حياتي في حكاياتي

حياتي في حكاياتي

حياتي في حكاياتي للشيخ الشافعي

خالد محمد عبده

 

شاركني صديقي تركي الدهشة فيما يقرأه من كتابات الجيل السابق، متسائلاً كيف يُنتقدُ وضع الثقافة في مصر قديمًا بهذه الصورة؟! وماذا لو رأى أعلام الجيل السابق المخلصون ما نحن فيه من تردٍّ وانحدار؟! وأخبرني أنه سيكتفي بالقراءة والمُدارسة في صمت، فكل ما يراه حوله من صخب فاقد للمعنى والمبنى. كنت أزيد صديقي فوق ما يقوله كلمات أخرى، ولا أخفف عنه حتى وإن ذكرت نموذجًا مشرقًا من أعلام النهضة الفكرية في مصر، أو ممن التقيتهم من الأساتذة الغير معروفين إعلاميًّا، فكل حديث نتقاطعه يزيد الهم همًّا! لكن الفرح والسرور لم نفقده فسرعان ما يتحول الحديث عن الواقع إلى الماضي، فلا مفر من العودة إلى الأسلاف وبخاصة إن عزّ اليوم من نلتمس في رحابهم ما يُطلب من علم ومعرفة وتخلّق بما يقال!

سجّل الشيخ الشافعي رئيس مجمع اللغة العربية، وأستاذ الفلسفة بكلية دار العلوم، ورئيس الجامعة الإسلامية بباكستان جزءًا من سيرته في مجلدتين، طبع المجلد الأول من (حكاياته) في هذا العام، وصدر عن دار الغرب الإسلامي، المشهورة بمنشوراتها التراثية والفكرية في عالم الثقافة، ولعل صلة الشيخ بصاحب الدار (الحبيب اللمسي) -الرجل الكبير الخلوق الذي ما توانى عن خدمة الثقافة والمعرفة لحظة، وهمّ بالعمل على نشر ما عجزت مؤسسات كاملة عن نشره- هي ما حدت به أن ينشر هذه السيرة الغزيرة بالدروس والمعلومات عنده.

أنت لا تقرأ في السيرة تقليدًا لكتابة أخرى أو تنميقًا لحادثة معينة، بل يحدثك صاحبها كأنه والدك أحيانًا قليلة وزميلك أوقات كثيرة ومعلّمك آوانة أخرى، ومنذ اللحظة الأولى -وكما هو في الواقع- تجد من تواضع الشيخ الذي جاوز الثمانين ما يندر أن تجده عند قرنائه وأصدقائه، ويصرّ في أكثر من مناسبة من (حكاياته) أنه ما يقول هذا الكلام من باب التواضع، فهو لا يزال يحاول أن يصقل أدواته ومهاراته ليصبح معلمًا ناجحًا رغم أنه يعلّم ويدرّس في أجزاء عدّة من العالم الكبير منذ أكثر من خمسين عامًا!

الشيخ ممن يؤمنون بأن العمل التعليمي ليس وحده كافيًا فحق الوطن وأهله عليه أكبر من ذلك، إذ لا بد من القيام بخدمات أخرى وأنشطة عدة، في إطار ما يسمّى بالمجتمع المدني لخدمة المصريين، لأجل ذلك طوّر مكتبته الثرية بالأعمال العربية والأعجمية ونوادر التراث وأوقفها للطلاب وبفضل جهد الشيخ أحمد الطيب والشيخ علي جمعة والدكتور محمود حمدي زقزوق صار للمكتبة مقر جميل ومناسب في الجامع الأزهر، كما خصص الشيخ وقفًا خاصًا للبحوث والدراسات الإسلامية، وسجله بصفة رسمية في بنك فيصل الإسلامي المصري، وفيه ما يقارب مليونًا واحدًا مصريّة، مع أعيان أخرى ثمينة، وقد بنى معهدًا دراسيًا في بني سويف من أجل خدمة أهل الصعيد، ومن الطريف أن الشيخ الذي سُجن وعُذّب كثيرًا في المعتقلات ذكر من جملة ما عاهد الله به مرة أنه حالما يخرج من سجنه أن يُجدد قسم عابدين الذي كان يُحتجز فيه المعتقلون بشكل مؤقت حتى يتم ترحيلهم إلى أماكن أخرى غالبًا ما كانت خارج القاهرة، ويأسف لأنه حينما خرج من المعتقل بعد سنين طوال رأى القسم قد نقل إلى مكان آخر وبنيت مكانه حديقة! يذكر الشيخ أن الحشرات كانت تهبط عليهم في هذا القسم كالمطر، وما يوجد في القسم ربما يكون صورة من صور النعيم إذا قيس بما كان يحدث معهم في المعتقل، ولعل من امتُحن بمثل ذلك يرى أن ذكر الأمور التالية أمرًا عاديًّا (الضرب، والوقوف ساعات طويلة، والتعليق منكّسا، والتعذيب بالثلج في الثلاجة، والحرمان من النوم، ومن قضاء الحاجة، والضغط على الرأس بجهاز دائري يكاد يفكك الدماغ، والتعليق على”العروسة” والصعق بالكهرباء في أماكن حساسة، وخلع الأظافر، والتعطيش والتجويع، والتهديد بالعدوان الجنسي، وإخراج المحكوم عليهم بالإعدام إيهاما بتنفيذه ثم إعادتهم إلى زنازينهم …). على أن المادة التي كتبها الشيخ عن المعتقلات والسجون المصرية تحتاج وحدها لدراسة بالفعل نظرًا لأهمية شهادتها وإن كان حديثه هادئ النبرة إلا أنه كما ذكر عانى كثيرًا من الآلام النفسية التي سببتها هذه الفترات الصعبة.

صورة حسن البنا

كان هناك شيخ صاحب لحية طويلة، أشفق عليه أحد تلاميذه، وسأله حينما تنام، هل تضع لحيتك تحت الغطاء أم فوقه؟ أخبره الشيخ أنه لا يعرف ولا ينتبه لهذا الأمر، وحينما ذهب إلى بيته وأراد أن يأوي إلى فراشه ظلّ مشغولاً مرة يضع اللحية تحت الغطاء، ومرة فوقه، حتى غاب عنه النوم، وفي الصباح ذهب وأخبر التلميذ أن سامحك الله شغلني سؤالك عن النوم وسبب لي الأرق!

ضرب الشيخ حسن البنا هذا المثل لتلميذ له أنكر عليه اهتزاز جسده وهو يقرأ القرآن وحاول الشيخ الاستجابة لنصحه لكن انشغاله بالنصيحة فوّت عليه تدبر القرآن.

حينما يقدّم الشيخ الشافعي رضي الله عنه حسن البنّا على هذا النحو فهو يقدّم شيخا جليل القدر كبير القلب والعقل.. ربما لأنه عاش في هذه الفترة وتلقى على أيدي المشايخ ورأى منهم بعين المحب ما ساهم في تكوينه رسم هذه الصورة الجميلة.. لكن في السياق نفسه من خلال قراءتي لمذكرات البنا ورسائله كان البنا مشغولا بالإنكار على الآخرين فأبدى اعتراضه على تقدير المريد لشيخه عند الصوفية كما اعترض على طرائق الذكر ورغم أنه كان يتقرب لمشايخ الصوفية في البداية بكل إجلال وإكبار إلا أنه سرعان ما ينقلب عليهم.. والتصرفات نفسها التي أنكرها نجدها بشكل أكبر عنده وعند أتباع جماعته..

هناك إشارة جيدة أيضا عند الدكتور بيومي في هذا الشأن في كتابه عن الفكر السياسي عند البنا المنشور في مدارات يمكن من خلالها العودة إلى ستة مقالات كتبها البنا عن التصوف، هذا إذا وجد المحب للبنا كتابة حسام تمام كتابة مختلف ولا يفضل الرجوع إليها فليراجع كتابات البنا نفسه!

إن أوّل نقدٍ يوجّهه الشيخ حسن الشافعي في السيرة الذاتية لجماعة الإخوان المسلمين أن (أعمالهم الداخلية في مصر كان أكثرها أخطاء سياسية أو مخالفات شرعية) .. ويصف الشيخ النظام الذي أنشأه حسن البنا (النظام الخاص) بـ (المشئوم، تنظيمًا سرّيًّا سرطانيًا مسلّحًا)! نذكر هذا النص تحديدًا وهناك غيره مما يصب في جانب النقد لممارسات الإخوان عقب وفاة مؤسس الجماعة، لأن الشيخ الشافعي اليوم في حادثة نادرة ليست أقل من النوادر التي حكاها في مذكراتها فُصل من الجامعة بقرار من رئيسها باعتباره أحد الإخوان المسلمين وقد استاء من هذا القرار ممن أعرفهم كثير ويختلفون مع الشيخ الشافعي نهجًا ومشربًا واهتمامًا لكن جميعهم يتفقون على أن رجلاً بحجم الشيخ لا يصح أن يحدث معه مثل ذلك، كما يدينون بشدة أن يتحول رئيس جامعة القاهرة الجامعة ذات التاريخ العريق إلى هذا السلوك المشين! هذا فضلاً عن أبناء الشيخ شرقًا وغربًا، عربًا وأعاجم ممن دهشوا لهذا السلوك الذي يدين فعله ولا يمس قدر الشيخ الكبير.

صورة من صور الحديث عن الباحثين

دين محمد ميرا .. أستاذ مقارنة الأديان ولا يزال يعمل في جامعة قطر حتى اليوم، وهو من نجباء الطلاب المبعوثين إلى الأزهر حينئذ، فلا يعرف الشيخ من غير العرب من يتقن العربية كإتقانه للإنجليزية والأوردية مثل (دين) وقد نال درجة الدكتوراه في العقيدة والفلسفة عن موضوعه (الحبّ الإلهيّ بين المسيحيّة والإسلام) وكتب عن (مفهوم الفكر الإسلامي) بحثًا حاز إعجاب الشيخ الشافعي، وأثنى عليه الشيخ  في ‫(حياتي في حكاياتي) .. إضافة إلى كل الأسباب التي تحبب أهل الهند في مصر باعتبار حضارتها وتاريخها وعراقة ماضي رجالاتها، يذكر للشيخ الشافعي أنه أحب مصر لموقف حدث معه بعد وصوله إلى مدينة المبعوثين بساعات قليلة .. أراد أن يبتاع صحيفة فلم يجد في جيبه إلا بقايا نقود سيرلانكية، فأعاد الصحيفة إلى البائع، وصمم البائع أن يعطيه إياها، ولما علم أنه ليست معه نقود مصرية أعطاه عشرة جنيهات وأخبره أننا سنكون متجاورين بصفة مستمرة .. وبعد أن حصل الدكتور دين على العملة المصرية الكافية جاء إلى البائع النبيل، وعبثًا حاول أن يرد إليه المال، والرجل لا يقبل! مع أن ممكسب الرجل اليومي لم يكن ليصل إلى عشرة جنيهات !

كان دين محمد ولا يزال صديقًا لشيخ الأزهر أحمد الطيب، إذ كان الشيخ لمدة عام عميدًا لكلية أصول الدين بالجامعة الإسلامية بباكستان، والدكتور دين وكيلاً للكلية، وقد صار عميدًا للكلية فيما بعد، ثم سافر إلى قطر ليدرّس هناك، ويحقق نجاحات في على الصعيد الدولي بأبحاثه التي يكتبها بالإنجليزية، كما يشير الشيخ، يتحدث الشيخ عن الدكتور دين كزميل وصديق، لكن الأستاذ يعرف للشيخ قدره، ولا يزال يتعامل معه كما يتعامل الابن مع والده –قديمًا- أذكر أنني اجتمعت بالدكتور دين في مناسبة حكيت عنها في سياق آخر، وكان الشيخ الشافعي يخرج من قاعة المحاضرات، وكنت أدخن مع الدكتور ونتحدث عن (الأديان والتصوف) فسألني عن طريقة نخفي بها هذه اللفافات وبالفعل أطفأنا السجائر وذهبنا للشيخ وتحدثنا معه قليلاً وظلّ مبتسمًا.. وكان حديث الدكتور دين كله نافعًا ما تعلّق بدرس الفلسفة الإسلامية أو التصوف، أو ما تعلق بنظام التدريس وما آل إليه الأمر في جامعاتنا!

وعلى ذكر التدخين، يذكر الشيخ الشافعي أن نجم الشيخ الشعراوي لمع وهو خارج مصر، فلم يشهده من قبل، والمناسبة التي يلتقيه فيها في لندن كان الشيخ الشعراوي يلبس الزي الإفرنجي ولا يضع شيئًا على رأسه ويدخّن أحيانًا، فاندهش الشيخ من سمته وأن هذا هو الشعراوي الشهير الذي يحكي له زملاؤه عنه، حتى بدأ الشعراوي يلقي كلمته فعرف الشيخ له قدره، وأثنى عليه كثيرًا في سيرته، والشيخ لا يضع صورة الفكر النهائية بل يحكي تفاصيل في سيرته تعلّم الطلاب دروسًا، فسمت الشيخ حسن الترابي الذي جلس بجواره في الخرطوم لم يكن يدلّ على أنه الرجل الكبير المشهور، لكنه حينما تحدّث ظهر حديث الكبار، ويذكر الشيخ أنه أخطأ بالتعريف به والحفاوة حينما قدّمه في الجامعة الإسلامية بباكستان والخطأ عند الشيخ بذكره لعبارة يستحق الشخص أكثر منها، ومن الخطأ تتوطد صداقة بينه وبين الآخرين!

على أننا لو ذكرنا صورًا من حكايات الشيخ سيطول بنا المقام، فالكتاب (حياتي في حكاياتي) شهادة هامة لرجل كبير القدر عاصر أحداثًا جسام، على المستوى السياسي والاجتماعي والعلمي، لذا سنكتفي في هذا المقام بذكر أمرين، الأول: ما يرويه الشيخ علي جمعة مفتي الديار المصرية سابقًا والعهدة على الرواي –من كلام الشيخ الشافعي- قائلا: كنتُ مع الشيخ محمد الغزالي في رحلته الأخيرة إلى ماليزيا وسألته عن أصحابه فقال: لقد مات أكثرهم ولكن هناك حسن الشافعي.. وقليلون.

نروى هذه الرواية تحديدًا لأن موقف الشيخ الشافعي من الأزهر لم يختلف، وإن اختلفت الآراء عند المشايخ اليوم، واختلفت مواقفهم إزاء ما يحدث في مصر، وقد أفسدت الخلافات الودّ بين الجميع، فلم نعد نجد ما نقرأه عند الشيخ كمثل روايته شاكرًا ومقدّرًا عمل الإمام الأكبر الشيخ الطيب، والتماسه البركة من هذا البيت الصالح، الذي ذهب الشيخ الشافعي مرة للقاء الشيخ محمد الطيب من أجل ذلك، لكنه والوزير الباكستاني الذي صحبه لم يسعفهما الوقت لتحقيق بغيتهما، ويذكر الشيخ الشافعي عن الدكتور الطيب قوله: (إنه ما إن يدخل ضريح والده إلا ويذكر العبد الفقير [الشيخ الشافعي]، سواء أوصيته بالفاتحة أو لم أفعل).

وقد ذكر الشيخ الشافعي الدكتور علي جمعة في سيرته أكثر من مرة شاكرًا له أو مشيدًا لطلبه للعلم وتحصيله، كما يذكر الشيخ أنه رشحه خلفًا له لرئاسة الجامعة الإسلامية بباكستان، كما رشّح من قبل الشيخ أحمد الطيب.

أولئك [أبنائي] فجئني بمثلهم!

 الأمر الثاني الذي نختم به هذه الكلمة الموجزة، هو عن أبناء الشيخ الجليل

 لم يُرزق الشيخ الشافعي أولادًا ويحمد الله على ما أعطاه وأولاه ويذكر أنه لم يشعر بالفقد كما لاحظ على بعض من هم في مثل حاله.. لكن صلة روحية وفكرية عقدت بينه وبين طلبته المنبثين في أرجاء العالم وقد حار في ‫(حياتي في حكاياتي) في ترتيب هؤلاء الأبناء النجباء فبدأ بأبنائه من مصر، وأغلبهم من أساتذة دار العلوم ثم ذكر طلابه في إسلام آباد، وطائفة غير قليلة من شباب الصين وماليزيا وأفغانستان وجورجيا وتركيا وألبانيا ويوغوسلافيا والصرب والبوسنه ولندن وأمريكا والسنغال وتشاد ودول عدة في أفريقيا..

وفي ختام حكايته مدّ الله في عمره ورضي عنه يقول: أدعو لأبنائي في مصر، وهم كُثرٌ، أن يكونوا بارين بها وبشيوخهم، وأن يعلموا أن العلم يزكو بنشره والعمل به، وأن يحملوا هموم الأمة، ليس في وطنهم فحسب بل في العالم كله، وأن يحسنوا الثقة في التراث فلا تجديد بدون استيعابه، ولكن لتكن عيونهم رامقة للحاضر والمستقبل معًا، يوظّفون هدي التراث في خدمتهما، متشبثين بالإخلاص لله، والحكمة والموعظة الحسنة، والشجاعة في الحق وأسألهم الدعاء، والحمد لله رب العالمين.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!