حاكمية الإنسان في فكر أبو القاسم حاج حمد

حاكمية الإنسان في فكر أبو القاسم حاج حمد

حاكمية الإنسان

في فكر محمد أبي القاسم حاج حمد

 

د. رائد جباركاظم  

 

يبرز المفكر العربي السوداني محمد أبو القاسم حاج حمد (1941ـ2004م)، من بين المفكرين المعاصرين في الفكر العربي والاسلامي المعاصر، لما يمتاز به من حيوية وجدية وفاعلية وتجديد وتنوير، في طرحه ومنهجه وخطابه وتناوله للقضايا الفكرية والثقافية والاجتماعية والتاريخية، ومحاولته لتقديم قراءات ذات وعي كبير وفهم جديد واسلوب عصري منسجم مع التحديات التي يواجهها العالم العربي والاسلامي ومتطلبات الحياة لكل ما هو مفيد ومعاصر.

ومصداق ذلك الحكم نجده واضحاً من خلال مؤلفات وكتابات هذا المفكر، التي اعطت الدليل على متانة وعمق فكره ومنهجه واسلوبه، ومن بين مؤلفاته المتميزة والجديدة والجادة كتاب (الحاكمية)[1]، الذي تناول فيه مفكرنا موضوع الحاكمية، ذلك الموضوع البارز في الادبيات الاسلامية المعاصرة في فكر وكتابات الكثير من المفكرين والباحثين، سواء مع ابي الاعلى المودودي او سيد قطب او فكر الاخوان المسلمين والحركات السلفية والصحوية وغيرها.

وسبب تأليف هذا الكتاب من قبل الحاج حمد يتضح في خاتمة الكتاب، حيث يؤكد الى ان السبب يعود الى قضية تصحيح الافكار المشوهة التي تنشرها التيارات الدينية المتطرفة وافكار الصحوة التي تقودها جماعات تكفيرية تلغي وجود الآخرين وتهمش الجماعات المختلفة وترفض التعددية والتنوع البشري، ( ان فشل الحركات الدينية في التعايش ـ الذي يقره الاسلام ـ مع تعددية المجتمع الدينية وتنوع حالاته الثقافية وتياراته، وادعاء منطق الحاكمية الالهية والاستخلاف، قد شوه مفاهيم الدين واوجد حالة من الانفصام ما بين المسلم ودينه من جهة، …كما اوجد حالة من الانفصام بين المسلم ومجتمعه من جهة اخرى.)[2].  

ومن المعروف ان قضية الحاكمية عند هؤلاء المفكرين والحركات السياسية تعني (الحاكمية الالهية) المطلقة لله تعالى في البشر، وفي الحياة والمجتمع والسياسة، كما هي في الطبيعة والكون، وان الله هو المشرع والحاكم للبشر من منطلق (ان الحكم الا لله)، وقد انجبت هذه الفلسفة الجبرية عقم فكري وثقافي واجتماعي وسياسي يعطل ويميت قدرة واردة وفاعلية الانسان ويحيله الى كائن جامد لا دور له في هذه الحياة.

يعتمد الحاج حمد على آلية جديدة وفهم مختلف تماماً عما تم طرحه من قبل المفكرين والدارسين لفكرة الحاكمية الالهية، اذ انه بصراحة اقام الفكرة واوقفها على قدميها بعد ان كانت واقفة على رأسها، من خلال جعلها (حاكمية للبشر) لا (حاكمية لله).

لقد أوضح الحاج حمد مسألة في غاية الاهمية وهي انه لم تسىء فكرة الى الاسلام والمسلمين وتشوه فكرهم وواقعهم، كما اساءت فكرة (الحاكمية)، هذه الفكرة التي انجبت مجموعة من المفكرين والزعماء والقادة والاتباع المتشددين والمتطرفين على الساحة العربية والاسلامية، والتي جعلت العالم اليوم اكثر عنفاً وتطرفاً وتشوهاً من السابق، هذه الفكرة التكفيرية التي تبنتها حركة الخوارج المتمردة في زمن مضى من التاريخ الاسلامي، وقت خلافة الامام علي بن ابي طالب، وتحديداً في معركة صفين حين تم رفع المصاحف على رؤوس الرماح، في دعواهم بالاحتكام الى كتاب الله من خلال شعارهم (لا حكم الا لله). وقد ادرك الامام علي مضمون فكرهم وخبث نواياهم ومخططهم الاجرامي فردهم بقوله ان عملهم وشعارهم وفكرهم انما هو: (كلمة حق يراد بها باطل).      

لقد تم استغلال فكرة الحاكمة من قبل الكثير من الكتاب والمفكرين والمستفيدين لتحقيق مصالحهم الشخصية وافكارهم السئية وتزييف الوعي الاسلامي وتدمير الافراد والمجتمعات، وكذلك قاموا بتحجيم وتحجير وحجب العقول وتعطيل الحرية والاختيار وتقديم الولاء والانتماء المطلق للمشيئة والارادة الالهية، ونحن نشهد اليوم تيار جبري معاصر ومتشدد يحيل الانسان الى كائن ضعيف لا دور له سوى تحقيق الطاعة العمياء للخالق، ويمارس اصحاب فكرة الحاكمية المطلقة لله تعالى، سلطتهم المطلقة وسطوتهم على الناس وكأنهم حماة الدين والناطقون الرسميون بأسم الشريعة الاسلامية.

ويرصد حاج حمد علة اتخاذ الكثيرين من القادة والحكام والتيارات الدينية لفكرة الحاكمية بصورتها السلبية السائدة حيث يقول: “إن فشل قادة الحركات الدينية في التعايش…قد شوَّه مفاهيم الدين وأوجد حالة الانفصام ما بين المسلم ودينه من جهة، حين لا يتقبل المسلم حالات التعصب والمغالاة والادعاء والفرقة وإسقاط حقوق الغير، كما أوجد حالة من الانفصام بين المسلم ومجتمعه من جهة أخرى، حين يقبل بهذه المقولات الزائفة على علَّاتها ظنًّا منه أنها من صلب دينه. إن هذه الخيارات الزائفة والمستندة الى فهم ديني خاطىء، والتي تأخذ بها حركات (الصحوة) الآن، تتعارض كلياً مع منهجية القرآن وخصائص عالمية الرسالة ومفهوم الاسلام للحاكمية البشرية، وتعدد انماط الخطاب الالهي للناس وللمؤمنين وللمسلمين”[3].

قدّم حاج حمد قراءة جديدة لقضية الحاكمية، تنم عن وعي وتنوير كبيرين للمفكر من جهة ولاعطاء فاعلية اكثر للانسان وحرية ومساحة في الفكر والعمل، من جهة اخرى، والتأكيد على وجودية الانسان ووحدته في هذا العالم رغم تنوع اللغات والاجناس والاثنيات، من جهة ثالثة.

ويرى حاج حمد أن الحاكمية قضية موجودة حقاً في الدين والطبيعة والانسان، ولكنها مرت بمراحل، وتطورت وتغيرت خلال التاريخ والتقدم الحاصل على مستوى الافراد والمجتمعات، فنحن نشهد ثلاث حاكميات أو مراحل في التاريخ البشري وهي :

1ـ الحاكمية الالهية.

2ـ الحاكمية الاستخلافية.

3ـ الحاكمية البشرية.

ـ الحاكمية الأولى، تعني “حكم الله المباشر للناس، دون استخلاف بشري، وهو حكم يتميز بـ ” الهيمنة المباشرة” على البشر وعلى الطبيعة في آن واحد، مع التصرف الإلهي فيهما (البشر والطبيعة) تصرفاً محسوساً وملموساً من وراء حجاب”[4].

وقد شهد التاريخ البشري الحاكمية الإلهية قديماً وكانت متمثلة في العلاقة بين الله والحالة التاريخية الإسرائيلية، وهي علاقة استوجبت قيام مملكة لله في الأرض ويدير شؤونها الله، بنفسه لا بمنطق الاستخلاف البشري عنه.

ـ والحاكمية الثانية ” تعني أن يكون الخليفة موصولاً بالله عبر الإلهام والإيحاء، وأن تسخّر له الطبيعة والكائنات”[5].

كما تعني أن الله يختار الخليفة تماماً كما اختار الله طالوت ثم داوود وسليمان، فالخلافة اختيار إلهي وتسخير إلهي، وليست مجرد سلطة دينية بموجب شرع الله وباختيار بشري.

أمّا الحاكمية الثالثة وهي حاكمية تأتي “خارج منهج الهيمنة الإلهية المباشرة على البشر والطبيعة “الحاكمية الإلهية”، وكذلك خارج منطق الاختيار الإلهي والتسخير “حاكمية الاستخلاف”[6].

يؤكد الحاج حمد أن الله عز وجل قد تدرج بالبشرية لتحكم نفسها وتلك غايته من الخلق، من “الحاكمية الإلهية” إلى “حاكمية الاستخلاف” إلى “الحاكمية البشرية”، أي “حاكمية الإنسان”.

إن الحاكمية البشرية قائمة على شرعة الرحمة والتخفيف، لا على شرعة الإصر والأغلال. حاكمية تتسع فيها ” دائرة “التصرف البشري” بالقدر الذي تتسع به مداركنا ومفاهيمنا، وتتغير استنباطاتتنا بالقدر الذي تتغير به الأزمنة والأمكنة، وصولاً إلى تأصيل منهج الهدى ودين الحق”[7].

إن الحاكمية البشرية تتضمن –بحكم بشريتها- التفاعل الإنساني مع المجموع البشري دون ادِّعاءات التفضيل والوصايا على الآخرين، فمن طبيعتها أن تلجأ إلى أنواع متعددة من الحوارات مع المجموع الإنساني على ضوء منهجية القرآن الكلية ودون أن تطبق على هذا المجموع الإنساني “نموذج دولة” لم يِؤسسه خاتم النبيين أصلاً، ودون أن تدعي تمثلها ورجوعها إلى فهم قرآني تأسيسي معين… إنها حاكمية بشرية ليس من طبيعتها أن تستمد سلطانها إلَّا من البشر أنفسهم لا من “فئة” تختار نفسها باسم الله ـ سبحانه ـ او بأسم حاكميته، او استخلافيته، سواء كانت هذه الفئة حاكمة او معارضة[8].

حقاً انها قراءة تنويرية وعقلانية تجديدية فاعلة قدمها مفكرنا ذات بعد وجودي انساني عميق تتيح للانسان مساحة واسعة لممارسة وجوده واطلاق طاقاته وادارة شؤون حياته وفق اختلاف منطق الزمان والمكان، ولكن لا يعني ذلك اطلاق العنان للانسان دون قيد او شرط او منهج ينظم حياته الدنيا، فـ ” الانسان يستلهم “منهجية القرآن” في ممارسة “حاكمية البشر”[9].

ولكن لا يعني ذلك ايضاً هيمنة الانسان بصورة مطلقة على الانسان والعالم، كي لا نقع في نفس الخطأ الذي وقع فيه دعاة الحاكمية الالهية، حين جعلوا هذه الحاكمية هي المسيطرة والمهيمنة على العالم والبشر والطبيعة، وانما يعني حاكمية تعطي للانسان مساحة كبيرة في الادارة والحكم والحياة بالزام ورباط سماوي الهي ينير الطريق والفكر والوجود.

إن الحاج حمد إنما يريد التقريب بين ماهو سماوي وما هو ارضي، وان يؤسس لفلسفة انسانية فاعلية تؤمن بما هو انساني وجودي من جهة، وبين ما هو الهي من جهة اخرى، لان وجودنا متكون من هذين الطرفين.

نحن اليوم بأمس الحاجة الى تقديم قراءات ومناهج جديدة تنسجم ووجودنا المعاصر، كي نحقق النجاح في هذه الحياة على اتم وجه، وان نحسن ادارة وجودنا وحياتنا، واستبدال الفكر المتشدد والمتطرف والاحادي بفكر تعددي حواري يؤمن بوجود الآخر كوجود الذات، لاننا في هذا الوجود (نحن) كل لا يتجزأ مهما تعددت وتنوعت ألواننا وألسنتنا وأدياننا وأفكارنا.

 

[1] : الصادر بطبعته الاولى عام 2010 عن دار الساقي، بيروت ـ لندن.

[2] : ص142.

[3] : كتاب الحاكمية ص 142.

[4] : ص 45.

 

[5] : ص 64.

[6] : ص70.

[7] : ص 100.

[8] : ص 131.

[9] : ص 113.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!