محمد عبد الله دراز وصلته بالجزائر

محمد عبد الله دراز وصلته بالجزائر

 محمد عبد الله دراز وصلته بالجزائر

أ.د. مولود عويمر

جمعية العلماء المسلمين الجزائريين

أحاول أن أبرز في هذا المقال صفحات مشرقة من تضامن العالم الجليل الدكتور محمد عبد الله دراز، المشهور بكتبه وبحوثه المتميّزة في مقارنة الأديان، والدراسات القرآنية، والقضايا الفكرية مع الجزائر في فترة المحنة والاحتلال، وذلك من خلال الإشارة إلى علاقاته بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، والمفكر مالك بن نبي.

 بـطـاقـة حـيـاة:

  ولد الشيخ محمد عبد الله دراز في مصر عام 1894. درس بجامع الأزهر، ونال شهادة العالمية في سنة 1916. وعيّن مدرسا، ثم أستاذا للتفسير بكلية أصول الدين.

  سافر في البعثة الأزهرية إلى فرنسا في سنة 1936، وبقي في باريس إلى غاية 1947. درس خلال هذه الفترة علم الاجتماع، والفلسفة، والتاريخ، ومقارنة الأديان بجامعة السوربون على أيدي كبار المستشرقين كلويس ماسينيون وافريست لفي-بروفانسال. ومثّل شيخ الأزهر الإمام محمد مصطفى المراغي (1881-1945) في المؤتمر العالمي للأديان الذي انعقد في باريس في عام 1939.

  وبعد إحدى عشر سنة من التحصيل العلمي ونيل شهادات علمية كالإجازة والماجستير، تحصل الشيخ دراز على شهادة الدكتوراه في 15 ديسمبر 1947، في فلسفة الأديان بجامعة السوربون برسالة عنوانها: ” La morale dans le Coran ” أي » الفلسفة الأخلاقية في القرآن«. وترجم الدكتور عبد الصبور شاهين هذا الكتاب فيما بعد إلى اللغة العربية، وصدر في الثمانينيات عن مؤسسة الرسالة، ببيروت تحت عنوان »دستور الأخلاق في القرآن«.

  تقلد الدكتور دراز عدة مناصب إدارية وعلمية عند عودته إلى مصر، أذكر منها: عضو اللجنة العليا لسياسة التعليم بوزارة التربية والتعليم، عضو اللجنة الاستشارية الثقافية بجامع الأزهر، مندوب لأزهر في المؤتمرات الدولية، أستاذ بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة، وأستاذ بجامع الأزهر.

  ولم تشغله كل هذه الأعمال وغيرها من النشاطات الدعوية والفكرية عن التأليف، فقد ألف الدكتور دراز عدة كتب في الفكر ومقارنة الأديان، أذكر منها: “النبأ العظيم”، “الدين”، “بحوث ممهدة لتاريخ الأديان”، “بحوث إسلامية”، “المدخل إلى القرآن الكريم”، “دستور الأخلاق في القرآن”، “المختار من كنوز السنة النبوية”. كذلك نشر عدة مقالات في المجلات الدينية والثقافية.

  كان الدكتور دراز قليل الإنتاج مقارنة ببعض معاصريه، وهو لا يتناسب مع علمه الغزير، ولعل السبب في ذلك يعود إلى تأنيه في الكتابة، وحرصه على نشر ما هو جديد ومفيد. فهو باحث “منهجي متفرد” كما وصفه الدكتور محمد رجب البيومي.

  وأشير هنا أيضا إلى مساهماته الإعلامية، فقد ألقى دروسا في التفسير وعلم الأخلاق في الإذاعة المصرية. وقد جمعها الباحث عبد الله إبراهيم الأنصاري، ونشرها بعنوان: “من خلق القرآن” ضمن مطبوعات إدارة الشؤون الدينية بدولة قطر في عام 1979.

  توفيّ الدكتور دراز خلال المؤتمر الإسلامي الدولي المنعقد بلاهور بباكستان في 6 جانفي 1958، أين شارك ببحث عنوانه “موقف الإسلام من الأديان الأخرى وعلاقته بها”. وإذا انتقلت روحه إلى خالقها فإن عطاءه استمر يفيد الناس، ويقبل عليه الطلبة والباحثون.

  وقد أعدت حول هذا المفكر دراسات وبحوث كثيرة ورسائل جامعية عديدة. فمنها من درست “إسهاماته العلمية بصورة جزئية”، بينما بحثت بعضها الأخرى “عن إبداعاته الثقافية بصورة كلية”. وأذكر منها 3 رسائل جامعية، وهي: “محمد عبد الله دراز ومنهجه في البحث الخلقي” للباحث محمد البيومي عبد الواحد؛ و”الدكتور محمد عبد الله دراز وجهوده البلاغية” لمحمد أمين أبو شهبة؛ و”محمد عبد الله دراز وجهوده في الفكر الإسلامي المعاصر” للباحث الباكستاني حافظ محمد منير الأزهري.

  كما قيّض الله للدكتور دراز عالمين جمعا تراثه، وهما الباحث المصري الشيخ أحمد مصطفى فضلية، والباحث القطري الشيخ عبد الله إبراهيم الأنصاري. ومن أهم الكتب المنشورة بعد وفاته بفضل جهود هذين الباحثين، أذكر هنا: “من خلق القرآن”، “دراسات إسلامية في العلاقات الدولية والاجتماعية”، “التفسير والسنة وعلوم القرآن وقضايا العصر”، “زاد المسلم في الدين والحياة”، “الميزان بين السنة والبدعة”، الصوم تربية وجهاد”، “رسائل لها تاريخ”، و”حصاد قلم”…الخ.

  وأقول هنا متفقا مع الأستاذ أنور الجندي: «إن مدار أبحاث الدكتور دراز كلها ترجع إلى أصل واحد؛ هو القرآن، وهي في محاولتها الاتصال بالفكر الحديث إنما تريد أن تكشف عن نظرة القرآن ومنهجه في كل ما تصل إليه: سواء في مجال الأخلاق أو مقارنات الأديان، أو الاقتصاد، أو القانون، فالقرآن هو المحور الذي يعتمد عليه الدكتور دراز ويدور حوله ويستقصي له، ويستصفي كل ما يجد من العلوم الإسلامية. وهو حين يقدم الإسلام للغرب يقدمه في أسلوب رائع وتعبير محكم من شأنه أن يلقى قبولًا في العقل الغربي الذي ألِف الأسلوب العلمي؛ بوسائطه ومصطلحاته.. وقوامه في هذا كله فهم عميق للقرآن، وتدبر عجيب له، وقدرة على تبليغ العبارة بأصفى لغة، وتقديم الأمثلة إلى العقل الغربي في تمكن عجيب».

الشيخ دراز وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين

  لقد سبق أن ذكرت بأن الشيخ دراز استقر بباريس لفترة طويلة، واغتنم فرصة وجوده في هذه المدينة بالاحتكاك بالعرب والمسلمين المقيمين فيها. هنا تبدأ علاقته بنوادي جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بفرنسا، فيتواصل مع المسؤولين عليها، ويساهم في النشاطات الثقافية والدعوية التي كانت تقوم بها، وذلك بإلقاء المحاضرات وتقديم الدروس. وقد تابعنا هذا النشاط بشيء من التفصيل في بحث أكاديمي نشرناه عن « التجربة الدعوية لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين في فرنسا ما بين 1936 و1954».

  وأشارت جريدة “البصائر” في عدة مقالات إلى مساهمات الشيخ محمد عبد الله دراز في فعاليات نوادي التهذيب الإصلاحية. كما نشرت مجلة “الشهاب” صورة له العلماء الجزائريين والجمهور الذي حضر الحفل الذي نظمه نادي باريس بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف (انظر الصورة المرفقة).

  وهكذا، ربط الشيخ محمد عبد الله دراز علاقات متينة برجال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين خاصة مع الشيخ الفضيل الورتلاني، ممثل الجمعية في فرنسا في الثلاثينات، ثم رئيس مكتبها بالقاهرة في الأربعينات والخمسينات.

  ولا شك أن الشيخ محمد عبد الله دراز يتابع أيضا من خلال اتصالاته بالعلماء والأساتذة الذين أندبتهم جمعية العلماء إلى فرنسا، على النشاط الإصلاحي للإمام عبد الحميد بن باديس ورفاقه المصلحين في الجزائر. وكان معجبا بذلك ومقدرا لجهودها الجبارة لتجسيد مشروعها التنويري رغم كل المعوّقات التي يصنعها باستمرار الاستعمار وأذنابه.

  كما تبادل الدكتور دراز مراسلات مع الشيخ ابن باديس، فقد عثرنا في يوميات الدكتور دراز (المخطوطة) التي اطلعنا على بعض أوراقها بفضل ابنه الصديق الدكتور محسن دراز، على مراسلة الشيخ عبد الحميد بن باديس للشيخ دراز يلتمس منه التدخل لدى مشيخة الأزهر لقبول الطلبة الجزائريين بهذه الجامعة العريقة، ومساعدتهم ماديا.

  وتذهب هذه العلاقة أبعد من ذلك، فلما نزل الشيخ محمد البشير الإبراهيمي بالقاهرة في عام 1952 واستقر بها، كان الدكتور دراز من العلماء المصريين الأوائل الذين رحبوا به واستقبلوه. وهكذا تقارب العالمان لخدمة القضايا العربية والإسلامية بشكل عام، والقضية الجزائرية بشكل خاص. ولدينا صورا فوتوغرافية تكشف بشكل واضح العلاقات الحميمية بين الشيخ الإبراهيمي والشيخ دراز.

  وظل الدكتور محمد عبد الله دراز معتزا بمساهماته في نوادي التهذيب، وعلاقاته مع علماء الجزائر خاصة صلته بالشيخ الفضيل الورتلاني كما كتب عن ذلك ابن عمه الشيخ محمد عبد اللطيف دراز في مقال نشرته جريدة البصائر في بداية أكتوبر 1954، فقال في هذا السياق: «عرفت الورتلاني معرفة الشخص لأول ما قدم مصر، وكنت أقرأ بعض أخباره وهو في باريس مما يكتبه إليّ منها ولد عمي الدكتور محمد عبد الله دراز ومما يحدثني به عند اللقاء عنه وعن أعماله».

 

علاقة الشيخ دراز مع مالك بن نبي

تعرف الشيخ محمد عبد الله دراز بالمفكر الجزائري مالك بن نبي في باريس في حدود عام 1936. وأشار مالك بن نبي إلى هذا اللقاء في مذكراته. فذكر أنه ساعده على تحسين لغته الفرنسية، بينما أطلعه الشيخ دراز على الأوضاع في المشرق العربي، وشوّقه إلى دراسة علم التفسير في الجامع الأزهر.

يقول في ذلك مالك بن نبي: «وصل إلى باريس وفد من علماء الأزهر من أجل تحضير شهادة الدكتوراه تحت إشراف أساتذة الصوربون… وأتيح لي ولحمودة بن الساعي أن نتعرف على …أولئك العلماء، ومن بينهم الشيخ التاج والشيخ دراز رحمه الله بمقهى الهوجار، كما أتيح لي ولصديقي أن نساعد هؤلاء الوافدين في خطواتهم الأولى في اللغة الفرنسية، وأخذت منهم في الوقت نفسه ما يفيدني من معلومات عن الحياة في الشرق، حتى بالنسبة لشروط الانتساب إلى المعاهد الأزهرية…»

ونظرا لتقديره للشيخ دراز، كلّفه مالك بن نبي بكتابة تقديم لأول كتاب له، وهو “الظاهرة القرآنية” الذي صدر في الجزائر في عام 1946 عن مكتبة النهضة الجزائرية. وقام الشيخ دراز بقراءة متأنية للكتاب، وافقه في معظم تحاليله واستنتاجاته، وعارضه في نقاط قليلة.

ومما كتبه عن مؤلف هذا الكتاب، هذه العبارات الجميلة: « فقد تأملت بنضج، ذلك الاتصال بالعقل والتراث، بالعلم والعقيدة؛ وأفرغت في عرض جميل واضح ومتماسك شرارة ما تفجر من ذلك اللقاء. فسداد حكمك، وحرارة عقيدتك، وحداثة مصطلحاتك، وجمال أسلوبك؛ هذه كلها ميزات بارزة لا أستطيع أن أفيك ما تستحق من تهنئة عليها».

وأشير هنا إلى أن جريدة “البصائر” قامت بنشر هذا النص الذي ترجمه إلى اللغة العربية الشيخ باعزيز بن عمر تعميما للفائدة، خاصة وأن كتاب “الظاهرة القرآنية” الذي ضم هذا التقديم، صدر بالفرنسية فقط، ولم يترجم إلى العربية إلا في الخمسينات على يد الأستاذ عبد الصبور شاهين.

وفي الختام، أوجه النداء إلى كليات الشريعة والدراسات الإسلامية في الجامعات العربية والإسلامية للاهتمام بهذا العالم والمفكر الكبير، وذلك بدراسة حياته القدوة، والاهتمام بتراثه العلمي الثري، وعطائه الفكري الرصين.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!