السماعُ الصّوفيّ: إضاءاتٌ ومعايشة

السماعُ الصّوفيّ: إضاءاتٌ ومعايشة

 

 

 

السماعُ الصّوفي…إضاءاتٌ بِلُغةِ المُرْتَشِفِين

محمد التهامي الحرّاق

                                                       قمْ و اجتنِ قهوةَ المعاني – في صفوة الكأسِ إذ جلاهُو اسمعْ إذا غنت المثاني-   تقولُ يا هو لبيكَ يا هو.. الششتري

السماعُ راحٌ تشربه الأرواحُ بكؤوس الآذان على معاني الألحان،ولكل امرئٍ ما نوى،

ماء زمزم لما شرب له، وهذا وما يسمع له. ابن عجيبة

                                          

بسم الله الرحمن الرحيم                                     

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه

 

-1-

السماعُ، مُجَرَّداً من المَعازفِ أو مصحوباً بها، أداةٌ وأسلوب؛ إنه وسيلةٌ. و لما كانت العنايةُ بالوسيلة شرطا من شروط طلب الغاية، اعتبرهُ القوم ركنا من أركان الطريق، أي وسيلة رئيسة من وسائل السفر الروحي نحو الحقيقة الصوفية، و لحظة نفيسة من لحظات الخطو على الطريق الموصلة إلى حقيقة المحبوب الملكوتية. إن السماع، بهذا الأفق النسكي، يخترق الصمت القابع في الأشياء ليفجر فيها إشاريةً روحية إلى المعنى؛ ذاك المعنى الباطني الروحاني النوراني الذي يحتجبُ في سريرة السالكِ إلى الحق، والذي ينطمسُ بستائر العوائد وكثافةِ المحسوساتِ واللذائذ الغاوية لحظوظ النفس وميولاتها ورعوناتها. إن السماع، إذن، أداةٌ لسبر هذا الباطن، وصقلِ مرآة القلب لتحرك ما هو فيه كامنٌ مُضمر مكنون. فالسماع لا يضيفُ إلى القلبِ شيئا بقدر ما يحرّك ما فيه موجود، فهو وقفٌ على نيةِ السامعِ، و “لكل امرئ ما نوى”. لذلك حُظِر سماع الترانيمِ على من غلبت عليهم نفوسُهم؛ لأنه سيحرِّك ما إليه يميلون من لهو وشهوات وهوى، أما من عُمِّرَت آنيةُ فؤاده بمعاني الحب الإلهي والشغفِ بالقرب والزلفى من الحضرة الربانية النورانية، فإن السماعَ يُهذِّب باطِنَه، ويصقلُ مرآة قلبه، وينمِّي في سريرته حلاوةَ الإيمان، فتزكو أسرارُه، وتتغذى روحُه، وتنتعش مواجيدُه، ليرتقي في معارج المحبة، ويشرب من عقارِها بكؤوس الآذان. وهذا ديدنُ أهل الأذواق وأربابِ القلوب و رُشّافِ شرابِ القوم.

-2-

السماع أيضاً، بما هو موسيقى صوفية، فنٌّ رسالي. لكن “رسالته الفنية” لا تبلِّغ أفكارا ماثلة، بقدر ما تقدَحُ مواجيد دفينة في باطن الإنسان، وتفجِّر فيه طاقاتٍ روحيةً كامنةً حنطتها فيه العادةُ، وأطفأتْ نورَها الرتابةُ، وغشاوةُ اللهث واللهف والتهافت وراء إغراءات الاستهلاكِ و إغواءاته. رسالةُ هذه الموسيقى هي الدعوةُ إلى الإنصات للجوَّاني و الباطني في فطرة الإنسان من أجل الكشفِ عن وجه من أوجه هذا الباطن الغائرة. كشفٌ يعيد من خلاله الإنسانُ ترتيبَ علاقته بذاته وبالعالم نحو صياغةٍ قوامُها إنعاشُ أبعاد الإنسان الإنسانية، والتي تتخطى الحدودَ والتخومَ والتمايزاتِ والفروقات ودوائر الانتماء المختلفة؛ أكانت جغرافية أم إثنية أم قبلية أم طائفية أم دينية، بحيث يجدُ الإنسان ذاتَه إزاء بعده الإنساني الصِّرف، يحنُّ إلى تلك المعاني التي قد تخامرُ الإنسان من حيث هو إنسان. نعم قد تختلفُ التجلياتُ والأساليب، لكن البعدَ الإنساني للرسالةِ كما تترجمُه جماليةُ موسيقى السماع، و يقولهُ رونقُ الرقص الصوفي يبقى عميقا على قدر إشارته، و يفهمُه كلٌّ حسبَ قدرتهِ و ذوقِه؛ و على قدر ارتشافه من “قهوة المعاني” و سماعه لـ “تسابيح المثاني”.

-3-

سماعُ أهلِ “السماع المطلق”ِ لا يُقيَّدُ بنغم، فهم أهل ارتشافٍ للمعنى المتعالي حيثما كان، يسمعون في الله وعن الله وبالله، عن حق وبحق ولحق، لذلك فهُم يصغون بآذان أفئدتهم لتسبيحات الكون، فينصتون لنداءِ الغيب في صريرِ الأبواب، وخرير المياه، وحفيف الأشجار، وأهازيج الأطيار، وهبوب الرياح، وصعقات الرعد، وصليل السيوف، و غزل الأشعارِ، و عزف الأوتار،…؛ يُصغون لذلك في الصوت والصمت، في البادي والكامن، في الكائن والممكن؛ لأن قلوبَهم التي ينصتون بها معمورةٌ بذكرِ الله، ناضحةٌ بماء الغيب، فائضةٌ بمحبة الحق، طافحةٌ بأنوار المعرفة اللدنية الوهبية القادمة من خفايا الغيوب. والسماع، بهذا المعنى المطلق، غذاءٌ لمن صفت سرائرهُم، وتعرت طواياهم من أكدار الشهوات وشواغل الملذات و شواطن الشبهات وحظوظ النفس و طمع الأعواض وبخار البشرية.

-4-

السماع بهذه المثابةِ، مُطلقاً و مُقيَّداً، على أوجه ثلاثة: إلهي وروحاني وطبيعي؛ أما الإلهي فهو الذي لا يَسمع فيه العارف إلا عن الله بلحن أو بدون لحن، و في مواد أو في غيرها، وهنا تتراسل الحواسُ فترى الأذانُ، وتسمعُ الأعينُ؛ وهؤلاء استولت الحقيقةُ الأسرارية على كلِّهِم فلا يوجدون إلا بِها ومنها ولها، وكل الكون هو، في مرآة بصيرتهم، سبحات إلهية تناديهم من عمق الغيب كيما يتبللوا بماء المعرفة المطلقةِ، عبر اتصالهم ببحر المعرفة اللدنية، اتصالا لا انقطاع فيه و لا انفصال. أما الوجه الثاني فهو السماع الروحاني، وخلاله يرحل الصوفي بروحه إلى العالم الأسنى، فيصغي لنداء “ألستُ بربِّكُم” من عالم اللطافة والأزل في غير مواد، فيتلقى مواهبَ ترد عليه بحسب صفاء سريرته وتوغله في الإخلاص والذكر والحضور مع الحق. أما الوجه الثالث فهو السماعُ الطبيعي، وهو سماع الأشعارِ مُرتلةً بالألحانِ الشجية، مرنمةً بالأصواتِ البهية، أو مُوقعةً على أوتارٍ زهية. وهو يجلبُ للمريدين المبتدئين الأحوالَ الشريفةَ والمقامات الرضية، ويقدحُ بالنسبة للصديقين أحوالَهم التي يستزيدون منها؛ خصوصاً إذا ما صادف معنى من معاني السماعِ وقتَ الصوفي وحالَه، فأضحى سماعاً عن حال، بخلاف سماع المبتدئين الذي يُعتبَر مُجردَ سماعٍ عن طبع.

-5-

أما بالنسبة لأربابِ الحقائق (أهل “السماعِ المطلق”) من العارفين وأهل الكمال، فحالُهم في السماع كحالِهم قبلَه أو بعده؛ إذ سماعُهم مُمْتَدٌّ لا يسمعون إلا في الله وعن الله وبالله، لكونهم فنوا عن الأقوال والأفعال، وتجردوا من كل حظوظهم الدنيوية والبشرية. وفي هذه الحالة يكونون في تمكن وسكون ظاهرا و حركة و وجد باطنا؛ تلك الحالة التي يشيرُ إليها القومُ بالجبالِ التي “تحسبُها جامدةً وهي تمرُّ مَرَّ السحاب“. و في هذا المرقى يُستغنى عن “السماع المقيَّد” بالنَّغَم، أو لا يُحتاج إليه كما هو شأن المبتدئين أو الصديقين؛ ذلكَ أن أربابَ السماعِ الإلهي المطلق في مقام عال لا يحتاجون فيه إلى سماع بأنغام، فهذه الأخيرةُ مخاطباتٌ وإشارات تجتذب حظوظَ البشرية في المستمِع لتهذِّب روحَه وتصقل مرآة قلبه لتأهيله للحضور مع المتعالي بلا معية، و هم قد عبروا هذا المرقى إلى شطِّ هذا الحضور في “السماع المطلق”. على أن أرباب هذا السماع قد يحضرون مجالس السماع الطبيعي المقيّد لا لحاجةٍ إليه، بل من أجل مساعدة إخوانِهِم على الترقي في مقامات الذكر أو لتلقين شرائط السماع وآدابه و حفظ حقوقه، مثلما أنهم قد يحضرون مع هؤلاء الإخوان بظواهرهم دون بواطنهم، أشباحُهم بينهم و أرواحهم في بينونة وانفراد عنهم.

-6-

خلال السماع بالأنغام والألحان والأصوات الحسان، تعانقُ الموسيقى اللغة الصوفية، فتخرجُها عن الإلف اللغوي والدلالي، بحيث تشكِّل بهذا الخروج برزخاً بين عالم الشهادة وعالم الغيب؛ مجمعاً لبحري المعاني و الأواني تتضارعُ وتتآلف وتتفاعل وتتآثر فيه الأبعادُ العرفانيةُ والجمالية، الذوقيةُ والفنية، وهذا هو ما يؤهل تلك اللغة الممسوسةَ بالسرِّ للتنغيم والترنيم والترتيل والإنشاد. على أن تحليةَ هذه اللغة بالموسيقى ليس تلحينا باردا، أو صورة غنائية جافة، أو عملا صناعيا تقنيا. إنه يعتبر، في غالب الأحايين، شكلا من أشكال الفتوحِ الصوفية التي فصَّل أنواعَها الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي. فمثلما يكونُ الفتحُ معرفيا أو شعريا، أو إلهاماً لحل مسألة، أو تأويلا لعبارة شطحية، أو تعبيراً لآية قرآنية، أو استبطانا لسر من أسرار السيرة النبوية وسير الصحابة والصالحين والأولياء، أو استباقا فراسيا، أو رؤيا صالحة ..، يمكن لهذا الفتح أن يتجلى وينبجس وينفلق في صورة إلهامٍ للحن من ألحان السماع الصوفي، خصوصاً وأن بعض الشيوخ كان يأذن لمريديه بالتلحين ويعتبره أداةً من أدوات توهيجِ السرِّ و نشرِ الطريق، ويدعو له بالفتح في ذلك والتأييدِ بروح القدس، بل يُعيِّن لهُ أحيانا القصيدةَ أو النظمَ المطلوب تلحينُه و”الكيفية التقنية” لذلك، هذا بعيدا عن كل “معرفة تقنية كسبية” لا من قِبَل الشيخ ولا من قبل المريد المأذون في التلحين؛ حصل ذلك، تمثيلا لا حصرا، للعارف أبي الحسن الششتَري مع شيخه عبد الحق بن سبعين، و سيدي محمد بن العربي الدلائي الرباطي مع شيخه العارف محمد الحراق…إلخ.

-7-

و قد يظهر هذا “الفتح اللحني” متوهجا بشكل أسطع في حِلَق الذكر والسماع، بحيث يصل الوجدُ إلى حد إبداع “تلحينات” هي “ابنةُ وقت الصوفي وحالِه”، فتأتي مُبلَّلةً ببهاءِ الوجد، مَمْهورةً برونقِ الفتح. و هو ما يجعل تلك “التلاحين” تبدو مخصوصةَ التأثير لتخلُّقِها من رحمِ السر الصوفي الجواني. إنها “تلاحينُ” قادمةٌ من رحم الوجد العرفاني، تنعمُ بنسغ ذوقي علوي يندُّ عن الوصف، لكونها قد تدفقتْ عن الكون السري و الينبوع الغيبي الذي يتفاعل معه الصوفي. إنه المصدر الباطني الذي يجعل من ذلك اللحن “رسالةً صوفيةً” مُشفَّرةً تُتَلقى بوصفها “فتحا إلهيا” ألقاهُ المحبوبُ الحق في قلوب أحبائه على لسان ذاكَ المُلَحِّن، و ذلك كيما تترقق به القلوب، وتروق لمعناه الأفئدة، وتنساب وتتلطف به الأرواح في حنينها لمعانقة نضارة أصلها الروحي الباطني الخالص المجرد من السوى والأغيار والرسوم والآثار والأشكال. إنه السياق الذي يحكم تلقي تلك “ألحان” السماع، مما يؤهّل المستمعَ كي يتفاعل معها وجدانيا ويُنصتَ إليها بأذن الفؤاد، أي يتلقاها بسرِّه، ويحتسي معناها الذي يُعد اللحنُ الحَسنُ حُلَّته البهية والمهيبة. تلك الحُلَّة التي بها تحلى الكلامُ المطلق، ألأم يفضِ إلينا الرسول صلى الله عليه و سلم بهذا السرّ، لما قال: “لكل شيء حلية وحلية القرآن الصوت الحسن”. على أن الحلية هنا ليست رداءً خارجيا أو قشرة تنضاف إلى لغة الإشارة في كلام القوم، وإنما هي تفجيرٌ لإحدى أصوات السرِّ في تلك اللغة، بحيث يبدو “المُلحِّن” وكأنه يترجم ما ارتشفهُ من تلك إشارات المعاني، إلى إشارات موسيقية تتجاور و تتحاور و تتضافر للهمسِ بقطرةٍ من يمِّ المعنى الصوفي الباطني العصيِّ على القول.

 

مقالات ذات صله

1 تعليقات

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!