البيوتات العلمية بين مصر وتونس- حسن الشافعي

البيوتات العلمية بين مصر وتونس- حسن الشافعي

البيوتات العلمية بين مصر وتونس

د. حسن الشافعي

بسم الله الرحمن الرحيم

يا تونس الخضراء عشت منيفةً                  للسؤدد المكسوب فيك مراتعُ

وعلى ثراك الطهر كم خلب الربى                شادٍ، وكم هز الخمائل ساجعُ

يا تونس الخضراء أمسك إن يذقْ                عنتًا فحاضرك الكريم الرائعُ

هكذا ألقى عضو المجمع الشاعر العبقري عزيز أباظة – كما وصفه الشيخ الطاهر بن عاشور(1) – عينيته الحزينة في حفل تأبين فقيدنا الشيخ محمد الفاضل – عضو المجمع – كما جرت العادة، بالقاهرة عام ألف وتسع مئة وواحد وسبعين، وفيها يقول:

يا فاضل الفضلاء يا ابن عشيرةٍ                 زان الحجى فيها القنوت الخاشعُ

للعلم بين صدورهم حرم، وفي                    أفنائهم للصالحات مطالعُ

خلفت مجمعك الحزين وأنت في                         أعلامه العلم الأشم الفارعُ

إلى أن يقول:

لهفي على “الزيتونة العظمى” التي               ثكلتك حين مكانها بك تالعُ

الأزهر المعمور توأمها وعن                     صحنيهما انفجر الضياء الساطعُ

بكياك بالدمع الغزير، وربما                      سالت بحبات القلوب مدامعُ

وكان قد جاء إلى تونس – في حفل الأربعين – وألقى همزية تلم بهذه المعاني، وبخاصة ما بين الزيتونة والأزهر:

قم كرم الزيتونة العظمى وقلْ:                   ليكاد يشرق في حماك حراءُ

نشروا على دنيا العروبة علمهم                  وصلاحهم أعلامك العلماءُ

كم “طاهر” أو “فاضل” ملؤوا الدنا        علمًا تقفى خطوه الفقهاءُ

يا أخت أزهرنا الشريف سطعتما                  قدسين تقصر عنكما الغمّاءُ

تحميكما وتشد من أزريكما                      يس والفرقان والإسراءُ

أما بعد حمد الله، والصلاة والسلام على رسوله:

1- فقد رأيت أن تكون كلمتي – ممثلاً لمجمع اللغة العربية بالقاهرة، الذي سعد بعضوية فاعلة للشيخ الفاضل، وبمشاركات مرموقة لوالده الجليل، رحمهما الله – عن البيوتات العلمية، تلك الظاهرة الإنسانية النبيلة التي يعد البيت العاشوري أحد تجلياتها البارزة على المستوى العربي والإسلامي، وهي ملحوظة أيضًا على مستوى العالم في مجالات الفن والفكر والعمل جميعًا.

وقد يكون من المناسب أن نبدأ بالإشارة إلى فكرة الكاتب المصري والعربي عباس العقاد:

إن العبقري يستصفي كل عناصر التميز وخصائص التفرد في أسرته، بحيث لا تبقى فرصة كبيرة لظهور عبقرية أخرى فيها؛ يقول: “إن العبقري يستنزف من أسرته صفوة اللباب من خلائقها الحيوية أو ملكاتها الذهنية، وقيل: إنه من أجل ذلك قلما ينجب الذرية من العباقرة أمثاله(2)”، وبعد أن يتحفظ بأنه قول لا يخلو من المبالغة، يقول: “لكنه لا يخلو كذلك من الصحة التي تؤيدها مشاهدات الواقع(3)”. وعلى الرغم من مكانة هذا المفكر ورصانة فكره، فإنا نقول:

إن شواهد الواقع تقودنا إلى غير ما انتهى إليه؛ فالعلويون والعمريون كثير إلى زماننا هذا، وفي بعضهم بل الكثير منهم جانب كبير من “خصائص هذين البيتين الحيوية وملكاتهما الذهنية”، وبنو عبد الملك عدة رجال وأجيال في المشرق والمغرب، وفي العديد منهم خصائص البيت الأموي وملكاته، وليس الراشد الخامس الذي ضم إليها ملكات عمرية رجلهم الوحيد، ومثلهم بنو العباس؛ فللكثير منهم أثر بارز في تاريخنا السياسي والحضاري.

ولو انتقلنا أجيالاً: فالرشديون والتيميون والأيوبيون كثر؛ وقد عرف بالعبقرية منهم حفدة وأجداد. وقد كان بيت العقاد نفسه – في حي مصر الجديدة بالقاهرة – محوطًا ببني شاكر وتيمور، واللقاني والأمير، والنجار، والدواخلب، وعبد الرازق والظواهري، والخفيف، وأبي العيون: وكلها بيوتات عريقة، نبت فيها فروع باسقة في دنيا العلم والفكر والفن والعمل العام “كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه”.

وفي تونس المباركة العديد من بيوتات العراقة والأصالة في العلم والفن والعربية، عَدَّدَ الكثيرين منهم العلامة التونسي حسن حسني عبد الوهاب في “كتاب العمر”، والشيخ محمد الفاضل نفسه في كتابه الرائع “أعلام الفكر الإسلامي في تاريخ المغرب العربي”، وفيه عرض أبرز خصائصهم الفكرية عرضًا بديعًا: من فقهاء التابعين العشرية الذين صحبوا بالقيروان ثمانية عشر من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وإلى من بعدهم من ابن زياد وابن الفرات وسحنون الذين أتحفوا العالم الإسلامي “بالأسدية والمدونة”، ثم من حفلت بهم الزيتونة بعد القيروات، وغيرها من معاهد العلم بهذا البلد المبارك على مدى ألف ومئتي عام من تاريخ الثقافة العربية والإسلامية. هم أجيال بعد أجيال من البيوتات الممتدة في أبنائهم وأتباعهم إلى يوم الناس هذا.

وقد أَثْرَتْ تونس الخضراء مصر المحروسة بالعديد منهم؛ يملؤون ربوعها من الشمال إلى الجنوب بركة وعلمًا، وزرها الآن “نجد المرسي أبا العباس” بالإسكندرية الذي انحصرت فيه الطريق الشاذلية بعد شيحة أبي الحسن الذي ثوى في “حميثري” على طريق الحاج بين قنا والبحر الأحمر، والسيد أحمد البدوي في طنطا شيخًا للدلتا كلها، والإدريسي والعناني وابن خلدون في القاهرة، والبوصيري كبير المادحين لسيد المرسلين الذي شرف به إقليمنا بني سويف، والمنياوي الفقيه الطبيب نسبة إلى الئمناي أو منية ابن خصيب، وهي التي شرفت أيضًا بشيخ المفسرين القرطبي وضريحه المبارك، والحجاجي والقنائي في الأقصر وقنا، وكل هؤلاء جاءوا إلينا هدايا من تونس المعطاء أو عبر ربوعها المباركة.

2- وقد يتساءل المرءُ: وما هذه العلاقة الخاصة والوضع المتميز الذي يسوغ الكلام عن البيوتات العلمية في مصر وتونس على وجه الخصوص، والجواب بعد كل ما أسلفناه:

أن مصر وتونس تقفان منارتين على الشاطئ الجنوبي لبحر الحضارة المتوسط؛ تجتازه من الجنوب إلى الشمال وتهب رياحها مرة أخرى من الشمال إلى الجنوب؛ فتصل أول ما تصل إلى هذين المركزين قبل أن تصل إلى الفضاء الأفريقي أو الشرقي، وليس من قبيل الصدفة أن يكون أبرز رواد الإصلاح الدستوري الحديث رفاعة في مصر وخير الدين في تونس؛ ومن ثم تقارب البلدان في درجة التطور الحضاري، وتشابهت أحوالهما الثقافية وأوضاعهما الاجتماعية إلى حد كبير، كما كاد يتماثل دورهما في حركة الإحياء للثقافة العربية واللغة القومية في العصر الحديث؛ مما يتيح مزيدًا من التواصل بينهما بوجه خاص، وإن كان من الواجب أن نعترف لإخواننا هنا في الغرب بدور أكثر إيجابية في هذا الصدد، غير أن مصر لم تقصر أو تتنكر لهذه الرابطة الأخوية دينًا ولغة ودمًا ومصيرًا، بل فتحت صدرها وفسحت رحابها للمناضلين وقادة الحركات التحررية في ربوع المغرب، وكان بيت المغرب العربي في شارع السلولي بحي الدقي بالقاهرة، يضم بين جنباته يومًا الزعيم أبو رقيبة والشيخ محيي الدين القليبي، والشيخ البشير الإبراهيمي، والزعيم علال الفاسي، وانضم إليهم – في سكن خاص – الأمير عبد الكريم الخطابي، وأقاموا زمنًا ليس بالقصير، ونقلوا إلى الجماهير المصرية تجاربهم في الثقافة والسياسة والنضال، وتحررهم، وهي الدعوة التي تبناها علماء تونسيون منهم الشيخ السنوسي وغيره.

كما أن علماء مصر لم يجدوا أي غضاضة في أن يسندوا قيادتهم في الأزهر الشريف إلى الإمام الأكبر الشيخ محمد الخضر حسين، رجل العلم والجهاد والورع العفيف، كما عايشناه وتعلمنا منه، ومن قبل أفادت مصر من تجربة ابن خلدون وعلمه وخبرته، وتغنت حديثًا مع السيد بيرم التونسي بأشعاره الفصحى والشعبية الرائعة التي عكست الروح المصرية، وبلغت من نفوس المثقفين والعوام ما لم يصل إليه غيره من المبدعين من قبل، ولا يوجد شاب مصري من جيلنا لم يحفظ ويتمثل بأبيات أبي القاسم الشابي:

إذا الشعب يومًا أراد الحياةَ                       فلابد أن يستجيب القدرْ

ولا بد لليل أن ينجلي                            ولا بد للقيد أن يَنْكَسِرْ

أفلا يسوغ كل أولئك لنا أن نتحدث عن “البيوتات العلمية بين تونس ومصر” بوجه خاص؟ بعد كل هذا التقارب والتواصل والتشابة والتطور، الذي يتيح للمواهب الفردية أن تتفتح، وللتقاليد الأسرية أن تزدهر وتثمر؛ فتبقى البيوتات العلمية، في مثل هذه المجتمعات، مرعية الجانب، مقدروة الفضل، محفوظة المكانة والكيان.

3- ولعل مما يعين على هذا الازدهار والاستمرار: حرص الأجيال السابقة على توريث اللاحقين من بينهم شرف العلم وخدمة طلابه وراغبيه، ونبل الرسالة التي ينهضون بها في خدمة أمتهم ومجتمعهم كما تعبر عنه كلمات الوالد المكلوم الشيخ الطاهر بن عاشور:

“ابتهل إلى الله – تعالى – أن يجزي الفقيد العزيز أحسن الجزاء، على ما بذله من طاعة لله ورسوله في تأييد الشريعة الإسلامية والذب عن اللغة العربية (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا)(4).

هذا مع ما يتوافر في هذه البيوتات من خبرة عالية، وقدرة على التنشئة العلمية، والتربية الروحية والخلقية، كما يقول الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة عن شيخه محمد الفاضل: “أول ما يطالعك من الشيخ الفاضل أخلاقه الفاضلة.. مع رقة حاشية، وجميل ذوق، وفرط ذكاء، وحسن تقدير للأمور، اقتبس ذلك من بيئته النبيلة الراقية، في بيته بيت العلم والشرف والمجد والوزارة، ومن والده المعظم شيخنا محمد الطاهر ابن عاشور، ومن العلماء الأشراف أصحاب المجادة والرئاسة الذين كانوا يترددون على والده.. فكان بحكم هذه البيئة ناشئًا في وسط راقٍ رائق، توافرت له به أسباب المعرفة الغزيرة، والخلق الرضي، وقد كان اتصاله بوالده وأستاذه خارج حلقات الدروس مستمرًا دائمًا طوال حياته، سفرًا وحضرًا، إلى أن لقي ربه، وكان له من ارتباطه وامتزاجه به منزلة مزدوجة من البنوة والصحبة، شاهدنا آثارهما المباركة الزكية فيما كان عليه الفقيد من كمال التخرج في الناحيتين العلمية والسلوكية، وفيما كان يتحلى به (رضي الله عنه) من أخلاق النبوة(5)”.

ومما يعين على ذلك الازدهار أيضًا ما يتجمع في تلك البيوتات الزاهرة من مكتبات عامرة، والخزانة العاشورية مثلاً تعد من المكتبات الخاصة الشهيرة، ليس في تونس وحدها وإنما لدى الباحثين في العالم، إذ تنفرد بوجود أصول فريدة، وقد قام بنشر بعضها الشيخ محمد الطاهر، ويقدر عدد الكتب فيها بنحو خمسة آلاف، منها ألفا كتاب من المطبوع، ونحو ثلاثة آلاف كتاب مخطوط، وللمكتبة فهارس خاصة بمحتوياتها موضوعة تحت نظر القادم بكل ترحاب وبشاشة وضيافة.. ويقوم على المكتبة الآن الدكتور محمد العزيز بن عبد الملك(4) بن محمد الطاهر بن عاشور، وما زالت ملكًا لآل عاشور(6)؛ فمن تتوافر له هذه الظروف ليس كمن يعاني في الانتقال إلى المكتبات العامة والحصول على كتاب أو كتب قليلة يردها بعد حين، فالواقع المشهود – على كل حال – أن أسرًا عديدة وبيوتًا شريفة قامت في هذين البلدين الطيبتين على هذه الخدمة العلمية جيلاً بعد جيل، والبيت العاشوري – كما أسلفت – هو تجل نبيل لهذه الظاهرة الإنسانية (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا) (الأعراف: 58).

4- وقد جاءت الأسرة العاشورية، التي تنتمي إلى الدوحة المحمدية من الأندلس بعد نكبتها إلى العدوة الأفريقية في المغرب، حتى استقرت بتونس أواسط القرن الحادي عشر الهجري (السابع عشر الميلادي)، فعاشت كريمة موقرة، وكان من أبرز رجالها في العصر الحديث الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور (الجد) جد الشيخ الطاهر المفسر، وله مؤلفات طبع بعضها بمصر وتونس، كحاشية “القطر” لابن هشام، وشرح البردة للبوصيري، وتقلد مناصب هامة في القضاء والإفتاء والتدريس وغيرها، كما تولى نقابة الأشراف، وكان فقيه النفس مستقل الرأي، وأصهر إلى الوزير بوعتور فخطب ابنته لولده محمد، الذي أنجب أكبر رجال هذه الأسرة العريقة الشيخ الجليل محمد الطاهر ابن عاشور (الحفيد) الذي طبقت شهرته وتفسيره “التنوير والتحرير” أرجاء العالم الإسلامي، أصدره بعد أن أتقن علوم التراث العربي والإسلامي، وتعلم الفرنسية، وتخرج في “الزيتونة” عام 1899م، وتلمذ مع صديقه الشيخ محمد الخضر حسين لأعيان عصره، وقام بالتدريس في “الجامع الأعظم” منذ مطلع القرن العشرين حتى مضى إلى جوار ربه، مع نهوضه بالعديد من المسؤوليات والمناصب في التعليم والقضاء، والإفتاء، والشورى، والأوقاف، ولم يشغله ذلك عن التأليف البارع في العلوم الإسلامية والعربية، وأهمها التفسير وأصول الفقه، وبخاصة فرع المقاصد الشرعية، مع التحقيقات الدقيقة في العربية والعلوم الشرعية، وتولى مشيخة الجامع الأعظم، وتقلد منصب شيخ الإسلام المالكي في مطالع الثلاثينيات من القرن الماضي، وتوثقت صلته بقادة العالم الإسلامي، وشارك عضوًا في مجمع اللغة العربية بدمشق، أما مجمع القاهرة فقد حظي ببحوثه الرائعة في مجلته ومؤتمراته السنوية، وبالعضوية الفعالة لولده الشيخ محمد الفاضل بن عاشور.

5- وكان الشيخ الفاضل – رحمه الله – صورة من أبيه في كمالاته العلمية والنفسية، بعد أن تخرج به كما أسلفنا، وتعلم الفرنسية وأتقنها، فكان كما يقول الشيخ الخوجة زميله في مجمع القاهرة وتلميذه المقرب: “لا يعلم بصدور كتاب قيم جديد في العربية أو الفرنسية إلا حرص على الحصول عليه والإلمام به”، وتخرج في الزيتونة وفي الجامعة التونسية بكلية الآداب أيضًا.

ومن أوضح ما يلفت النظر في هذا البيت المبارك أن التعمق في علوم العربية والإسلام لا يحول دون التفتح على ثقافة الغرب وتيارات العصر، والتواصل مع المؤسسات والمؤتمرات المعنية بعلوم الإسلام وشؤون المسلمين في الشرق والغرب، وهي السمة البارزة في رجال الأزهر المحدثين أيضًا الذين تولى خمسة منهم إمامته الكبرى في أقل من نصف قرن: وهم…… مصطفى عبد الرازق، وعبد الرحمن تاج، ومحمد الفحام، وعبد الحليم محمود، وكلهم تخرج في السوربون بعد الأزهر، والشيخ عبد الرحمن بيصار الذي نال الدكتوراه من الجامعات الإنجليزية، ويبدو أن الشيخ الطاهر قد عني بولده الفاضل عناية خاصة لما توسمه فيه من مواهب؛ رجاء أن يخلفه في مكانته ودوره، وشاءت الأقدار أن يقضي في حياة أبيه، من بين إخوة نجباء عنوا بالنشاط الأدبي والعمل السياسي.

وفي البيت الموصول البركات حفدة بررة يحرصون على الاشتغال بالتعليم كآبائهم، ومنهم الأستاذ الجامعي الدكتور المؤرخ محمد العزيز بن عبد الملك بن محمد الطاهر، والأستاذ الدكتور الحقوقي عياض بن محمد الفاضل، الذي تولى مناصب هامة، منها رئاسة الجامعة التونسية(7)”. فما أسعد تونس بهذا البيت الكريم! وما أسعدنا نحن العرب والمسلمين!

على أن التشابه بين الرجلين لا يقف عند التكوين العلمي الشامل العميق، والتربية الروحية العالية، بل امتد – كما كان ابن راشد الحفيد والجد – إلى الرسالة والدور، وظل الشيخ الفاضل يعلم في رحاب الزيتونة الشريفة وينتمي إليها أربعين عامًا مدرسًا ثم عميدًا لكلية الشريعة وأصول الدين حين مضى إلى جوار ربه الكريم، وكان أحب المناصب إليه منصب التعليم، وإن كان قد تولى مناصب عدة في القضاء حتى صار قاضيًا للقضاة، ورئيسًا للمحكمة الشرعية العليا، ثم رئيسًا لمحكمة النقض والإبرام، وفي الإفتاء، فنصب مفتيًا للجمهورية التونسية – رحمه الله.

وكان كأبيه أيضًا وثيق الصلة بالعالم العربي والإسلامي هيئات ورجالاً، فقام برحلات عديدة، وحاضر في تركيا بجماعة إستانبول، وفي الهند بجامعة عليكرة، وفي الكويت بجامعتها وجمعية الإصلاح الاجتماعي فيها، وفي الرباط بالدروس الحسنية، وحضر بعض مؤتمرات المستشرقين في باريس، وهو عضو في مجمع اللغة العربية بالقاهرة، واختارته مصر عضوًا في مجمع البحوث الإسلامية أول تكوينه، وهو عضو برابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة، وعضو مراسل بالمجمع العلمي العربي بدمشق، وعضو بمجلس الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وحاضر في الصادفية بتونس، وحرص على أن يزكي دماء الأصالة في هذه الجامعة أو الجمعية الثقافية والسياسية، وحين تولى مسؤولية الخلدونية دعم برنامجها الثقافي الفكري بمحاضراته وروحه التنظيمية المؤسسية، وأسس في إطارها معهدين عاليين هما: “معهد الحقوق العربي”، ومعهد “البحوث الإسلامية”، وشارك فيه بنفسه، ونظم حلقة خاصة بطلاب الجامع الأعظم، وانتدب لها أساتذة في الطبيعة والكيمياء والرياضيات يدرسونها باللغة العربية، ويحصل الطلاب في ختامها على “البكالوريا العربية”، وتمت معادلتها “بالتوجيهية”، وعمل على أن يؤذن لحملتها بالالتحاق ببعض الجامعات العربية والغربية، وكانت له طوال أربع سنوات محاضرتان عامتان كل أسبوع يلقيهما ارتجالاً متدفقًا بعلمه الفياض كأنما يقرأ من نص مكتوب كما يصفه الشيخ الخوجة – أمد الله في عمره(8).

ويعجب المرء أن صاحب هذا النشاط الواسع، في وطنه وفي العالم من حوله، يجد من وقته فسحة للتأليف والبحث العلمي الذي أتقن أصوله ومناهجه، ولو نسأ الله له في أجله، كأبيه المبارك الذي ناهز التسعين، فلربما ماثله في كثرة المؤلفات وغزارة البحوث والتحقيقات، ولكن ضيق الوقت وكثرة الأعباء وحضور الذهن وقوة الذاكرة جعلته يلجأ إلى الارتجال في كثير من الأحوال، مما يجعل مهمة مؤتمر كهذا إن حاول جمع الأعمال الكاملة له مهمة غير يسيرة، لكن بعض أعماله قد حفظت ونشرت على الناس، كما أن بحوثه في مجمع القاهرة وفي مجمع البحوث الإسلامية محفوظة بحمد الله – ومن مؤلفاته المطبوعة:

  • الحركة الأدبية والفكرية في تونس – وهو أصلاً مجموعة محاضرات بمعهد الدراسات العربية بالقاهرة حين دعته الجامعة العربية للتدريس فيه في منتصف الخمسينيات، يستعرض فيه الفكر التونسي وظواهره الأدبية وأعلامه البارزين.
  • وكتابه “في التفسير ورجاله”: قدمه إلى مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر في مؤتمره السنوي، وقد نشره المجمع في القاهرة في نحو 180 صفحة، وفيه يعرض تاريخ هذا العلم واتجاهاته، وأعلامه، ومؤلفاتهم.
  • ومثله بحثه عن “الاجتهاد”: يستعرض أطواره، وسمات المجتهدين الأوائل من التحفظ والطلاقة في الوقت نفسه، وانتهاء الأمر إلى توقفه، أو غلق بابه كما يقال، والدعوة الحديثة إلى فتحه ودور الدهلوي والشوكاني ومحمد عبده في هذا الصدد، وفيه يواصل نزعة التحرر – برغم مالكيته – التي عرفت عن أبيه وجده _رحمهما الله.
  • ومن أبرز مؤلفاته كتابه الصغير الحجم الجليل القيمة “أعلام الفكر الإسلامي في تاريخ المغرب العربي”: وهو كما أسلفنا يستعرض في وضوح ودقة تاريخ خمسة عشر من الرجال الذين بثوا حقائق الإسلام في قلوب أبناء هذه المنطقة، وآثارهم العلمية وأطوار فكرهم، وهو حري حقيقة بوصف الدكتور مدكور له بأنه “مؤرخ الفكر الإسلامي”، وهو على إيجازه شبيه بكتاب أبي الحسن الندوي “رجال الفكر والدعوة في الإسلام”.
  • وكتابه “المحاضرات المغربيات” الذي يحوي دروسه في الحلقات الحسنية بالرباط في موضوعات تهم الأمة الإسلامية، مع روح صوفية معتدلة، وغيرة دينية مشهودة.

وقد يحسن منا في ختام هذه الكلمة أن نعرض لإنتاجه المجمعي ومشاركاته الفعالة في أنشطة المجمع خلال مؤتمره السنوي الذي كان يحتشد له ويهفو إليه، كما يقول والده الجليل: “كان ذكره (أي أعضاء المجمع) بالجميل هِجِّيرًا لسانه، والتحفز للقائهم أهم شانه(9)، “وكان فؤاده يهفو إلى مصر، فهو يقول – في صدق ووفاء، وصادق الحب يملي صادق الكلم: “حياك الله يا أرض الكنانة، وبارك لك في هذا الجاري من صعيدك إلى شطك، يتدفق خيرًا، ويترقرق ريًا، ويتألق نورًا، ويترفع طهرًا وصفاءً، وهل يجد أليف عهدك يا مصر خيرًا من نيلك السعيد يحييك به، وهو الذي تحيين به أنت كل وافد عليك، كما كان آل جفنة، فيما شهد حسان، يسقون قاصديهم، بردى يصفق بالرحيق السلسل؟ فهذه تحيتك – يا مصر – تعود إليك، لا نجد أحسن منها حتى نحييك بها(10)”.

أما عن بحوثه المجمعية فقد يمثلها أبحاث ثلاثة؛ أولها عن “السند التونسي في متن اللغة”، والثاني عن “أفعل التفضيل”، والأخير عن “المصطلح الفقهي في المذهب المالكي”، وقد كان من حصافته – رحمه الله – وسعة اهتماماته العلمية أن يقدم لكل مجمع ما يناسبه، فنراه يقدم لمجمع البحوث في الأزهر بحثي الاجتهاد والتفسير. أما المجمع اللغوي فيؤثر التقدم بموضوعات لغوية كبحث “السند التونسي في متن اللغة”، وبحث “أفعل التفضيل”، أو ما يلم باللغة أو يتصل بها بسبب، كبحث “المصطلح الفقهي”، فهو يتناول اللغة الفنية لدى الفقهاء، أي أنه على التخوم بين اللغة والفقه:

  • ويتناول بحث “السند” تاريخ الدراسات اللغوية في الأندلس والشمال الأفريقي بين القرنين الرابع والثامن الهجريين، وانتقال السند بعد ذلك إلى مصر، حيث تلقاه ابن حجر والسيوطي ثم الزبيدي، وينم عن تمكن من تاريخ الثقافة العربية، لغوية كانت أو شرعية أو أدبية.
  • وأما بحث “أفعل التفضيل” فيدرس فيه هذا الموضوع النحوي الدقيق مع روح التحرر في الفكر اللغوي، كما هو الحال في تفكيره الفقهي – كما أسلفنا – حرصًا منه على اتساع اللغة وتيسير استعمالها وقواعدها، بعيدًا من القياسات البعيدة عن المنطق اللغوي الصحيح – كما يلاحظ أستاذنا الدكتور مدكور(11).

وقد عني – رحمه الله – بالموضوع، فنشر بعد بضع سنين بتونس لأبي عليّ القالي “كتاب أفعل” محققًا، مع مقدمة ضافية، أشار فيها إلى بحثه المجمعي، وأبان عن معرفة دقيقة بالأصول اللغوية، ومتطلبات التحقيق العلمي.

  • وأما بحثه عن “المصطلح”، فإنه يتتبع فيه تطور اللغة الفنية للفقه المالكي في “الموطأ”، ثم “المدونة”، ثم على يد أبي زيد في القرن الرابع، ثم فقهاء مصر المالكية كالقرافي ابن الحاجب وخليل، فيما بين القرنين السابع والثامن؛ فانتهى الفقه المالكي إلى ثروة غالية في تحديد “الحقائق العرفية” وبيانها، وأفاد منه المشتغلون بالقانون في تفسير النصوص القانونية وفي ترجمة النصوص الفقهية، وبخاصة إلى الفرنسية، حيث إن أكثرها من التراث المالكي، على حين أن القانون الأنجلوسكسوني كان أكثر تأثرًا بالفقه الحنفي، وبخاصة مصطلحات “الهداية”؛ نظرًا لما يسود الهند من تراث حنفي. وقد عني مجمع القاهرة بشأن المصطلح العلمي بما يشمله من مصطلحات في العلوم الشرعية، وإن كان العمل في هذا الميدان يستلزم وقتًا غير قليل وجهودًا جماعية.

لقد كانت حياته المجمعية – التي ما زادت على عقد واحد – كحياته العامة قصيرة خصبة منتجة، إن فاتها الطول فلم يفتها العمق والجدية.

أما الصورة العامة لهذا العالم الصلح فمن أبرزها قسمات خمس: أولها الرفيعة “أخلاق النبوة” كما وصفه واحد من أقرب الناس إليه، هو شيخنا ابن الخوجة (12) – مد الله في عمره.

وثاني قسمات هذه الصورة هو التكوين العلمي المتين الجامع بين الأصالة والمعاصرة، والتمكن من التراث الإسلامي والعربي مع التفتح على الفكر المعاصر.

وثالثها: أنه مؤسسي يرى العمل من خلال مؤسسات باقية وأنظمة محددة، وأن التعليم والثقافة عنده هما سبيل النهضة الصحيحة.

ورابعها أنه يؤمن بالوحدة الإسلامية التي لا تناقص – في نظره – العروبة، وأن كليهما يدعمان الوطنية، وأن أيًا من هذه الثلاثة ليس بديلاً عن الآخر.

وآخر هذه القسمات: الربانية، فهو راهب الليل فارس النهار، والدين عنده يتمثل في الإيمان الراسخ والإقبال الخاشع على الله والتحرر مما سواه، ولم يكن الرجل من طلاب الدنيا، بل من طلاب الآخرة. رحمه الله، وأخلفنا منه في أسرته المباركة أحسن الخلف، ولنجعل الأمل مكان الحزن والبكاء، وما مات من أنجب مثل هؤلاء، والسلام عليكم ورحمة الله.

ــــــــــــــــــــــــــ

“*”هذه المشاركة قدمت بتونس في مؤتمر “المئوية الأولى لميلاد الشيخ محمد الفاضل بن عاشور”.

 

 

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!