المهتدون بمشكاة الولاية: إيفا دوفيتري ميروفيتش

المهتدون بمشكاة الولاية: إيفا دوفيتري ميروفيتش

المهتدون بمشكاة الولاية

إيفا دوفيتري ميروفيتش (Eva de Vitray Meyerovitch)

كتبه: رشيد حميمز

ترجمه عن الفرنسية: إدريس عبدو

 

عن سن تناهز 90 سنة، انتقلت إلى دارالبقاء المفكرة الفرنسية المسلمة إيفا، وقد حلت الذكرى الأولى لوفاتها يوم 24 يوليوز المنصرم، ولم تخلف وفاتها أي صدى في وسائل الإعلام الفرنسي (1) بالرغم من أنها ساهمت بشكل كبير في التعريف بالمبادئ السمحاء للإسلام في الغرب إلى جانب بعض المفكرين المسلمين، فريتجوف شيون، تيتوس بوفاردت، روني جينون(2)·وقد كانت السيدة ”ميروفيتش” حاصلة على الدكتوراه في الفلسفة و باحثة في المركز الوطني للأبحاث العلمية (سزخ)، كما أنها صاحبة العشرات من المؤلفات حول الإمام جلال الدين الرومي (3)، الأب الروحي لطريقة الدراويش في تركيا والمعروف أيضا بـ”مولانا”.

وقد ساهمت ترجمة مؤلفاته من الفارسية إلى الفرنسية في تعريف الغربيين والمسلمين على حد السواء بالقوة الفكرية والروحية لهذا المفكر الكبير والذي كان من جملة من استطاع على امتداد العصور إحياء الإرث الروحي للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم·وبفضل العمل الجبار الذي قامت به إيفا من خلال ترجمتها لأعمال الرومي استطاع الكثير من الغربيين من التعرف على الإسلام وفهمه، بل إن الكثير منهم أحبوه واعتنقوه.

وقد كان اللقاء مع هذا الولي الصالح مناسبة مهمة بالنسبة للعديد من المثقفين الفرنكفونيين المسلمين للبحث من أجل تعميق معرفتهم بحضارتهم، ومن بين هؤلاء:فوزي الصقلي (4)، والذي يعبر عن الواقع الذي خلفه في نفسه إطلاعه على كتاب ”فيه ما فيه ”(5) والذي قامت بترجمته إيفا ميروفيتش، يقول: ”لقد كان بالنسبة لي بمثابة الانطلاقة وفي الواقع فإني لست الوحيد الذي عاش مثل هذه التجربة، فقد علمت فيما بعد بأن العديد من الأشخاص كان لهم نفس الشعور وارتبط مصيرهم فيما بعد بقراءة هذا الكتاب” (6)·

إن العلاقة شبه السحرية التي كانت لـ ”إيفا” باللغة الفارسية، هي التي ساعدتها في عملها من خلال الترجمة والتعليق واللذان يمكنان القارئ ليس فقط من فهم المعاني الدقيقة لنصوص الرومي ولكن من تذوقها أيضا.

وتشير في هذا الصدد ”إلى أنه وفي كثير من الأحيان، عندما أحصل على مخطوط جديد، وأشك في معنى كلمة ما، وحين أتمكن من فهمها، ينتابني شعور بأنني كنت على علم بها من قبل” (7).

لكن بعد ترجمتها للعمل الجبّار للرومي ”المثنوي” والمتكون من 51 ألفا بيتا شعريا روحيا، يمكن اعتباره بدون منازع من روائع الأدب العالمي، ومن خلاله استطاعت ”إيفا” أن تنهل من بحره. فالمثنوي هو في نفس الوقت: ”ديوان شعري، منهج فلسفي، دراسة عامة للفقه الإسلامي، مذهب ميتافيزيقي، دراسة للفكر والمذهب الصوفي، دراسة معمقة لعلم النفس، كما أنه وثيقة غير مسبوقة لعلم النفس الاجتماعي في زمانه بالإضافة إلى أنه منهاج تعليمي لشيخ تربية (مربي) وطريقة بيداغوجية ثاقبة”(8)·

سنة 1954 اعتنقت إيفا الإسلام وسوف توضح فيما بعد هذا الاختيار تقول:” بالنسبة لي، اكتشاف الإسلام كان بمثابة هداية وتلاقٍ” وقد علق زميلها لوي ماسينيون على هذا الاختيار قائلا:”إذا كان هذا هو مذهبك فأنا أحتضنك ملأ يدي” (9).

هذا الإحساس بالهداية (ما عشته وما رأيته من قبل) أو ما يسميه رونيه جينون، حسب تجربته الخاصة بالرجوع إلى الأصل أو الدين القيم، لم يكن ممكنا على الإطلاق لولا احتكاكها بالأولياء، في البداية عند اكتشافها لجلال الدين الرومي في إحدى كتب الشاعر الصوفي الباكستاني محمد إقبال، وقبل أن تصبح شغوفة بالترجمة والتعليق على مؤلفاته، وفي المرة الثانية عندما قابلت في المغرب الشيخ الروحي للطريقة القادرية البودشيشية، في يوم مشهود ومنذ ذلك اللقاء أصبحت من مريديه(10).

إن الاهتداء بالفطرة واللقاء مع الأولياء هو ما يفسر بكل موضوعية المسار الروحي لـ”إيفا”، ولفهم ذلك يقول جلال الدين الرومي: ”إن الله سبحانه وتعالى بعث الرسل والصالحين كالماء الغدق الصافي ليطهر بها كل المياه الصغيرة المدنسة، وعند صفائها تتذكر بكل يقين نقاءها الأصلي الذي تعكر صفوه من جراء الألوان الحالكة التي تندثر فيما بعد، يعني الرجوع إلى الفطرة” (11) ”هذا الذي رزقنا من قبل وأوتوا به”· (قرآن: سورة البقرة آية 25)·

وإذا كانت ”إيفا” قد استشفت من خلال جلال الدين الرومي، كنوز الإسلام، فإنها كانت في حاجة لمرشد حي” ينهض حاله ويدل على الله مقاله” (12)، ولهذا فإنها كانت في حاجة إلى ولي صالح من عصرنا، محيط بهذا العالم، ” فالصوفي ابن وقته”.

حين تقدم بها العمر بعد عشرات السنين، وجدت الرجل الذي عرفها على هذا الجوهر، إنه الشيخ سيدي حمزة القادري بودشيش·ويؤكد المريدون الذين حضروا هذا اللقاء الأول على قوة التأثر الذي انتاب ”إيفا”، عندما أشار الشيخ إلى قلبه قائلا:”الرومي هنا” فأجهشت بالبكاء، وبكت طويلا· فماذا كان يقصد الشيخ؟ هل مجرد إثارة العواطف؟ أم أن علم الرومي في قلبه إشارة إلى أن النور الذي يحمله الأولياء كلهم موروث عن الرسول صلى الله عليه وسلم ؟من الصعب جدا الإجابة عن هذه الأسئلة، فالرابطة التي تربط الشيخ المربي بمريديه رابطة ”روحية”، والكلام المتبادل لغز مُحيِّر.

وبخصوص هذا اللقاء فإنها قالت لأحد أصدقائها:”هذا ما كنت أبحث عنه منذ أربعين سنة”·لكنها لم تكشف رسميا عن انتمائها لإحدى الطرق الصوفية المغربية إلا في بداية التسعينات ”صحيح أنني من أتباع الشيخ، إنه شخصية فذة، وله أتباع كثيرون، لقد أعطاني كثيرا، وليس بإمكاني أن أقول أكثر·”(13).

لقد كانت ”إيفا” امرأة ذات قيمة كبيرة، وكانت أعمالها دقيقة ومتقنة، مما ساعد المئات من الأشخاص الباحثين عن الحقيقة، والذين استطاعوا ليس فقط اكتشاف الإسلام ولكن التعرف على الوجه الحقيقي له والذي لم تتمكن الأحداث السياسية المأساوية ولا وسائل الإعلام الغربية من تلويثه.

توفيت ”إيفا دوفتراي ميروفيتش في شهر يوليو 1999 (يوم السبت)، في حضرة عائشة صديقتها الوفية، والتي تُكنّ لها إعجابا شديدا والتي كانت ممرضتها، سكرتيرتها وطباختها في نفس الوقت.

وقد ماتت وهي مرتاحة البال لأنها استطاعت أن تعرف وأن تتعرف على رجال ذكرهم النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف: لاتزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس(14). ولعل ”إيفا” كانت تتذكر في هذه اللحظات الأخيرة الأبيات التي تلاها الرومي قبل وفاته بقليل:

لماذا أحزن، وكل قطعة مني انشراح؟!

لماذا لا أغادر هذا البئر؟!

أليست لي عروة وثقى؟!

لقد بنيت بيتا مرتفعا لحمائم الروح

يا طائر روحي، حلّق، فإني أتوفر على مائة برج حصين(15).

 

الهوامش 

1- انظر مثلا الفقرة الصغيرة التي خصصتها جريدة Le Monde الفرنسية لهذا الغرض بتاريخ 29 يوليوز .1999 ص·23 لكن يجب التنويه بالمجلة الفرنسية Soufisme التي تصدرها جمعية البرزخ ”’Isthme’، والتي خصصت عددا كاملا للباحثة الإسلامية.

2- هؤلاء المفكرون الثلاثة هم الممثلون البارزون للمدرسة الفكرية المسماة ”بالتقليدية” فهم فلاسفة وميتافيزيقيون وقد ساهموا في التعريف بالحكمة التقليدية الكبرى في وحدتها العميقة وحقيقتها الأزلية وعلى الخصوص الموروث الإسلامي الذي يعتبر الدين القيم.

3- انظر حياة الولي الصالح ضمن مؤلف Rumi et le Soufisme) Eva de Vitray Meyerovitch) منشورات 1977.

4 – فوزي الصقلي حاصل على الدكتوراه في الأنتربولوجيا، أستاذ بالمدرسة العليا بفاس، صاحب عدة مؤلفات حول التصوف ومؤلف كتاب حول المسيح في الإسلام بمشاركة ”إيفا” وهو المشرف على مهرجان الموسيقى الروحية الذي ينظم سنويا بمدينة فاس.

5- جلال الدين الرومي:Le livre de dedan ”فيه ما فيه” المترجم من الفارسية من طرف إيفا، نُشر في Sindbad  1989 وأعادت طباعته ٌAlbin Michel.

6- مجلة Soufisme النصف الأول من سنة 2000 العدد 4 ص·127.

7- Eva de Vitray Meyerovitch الوجه الآخر للإسلام لقاء مع 1991 ْ.

8- المدخل إلى ”المثنوي”، مطبوعات 1990.

9- الوجه الآخر للإسلام – مرجع سابق.

10- الكتاب الأخير لفوزي الصقلي ، باعتباره من مريدي الطريقة القادرية البودشيشية، يصف بعمق العلاقة التي تربط الشيخ بالمريد والتي تذهب أبعد بكثير من التواصل اللفظي العادي .. فوزي الصقلي Le soufisme aujourdhui منشورات Relie يناير2000.

11- جلال الدين الرومي du dedans Le Livre مرجع سابق.

12- كلام لإمام صوفي.

13- الوجه الآخر للإسلام ، مرجع سابق.

14- حديث رواه مسلم.

15- Rumi et soufisme مرجع سابق.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!