قصة مولانا جلال الدين الرومي في مصر

قصة مولانا جلال الدين الرومي في مصر

قصة مولانا جلال الدين الرومي في مصر

بقلم: خالد محمد عبده

هذه الدار لا تفتر فيها الألحان.. سل ربّها أي دارٍ هذه؟! إن كانت الكعبة فما صورة الصنم هذه؟ وإن كانت دير المجوس فما هذا النور الإلهي؟ في هذه الدّار كنزٌ يضيقُ به العالم.. وإنما هذه الدار وهذا السيد فعلٌ وذريعة.. أيّها السيد أطل علينا من الشرفة مرة! فإن في خدّك الجميل أمارة من الإقبال. أقسم بروحك أن ما عدا رؤية وجهك – ولو كان مُلك العالم – خيال وخرافة…فصول من المثنوي.. ترجمة عبد الوهاب عزّام.. ص24.

ليس مشهورًا أن الأستاذ الإمام محمد عبده كان يعرف الفارسية ويترجم عنها، ويتابع باهتمام بالغ ما يحدث في إيران، ويهتم بخطابه وآرائه أهل اللسان الفارسي، لكننا نعرف من خلال سيرته التي كتبها (تلميذه) رشيد رضا أنه حينما عاد من باريس إلى بيروت بدأ بترجمة كتاب أستاذه جمال الدين الأفغاني (الرّد على الدّهريين) في عام 1885 قبل أن يعود إلى مصر، بمعاونة صديقه الأفغاني عارف أفندي أبي تراب. ويحكي صاحب تاريخ الأستاذ الإمام عن علاقة الشيخ محمد عبده وصداقته الوطيدة مع أهل إيران، ولا ننسى علاقة الصداقة والعمل التي استمرت بين محمد عبده، وميرزا محمد باقر الإيراني الذي وصفه المؤرخ الإنجيلزي إدورد براون بالرجل الإيراني غريب الأطوار، ولا يخفى على قارئ مقالات الإمام حضور الشعر الفارسي في كتاباته، جاء في مقال كتبه عام 1902 : (… وبذلك نجد المسلمين قد تولاّهم الجهلُ بدينهم، وأخذتهم البدعُ من جميع جوانبهم… وصحّ فيهم ما قاله عمر الخيّام في بعض أشعاره الفارسية مخاطبًا النبي صلّى الله عليه وسلّم: إن الذين جاءوا بعدك زيّنوا لك دينك، ووشوه وزركشوه حتى لو رأيته لأنكرته).

 

عرف أهل مصر الأدب الفارسي منذ فترة بعيدة، وأخرجت مطبعة بولاق أجمل طبعات المثنوي، وقد أشرنا في مقال سابق إلى شرح القونوي (المنهج القوي لطلاب المثنوي) ونقلنا عنه نصًّا كي يتعرّف القرّاء عليه، لكننا في مصر لم تزد معارفنا عن المثنوي ومولانا جلال الدين الرومي، إلا بعد إنشاء معهد اللغات الشرقية بكلية الآداب، في الجامعة المصرية، إذ أضحى المثنوي وقتها مادة للدراسة والترجمة، بفضل الأساتذة الأوائل الذين درسوا على أيدي المستشرقين المتخصصين في الأدب الفارسي، ومن هؤلاء الأستاذ عبد الوهاب عزّام الذي تتلمذ على يد المستشرق (دنسّ رس) و(نيكلسون) و (توماس أرنولد). إن واحدًا من هؤلاء المستشرقين الكبار صرف عمره في درس التصوف الإسلامي، حتى أمسى  حُجّة في علمه، وله فيه مؤلفات كثيرة يعتمد عليها الباحثون في التصوف، وهي حريّة بأن يعتمد عليها، وقد نشر بعض كتب التصوف القيمة بالعربية والفارسية وترجم بعضها إلى الانكليزية، وحسبنا أن نقول أنه ترجم المثنوي، ونشر الأصل الفارسي والترجمة. فكان الأصل الذي نشره عمدة قراء المثنوي في أصله، والترجمة مرجع قرائه في الإنجليزية. وكان قد نشر قبلًا قصائد من الديوان الكبير، ديوان جلال الدين المسمى ديوان شمس تبريزي مع ترجمتها، وقدم لها مقدمة وافية كافية في تاريخ جلال الدين ومذهبه.

العصبيات أبغض شيء إلى هؤلاء الكبراء

لم يقف طويلاً عبد الوهاب عزّام في تعريفه بالرومي عند النزاع حول نسبه أإلى الأفغان ينتسبُ أم إلى أهل إيران أو تركيا! ومضى يعرض صورة لحياة هذا الكبير في مقالاته التي نشرها في مجلة الثقافة عام 1942م ليعرّف القرّاء به وبثمار رحلته الروحية، فتابع الحديث عنه في أربعة مقالات نُشرت في الأعداد (165، 167، 168، 169) من السنة الرابعة عام 1942م.، لتصبح هذه المقالات فيما بعد نواة لكتابه الذي نشرته لجنة التأليف والترجمة والنشرعام 1946 في 199 صفحة، بعنوان: (فصول من المثنوي).

جمع عزّام في هذا الكتاب خلاصة مقالاته السابقة، وجعلها مقدِّمة لفصولٍ ترجمها عن المثنوي. وهذه الفصول هي: «قصة التاجر والببغاء» و«قصة الأسد والوحوش» من المجلد الأول، ثم مقدمة الجزء الثالث من المثنوي. وترجمة القصة الأولى منظومة، وقد قرن فيها الترجمة العربيّة بالنصّ الفارسيّ، وبلغ عدد الأبيات المترجمة نحواً من ستمائة بيت.

في فصولٍ من المثنوي صدّر عزّام كتابه ببيتين من أشعار الرّومي أولهما: “أين صدرٌ من فراق مُزقّا.. كي أبثّ الوجد فيه حرقا”. والبيت الآخر يخلص الرّومي فيه مسيرته في كلمات ثلاث: “حاصلُ العمرُ حوته أحرُفٌ: كنتُ نيئًا قبلُ.. أُنضِجتُ.. احترقتُ”.

وفي مقدمة الفصول يعتبر عزّام كتابه فاتحة لترجمات وأبحاث في الأدب الصوفي سيخصص جزءًا كبيرًا من جهوده للقيام بها. ويبدأ سيرة الرومي بعبارة تدل على حضوره في العالم العربي (تكايا المولوية لا تزال قائمة في مصر والشّام ص 11) لكنها لم تعد كذلك اليوم كما كانت وقت كتابة عزّام لمقالاته (عام 1942)، وتحوّلت آثار المولوية إلى أماكن مُتحفية تُزار للتصوير، لا ذكر فيها ولا تلاوة للمثنوي.

وتأكيدًا على عظمة وأهمية كتاب المثنوي يذكر عزّام كلمة منسوبة لعبد الرحمن الجامي في شأن المثنوي: (إن كنت عالمًا بأسرار المعرفة فدع اللفظ واقصد المعنى: إن المثنوي المعنوي المولوي هو القرآن، في اللسان الفارسي. ماذا أقول في وصف هذا العظيم؟ لم يكن نبيًّا ولكنه أوتي الكتاب). لكن سيد تقي آل ياسين أكّد أن هذا القول ليس للجامي، في مقاله (المثنوي: قرآن الشعر الفارسي).

ويعتبر عزّام المثنوي منظومة صوفية فلسفية عظيمة، ولحسام الدين جلبي في الكتاب دورٌ لا يقلُّ عن دور شمس تبريزي في الديوان، ورغم أن الرومي نظم المثنوي على وزن شعري محدد، إلاّ أنه لم يكن منشغلاً مستغرقًا في النظم، وسرعان ما نقله الشاغل اللفظي إلى الحبيب المشغول به، يقول الرومي في قصة التاجر والببغاء: أفكرُ في القافية وحبيبي يقول لا تفكّر إلاّ في رؤيتي. اطمئن أيها المفكر في القافية، فأنت قافية السعادة أمامي. ما الحرفُ فتفكّر فيه؟ إنه الشوق في جدار البستان. إني أمحقُ القول والحرف والصوتَ لأناجيك بغير هذه الثلاث. أفشي إليك السرّ الذي أخفيته عن آدم يا سرَّ العالمِ.. إن الذي أحسه وراء الصوت والحرف، بل وراء الأسماع والأفهام.

لم تكن المقالات وحدها، أو الفصول المترجمة كل ما قدّمه الأستاذ عزام عن الرومي، بل نشر فصلاً موجزًا في التعريف بجلال الدين الرومي في كتاب «قصة الأدب في العالم»ج‍ ١، ص 490 – 498 ، وضمّنه منظومة لمقدمة المثنوي، ومنها:

استمع للناي غنّى وحكى.. شفّه الوجد طويلاً فشكى

مذ نأى الغابُ وكان الوطنا.. ملأ الناس أنيني شجنا

أين صدرٌ من فراق مُزقّا.. كي أبثِّ الوجد فيه حُرَقا

من تشرِّده النوى من أصله.. يبتغي الرُجعى لمَغْنَى وصله

كلُّ نادٍ قد رآني نادبا.. كلّ قوم تخِذوني صاحبا

ظنّ كلٌّ أنّني نعم السمير.. ليس يدري أيّ سرّ في الضمير

كما نشر عزّام في مجلة الرسالة شذرات من كلمات الرومي النورانية، ومن ذلك ما قدّمه في عددها 81 عام 1935. كما نشرت مجلة الرسالة في عددها 313 عام 1939 فصلاً من رحلات عبد الوهاب عزّام تحت عنوان (مدينة قونيه: يا حضرة مولانا) بمناسبة ذكرى انتصار الجيش المصري على الجيش التركي في قونيه!

ونختم هذا المقال بقول عزّام عن الرومي: (مثل هذا الفيلسوف ينبغي أن تذاع فلسفته، لقد أثّرت هذه الفلسفة الإسلامية في رجلٍ من رجال عصرنا، فجعلته شاعر القوة والحياة في الهند، وحسبه الناس سائرًا على أثر فلاسفة أوروبا، ولكنه قال عن نفسه: إنه أثرٌ من جلال الدين، فما أجدر جلالاً أن يُخرج للمسلمين في كل جيلٍ مثل شاعر الهند محمد إقبال).

 

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!