تأملات في الإسلام والفكر الحديث

تأملات في الإسلام والفكر الحديث

تأملات في الإسلام والفكر الحديث

سيد حسين نصر

ترجمة: محمد حسن قرينات

تقديم: خالد محمد عبده

 

على سبيل التقديم 

سيد حسين نصر مفكّر إيراني، أكمل دراساته في إيران والولايات المتحدة، وحصل على البكالوريوس في الفيزياء من الجامعة التكنولوجية من جامعة ماساتشوست، وعلى الماجستير في الجيولوجيا والجغرافية الفيزيائية من جامعة هارفارد، ثم حصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة وتاريخ العلوم عام 1958.

وفي عام 1958 م، عاد إلى إيران، وبقي فيها حتى عام 1979 كأستاذ في جامعة طهران؛ ثم رئيسًا لجامعة طهران في الفترة (1968-1972)، كما ترأس جامعة آريامهر الصناعية (جامعة شريف حالياً) في الفترة (1972-1975)، وشغل مناصب عدّة، منها: رئاسته لمجلس إدارة مؤسسة العمران الإقليمي (التي كانت تضم إيران وتركيا والباكستان)، كذلك كان عضوًا في أكاديمية العلوم الإيرانية، وعضو المجلس الوطني للتعليم العالي في إيران، وأستاذًا زائرًا في الجامعات الغربية: هارفارد وبرنستون وغيرها. له أكثر من 25 كتاباً وأكثر من 500 مقالة باللغات الفارسية والإنجليزية والعربية والفرنسية، وقد ترجمت مؤلفاته إلى العديد من اللغات، مثل الألمانية والإسبانية والعربية وغيرها من اللغات، وقد صدر حول سيرته العلمية كتاب تجاوز الألف صفحة ضمن سلسلة كبار فلاسفة التاريخ المعاصر (Library of Living Philosophers) .

تُرجمت بعض كتابات نصر إلى اللغة العربية، ومنها:

ثلاثة حكماء مسلمين (ابن سينا- السهروردي- ابن عربي)، سيد حسين نصر، ترجمة: صلاح الصاوي، مراجعة: ماجد فخري، بيروت، دار النهار للنشر، 1971.

– الإسلام أهدافه وحقائقه، سيد حسين نصر، بيروت، الدار المتحدة للنشر، 1974.

– دراسات إسلامية، سيد حسين نصر، بيروت، الدار المتحدة للنشر، 1975.

– الصوفية بين الأمس واليوم، سيد حسين نصر، بيروت، الدار المتحدة للنشر، 1975.

– مقدمةٌ إلى العقائد الكونية الإسلامية، ترجمة: سيف الدين القصير، ومراجعة محمد صبحي جعفر، بيروت 1989.

– دليل الشباب المسلم في العالم الحديث، سيد حسين نصر، ترجمة: فاروق جرار، وصادق عودة القاهرة، الشروق الدولية، 2004.

كما تُرجمت عدة بحوث لنصر في الدوريات العربية، وبطبيعة الحال، فإن أهل إيران أكثر حفاوة بنصر عن العرب، نظرًا لأنه ابن من أبناء هذا البلد، وتقدّم بعض كتاباته في المجلات الشيعية، وتنشر هذه المجلات جزءًا من أفكاره عن طريق إجراء محاورات معه، وآخر محاورة تُرجمت للعربية نشرتها مجلة (استغراب) الحديثة الظهور، وقد سبقتها مجلة (أديان) الصادرة عن قطر بنشر حوار له يدور حول مفهوم (التعددية الدينية).

يسود دراسات نصر انشغالٌ بالسعي وراء فهم أفضل للإسلام، ونرى هذا في سياق نقاش يتسم بقدر كبير من العمومية، يتناول المنظور التقليدي مقابل نزعة الحداثة، حيث يرى نصر أن مهمته هنا هي فضح لا مشروعية جميع النزعات المذهبية (العلمانية – العقلانية- التطورية – المادية – الإمبريالية- الإنسانية) ويعارض هذه النزعات بصفات مقابلة (حكيم – خالد – تقليدي – دائم – ميتافيزيقي- معرفة روحية – واحدية) ونراه في أكثر أعماله عمقًا (المعرفة والمقدّس) يوضح مهمته بأنها لا شيء غير قلب العملية التزم بها العقل العلماني للتأثير على التراث .

ونقدّم هنا لقراء (طواسين) نصًّا يشرح فيه نصر معنى التحديث ويقارب فكرة (الإسلام والحداثة).

 

تأملات في الإسلام والفكر الحديث

سيد حسين نصر

 

 

قليلة هي تلك الموضوعات التي أثارت جدلاً وانفعالاً أكثر مما أثارته المواجهة بين الإسلام والفكر الحديث. والموضوع بطبيعة الحال واسع، ويضم ميادين تمتد من السياسة إلى الفن المقدس، وهي ميادين غالبًا ما تَسبَّبُ مناقشتها في انفجارات قوية للعواطف والمشاعر، وكذلك للقدح الذي لا يمكن أن يقود إلى تحليل موضوعي للأسباب، ولا إلى رؤية واضحة للمشاكل المثارة، كما أن هذه المناقشة التي استهلكت الكثير من طاقات المسلمين ودارسي الإسلام ينقصها عدم وجود مفاهيم واضحة لمصطلحات المناقشة وإدراك جلي للقوى الحقيقية المتعلقة بهذه المسألة. كما أن المناقشة بأكملها تعتبر مشلولة نتيجة شعور نفسي بالنقص والضعف أمام العالم الحديث، الذي يمنع معظم المسلمين (الذين ينحون منحى المعاصرة) من القيام بتقييم نقدي للموقف وعرض الحقيقة بغض النظر عما إذا كانت عصرية متمشية مع الرأي السائد أو لا. وعليه فلنبدأ بتعريف معنى مصطلح الفكر الحديث.

معنى “الحديث”:

إنه لمن المدهش حقًا ذلك العدد الكبير من أشكال المعاني وظلالها التي أضيفت على لفظ (الحديث)، وهي تمتد من معنى (المعاصر) إلى (المجدَّد) و(المبدَع) أو المتمشي مع سياق الزمن. أما فيما يتعلق بمسألة المبادئ بل الحقيقة في حد ذاتها فلا تكاد تؤخذ في الاعتبار عندما تناقش مسألة الحداثة، إذ قلما يسأل المرء عما إذا كانت هذه الفكرة أو تلك الصيغة أو القانون تنسجم مع بعض أوجه الحقيقة. ويبدو أن انعدام الوضوح والدقة للحدود الفكرية والفنية التي تميز العالَم الحديث يشوش ويعيق فهم المسلم المعاصر للحداثة، سواء كان يرغب في تبني معتقداتها أو يرغب حتى في مقاومتها.

 ويبدو أن تأثير الحداثة قد عتَّم ذلك الوضوح، ولطخ تلك الشفافية التي تميز الدين الإسلامي الحقيقي في مظاهره الفكرية والفنية. وعندما نستعمل عبارة “حديث” فإننا لا نعني المعاصر ولا الجديد ولا النجاح في قهر العالم المادي والسيطرة عليه، بل نعني ذلك الشيء الذي فُصم عن كل ما هو متسامٍ وعن المبادئ الثابتة التي هي في الحقيقة تحكم كل الأشياء، والتي عرفها الإنسان في أدق معانيها الكونية عن طريق الوحي. وهكذا فإن الحداثة تختلف عن الدين؛ إذ يتضمن الأخير كل ما هو ذو أصل سماوي إلهي إلى جانب مظاهره وتطبيقاته وانتشاره على مستوى البشر، على حين تعني الحداثة، بالمقارنة، كل ما هو بشري فقط، بل إنها تعني الآن وعلى نحو متزايد كل ما هو شبه بشري، وكل ما كان قد ابتعد وانقطع عن المصدر السماوي. ومن الواضح أن الدين كان دائمًا مصاحبًا ومميزًا للوجود البشري.

غير أن الحداثة ظاهرة حديثة جدًا؛ فمنذ عاش الإنسان على هذه الأرض يؤمن وهو يدفن أمواته باليوم الآخر وبعالم الروح، فخلال مئات الآلاف من السنين من حياة البشرية على الأرض كان الإنسان تقليديًا في نظرته وتطلعاته، ولم يتطور فيما يخص علاقته بالرب ونظرته للطبيعة على أساس أنها تجلٍ للآلهة. وإذا ما قورن هذا التاريخ الطويل الذي استمر فيه الإنسان يحتفل بالدين ويؤدي وظائفه خليفة لله في الأرض، بالمدة التي سيطرت فيها الحداثة ابتداء من النهضة في أوروبا الغربية في القرن الخامس عشر وحتى يومنا هذا، فإن هذه الأخيرة تبدو قصيرة جدًا، وكأنها غمضة عين. غير أنه في أثناء هذه اللحظة الزائلة التي نعيشها نحن، كانت السيطرة الواضحة لقوة الحداثة التي يتقهقر أمامها كثير من المسلمين في ضعف أو ينضمون إليها متأثرين بإدراك سطحي للسعادة التي ترافق إغراءات هذا العالم. وهنا يجب أن نقول كلمة حول مصطلح (الفكر) كما هو مستعمل في عبارة (الفكر الحديث). فهذا المصطلح، كما استعمل في هذا السياق ذاته، حديث وليس دينيًا؛ فكلمة “فكر” العربية أو “انديشاه” الفارسية (اللتان تقابلان مصطلح) “الفكر الحديث”، قلما تظهران بالمعنى نفسه في النصوص الدينية.

وفي الحقيقة أن ما يتوافق مع المعنى الديني لهذا المصطلح هو المصطلح الفرنسي (Pensee) كما استخدمه باسكال، وهو مصطلح يمكن أن يترجم بمعنى “التأمل” بدلًا من “الفكر”. وفي واقع الأمر يرتبط كل من المصطلح العربي (فكر) والفارسي (انديشاه) بالتفكير والتأمل أكثر من ارتباطهما بما هو نشاط عقلي غير سماوي. وهو ما يوحي به مصطلح “الفكر” عادة. فإذا ما استعملنا، على الرغم ذلك، هذا المصطلح فإننا إنما نستعمله لأننا نخاطب جمهورًا نشأ على كل ما يدل عليه هذا المصطلح، ولأننا نستعمل لغة لا يمكن من خلالها الاستعانة بمصطلح آخر يؤدي المعنى نفسه، الذي يتضمن عدة أشكال للنشاط العقلي، وهو في الوقت ذاته خال من القصور بمعناه المباشر الذي يحمله مصطلح “الفكر” في اللغة المعاصرة.

 

خصائص الفكر الحديث

الإنسان هو محور الاهتمام:

إن جميع أشكال النشاط العقلي وأوجهه التي تكون الفكر الحديث، والتي تمتد من العلوم الطبيعية إلى الفلسفة علم النفس، بل تمتد إلى بعض أوجه الدين نفسه، تمتلك بعض الصفات المشتركة التي يجب أن تدرك وتدرس قبل تقديم الرد الإسلامي على الفكر الحديث. ولعل السمة الأساسية الأولى للفكر الحديث التي يجب أن تدرك هي طبيعته المتعلقة بكون الإنسان هو محور الاهتمام فيه. فكيف يمكن أن يكون أي شكل من أشكال الفكر الذي ينفي كل مبدأ أعلى من الإنسان أكثر من مجرد تفكير بشري محض؟ ومن الممكن أن يُعترض على ذلك على أساس أن العلم الحديث، في الحقيقة، ليس مرتكزًا على الإنسان. ولكن ذلك يمكن أن ينسحب على ما قبل العلوم الحديثة التي يمكن اعتبار أنها كانت تدور حول الإنسان. إلا أن هذا التأكيد هو مجرد وهم أو خديعة إذا ما درس الواحد منا بتمعن العامل المعرفي المتعلق بهذا الأمر. صحيح أن العلم الحديث يصف كونًا لا مكان للإنسان، بوصفه روحًا وعقلًا وحتى نفسًا، فيه وهكذا يصبح الكون وكأنه “لا إنساني”، ولا يرتبط بعالم الإنسان.

ولكن يجب ألا ننسى أنه، على الرغم، من أن الإنسان الحديث قد اخترع علمًا ألغى فيه حقيقة الإنسان من الصورة الإجمالية للكون، فإن معايير المعرفة وأدواتها، التي تحدد هذا العلم، هي بشرية بحتة. وإن عقل الإنسان وحواسه هما اللذان يحددان العلم الحديث، كما أن المعلومات المتعلقة حتى بأبعد الكواكب موجودة في عقل الإنسان؛ إذ إن هذا العالم العلمي هو في الواقع مبني على أساس أن الإنسان هو محور الارتكاز فيه. وذلك فيما يتعلق بالجانب الذاتي للمعرفة، الذي يعرِّف ويحدِّد ماهية العلم. وعلى النقيض من ذلك فإن العلوم الدينية لم تكن لتتمركز حول الإنسان، أي أن تحصيل المعرفة بتلك العلوم ليس مبنياً على التفكير الإنساني المجرد، بل على الفكر الذي ينتمي إلى مستوى للحقيقة هو فوق مستوى البشر، ولكنه مع ذلك ينير العقل الإنساني.

وإذا كانت علوم الكون في القرون الوسطى قد وضعت الإنسان في مركز الأشياء، فليس ذلك لأنها كانت إنسانية بحسب المفهوم الذي قدمته النهضة الأوروبية للمصطلح الذي يقول إن الإنسان الدنيوي الفاني هو مقياس كل الأشياء، ولكن لكي تمكن الإنسان من اكتساب رؤية واضحة للكون باعتباره ممرًا يمر خلاله الإنسان ويرتقي. وبكل تأكيد فإن الإنسان لا يستطيع أن يبدأ أي رحلة من أي مكان إلا من المكان الذي يوجد هو فيه.

ويمكن رؤية خاصية التمركز حول الإنسان هذه أكثر وضوحًا في أشكال وأوجه أخرى للفكر للحديث سواء أكانت علم النفس أم الأنثروبولوجيا أم الفلسفة. ولقد أصبح الفكر الحديث الذي كانت الفلسفة فيه إلى حد ما هي الأب والسلف، متمركزًا حول الإنسان منذ اللحظة التي جعل منها هذا الإنسان معيارًا للحقيقة. فعندما نطق ديكارت: “أنا أفكر إذًا أنا موجود” فإنه وضع إدراكه الشخصي لنفسه المحدودة معيارًا للوجود. فبدون شك أن (أنا) في توكيد ديكارت هي غير (أنا) السماوية التي هتفت وصرخت من خلال الحلاج (أنا الحق)؛ فـ”(أنا)” السماوية هي وحدها التي لها الحق، وفق التعاليم والمذاهب الدينية، أن تقول “أنا”. فحتى عصر ديكارت كان هناك وجود مجرد، وهو وجود الله الذي حدد الوجود البشري والمستويات المتعددة للحقيقة. ولكن مع ظهور المذهب العقلي الديكارتي أصبح الوجود الفردي للإنسان هو الاتجاه السائد للفكر الغربي. وباستثناء بعض التطورات الجانبية فإن علم الوجود أفسح المجال أمام نظرية المعرفة، ونظرية المعرفة بدورها أفسحت المجال أمام علم المنطق، وأخيرًا أصبح المنطق في مواجهة مع الفلسفات اللاعقلانية والسائدة في الوقت الحاضر.

وإن الذي حدث في فترة ما بعد العصور الوسطى في الغرب، هو أن المستوى الأعلى للحقيقة أصبح مهملًا على الصعيدين الذاتي والموضوعي؛ إذ لم يكن هناك أي شيء في الإنسان أعلى من تفكيره، ولا شيء راقياً في العالم المادي أكثر مما يستطيع العقل أن يدركه أو يفهمه بمساعدة الحواس الإنسانية الطبيعية. وبطبيعة الحال كان حدوث هذا الأمر شيئًا حتميًا، إذ إنه ينسجم مع مبدأ الملاءمة المعروف (مبدأ الكفاية أو الملاءمة عند القديس توماس الإكويني). فلكي تتم معرفة شيء ما، طبقاً لهذا المبدأ، يجب أن تكون هناك أداة معرفة ملائمة ومطابقة لطبيعة الشيء المراد معرفته. وبما أن الإنسان الحديث رفض أن يقبل أي مبدأ أعلى منه، فإن كل ما صدر عن تفكيره لا يمكن فهمه إلا متمركزًا حول الإنسان.

انعدام المبادئ:

السمة الثانية للحداثة، التي هي وطيدة الارتباط بالتركيز على الإنسان، هي انعدام المبادئ، وهي السمة التي تميز العصر الحديث؛ فالطبيعة البشرية غير مستقرة بدرجة كبيرة ومتغيرة ومضطربة بحيث لا تصلح أن تكون مبدأ لأي شيء. وذلك هو السبب الذي يجعل أسلوب التفكير غير القادر على الارتقاء فوق مستوى البشر، خاليًا من المبادئ؛ فعلى مستوى السلوك (أو الأخلاقيات رغم أن الأخلاقيات لا يمكن اعتبارها مجرد سلوك)، ومن وجهة نظر أخرى في ميدان السياسة والاقتصاد، يستطيع أي شخص أن يحس ويدرك انعدام المبادئ بالرغم من اعتراض البعض على أساس أن المبادئ موجودة في العلم. إلا أنه يجب التأكيد هنا مرة أخرى بأنه لا المنهج التجريبي ولا الإثبات عن طريق الاستقراء ولا حتى الاعتماد على معلومات الحواس التي يؤكدها العقل يمكن أن تصلح أن تكون مبادئَ بالمعنى الميتافيزيقي؛ فكلها صحيحة في مستوياتها الخاصة بها، وهذا هو الحال بالنسبة للعلم الحديث الذي اخترع أشياء كثيرة كلها صحيحة مطابقة للواقع في مستوى معين. ولكن نتيجة انفصاله عن مبادئ عليا فإنه أوجد، بسبب اختراعاته واكتشافاته ذاتها، حالة عدم تساو بين العلوم الحديثة.

ولذا فإنه يمكن أن يقال أن الرياضيات وحدها تمتلك بعض المبادئ بالمعنى الميتافيزيقي، والسبب في ذلك هو أن الرياضيات لا تزال، رغم كل شيء، علمًا أفلاطونيًا، وقانونها الذي اكتشف بواسطة العقل البشري لا يزال يعكس المبادئ الرياضية؛ إذ إن التفكير نفسه لا يملك إلا أن يظهر حقيقة كونه انعكاساً (حتى ولو كان باهتًا) للعقل. وإن اكتشاف العلوم الأخرى، إلى الحد الذي تتوافق فيه مع طبيعة الواقع، يكتسب بطبيعة الحال قيمة رمزية وميتافيزيقية. ولكن هذا لا يعني أن هذه العلوم مرتبطة بمبادئ ميتافيزيقية، وأنها تتحد في شكل سامٍ للمعرفة.

إن مثل هذا الاتحاد كان يمكن أن يحدث ولكنه لم يحدث. ولذلك فإن العلوم الحديثة ومبادئها العامة، مثلها مثل كل النتائج الأخرى لذلك الأسلوب من التفكير والعمل المقترن بالحداثة، تعاني من انعدام المبادئ، وهي ظاهرة تميز العالم الحديث، وتصبح ملموسة بدرجة كبيرة عندما يتجلى تاريخ العالم الحديث أمام العيان. ويمكن أن يتساءل المرء عن الوسائل الأخرى للمعرفة، التي كانت موجودة عند الحضارات التي سبقت الفترة الحديثة.

والإجابة واضحة، على الأقل لدى المسلمين الذين يعرفون الحياة الفكرية للإسلام، وهي الحدس والاستكشاف والمشاهدة؛ فقد اعتبر المفكر المسلم الوحي الوسيلة الأولى للمعرفة، وليس وسيلة لتعلم القوانين الأخلاقية المتعلقة بالحياة العملية فقط. وكان أيضًا مدركًا لإمكانية قيام الإنسان بتطهير نفسه التي تفتح عين القلب الموجودة في مركز كيانه، وتساعده على الرؤية الواضحة للحقائق الميتافيزيقية. ولذلك فإنه، في نهاية المطاف، قبل قوة العقل في سبيل تحصيل المعرفة. ولكن هذا العقل كان دائمًا يستمد العون والمساعدة من الوحي من ناحية ومن الحدس الفكري من ناحية أخرى، وقلة من المسلمين هم الذين كانوا قد قطعوا حبل الاعتماد هذا، وأعلنوا استقلال العقل عن الوحي والحدس الفكري، ورفضوا الاتجاه السائد في الفكر الإسلامي، وبقوا أشخاصًا هامشيين؛ على حين نجد عكس ذلك في بلاد الغرب بعد العصور الوسطى حيث إن أولئك الذين سعوا للمحافظة على حبل الاعتماد هذا، هم الذين بقوا هامشيين في الوقت الذي رفض فيه الاتجاه الفكري السائد في الغرب الحديث الوحي والحدس الفكري وسيلتين (مصدرين) للمعرفة.

 وفي العصور الحديثة قلما دافع الفلاسفة والمتخصصون في الدين عن الإنجيل على أساس أنه مصدر للمعرفة الحكيمة التي يمكن أن تحدد وتوحد العلم على طريقة القديس بونافينتورا (Bonaventure). والقليلون الذين يعتمدون على الإنجيل للإرشاد الفكري غالبًا ما يكونون قاصرين نتيجة تفسيراتهم السطحية للكتاب المقدس، وهو الأمر الذي يجعل المعسكر العقلي حتمًا هو المنتصر في أي صراع لهم معه.

مفهوم الإنسان:

عندما يفكر المرء مليًا في هذه الصفات وغيرها من الملامح البارزة للحداثة، فإنه يصل إلى نتيجة مفادها أنه لكي نفهم الحداثة وتطبيقاتها لا بد لنا من استيعاب مفهوم الإنسان الذي يشكل الأساس بالنسبة لها. يجب أن يحاول الفرد المتأمّل أن يكتشف كيف يفكر الإنسان الحديث في ذاته وفي مصيره، وكيف يرى الإنسان علاقته بالله والعالم. كما أنه لا بد، إلى جانب ذلك، من فهم ماهية الشيء الذي يكون أرواح الرجال والنساء وعقولهم، الذين لا تزال أفكارهم وآراؤهم تصوغ وتشكل العالم الحديث. فبكل تأكيد لو كان رجال مثل الفارابي أو الرومي أو اريجينا أو ديكارت يحتلون كراسي الفلسفة في الجامعات العريقة في الغرب فإن لونًا مختلفًا من الفلسفة سيظهر في هذا الجزء من العالم. الإنسان يفكر وفقًا لما هو عليه، أو كما قال أرسطو: المعرفة تعتمد على أسلوب العارف.

إن دراسة مفهوم الإنسان على أساس أنه متحرر من الملكوت السماوي وسيد مصيره، ودنيوي وسيد على الأرض غير واعٍ أو غافل عن الحقائق التي استبدل بها درجة الكمال المستقبلي في زمن دنيوي وغير مكترث، إن لم يكن معارضًا تمامًا لعالم الروح ومتطلباتها، وليس لديه معنى للمشيئة المقدسة؛ إن مثل هذه الدراسة سوف تكشف كيف كانت جهود أولئك المسلمين (المواكبين لعصرهم)، الذين سعوا إلى التوفيق بين الإسلام والحداثة كما عرفناها، غير ذات جدوى. وإذا ما أعرنا ولو نظرة خاطفة للمفهوم الإسلامي للإنسان: أي الإنسان المسلم، فإننا سنكتشف عدم إمكانية التوفيق بين هذا المفهوم ومفهوم الإنسان الحديث؛ فالإنسان المسلم هو في آن واحد عبد لله وخليفته في الأرض، فهو ليس حيوانًا تصادف أنه قادر على أن يتحدث ويفكر ولكنه إنسان يمتلك روحًا خلقها الله. الإنسان المسلم يحوي داخل نفسه طبائع النبات والحيوان، إذ إنه (أشرف المخلوقات) ولكنه لم يتطور من أشكال دنيا للحياة؛ فالإنسان كان دائمًا هو الإنسان.

المفهوم الإسلامي للإنسان يصور الإنسان كأنما يعيش على الأرض وله متطلبات دنيوية، ولكنه ليس دنيويًا فقط وإن احتياجاته ليست مقتصرة على أمور دنيوية. إنه يحكم هذه الأرض ولكنه يقوم بذلك خليفة لله أمام كل المخلوقات الأخرى. وهكذا فإنه يحتمل مسؤولية النظام المخلوق أمام الخالق وأنه هو قناة الرحمة والعطف لمخلوقات الله. الإنسان المسلم يمتلك ملكة التفكير والعقل التي تميز وتحلل، ولكن قدراته العقلية ليست مقتصرة على التفكير فقط، فهو لذلك يمتلك إمكانية المعرفة الذاتية، معرفة كيانه الذاتي الداخلي الذي هو في الحقيقة الوسيلة لمعرفة الله طبقًا للحديث المشهور”من عرف نفسه فقد عرف ربه”، وهو يعرف أن ضميره ليس مستمدًا من سبب مادي خارجي، ولكنه يتأتى من الله وأنه عميق جدًا بحيث لا يتأثر بالموت.

 وهكذا فإن الإنسان المسلم يبقى مدركًا للحقائق الأخروية، وأنه على الرغم من معيشته على الأرض فإنه هنا مسافر بعيد جدًا عن مقره الأصلي، وأنه مدرك بأن دليله في رحلته هو الرسالة التي تنبع من الأصل، وأن هذه الرسالة ليست إلا وحيًا ملتزمًا به، ليس من ناحية القوانين المتمثلة في الشريعة فقط بل من ناحية المعرفة والحقيقة، وهو أيضًا مدرك بأن قدرات الإنسان ليست مقتصرة على الحواس والعقل، ولكنها تذهب إلى الحد الذي يجعله قادرًا على أن يسترد تحقيق وجوده، ويثبت على أرض الواقع كل الإمكانيات التي زوده بها الله. فعقل الإنسان وتفكيره يمكن أن يستنير بنور العالم الروحي ويصبح قادرًا على أن يتحصل على معرفة مباشرة عن العالم الروحي الذي يشير إليه القرآن بـ(عالم الغيب).

ومن الواضح أن مثل هذا التعريف يختلف اختلافًا كبيرًا عن تعريف الإنسان الحديث الذي يرى نفسه مخلوقًا دنيويًا مطلقًا وسيدًا للطبيعة ومسؤولًا أمام نفسه فقط. ولا يمكن التوفيق بين المفهومين بأي قدر من الحجج الواهية؛ إن المفهوم الإسلامي للإنسان يستبعد إمكانية قيام أي ثورة بروميثية (نسبة إلى بروميثيوس سارق شعلة النار من الإله زيوس ليعطيها للبشر وفق الأسطورة المعروفة) ضد ملكوت السماء، ويدخل الله في الأوجه الدقيقة للحياة. وهكذا فإن هذا المفهوم يقود إلى خلق حضارة وفلسفة وفن، بل أسلوب تفكير، وإلى رؤية الأشياء التي لا تتمحور حول الإنسان وتتمحور حول الدين وتقف مخالفة لمبدأ التركيز على الإنسان الذي يعد خاصية مميزة للحداثة. ليس هناك أكثر اشمئزازًا للمسلم وإثارة لعواطفه من الفن البروميثيي والتيتاني المعروفين في النهضة الأوروبية، وكذلك الفن الباروكي الذي يقف مضادًا ومختلفًا مع الفن الإسلامي. فالإنسان في الإسلام يفكر ويعمل وفقًا لوظيفته بوصفه إنسانًا عاقلًا وحكيمًا وعبدًا لله وليس مخلوقًا يثور ضد السماء. وتبقى وظائفه ليست تمجيدًا لنفسه وعبادتها ولكن تمجيد لله وعبادته، وهدفه الأسمى هو أن يصبح (لا شيء)، لكي يتسنى له أن يتعرض للفناء الذي سوف يساعده على أن يصبح مرآة يتأمل فيها الله اسمه وصفاته، وأن يكون القناة التي من خلالها تنعكس تجليات أسمائه وصفاته على الأرض.

وبطبيعة الحال فإن ما يميز المفهوم الإسلامي للإنسان يتشابه بشكل عميق مع مفهوم الإنسان في الأديان الأخرى بما فيها المسيحية، وإننا سنكون آخر من ينكر هذه النقطة. ولكن الحداثة ليست المسيحية أو أي دين آخر، وأن ما يدور في خلدنا هنا هو ( المقابلة أوالمقارنة أو الموازنة) بين الإسلام والحداثة، وليست مقارنته بالمسيحية، وإلا فإن أقرب شيء إلى تعاليم الإسلام هو القول بأن الإنسان خلق لكي يسعى للحصول على الكمال والسعادة الروحية النهائية عن طريق النمو الفكري والروحي، وأن الإنسان يكون إنسانًا فقط عندما يطلب الكمال ويحاول أن يتجاوز ذاته، هذا أقرب إلى تعاليم الإسلام من القول اللاهوتي الذي يرى بأنه لكي يصبح الإنسان إنسانًا حقيقيًا عليه أن يكون أكثر من كونه بشرًا.

نظرية النشوء:

تقف خصائص ومميزات الفكر الحديث التي نوقشت أعلاه، أي دورانه حول الإنسان ومن ثم تأكيد طبيعته العلمانية، وانعدام المبادئ في مختلف فروع الفكر الحديث، ومبدأ الإنقاص  المرتبط بها، الذي يظهر بشكل واضح في ميادين العلوم، تقف جميعًا في تعارض كامل مع المعتقدات في الفكر الإسلامي، يماثل تعارض المفهوم الحديث للإنسان الذي نتجت عنه كل أنماط التفكير هذه مع المفهوم الإسلامي للإنسان. وهذا التضاد والتعارض واضح هنا إلى حد لا نحتاج معه إلى المزيد من الشرح والتوضيح. غير أنه هناك خاصية للفكر الحديث بحاجة إلى المناقشة بشكل مفصل نظرًا لانتشارها وشيوعها في العالم الحديث، ولتأثيرها المدمر على الفكر الديني وحياة أولئك المسلمين الذين تأثروا بها، ونعني بها نظرية النشوء.

لا توجد نظرية حديثة في الغرب ألحقت ضررًا بالدين مثل نظرية النشوء، التي بدلًا من أن تؤخذ فرضية في علم الأحياء والحيوان وعلم الإحاثة، أخذت على أنها حقيقة مثبتة، علاوة على ذلك فإنها قد أصبحت نمطًا للتفكير يشمل مجالات متباعدة مثل الفيزياء الفلكية وتاريخ الفن. ولم يكن تأثير هذا النمط من التفكير أقل سلبية على المسلمين المتأثرين به من المسيحيين. وقد حاول المسلمون (الذين يحاولون مجاراة العصر) التفاهم مع نظرية النشوء من خلال التفسيرات غير المعقولة للقرآن الكريم متناسين أنه لا توجد طريقة للتوفيق بين مفهوم الإنسان (آدم) الذي علمه الله الأسماء كلها وجعله خليفة له في الأرض، ومفهوم النشوء الذي يرى أن الإنسان تطور من القرد.

ومن الغريب حقًا أنه، باستثناء بعض من المفكرين المسلمين المتشددين الذين رفضوا نظرية النشوء على أساس ديني بحت، كلفت قلة من المسلمين نفسها عناء البحث والنظر في عدم مصداقيتها وفي الأدلة العلمية المضادة لها التي قدمها علماء مثل ل. بونير ود. ديوار بالرغم من الادعاءات القائلة بقبولها والموجودة في العديد من المعاجم والموسوعات المعتمدة. وقد وصف أي. ف. شوماتشر نظرية النشوء بأنها ليست علمًا بل خيال علمي أو نوع من الخدعة. وقد ذهب بعض النقاد الغربيين إلى حد القول بأن مؤيدي نظرية النشوء يعانون من عدم توازن نفسي. زد على ذلك أن سيلًا من الأدلة مستقاة من نظرية المعلومات قد استعملت هي الأخرى ضدها.

ليس هدفنا هنا أن نحلل ونفند بشيء من التفصيل نظرية النشوء على الرغم من أن مثل هذا الدحض والتحليل من قبل المفكرين المسلمين هو أمر ضروري لكي يكوِّنوا وجهة نظر علمية ميتافيزيقية وفلسفية ومنطقية ودينية كما حدث في الغرب. إن ما يجب الإشارة إليه هنا أن وجهة النظر النشوئية التي ترفض أن ترى الاستقرار في أي مكان، والتي يكون فيها الأكبر قد ارتقى بطريقة أو بأخرى من الأصغر، والتي ترتبط بالمستويات العليا للوجود وحقائق الواقع البدائي الذي يحدد أشكال هذه العالم، كلها لا تعدو في الواقع عن كونها نتيجة لانعدام المبادئ المشار إليه أعلاه. إن نظرية النشوء ليست إلا محاولة يائسة لملء الفراغ الذي نشأ عن محاولة الإنسان لاستبعاد يد الله عن خلقه ونكران أي مبدأ فوق الإنسان المجرد. وعندما يهمل مبدأ التسامي يصبح العالم دائرة بدون مركز وتبقى عملية فقدان المركز هذه حقيقة وجودية أمام أي شخص يقبل أطروحة الحداثة سواء أكان مسيحيًا أم مسلمًا.

الطوبائية (الطوباوية):

ترتبط فكرة النشوء ارتباطًا وثيقًا بفكرتي الطوباوية والارتقاء اللتين هزتا العالم الغربي من جذوره فلسفيًا وسياسيًا خلال القرنين الماضيين وتؤثران الآن تأثيرًا كبيرًا في العالم الإسلامي. لحسن الحظ لم تعد فكرة الارتقاء الثنائي ينظر إليها بجدية من طرف مشاهير المفكرين من الغرب في الوقت الحاضر، ويرفضها تدريجيًا العالم الإسلامي على أساس أنها “وهم العقل”، والتي كان الجيل الأول من المسلمين (الذين يتزيَّون بزي المعاصرة) قد ركع أمامها وتقبلها بدون تردد. ولكن الطوبائية المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بفكرة الارتقاء، تتطلب دراسة وتحليلًا عميقين؛ وذلك نتيجة للتأثير المدمر الذي أحدثته ولا تزال تحدثه في شريحة كبيرة من المسلمين (المتأثرين بالمعاصرة).

يعرف قاموس أكسفورد الطوباوية كمما يلي: (هي خطط مثالية مستحيلة، هدفها تحسين الأحوال الاجتماعية أو البلوغ بها درجة الكمال). وعلى الرغم من أن أصل هذا المصطلح يعود إلى رسالة سير توماس مور (Sir Thomas Moore) المشهورة المعنونة (Utopia) أو (المدينة الفاضلة) والتي كتبت في سنة 1516 باللغة اللاتينية، فإن مصطلح الطوباوية الذي يستخدم اليوم له دلالات وتفسيرات تختلف عما كان عليه في القرن السادس عشر، علمًا بأن المصطلح نفسه مشتق من عمل “مور” المشهور.

إن نظرية التجسد الإلهي في المسيح عند المسيحيين والمرتبطة بنوع من المثالية، التي تميز المسيحية كانت بطبيعة الحال موجودة قبل العصور الحديثة. وقد أقحمت الطوباوية نفسها على الهيكل الساخر لهذه الخصائص، وسواء ظهرت في شكل اشتراكية إنسانية أم في شكل أشخاص؛ في شكل القديس سيمون وتشارلز فودير أو روبرت أوين، أم في شكل الاشتراكية السياسية التي يمثلها ماركس وانجلز، فإنها في النهاية قادت إلى مفهوم تاريخي يعتبر حقيقة (محاكاة هزلية لمدينة الله الأغسطينية)، وأدت طوباوية العصور الماضية (وهي إحدى الخصائص الهامة للحداثة)، مضافًا إليها الأشكال المختلفة للمسيحية، ولا تزال تؤدي، إلى اضطرابات اجتماعية وسياسية كبيرة، لا يمكن لأهدافها وطرائقها إلا أن تكون غريبة عن روح الإسلام وأهدافه. فالطوباوية تسعى إلى إقامة نظام اجتماعي كامل ومثالي من خلال وسائل إنسانية محضة، وتتجاهل وجود الشر في العالم بالمفهوم الديني، وتهدف إلى عمل الخير دون الحاجة إلى الله، كما لو أنه من الممكن خلق نظام مبني على الخير ولكنه مفصول عن مصدر الخير.

لقد وصف الإسلام هو الآخر المدينة المثالية أو الفضلى في أعمال مثل أعمال الفارابي التي يصف فيها المدينة الفاضلة، وكذلك كتابات الشيخ شهاب الدين السهروردي التي تشير إلى أرض الكمال التي تدعى في الفارسية (ناكوجا أباد) والتي تعني حرمنا (بلاد اللا أين). ولكن كان دائمًا يؤخذ في الحسبان أن أرض الكمال هذه لا مكان لها وأنها تتعدى مجال الأرض، وأنها ترتبط بالسماء الثامنة.

 فالواقعية الموجودة في النظرة الإسلامية، بالإضافة إلى تأكيد القرآن الكريم أن المجتمع الإسلامي يفقد الكمال تدريجيًا كلما ابتعد عن مصدر الوحي، حالت دون نمو الطوباوية الموجودة في الفلسفة الأوروبية المعاصرة في تربة الفكر الإسلامي. علاوة على ذلك فإن المسلم بقي دائمًا مدركًا أنه إذا ما كانت هناك إمكانية لقيام دولة فإن ذلك يتأتى بعون من الله فحسب. ومن ثم فإنه على الرغم من أن فكرة التجديد الدوري للإسلام عن طريق المجدد لا تزال دائمًا قائمة، كما هو شأن فكرة “المهدية” التي تسعى من خلال القوة التي سيرسلها الله لإرجاع الإسلام إلى كماله وصحته، إنه على الرغم من ذلك لم يواجه الإسلام قط داخله ذلك النوع من الطوباوية العلمانية غير الدينية التي تشكل أساس كثير من أوجه السياسة الاجتماعية للفكر المعاصر. وهكذا فإنه من الضروري إدراك الفرق الكبير بين الطوباوية الحديثة والتعاليم الإسلامية المتعلقة (بالمجدِّد) أو تجديد المجتمع الإسلامي أو المهدي نفسه. كما أنه من الضروري التمييز بين الشخصية الدينية للمجدِّد والمصلحين المحدَثين الذين يتجهون بمواقفهم الضعيفة وجهة الفكر المعاصر والذين قلما أحدثوا تجديدًا في الإسلام.

 

معنى القدسية:

وأخيرًا، فإن هناك صفة أخرى من صفات الفكر الحديث يجب ذكرها، إذ إن لها صلة بكل ما ذكر أعلاه. وهذه الصفة  هي زوال معنى القدسية واستشعارها؛ فالإنسان الحديث يمكن أن يعرف، عملياً، على أساس فقده لهذا للشعور بالقدسية، وهي سمة واضحة في الفكر الحديث. وهذه الحركة الإنسانية الحديثة لا يمكن فصلها عن العلمانية. ولكن ليس ثمة شيء أعمق من وجهة النظر الإسلامية التي لا تشتمل على  مثل هذه المفاهيم (أي العلمانية والخلاعة اللادينية). إذ إنه يغوص الفرد في الإسلام، كما أشرنا، في أعماق عالم التعددية، ولا يسمح بأي نفوذ وسلطة غير نفوذ الدين وسلطته. ويمكن ملاحظة هذا، ليس في الأوجه الفكرية للإسلام فحسب  ولكن أيضًا في النمط الملتزم في الفن الإسلامي. فالدين الإسلامي لا يمكن قط أن يقبل أي نمط للتفكير خالٍ من رائحة القدسية، يستبدل فيه بالنظام السماوي نظام نابع من مصدر إلهام بشري محض. ولا يمكن للمواجهة بين الإسلام والحداثة أن تنشأ على مستوى جدي إذا ما لم تؤخذ بعين الاعتبار أولوية القدسية في المنظور الإسلامي وانعدامها في الفكر الحديث. فالإسلام لا يمكنه إجراء حوار مع العلماني اللاديني، لأن ذلك يضع الأخير في موقف شرعي. فالعلمانية يجب أن تؤخذ على حقيقتها المتمثلة في إنكارها ونفيها للقدسية.

التبسيطية: وفي الختام، من الضروري أن نذكر أن التبسيطية التي هي إحدى صفات الفكر الحديث، هي الأخرى تركت أثرها على الإسلام في مواجهته مع الحداثة. فأحد تأثيرات الحداثة على الإسلام هو قصره في عقول الكثيرين على واحد من مجالاته فقط، أي الشريعة، وسلبه أسلحته الفكرية التي هي وحدها يمكن أن تتصدى لهجمة الفكر الحديث على حصون الإسلام وتقاومها. الشريعة بطبيعة الحال رئيسة في الدين الإسلامي، إنها الأرضية التي يعقد عليها الدين، ولكن التحديات الفكرية التي تطرحها الحداثة، في صورة النشوء والعقلانية والوجودية والإلحادية وما شابهها، يمكن الرد عليها فكريًا فقط لا شرعيًا، ويجب ألا نتجاهلها ونتوقع أن يحدث نوع من التزاوج السحري بين الشريعة من جهة والعلم الحديث والتقنية من جهة أخرى. إن الالتقاء الناجح للإسلام مع الفكر الحديث يمكن أن يحدث عندما نفهم أصوله وفروعه فهمًا تامًا فقط. وعندما يقوم الدين الإسلامي بكليته لإيجاد حلول للمشاكل العديدة التي تطرحها الحداثة أمام الإسلام. وفي هذه القضية تكمن الحكمة أو الحقيقة الموجودة في بؤرة الوحي، والتي ستبقى صالحة ما ظل البشر بشرًا يشهدون بوجود الله وفقًا لطبيعتهم الدينية وعبوديتهم له، تلك العبودية التي تسوغ وجود البشر.

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!