الذي يرتدي رداء الصوف”، إلى أن الكلمة العربية مشتقة من الصوف وليس الصفاء، وأنها لم تشتق من الكلمة اليونانية “صوفوس”، أي  “حكيم: كما زعم بعضهم.

 [22] يتناقض التصوف والأشعرية الصوفية كلاهما مع ذلك إلى حد ما. ولكن هذه الظواهر لا يمكن تجنبها، فمن المستحيل أن يبقى البعدان في مكان ما بمعزل تام بعضهما عن بعض.

 [23] علاقة التشيع بالإسلام هي كعلاقة الآرية بالمسيحية، ولكن بشكل معكوس. فالمسيحية تركز على الظهور اللإلهي في الإنسان في حين أن الآرية تركز على التجاوز.

 [24] ولكن ليس كعقيدة التجسد المسيحية (حلول). الخاصية النبوية لآل محمد ، التي هي نسبية بطبيعة الحال، تنطوي بداهة على قدسية ذاتية مشرقة – يمكن أن لا تتجلى في النسل البعيد على الأقل- ولكن غياب تلك الخاصية يستتبع استحالة التحقق الروحي في أعلى درجاته.

[25] التظاهر بأن الباطنية الإسلامية كلها صدرت عن الشيعة هو لعب بالألفاظ. مفهوم القطب في التصوف ينبع من طبيعة الأشياء، وليس ذنب السنة إذا كان الشيعة يعتبرون القطب إماماً من نسل علي دون غيره. من الواضح أن الأبناء المباشرين  للحسين بن علي كانوا من “الأقطاب” من حيث إنهم جمعوا بين النسب الشريف والقدسية الشخصية. أما فيما يتعلق بمعارضة بعض الأئمة للتصوف، فإن ذلك يتعلق فقط ببعض الجوانب الخاصة بممارسات التصوف. يمكن للمرء أن يلاحظ بسهولة، بدون أن يكون شيعياً، أن فكرة الأخويات الصوفية يمكن أن تكون سلاحاً ذا حدين, ولكن هذا الأمر لا علاقة له بالحكم على التصوف نفسه.  

 [26] حسب الرؤية المتعارف عليها يركز المصطلح الأول على الكمال في جلاء البصيرة والتأمل، بينما يركز الثاني على كمال الإرادة.

 [27] تسوغ الإمامية تصورها المنهجي الضيق لدائرة الولاية عن طريق تقديم تفسير (ينتمي إلى الماضي، يستند إلى الماضي دليلاً وحجة، مغرق في القدم، من الماضي البعيد) يقارنها “بدائرة النبوة”. ولكن في الواقع انقطاع الدائرة الأخيرة هو في صالح التصور السني “للقطب” لأنه لا يوجد في هذا التصور شيء يرتبط بسلالة حاكمة. وفي كل الأحوال كيف يمكن للمرء أن ينسب صفات الكمال أو مواهب شديدة التعدد كالقداسة الشخصية، والقدرة على النظر في المسائل الميتافيزيقية، والقدرة السياسية لسلالة بأكملها. وهي سلالة الأئمة من نسل علي.

 [28] مثلما يمكن أن تُقبل فكرة أن المسيح هو الله وليس أن الله هو المسيح. تجدر بنا الإشارة هنا إلى أن علياً بالنسبة للنصيرية والعلي إلهيين والبكتاشية وآخرين هو الله محجوب بمظهر إنساني. يمكن أن يتساءل المرء عن ماهية الأسباب والدوافع التي أدت إلى تلك المغالاة.

 [29] آيات من القرآن وأقوال النبي

[30] بالنسبة لمن يمتلك فهماً دقيقاً لمفهوم التوجه الباطني، من الطبيعي أن يشعر بعدم الارتياح عندما يلاحظ أن أقوال الأئمة، التي يفترض أن تكون المصدر الوحيد للتعاليم الباطنية، قد أسفرت عن تصنيفات ضخمة تحتاج بدورها إلى مؤلفات ضخمة لشرحها وتفسيرها. من الفروقات الأساسية بين السنة والشيعة هي أن الخاصية الرسولية بالنسبة للسنة تنطبق فقط على أحاديث النبي- وهي بضعة آلاف حديث- بينما تمتد تلك الخاصية بالنسبة للشيعة حتى آخر إمام في نهاية القرن التاسع، أي أكثر من ثلاثة قرون بعد النبي؛ كأننا أضفنا كل آثار آباء الكنيسة إلى العهد الجديد. يمكن أن تفهم تلك الملاحظات إذا أخذنا في الاعتبار الخاصية الشخصية، والتجريبية، والعاطفية، والإلهامية، والمحاكية للنبوة، وحتى السياسية المرتبطة بتوجه باطني معين، وهو توجه تم تأسيسه قبل كل شيء على التأويل وعلى تصور أخروي أقل ما يوصف به أنه شديد الجرأة.  

 [31] يعتبر الدين أو المذهب صراطيًا أو قويمًا إذا تضمن على الأقل عقيدة ميتافيزيقية مقبولة (عن مستويات الحقيقة والوجود)، بالإضافة إلى وجود الحدس الروحي كمفهوم وكظاهرة.  

 [32] ليس إيجابياً، فالمسألة هنا هي مسألة رفض أشياء معينة. الشيعة محقون في نقدهم وإدانتهم للفريسيين؛ ولكن إسقاطهم ذلك على أسماء الصحابة  هو أمرمختلف تماماً. والتأمل الهندوسي على صورة ما من الصور شيء، ولكن إنكار الأديان السامية لعبادة الأوثان أمر آخر.

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!