العلويون في بلاد الأناضول

العلويون في بلاد الأناضول

تاريخ العلويين في بلاد الأناضول

إبراهيم الداقوقي

 

 

كنت مشاركا في ندوة (الحياة الفكرية في الولايات العربية في العهد العثماني في تونس العاصمة عام 1986 عندما قام الأستاذ الدكتور عبد الجليل التميمي، عميد معهد الدراسات العثمانية في تونس، بتقديمي إلى البروفيسورة الروسية الدكتورة مليكوف المتخصصة في التركيات:

ـ أقدم إليك الدكتور إبراهيم الداقوقي، الذي قدّم رسالة دكتوراه عن أمير الشعر التركي (فضولي البغدادي) إلى كلية اللغات في جامعة أنقرة عام 1972، والحاصل على درجة الدكتوراه عن رسالته حول (حرية الإعلام) من كلية الحقوق بجامعة أنقرة عام 1975 ثم التفت الدكتور التميمي إلي قائلا:

ـ البروفيسورة مليكوف، من المعجبات بالجانب الصوفي ـ البكتاشي في الشعر التركي، وستهتم بالتأكيد بورقتك المعنونة (فضولي البغدادي والحياة الفكرية في العراق في القرن السادس عشر) التي ستقدمها في الندوة.

وبعد الترحيب بها، سألتها مباشرة:

ـ إذاً، أنت شيعية من أذربيجان؟

أجابت بابتسامة مشرقة:

ـ كلا. إنني مسيحية كاثوليكية.

ـ إذاً، ما هو سر العلاقة بين الكاثوليكية والبكتاشية التي تعد من طرق الشيعة التصوفية؟

ـ إن التسامح هو الذي يجمع بينهما، كما إنني لست شيعية وإنما علوية. أو بمعنى آخر: إنني من محبي الإمام علي بن أبي طالب ومن المعجبين به سيرة وسلوكا وفلسفة وأخلاقاً وإنسانية، ومن هنا تستطيع أن تقارن علاقتي بالعلوية بعلاقة المسيحي اللبناني جورج جرداق مؤلف أعظم كتاب عن الإمام علي، بالعلوية والعلويين.

تداعت إلي ذاكرتي نقاشاتي مع المرحوم رشيد علي، مختار قصبة داقوق وقارئ مقتل الطالبيين في ليالي عاشوراء باللغة التركمانية في التكية البكتاشية هناك والشارح الأكبر لديوان فضولي البغدادي (888 ـ 963هـ)، وتشجيعه لي لتحقيق ديوانه العربي المفقود الذي أصبح موضوع رسالتي للدكتوراه في كلية آداب أنقرة عام 1972 إضافة إلى الجلسات الفلسفية مع الشيوخ العلويين الأتراك في أنقرة واسطنبول لدى زياراتي لبيوت (الجمع)، وهي المنتديات البديلة عن الجوامع، التي أقامها العلويون في تركيا إثر إلغاء الزوايا والتكايا والمذاهب والطرق الصوفية في تركيا بعد إلغاء الخلافة. ثم علاقاتي الحميمة مع الشعراء والأدباء والإعلاميين والسياسيين العلويين في تركيا خلال مكوثي لأكثر من اثني عشر عاماً فيها، دبلوماسيا في البداية، ثم طالب دكتوراة، ثم أستاذاً في جامعاتها، وأخيراً باحثاً متخصصاً في الشؤون التركية ومترجما للعديد من المؤلفات التركية إلى اللغة العربية.

العلوية

تعني الفكرة العلوية اصطلاحاً: شيعة الإمام علي بن أبي طالب وسالك نهجه في الحياة بالالتزام بالحق والعدالة ومكارم الأخلاق مع احترام الآخر (الإنسان والحيوان والجماد) لأن الإنسان خليفة الله على الأرض وصورة من الإمام علي وفاطمة الزهراء ـ قطبا الإمامة الإثنا عشرية). إضافة إلى ضرورة المحافظة على الحيوان والجماد، باعتبارهما من مخلوقات الله. أما من حيث المضمون، فإن العلوية نظرية فلسفية ـ أخلاقية قائمة بذاتها، حتى أن الجامعات الألمانية بدأت بتدريسها منذ بداية العام الدراسي 2001ـ 2002 في كليات الإلهيات جميعها.

ومن هنا فإن الأمر الأساس الذي يؤكد عليه المثقفون الأتراك ـ وكان معظمهم من إخواننا الأكراد ـ في النقاشات حول العلوية والعلويين معهم، هو:”أن العلوية ليست ديانة ولا مذهبا دينيا إنما نظرة شمولية إلى الكون والإنسان والإله في إطار من التسامح، وبإيمان مطلق بالعدالة والحق، نظراً لالتزامها بالديموقراطية كمنهج وبحقوق الإنسان كممارسة بعيداً عن الاستبداد والإرهاب والديكتاتورية، ويغلفها التراث الشرقي بأديانه البدائية والسماوية، وطرقها الصوفية والابدالية.

 ومن هنا فإننا نعد البكتاشية والمولوية وأهل الحق والبابائية ـ وليست البهائية ـ كلها اتجاهات متعددة في هذه النظرة الكلية الإنسانية للوجود التي يمتزج في إطارها العرب والأكراد والأتراك والعجم”. ألم يردد الشاعر الشيخ جلال الدين الرومي، مؤسس الطريقة المولوية في مثنويته (ديوان شعره) باللغة الفارسية:

“تعالَ،

تعالَ لتكون معنا،

مَن تكن،

كافراً، وثنيا، أو مجوسيا.

تعالَ، وإن تكن قد تبتَ مائة مرّة، يكفي أن

نكون معاً.

لأن هذا المحفل لا يؤمن باليأس والقنوط”.

ونظراً لتعدد الآراء حول العلوية ومذهبها وفلسفتها وأنماطها الصوفية، فإننا سنتناول العلوية بالدراسة ضمن المباحث الثلاثة التالية:

المبحث الأول ـ هوية العلويين

قال النبي (محمد صلى الله عليه وسلم) لعلي بن أبي طالب (رضي الله عنه) مرة “إن فيك لشبها من عيسى بن مريم” وفي مرة أخرى “لا يبغضك إلا منافق” وقال الرسول في مرة ثالثة، وقد شكا إليه بعض أصحابه شأنا من شؤون علي: “ما تريدون من علي؟ ما تريدون من عليّ؟ ما تريدون من عليّ؟ عليّ منّي وأنا منه، وهو ولي كل مؤمن بعدي”.

إن هذه الأحاديث الصحيحة تؤكد على حقيقة ناصعة، هي “أن النبي كان يشعر بنوع من الإخاء لعلي بن أبي طالب، وإن عليا كان ممتلئا بهذا الإخاء. ثم إن النبي كان يوجه الأنظار إلى العظمة الإنسانية التي تتمثل في شخصية عليّ، وإلى أنه خير من يستطيع أن يتمم شروط الرسالة من بعده”. ومن هنا فقد ولدت فكرة التشيع لعليّ، وتوطدت فكرة الشيعة بخلافه مع معاوية بن أبي سفيان وتوسعت وانتشرت بعد قتله على يد عبد الرحمن بن ملجم.

أما الفكرة العلوية، التي اعتمدت على فكرة التصوف بمؤثراتها الأجنبية، فقد ولدت أيام إمامة المهدي صاحب الزمان أواخر القرن الثامن (الرابع عشر الميلادي) نتيجة الخلاف بين طوائف الشيعة حول قضية “الباب” المعروفة في الفقه الشيعي، بعد أن كان الإسماعيليون قد انفصلوا عن الإمامية الإثني عشرية بسبب الاختلاف على الشخص الأجدر بتوليه الإمامة من أولاد الإمام جعفر الصادق: حيث اختارت المجموعة الثانية إسماعيل بن جعفر الصادق للإمامة، فأطلقت عليهم تسمية الإسماعيليين، أو السبعيين في الفقه الإسلامي، كمذهب من مذاهب الشيعة وإحدى طرق التصوف المعروفة في العالم الإسلامي.

 غير أن بعض الباحثين الأتراك يعتقدون أن الفكرة العلوية قد وجدت في آسيا الوسطى، لاسيما في أوساط الشعراء المتصوفة الذين تغنوا بالعشق الإلهي وبالحق والعدالة وحب آل البيت، وقد عمل أولئك المتصوفة الأتراك الأوائل على مقاربة الإسلام مع عناصر تقاليدهم الاجتماعية لتسهيل قبوله واعتناقه من جهة ولترسيخ العقائد الإسلامية لدى الأتراك من جهة أخرى. ولذلك يقول الشاعر المتصوف الشيخ أحمد اليسوي، وهو من شعراء القرن الثاني عشر الميلادي، في ديوان الحكمة:

Seriatin sartlarini bilen Asik

Tarikatin manasini bilir Dostlar

Tarikatin islerini eda edip

Hakikatin Deryasina batar Dostlar

“إن العاشق الذي يعرف شروط الشريعة، يعرف ـ أيضا ـ أيها الأحبة، معنى الطريقة. وإن من يؤدي شعائر الطريقة، يخوض في بحر الحقيقة، أيها الأحباب”. لأن العلوية تؤمن بأن الطريقة قرين الحقيقة والشريعة معاً”.

ومن هنا أيضاً يعتقد بعض الفقهاء الإيرانيين والأتراك بأن العلوية قد تطورت وتكاملت منذ القرن الثاني عشر الميلادي في مدينة خراسان الإيرانية على أيدي لقمان بارندة ثم أحمد يسوي ويونس أمره ،الذي توفي العام 1321م في آسيا الوسطى، والحاج بكتاش ولي (1210ـ1270م) وهو من تلاميذ الشيخ أحمد اليسوي الذي دفعه للذهاب إلى النجف الأشرف لدراسة الفقه، والشاه إسماعيل الصفوي (1486 ـ 1524م)، وفضولي البغدادي في العراق.

 وقد انتقل الحاج بكتاش ولي إلى بلاد الأناضول ليؤسس فيها الطريقة البكتاشية العلوية، التي تناغمت مع الطريقة المولوية الصوفية لمؤسسها جلال الدين الرومي، ومع بابا الياس الذي كان قاضيا في مدينة قيصري العثمانية وشعراء الساز، (وهي آلة موسيقية وترية يستخدمها الشعراء الشعبيون، الذين يطلق عليهم أيضاً الشعراء العشّاق ومعظمهم من الشعراء العلويين) لتكتمل بذلك مذاهب التصوف الإسلامي في الدولة العثمانية.

ولذلك فإن الفكرة العلوية تضم اليوم معظم الاتجاهات الصوفية في البلاد الإسلامية من أفغانستان شرقاً إلى المغرب الأقصى واتجاهاتها الفكرية المختلفة: اليسوية والبكتاشية والمولوية والقلندرية والقزلباشية والأبدالية العبدالية والصفوية والخلوتية والنصيرية والكاكائية والأخيّة الفتوّة والخشّابية وغيرها من الاتجاهات العلوية التي تؤطرها مبادئ التسامح والعلمانية والتقدمية الإنسانية، لأنها جميعا قالت بالحق والعدل وتخلّقت بأخلاق القرآن “لإيمانها بأن العلم لا يدرك بالعقل فقط وإنما بالعرفان أيضاً”. غير أن أكبر وأعظم الفرق العلوية هي البكتاشية التركية، التي تفرعت منها معظم الفرق العلوية الأخرى. وكذلك الصفوية الإيرانية والنصيرية العربية المنتشرة في بلدان الهلال الخصيب.

الاتنوغرافي العلوية

يقطن العلويون اليوم في منطقة شاسعة من بقاع الشرق الأوسط، تمتد من أفغانستان إلى المغرب الأقصى مرروا بتركيا ومصر، وهي البقعة الجغرافية التي انتشر فيها أولاد وأحفاد الأئمة الحسن والحسين ولدي علي بن أبي طالب بعد القرن الثامن الميلادي، من العراق إلى خراسان والديلم وطبرستان وتركستان في الشرق وإلى سوريا ومصر وأقطار المغرب العربي، وتمركز معظمهم في المنطقة الجنوبية الشرقية من تركيا وفي مدن ارزنجان وموش وبنغول وأراغلي واورفا وقونيا وأرضروم، ثم درسيم (توني إيلي) وأطرافها بشكل كثيف.

 وإذا كانت العلوية العربية قد ولدت في مدرستي الكوفة والبصرة خلال القرن الثامن الميلادي، وانتشرت من خلال الأئمة العلويين في البلاد العربية وإيران وبلاد تركستان، فإن السلاجقة هم الذين حملوها إلى بلاد الأناضول.

وكان للمتصوف الشيخ بكتاش ولي، الذي جاء من خراسان إلى مدرسة الكوفة لدراسة الفقه، حيث مكث في المنطقة سنتين ثم سافر إلى بلاد الأناضول، دور كبير في نشر البكتاشية فيها، رغم أن البكتاشية ـ كطريقة صوفية ـ قد تكاملت بعد بكتاش ولي بقرن تقريبا. وقد التزم الشيخ بكتاش ولي في آماسيا، التي استقر فيها الشيخ العلوي بابا إسحاق الذي ثار مع أتباعه التركمان ضد السلاجقة العام 1240 الميلادي، غير أن السلاجقة قبضوا عليه وأعدموه فتولى بكتاش ولي رئاسة الجماعة البابائية ـ نسبة إلى بابا إسحاق ـ إلى أن توفى في مدينة صولوجا هويوك، حيث يحتفل بذكرى وفاته هناك خلال أغسطس ـ آب من كل عام.

وإذا كانت المصادر العلوية التركية تقدر نفوس العلويين ـ وحوالي 60 بالمائة منهم من الأكراد ـ بحوالي عشرين مليون نسمة، فإن المصادر الرسمية التركية تؤكد بأنهم لا يزيدون عن خمسة أو ستة ملايين فقط من مجموع سبعين مليون نسمة، وهم عدد سكان تركيا اليوم. وحوالي مليون نسمة منهم يعملون كعمال في البلدان الأوروبية منذ عام 1962 ويتركز معظمهم في ألمانيا حيث توجد لهم اليوم أربع جمعيات وعشرات رجال الأعمال والمتاجر وثلاثة نواب في البرلمان. ولهم في النمسا جمعيتان وعشرات المتاجر.

ويتميز العلويون بثلاث مزايا اتخذوها تقاليد متوارثة لا يحيدون عنها: إجراء ختان الأولاد في ذكرى ميلاد الإمام عليّ من كل عام، وإقامة احتفال كبير عند الزواج ـ عادة ـ في ذكرى ميلاد الإمام الحسين الشهيد، والاجتماع في بيوت (الجمع) لإجراء المقابلات في المناسبات ولقراءة الأنفاس البكتاشية والأشعار المولوية والخاصة بالشعراء العشّاق العلويين ومقتل الطالبيين ـ لاسيما أيام عاشوراء ـ وعقد الندوات الثقافية والتداول في أمور الجماعة بكل ديموقراطية وتسامح وعلمانية ظاهرة.

 ومن هنا تتردد في الأوساط الاجتماعية التركية ثلاثة اتهامات ضد العلويين: بأنهم ملحدون وكفّار لعدم إيمانهم بشعائر الدين الإسلامي ولتمسكهم بالعلمانية، وبأنهم من غلاة الشيعة لأنهم يمارسون شعائر طريقتهم بصورة سرّية وبنوع من الإباحية، إضافة إلى اجتماع الرجال والنساء واختلاطهم في المناسبات والاحتفالات الخاصة بهم دون مراعاة للتقاليد الاجتماعية المعروفة في المجتمعات التي يعيشون بينها.

غير أن العلويين يردّون على هذه الاتهامات الثلاثة، بثلاث حجج دامغة، هي: لا علاقة للعلويين بالمذهب الشيعي ولا بالمذاهب الأخرى، لأنها نظرة جديدة للوجود والإنسان من خلال الالتزام بالعدالة والحق والإنصاف في إطار الإعجاب بالإمام علي بن أبي طالب ومحاولة السير على نهجه في الحياة والأخذ بمثله العليا الأخلاقية في المعاملات والعلاقة مع الآخر لاسيما وأن مؤسس العلوية في آسيا الوسطى، وهو الشيخ المتصوف الزاهد أحمد اليسوي الذي توفي العام 1176 هو فقيه سنّي. إضافة إلى أن الشيخ بابا الياس، الذي يعد من أوائل العلويين في بلاد الأناضول كان قاضيا سنيا في مدينة قيصري.

كما أن العثمانيين الذين تبنوا البكتاشية ـ وهي أصل العلوية التركية، رغم اختلافها عنها من بعض الوجوه ـ كانوا من السنّة الحنفية، في حين أن بين المذاهب العلوية التركية والكردية، العديد من الطرق الصوفية السنّية كالنقشبندية والكاكائية والخشّابية والبابائية وغيرها.

أولاً ـ باب الشريعة ودرجاتها،هي:

1ـ حب الأئمة

2ـ السعي وراء العلم

3ـ العبادة

4ـ الابتعاد عن المحرمات

5ـ أن يكون الفرد نافعا لعائلته

6ـ أن لا يلحق الأذى بالبيئة

7ـ اتباع أوامر النبي

8ـ أن يكون مشفقاً وذا رحمة

9ـ أن يكون نظيفا

10ـ الابتعاد عن الأعمال الضارة وغير المجدية.

ثانيا ـ باب الطريقة ودرجاتها، هي:

1ـ التوبة

2ـ اتباع نصائح المريد “شيخ الطريقة”

3ـ الهندام النظيف

4ـ الكفاح وخوض الصراع من أجل الخير

5ـ تقديم الخدمات للمحتاجين

6ـ الخوف من ضياع الحقوق

7ـ تجنب اليأس

8 ـ أخذ العبرة

9ـ توزيع الخيرات

10ـ أن لا يتجبّر أو يتعالى أو يستكبر على الآخرين.

ثالثا ـ باب المعرفة:

1ـ التحلي بالأدب

2ـ الابتعاد عن الحقد والأنانية وسوء النية

3ـ عدم الإفراط في كل شيء

4ـ الصبر والقنا

5ـ التحلي بالحياء

6ـ إبداء الكرم

7ـ تعلم العلم

8 ـ التسامح واحترام الآخرين على اختلاف مشاربهم

9 ـ معرفة الآخر

10ـ معرفة الذات.

رابعاً ـ باب الحقيقة:

1ـ التواضع

2ـ التغاضي عن عيوب الآخرين

3ـ عدم التردد في تقديم المعونة عند المقدرة.

4ـ حب كل مخلوقات الله

5ـ أن يرى الناس متساوين

6ـ التوجه نحو الاتحاد وعدم الفرقة

7ـ عدم إخفاء الحقيقة

8 ـ الاهتمام بمعرفة الفراسة

9ـ التوجه لمعرفة السر الإلهي

10ـ الوصول إلى الوجود الإلهي.

ومن هنا يعتقد العلويون، بأن الإسلام يتكون من ثلاثة مذاهب ـ وليس مذهبين فقط ـ هي: السنة والشيعة والعلوية الذين ـ أي العلويين ـ يعدون أكثر الفرق الإسلامية التصاقا بجوهر الإسلام وقيمه الفاضلة. فإذا كان المسلمون ـ بعد النبي ـ ينقسمون إلى 72 فرقة، فإن من يتبع طريق أهل البيت والأئمة الإثنى عشر، هم من (الفرقة الناجية). والذين يتلخص شعارهم بجملة (تولي وتبري) بمعنى “اتبع أهل البيت والأئمة الإثنى عشر ومن ثم سر في طريقهم واترك من لا يحبهم” فإنهم جميعاً من أهل النار. ولكن ذلك لا يعني رفضهم أو إقصاءهم للآخر أو عدم التعامل معه.

ولذلك فإن أولئك الذين لا يفقهون معنى التصوف الإسلامي، الذي يستهدف تربية النفس البشرية من خلال المعرفة والحب، قربة للحق (الله) وكسبا لرضائه، الذي هو ـ أي الرضا ـ هدف الخلق والوجود، فإنهم يعدّون جميع هذه المذاهب الصوفية كفراً وإلحاداً في حين “أن التصوف يحاول جاهداً تنمية البشر من خلال المعرفة الحقيقية بالله وطاعته من جهة والتعامل مع البشر وصولاً لسرّ فكر الإنسان (خليفة الله على الأرض) أو ليست تلك الفكرة أساس الإسلام أيضاً؟”.

تجيب الدكتورة آيرين مليكوف، أستاذة كرسي التركيات في جامعة ستراسبورغ الفرنسية، والمتخصصة بالدراسات البكتاشية ـ العلوية، على هذا السؤال بنعم، وتضيف قائلة”: ولذلك فإن الفكرة العلوية التي وجدت منذ القرن الثالث عشر الميلادي وتطورت بالطريقة البكتاشية منذ القرن الخامس عشر في بلاد الأناضول، تستمدان أصولهما من المذهب الشيعي الذي اتجه في إيران بعد أخذه بالحداثة نحو التطرف والأصولية، في حين حافظت العلوية الأناضولية ـ رغم أخذها أيضاً بالحداثة ـ على نظرتها الإنسانية وتسامحها وإيمانها بفكرة التصالح الاجتماعي والإخاء الإنساني، لأنها فوق المذاهب والأديان.

 ومن هنا، يدافع العلويون عن كل المظلومين والمضطهدين، بغض النظر عن أديانهم وقومياتهم وألوانهم، في جميع أنحاء العالم. فكان هذا هو الاختلاف الأول بين البكتاشية والعلوية. أما الاختلاف الثاني فإنه ناجم عن تأثر البكتاشية بالتنظيمات السرية من حيث تنظيم المحافل وإقامة الشعارات والسلوك الاجتماعي، بعد القضاء على الانكشارية ـ التي كانت تربى وفق التعاليم البكتاشية ـ وغلق (الاوجاغات) المنتديات البكتاشية وتشريدهم ومصادرة ممتلكات محافلهم كافة وتحويلها إلى التكايا النقشبندية. وكانت البكتاشية قد أخذت فكرة الأعداد، على شكل الاقانيم الثلاثة التي سمّاها العلويون الله ـ محمد ـ عليّ.

 أما الاختلاف الثالث بينهما، فيكمن في ممارسة العلويين لفنون الرقص والغناء الصوفيين ـ التي يشاركهم المولويون فيها ـ بينما لا يمارسهما البكتاشيون ولا يعترفون بمرتبة المصاحبة العلوية.

إن ثمة تجديدات عدة لدى العلويين، مقارنة بالإسلام الأرثوذكسي، ولكن العلويين باطنيون رغم وجود العناصر الإيجابية العديدة لديهم والتي يستطيعون تطويرها إلى الأفضل. ومن هنا أعتقد أن العلوية وممارساتها تجري في إطار الإسلام، وبأنها كانت رد فعل لاضطهاد الشيعة الأصولية والسنّة المتزمتة لهم. إضافة إلى أن العلوية توليفة فكرية متكاملة: العادات التركية القديمة والشامانية والإسلام ولهذا فإن هذه التوليفة تضم أفكار التصوف والإمامية الإثنى عشرية والعلي اللّهية والحروفية (لاسيما القبّالة التوراتية) والاخيّة (الفتوّة العربية) والتقديس المسيحي لبعض الرهبان حيث يقدس العلويون بعض الشيوخ من الآباء والددوات في إطار تقديس خضر الياس ومشاركة المرأة العلوية في أداء الشعائر، إضافة إلى ايلائهم الأهمية لطير الكركي crane واتجاههم نحو الشمس عند الشروق لرؤية وجه الإمام عليّ ـ حيث كان الأتراك القدماء يسجدون للشمس عند الشروق ولذلك أطلقوا على الله تسمية Tanri المحرّفة عن Tan Yeri التي تعني مكان شروق الشمس لطلب تحقيق الأمنيات منه.

 ورغم أن المولوية ـ أيضاً ـ متأثرة ببعض الشعائر الأرثوذكسية، غير أن للمولوية جوانبها الثقافية والفنية التي تختلف عن البكتاشية، كطريقة صوفية فلسفية.”

 ومهما يكن من أمر، فإن ثمة رأيين ـ من الناحية الدينية ـ حول العلويين: يذهب الرأي الأول إلى أنهم فرقة من المتصوفة الدراويش الذين لا يتقيدون بالشعائر الدينية ولا يلتزمون بفرائض الإسلام التي يفسرونها على هواهم، في حين يؤمن أصحاب الرأي الثاني بأن العلويين هم من الفرق الإسلامية الغالية، ولذلك فإنهم أقرب إلى الشيعة الإمامية ـ كما قال البروفيسور عز الدين دوغان رئيس مؤسسة بيوت الجمع، في تصريحاته إلى صحيفة Star التركية في بقية المذاهب الإسلامية، ولهذا فإن أعظم المنتديات الثقافية ذا الصبغة الصوفية هو المنتدى الثقافي العلوي ـ البكتاشي (ABKB) في أنقرة العاصمة. في حين أكد رئيس الوزراء السابق بولند اجاويد “أن العلويين والسنّة في هذه البلاد قد ترعرعوا في أحضان الثقافة نفسها ونالوا الفيض الإلهي من روضة الثقافة التركية في إطار التصوف الإسلامي”.

غير أن البروفيسور عز الدين، يضيف إلى ذلك قائلاً: “ليست للعلويين أية مشكلة مع الإسلاميين الحقيقيين والصادقين في نظرتهم إلى الإسلام المتسامح، وإنما تكمن مشكلتنا مع أولئك المسلمين الذي يتخذون الدين الإسلامي ـ والفكر العلوي تحديداً ـ وسيلة لتحقيق أهدافهم السياسية، لأن العلوية ـ مثلها مثل الحنفية والشافعية والحنبلية تؤمن بأنها جزء من الإسلام، ويعرفون الإسلام بوجهه العلمي والمعرفي والإنساني المتكامل، خلال حياتهم التي تمتد إلى أكثر من ألف عام.

ومن هنا فإننا نعتقد بأن على الجميع أن يعترفوا ويحترموا خيارات الآخرين في إطار حقوق الإنسان وتقديس حرية الآخرين، والسماح لهم بإقامة المؤسسات التي يمارسون فيها شعائرهم ومناسكهم الدينية، بعيدا عن الاستغلال والاستثمار والإقصاء التي تؤدي في كثير من الأحيان بالعلويين للتوجه نحو الإلحاد واللادينية” (جريدة ترجمان التركية ـ في 10/11/2003).

ولكن رغم هذا الاختلاف الجذري بين الرأيين، فإنهما يعتقدان بأن العلويين أكثر الفرق الدينية تسامحاً وديموقراطية وإنسانية وتواضعاً، ويتجلى ذلك في احتفالات الزواج التي تقام صباحاً وتستمر حتى الظهر حيث يقدم الغداء فيها ومن الأطعمة المختلفة للجميع: الفقير والغني والشيعي والسني والعلوي والمسيحي والمشهور وابن السبيل، وفي الهواء الطلق اعتباراً من احتفالات النوروز (الربيع) وحتى نهاية الصيف. إضافة إلى إقامتهم لموائد (السبيل) أيام الآحاد من كل أسبوع لإطعام الفقراء وأبناء السبيل والمعوزين. كما أن العلويين يهتمون جداً بالعلاقات العامة مع الآخرين واحترام آرائهم وإجراء الحوار معهم بكل حرية وديموقراطية، إضافة إلى مساندتهم للمظلومين ودفاعهم عنهم في جميع المجالات.

المبحث الثالث ـ العلوية السياسية

عرف العلويون، منذ ظهورهم على المسرح السياسي، كمدافعين عن حقوق الطبقات المسحوقة وكمناضلين من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية وإنصاف المظلومين، بالروح الإنسانية الوثابة وبالتسامح الفكري ومناهضة الاستبداد والتمسك بالمطالبة بحقوقهم مهما كانت الظروف. ومن هنافإن تاريخ العلويين في بلاد الأناضول عبارة عن سلسلة من الثورات ضد السلطات الحاكمة الاستبدادية أو دفاعا عن حقوقهم المهضومة. فقد ثار الشيخ بابا إسحاق، أحد مريدي بابا الياس شيخ العلويين التركمان ومؤسس الطريقة البابائية الصوفية، ضد السلاجقة الذين أثقلوا كاهل جماعته بالضرائب العديدة العام 1208 الميلادي والتي استمرت حتى العام 1210 وشملت معظم مناطق بلاد الأناضول. وقد خشي السلاجقة من مغبة هذه الثورة العارمة، فقاموا بتجنيد معظم الشبان التركمان للخدمة العسكرية ما أدى إلى إضعاف قوة بابا إسحاق ومن ثم القضاء عليه وعلى ثورته.

 كما ثار العلويون البابائيون والعشائر الأوغوزية (التركمان، اوسطاجالي، روملو، تكه لي، ذو القدرية، شاملي آفشار، قاجار) المساندة لهم ضد الدولة العثمانية الفتية. ولكن العثمانيين قمعوا هذه الثورة بقسوة ما اضطر معظم تلك العشائر إلى الهجرة إلى أذربيجان الإيرانية. ولعل أخطر مشكلة سياسية واجهتها الدولة العثمانية كانت دعوة الإصلاح الاجتماعي ـ الاقتصادي التي أطلقها الشيخ بدر الدين محمود سماونالي (1359 ـ 1420) قاضي عسكر السلطان موسى تشلبي (ابن السلطان ييلدرم بايزيد الأول) الذي أعلن نفسه سلطانا على الدولة العثمانية وبدأ بمحاربة إخوانه الثلاثة الآخرين المطالبين بالسلطة بعد وفاة والدهم السلطان بايزيد الأول.

غير أن محمد تشلبي ـ الابن الأصغر للسلطان بايزيد الأول ـ استطاع التغلب على أخويه الآخرين وإعلان نفسه سلطانا على الدولة العثمانية باسم السلطان محمد الثاني (1432 ـ 1481) الذي عرف في ما بعد باسم السلطان محمد الفاتح، الذي قام بنفي الشيخ المتصوف بدر الدين سماونالي إلى مدينة أزنيك. ولكن الشيخ بدر الدين استطاع الهروب ـ بمساعدة مريديه من التركمان العلويين ت- إلى منطقة صامصون على البحر الأسود حيث أعلن هناك بأنه سيقوم بتأسيس دولة الحق ثم قام بتوزيع الأراضي الزراعية على الفلاحين المعدمين ونشر نوعا من الاشتراكية البدائية من خلال مبدئه القائل “كل شيء مشاع عدا وجه الحبيبة” فكانت تلك الدعوة أول ثورة مادية في الإسلام في بلاد الأناضول.

وقد انتشرت هذه الدعوة ـ التي كانت سرّية في البداية ـ بسرعة مذهلة وامتدت إلى المناطق المجاورة، نتيجة انشغال الدولة العثمانية بالغزو المغولي الذي قاده تيمور لنك، لاسيما بعد انتصاره على السلطان بايزيد الأول (1347ـ 1403) في معركة أنقرة العام 1402، وانشغال أبنائه الأربعة في الصراع على السلطة طيلة عشرة أعوام (1403ـ1413) التالية، إلى أن اعتلى عرش السلطنة محمد الفاتح العام 1413 ليتفرغ لمحاربة “العصاة الخارجين عن الدولة العثمانية”. فجهز حملة كبيرة لتحرير الأراضي التي استولى عليها أولئك “العصاة” ابتداءً من منطقة قونية، فتم القضاء على بوركلوجة مصطفى أولاً ثم على طورلاك كمال وبعد درزماجة مصطفى.

ورغم مقاومة الفلاحين المعدمين لقوات السلطنة دفاعا عن مكتسباتهم بقيادة الشيخ بدر الدين، إلا أن قوات السلطنة تغلبت عليهم وألقي القبض على الشيخ بدر الدين، الذي خلّده الشاعر المبدع ناظم حكمت في ملحمة رائعة ـ وتم إعدامه العام 1420 في القضية المعروفة في التاريخ العثماني باسم “حادثة سَرَز” لأن الشيخ بدر الدين قد اعدم في سوق مدينة سرز المزدحمة آنذاك.

ومنذ بدايات القرن الخامس عشر استطاع الشيخ حيدر بن جنيد بن صفي الدين التركماني، جمع عدد غفير من الدراويش التركمان في منطقة بحر قزوين الأذربيجانية الإيرانية حول دعوته الصفوية وخاض صراعاَ مريرا ضد العشائر الفارسية بمساندة الأمير اوزون حسن (1428ـ 1478م) زعيم دولة الآق قويونلية (الخروف الأبيض) التركمانية وحمو الشيخ حيدر بن جنيد الصفوي، فانتصر عليهم بقواته الجرّارة والذين أطلق عليهم تسمية (القزلباشية) ذوي الرؤوس الحمر لأنهم كانوا يعتمرون قطعة حمراء، إشارة إلى انتسابهم للطريقة العلوية، وأعلن ابنه إسماعيل الصفوي (1486ـ 1524) شاها ـ ملكاً ـ على إيران العام 1501 الذي قام بدوره بإعلان المذهب الشيعي، مذهباً رسمياً لبلاده، فأصبح بذلك مؤسس الدولة الصفوية في التاريخ.

وهنا يتبادر إلى الأذهان السؤال الوجيه التالي: لماذا لم يعلن إسماعيل الصفوي العلوي التركماني، العلوية مذهبا دينيا بدل المذهب الشيعي في إيران، رغم اشتراكهما في محبة الإمام علي وآل البيت؟

إننا نعتقد، أن الشاه إسماعيل الصفوي ـ وهو أحد الشعراء الأتراك الكلاسيكيين الذي نشر له ديوانان بالتركية ـ كان يفكر تفكيراً منطقيا لأنه اعتقد ـ وهو على حق ـ بأن العلوية ليست مذهبا دينيا وإنما هي طريقة صوفية ـ متميزة ومختلفة عن الطرق الصوفية الأخرى ـ لا يمكن إجبار الناس الانتساب إليها بالأوامر والقرارات الرسمية وإنما بالإقناع والحوار والإقتداء.

 ومن هنا فإن الطريقة الصفوية ـ العلوية ـ الصوفية أكثر الطرق الصوفية انتشاراً في منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى من جهة، ولأنه أراد تعبئة الشعب الإيراني الشيعي ضد الدولة العثمانية السنّية في حربه الدينية ـ السياسية لنشر المذهب الشيعي في المنطقة للهيمنة السياسية على الشرق، من جهة أخرى. ولذلك بقيت الرابطة الروحية بين الإمامية الإثنى عشرية والصفوية قائمة ووثيقة إلى اليوم، كما ظل الشاه إسماعيل الصفوي أحد شيوخ العلويين المرموقين حتى يوم الناس هذا.

وإذا كان السلطان ياووز سلطان سليم (1470ـ1520) قد انتهز الاضطرابات المذهبية التي حدثت بين الشيعة والسنة في منطقة جنوب شرقي بلاد الأناضول لشن حملة قمع واضطهاد ضد العلويين هناك، ما دفع بهم إلى القيام بسلسلة الثورات “الجلالية” ضد السلطنة العثمانية، فانتهزها السلطان ياووز سليم لإعلان الحرب على الصفويين بعد اتهامه للشاه إسماعيل الصفوي بخلق تلك الاضطرابات فكانت معركة تشالديران (23 آب ـ أغسطس 1514) التي انتصر فيها السلطان العثماني على الشاه إسماعيل الصفوي واحتل عاصمته تبريز حيث استولى على خزائنه ونقل عرشه الذهبي المطعّم بالماس إلى اسطنبول ـ وهو معروض اليوم في متحف طوبقبو ـ فإن السلطان سليم قد أراد بتلك الحملة العسكرية الجرّارة ضد الصفويين، تحقيق هدفين في آن: التوجه بالفتوحات العثمانية شرقاً، وضرب الحركة الصفوية العلوية المتنامية في بلاد الأناضول، بعد أن تبنّى الجند الانكشاريون (الجند الجدد) وهم مشاة القوات المسلحة العثمانية من المرتزقة ومعظمهم من العلويين، التي تأسست العام 1362 الميلادي، في (اوجاقاتهم أي منتدياتهم البالغ عددها 196 اوجاقا) اعتباراً من أواخر القرن السابع عشر، الطريقة البكتاشية أسلوباً في الحياة والمعاملات وبذلك ساهموا في نشرها في أنحاء بلاد الأناضول كافة ما أثار حفيظة السلطان محمود الثاني (1785ـ1839) فأقم وليمة عشاء لزعماء تلك الاوجاقات البكتاشية في قصره العام 1826 فقضى عليهم جميعاً. كما أنه أصدر فرمانا (أمرا سلطانيا) يقضى بإلغاء التشكيلات الإنكشارية وتجريدها من السلاح والامتيازات وملاحقة كل من يشتبه بالانتساب إلى الطريقة البكتاشية حتى تم قتل حوالي أربعين ألف علوي خلال تلك الفترة. ولذلك فقد تبنى العلويون مبدأ التقية لدفع الأذى عن أنفسهم والانعزال عن المجتمع العثماني الذي بدأ يطلق عليهم تسميات: الكفار واللادينيين والأتراك المعتوهين وغيرها من الأوصاف الرديئة والألقاب المشينة.

إن محاربة العثمانيين للعلويين في شخص البكتاشيين ومحاولة تهميشهم أدى بمعظمهم إلى الهجرة إلى الأقسام الشرقية والجنوبية الشرقية من بلاد الأناضول ليمارسوا هناك شعائرهم بصورة سرية ردحا من الزمن، إلى أن كانت الثورة الكمالية التي أخذت بأنظمة الحكم الحديثة بإعلان الجمهورية والدستور العلماني العام 1923 إضافة إلى إلغاء الخلافة والأخذ بنظام وحدة التدريسات وإنشاء مؤسسة الشؤون الدينية “التي تنص على وحدة الدين والدولة في نطاق اتخاذ الإسلام كدين والتركية كقومية ضمن حدود الجمهورية التركية في إطار الميثاق الوطني” المعلن عنه العام 1924.

وقد هيأ القانون المذكور، الأرضية الملائمة لإصدار قانون إلغاء الزوايا والتكايا العام 1937 الذي كان يعني سحب الاعتراف بالاقليات الدينية والإثنية خارج نطاق الإسلام كدين والتركية كقومية.

ورغم أن العلويين كانوا قد استبشروا خيراً بإعلان الجمهورية العلمانية، فإنهم شعروا بالغبن الفاحش نتيجة عدم اعتراف مصطفى كمال اتاتورك وخلفائه من بعده بالعلوية ـ ولو ضمنيا ـ رغم كون العلويين علمانيين مثلهم من جهة ولائهم كانوا يمثلون آنذاك حوالي ربع سكان الجمهورية التركية الفتية. ولهذا ظلت معاناة العلويين مستمرة في العهد الجمهوري أيضاً، وما زاد في الطين بلّة وضع الضرائب الباهظة على الماشية إضافة إلى ضريبة الطريق التي أرهقت كاهل الفلاحين في المناطق الشرقية والجنوبية الشرقية التي تقطنها الأكثرية العلوية. بل إن الجندرمة والتحصيلدار (مأمور الضرائب) كانا يقومان بضرب وسجن وتعذيب الفلاحين الذين لا يستطيعون دفع تلك الضرائب، ما أدى إلى تذمّر عام في المنطقة وتمرد بعض القبائل التركمانية وامتناعها عن دفع تلك الضرائب العام 1937 وفي العشرين من أغسطس ـ آب 1937 عسكر الجنود قرب مجموعة قرى درسيم (تونجلي الحالية) ثم قاموا بتطويق تلك القرى، فساد الخوف بين سكان تلك القرى بعد أن تسربت إليهم الأنباء التي تؤكد بأن الجنود سيعتقلون شيوخ وددوات وباباوات (شيوخ) الطرق الصوفية البكتاشية والعلوية والمولوية والصفوية كافة”.

ثم يتحدث لاتشين عن التحريض الذي مارسته القوات المسلحة التركية لحمل الفلاحين على التمرد بالقول “قام المقدّم الذي حاصر القرى التابعة لقضاء داريكنت موهوندي بجمع كل من يستطيع حمل السلاح بحجج مختلفة: تارة امتلاك السلاح ـ وإن كان مجازا ـ أو باتهامه بأنه من الأشقياء وقطّاع الطرق أو بأنه شيخ أو دده أو بابا للعلويين، وكان معظمنا يعرف الآخرين لأننا كنا من المنطقة نفسها. ثم ساقهم، وهم مقيدون إلى جهة مجهولة، حيث أن معظمهم أصبحوا ضحايا مجزرة 14 آب ـ أغسطس الرهيبة”. وتعتقد المصادر العلوية الموثوقة “أن حوالي 40 ألف علوي قد قتلوا في تلك المجزرة البشعة”.

غير أن حكومة عصمت اينونو، خليفة اتاتورك ورئيس الجمهورية وكالة آنذاك والعسكري الصارم قرر مواجهة هذه المطالب وثورة الأكراد العارمة التي زلزلت أركان الدولة خلال السنوات الثلاثة من عمرها، بالقوة فجهز جيشا عرمرما للقضاء عليها بتعزيز الفيلق السابع المعسكر في منطقة ديار بكر بفيلقين آخرين مع المدرعات والطائرات الإضافية التي نسفت الجبال ودمرت القرى وأحرقت الزرع والضرع. بعد أن أخذ ابنونو خلال حكمه (1938 ـ 1950) بالفكرة الفاشية “زعيم واحد لشعب واحد ذي إيديولوجية واحدة “المتأثرة بالفكرة النازية وإيديولوجية “هندسة البشر على شكل واحد” الستالينية.

وبعد الحرب العالمية الثانية أسدل ستار كثيف على العلويين بخاصة والحركة الكردية بعامة في تركيا، رغم أنهم استبشروا خيرا بأخذ تركيا بالتعددية السياسية أملاً في إتاحة المجال لهم للمشاركة في الحكم وتحقيق أمانيهم في إقامة المجتمع الديموقراطي الذي يتمتع فيه كل مواطن بالحريات العامة على قدم المساواة مع الآخرين.

غير أن الأحزاب السياسية التي تشكلت بعد الخمسينيات لم تطرح في برامجها الانتخابية مطالب الأكراد والعلويين في إتاحة المجال لهم لممارسة ثقافتهم في الإذاعة والنشر وتمثيل العلويين في رئاسة الشؤون الدينية لكسر الطوق السني المفروض على إدارتها وقراراتها. ولذلك فقد كان العلويون والأكراد يناضلون ضمن الأحزاب السياسية القائمة لتحقيق تلك الحقوق، حيث كانوا يؤلفون دائما ما بين 16 ـ 18 في المائة من عدد نواب البرلمانات القائمة خلال 1950 ـ 1980 عندما قام الجنرال كنعان ايفرين بانقلابه العسكري ـ وهو الانقلاب العسكري الثالث بعد انقلابي 1960 و 1971 ـ في 12 أيلول ـ سبتمبر من العام المذكور، ليلغي الأحزاب السياسية والدستور والبرلمان توطئة لوضع دستور جديد للبلاد العام 1982 والذي نص على تدريس مادة الدين في المراحل الدراسية كافة مع التوسع في فتح مدارس الأئمة والخطباء، دون الالتفات إلى مطالب العلويين في الاعتراف ببيوت الجمع الخاصة بهم كمراكز لممارسة الشعائر العلوية ورعايتها مع تحديد نسبة معينة في رئاسة الشؤون الدينية وبنسبة نفوسهم إلى مجموع سكان تركيا.

ومن هنا فقد دخل البروفيسور عز الدين دوغان، رئيس مؤسسة بيوت الجمع العلوية، في مساومات مع جميع الأحزاب السياسية التي تشكلت بعد العام 1983 من أجل تحقيق مطالب العلويين لقاء تأييدهم لمرشحي تلك الأحزاب، غير أنها جميعا لم تلتزم بوعودها. ولكن رغم ذلك فإن العلويين لا ينوون تأسيس منظمة سياسية مستقلة خاصة بهم وإنما سيناضلون ضمن الأحزاب السياسية التي تساند تطلعاتهم في التمتع بهويتهم الثقافية، ولذلك فقد صرح دوغان لصحيفة الزمان: “رغم أننا لا نرغب في تأسيس حزب سياسي خاص بنا إلا أنني أشجع كل العلويين للانخراط في العمل السياسي لأن الظروف السياسية تستدعي ذلك من جهة ولأن الأحزاب القائمة تتطلع لتعاون العلويين معهم من جهة أخرى، رغم أنني سوف لن أرشح نفسي للانتخابات”. وكان العلويون قد طرحوا المطالب التالية على الأحزاب السياسية العلمانية ـ عدا حزب العدالة والتنمية ـ لقاء تأييد مرشحيهم أو ترشيح خمسين إلى سبعين علويا وهي:

1ـ تمثيلهم في الهيئة الإدارية لرئاسة الشؤون الدينية تعادل نسبتهم إلى عدد السكان.

2ـ تخصيص مبالغ محددة من ميزانية الدولة لمساعدة مؤسسة بيوت الجمع، أسوة بمساعدتها لإنشاء الجوامع.

3ـ اقر الدستور قيام المدارس بتدريس نوعين من الدروس الدينية: درس الدين والأخلاق الإلزامي ودرس الدين الاختياري. غير أن المدارس كافة تقوم حاليا بتدريس الإسلام ـ وفق المذهب الحنفي السنّي ـ فقط في حين يجب تدريس أسس العلوية كمذهب فلسفي أخلاقي ضمن تلك الدروس، وفي الشعائر الدينية.

4ـ تخصيص وقت محدد ضمن البرامج الدينية المذاعة في هيئة الإذاعة التركية TRT لنشر الفلسفة الأخلاقية العلوية أيضاً.

ويبدو أن حزب الشعب الجمهوري العلماني بزعامة دنيز بايكال قد قبل التعاون مع العلويين في انتخابات 3 تشرين الثاني ـ نوفمبر 2002 ولذلك فقد فاز فيها بـ 178 مقعداً من مجموع 550 في البرلمان الجديد ليصبح الحزب الثاني فيه بعد حزب العدالة والتنمية ذي الصبغة الإسلامية، بزعامة رجب طيب اردوغان.

وكان من ثمار ذلك التعاون قيام محمد نوري ييلماز، رئيس الشؤون الدينية بإصدار أول تعميم يخص العلويين عندما ألزم المساجد التركية كافة ـ داخل البلاد وخارجها ـ بأن تكون خطبة صلاة التراويح ليوم الثلاثاء 26 تشرين الثاني 2002 الموافق 21 رمضان 1423هـ عن حياة الإمام علي بن أبي طالب وذلك بمناسبة ذكرى وفاته. وقد أعرب البروفيسور عز الدين دوغان، رئيس اتحاد بيوت الجمع العلوية “عن امتنانه لهذه الخطوة التي تأخرت كثيرا، والتي رفعت الحواجز بين السنة والعلويين في تركيا، والتي ستكون وسيلة لتحقيق السلام والوئام بين الموطنين في الجمهورية التركية” (صحيفة الصباح التركية الصادرة في 26/11/2002).

أما على الصعيد العالمي، فإن للعلويين جمعيات ومنتديات وبيوت الجمع في كل من ألمانيا وهولندا وبلجيكا وفرنسا والدانمارك والنمسا وكندا والولايات المتحدة الأميركية. بل إن فلسفة الأخلاق العلوية تدرّس في الجامعات الألمانية، ويحاول العلويون اليوم إدخالها للجامعات النمساوية، لأن العلويين يعتقدون بأن نظرتهم إلى الله والإنسان والوجود نظرة جديدة تختلف عن النظرتين الرأسمالية والشيوعية. فهل يمكننا اعتبار فلسفة الأخلاق العلوية، هي الطريق الثالث ـ أو رديفة لذلك الطريق ـ التي دعا إليها طوني بلير، رئيس وزراء بريطانيا الحالي؟!

تعيش المجتمعات الغربية التي أخذت العقل منارا للحياة المادية العصرية غير المتوازنة، ضياعا روحيا ونفسيا ملموسا على صعيد العائلة والمجتمع، ولذلك فقد دعا بعض المفكرين والسياسيين الغربيين ـ وعلى رأسهم الأمير تشارلز ولي عهد إنكلترا ـ إلى استلهام قيم التراث الإسلامي “لإعادة التوازن” إلى المجتمعات الغربية المادية المدمرة في نتائجها على المدى البعيد، بدمج روحانية التراث الإسلامي مع التراث المادي العقلاني الغربي” وتعني هذه الفكرة دمج مكونات الذات وسمات الشخصية مع منهج الحياة في بوتقة حضارة القرن الحادي والعشرين، في وئام وسلام بعيداً عن صراع الأفكار المحتدم بضراوة في أيام الناس هذه والمرشح لحرب حضارية مدمرة مستقبلا.

لأن الفكرة العلوية المتسامحة والمغلّفة بالروحانية الشفافة وبمظاهر الحياة الإنسانية الدافقة والنظرة العلمية الواقعية بخلق نوع من التوازن بين الجانبين الروحي والمادي في حياة الإنسان واستجابتها لمتطلبات العصر، قد يكون بديلا ـ أو رديفا ـ للطريق الثالث الذي يدعو إليها الغرب. ولكن هذا الأمر يجب أن لا يفسر بأننا نضع العلوية بديلا للإسلام المعتدل، وإنما نقوم بمحاولة التقريب بين الفلسفة العلوية الروحانية التي تستهدي بنور القلب وبين الفلسفة الغربية المادية التي تستهدي بنور العقل في توليفة ثقافية ـ مدنية معاصرة، لصهر قيم التراث الإسلامي والعلمانية المستنيرة ـ غير الملحدة ـ في بوتقة حضارة القرن الحادي والعشرين، نبذا للحروب والصراعات المدمرة التي يروج لها تجار الأسلحة ودعاة إقامة الإمبراطوريات المسيطرة ذات المبادئ الدولية الحاكمة لتحقيق الهيمنة على عالم اليوم.

ومن هنا فقد دعا الدكتور محمد آيدين، عميد كلية الإلهيات (الشريعة سابقاً) ووزير الدولة لشؤون الأديان في وزارة عبد الله غول السابقة، في المقابلة التي جرت معه على صفحات جريدة حرييت التركية (8/12/2002) إلى ضرورة “عقد ندوة فكرية حول العلوية في تركيا لبحث طروحاتهم حول الدين، ولمناقشة تفسيراتهم للدين الإسلامي ـ وأضاف ـ وأتمنى عقد هذه الندوة الفكرية في مدينة ازمير المعروفة بالتسامح وروحها التجديدية وأفكار مثقفيها الحية”.

وقد علق الدكتور عز الدين دوغان رئيس اتحاد بيوت الجمع العلوية على دعوة الدكتور محمد آيدين بالقول “رغم اقتناعنا بحسن نية الدكتور آيدين فإننا ندعو أيضاً إلى عقد ندوة حول المذهب السني نظرا لوجود الاختلافات المذهبية بين السنة أيضا. كما أنني اعتقد بأن التقرير المرفوع إلى الاتحاد الأوروبي حول الأوضاع العامة في تركيا العام 2002 لم يتضمن مشاكل العلويين القائمة اليوم”.

 وقد أيد معظم المفكرين الإسلاميين الأتراك عقد مثل هذه الندوات الدينية ليس من أجل الإصلاح الديني، وإنما لتقديم نمط إسلامي ديموقراطي إلى العالم “للرد على الاتهامات الموجهة إلى المسلمين بممارسة الإرهاب والاستبداد الفكري غير الديموقراطي وعدم احترام حقوق المرأة” (حرييت في 9/12/2002). فقد أكد خضر الماس، رئيس مؤسسة غازي الثقافية في اسطنبول ـ وقف آل البيت البكتاشية العلوية سابقا ـ تأييده الكامل ومساندته لفكرة عقد الندوة العلوية في ازمير، في حين أكد الباحث الديني المعروف إسماعيل نجار بأنه “يشكر الوزير آيدين على دعوته، لأن الدين الإسلامي ليس بحاجة فقط إلى الإصلاح وإنما إلى حركة نهضة شاملة تنقذ الإسلام والمسلمين من الاتهامات الموجهة إليهما ـ لاسيما بعد أحداث 11 أيلول ـ سبتمبر الإرهابية ـ بوصفهما بالإرهاب والتخلف الفكري”. أما فرماني آلتون، رئيس الاتحاد العالمي لجمعيات آل البيت العلوية، فقد أكد ضرورة “عدم تسييس هذه القضية، إنما بحثها في إطار الواقع ومعطيات الفلسفة العلوية”.

المصادر والمراجع

1ـ جورج جرداق: علي وحقوق الإنسان، الجزء الأول ـ دار مكتبة الحياة، بيروت ـ لبنان 1970.

2ـ Behcet Necatigil :Edebiyatimizde isimler Sozlugu ,varlik YY .Ankara 1998

3ـ Sukru Lacin :Dersim isyanindan Diyarbakira ,Sun YY.istanbul 1992

4 ـ alewitten. Com Hasan Bal , Tasavvuf Felsefesi ve Alavilik , www

5ـ Milliyet Gazetesi , 27\\5\\1998

6ـ Ahmat Tashgin , Alevi inanci Bir Alan Arastirmasinin Sonuclari ,Alaviler- alewitten. Com

7 ـ www. Aleviyol. Com

8 ـ Hurriyet Gazetesi , 30\\10\\2002

www.Alewitten.com

10ـ نقي اوزكان: مقابلة مع آيرين مليكوف حول التصوف والعلويين، صحيفة Milliyet  التركية الصادرة في 27/5/1998.

11ـ الياس اوزوم: بير الله محمد علي در عليّ،

www. Aleviler- alewitten. Com

12ـ مقابلة مع البروفيسور الدكتور محمد آيدين، وزير الدولة لشؤون الأديان، حول العلويين. صحيفة Hurriyet التركية الصادرة في 9 كانون الأول/ ديسمبر 2002.

13ـ مقابلة مع البروفيسور عز الدين دوغان:المسلمون اخوة جميعاً، صحيفة ترجمان ـ لمحمد علي اليجاق ـ التركية Tercuman Dunden Bugune الصادرة في 10/11/2003.

14ـ الشيخ بكتاش ولي، الكلمات (باللغة العربية) مع ترجمتها إلى التركية، تحقيق وتقديم: الدكتور اسعد جوشان ـ 1987.

15ـ Bekta- narl- lpG- Abdulbak- n Velayetnames- n- Vel-,, Haci 1958 Ankara

16ـ معظم كتب التاريخ المعتمدة حول الدولة العثمانية وتاريخ المذاهب: تاريخ أحمد رفيق وايناجيك ونيازي بيركس وعبد الباقي كولبنارلي وإسماعيل قارا وغيرهم.

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!