تراث ابن تيمية واستعادته في النقد الأيديولوجي الموجّه لـ داعش

تراث ابن تيمية واستعادته في النقد الأيديولوجي الموجّه لـ داعش

 تراث ابن تيمية واستعادته في النقد الأيديولوجي الموجّه لـ”داعش”

   أجرى الحوار: مصطفى عبد الظّاهر.  

 

أحمد وجيه، تخصص في درس الفكر السياسي عند ابن القيم، وأنجز أطروحة الماجستير في هذا الموضوع في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، وفي مرحلة الدكتوراه توفّر على درس (الظّنية والقطعية في الفكر الكلامي)، ويولي تراث ابن تيمية عناية خاصة منذ فترة طويلة، وله العديد من المقالات المنشورة في الفكر السياسي الإسلامي.

ولما برزت على مسرح الأحداث اليوم مشاكل عدّة، كان لابن تيمية حضور وذكر فيها لا ينقطع، رأينا أن نجري معه هذا الحوار، حتى نلتمس معرفة حقيقية تنجو بنا من التخمين والظنون وتساعدنا على فهم ما يحدث بشكل أفضل.

 

مصطفى عبد الظاهر: كثيرة هي الاستعادات المعاصرة التي تتعرض لأعمال ابن تيمية ، إننا نرى تضاربًا كبيرًا بين غالب هذه القراءات من حيث الصورة التي تقدمها للشيخ في المحصلة النهائية ، فنقرأ عن ابن تيمية في أعمال المستشرق هنري لاوست بشكل مختلف أتم الاختلاف عما تقدمه قراءات أخرى متضاربة بدورها فيما بينها كالقراءة السلفية المعاصرة التقليدية والقراءة الأشعرية التقليدية كنقيض لها والتي تتابعها غالب الأعمال الشيعية التي تتناول أعمال الشيخ بالدرس، كذلك هناك مقاربة صاغها الدكتور عبد الحكيم أجهر بين ابن تيمية وابن عربي ! وعلى النقيض الأتم الاستعادة التأويلية الاسمانية التي يقدمها التونسي البروفيسور أبو يعرب المرزوقي عن فكر ابن تيمية وابن خلدون أيضًا، من هنا نحاول أن نتساءل عن سر هذا الاختلاف الكبير بين ما تقدمه هذه الأعمال المتضاربة عن حياة ابن تيمية ومؤلفاته، ما الذي يجعل الأمر متضاربًا ومعقدًا إلى هذا الحد ؟

 

أحمد وجيه: المتعرِّض لتراث شيخ الإسلام تعترضه عدة مشكلات، من أهمها سعة تراث الرجل فقد نص مترجمه ابن عبد الهادي في العقود أنه من الممتنع حصر فتاويه ورسائله التي كتبها، سواء في سجنه أو غير ذلك، بخلاف كتبه الكبار التي ألفها ابتداءً ما وصلنا منها وما لم يصل، أو ما لم يخرج منها مطبوعًا بعد، كالدرء ومنهاج السنة وبيان تلبيس الجهمية، والفتاوي المصرية، وغير ذلك، فهذا هو المشكل المبدئي الذي يعترض كل دارس لتراث الشيخ.

 

المشكلة التي تلي تلك السابقة هي امتداد تراث الشيخ أفقيًا باستيعابه كل علوم عصره بلا استثناء، ورأسيًا بضربه في كل هذه العلوم بعمق ودقة بحيث يأتي على كل مسألة من المسائل الكبار من أصلها ويتتبع أصولها في علوم أخرى ثم أثرها من بعد في كل الفروع، وترتبط بهذه المشكلة قضية أخرى لا تقل عنها أثرًا في زيادة صعوبة دراسة تراث الشيخ دراسة محكمة؛ وهي نمط التأليف التيميّ، وهو النمط الذي أملاه عليه اعتبارات مهمان: أولهما : طبيعة الحياة التي كان يحياها الشيخ وما اعتمل فيها من أحداث بين سفر وسجن ومناظرة وخصومة وحروب، ثانيهما: ما أشرت إليه من كون تراث الشيخ ممتدًا أفقيًا ورأسيًا، وقد فرض ذلك على الشيخ أن لا تكون إبانته عن مقرراته الفكرية على نمط التأليف الكلاسيكي الذي يقوم على ترتيب الأبواب وتصنيف مسائله، بل كان يشرع في الكتابة بتحديد جهة أو حيثية ما يرى أن يأتي الموضوع منها، ثم ينهمر بعد ذلك في البحث والتقصي والاستطراد وتتبع المسائل والقضايا وربط العلوم ببعضها وبيان أثر علم على آخر ونحو ذلك، فتجد القضية الواحدة متفرقة في عموم كتبه.

 

كل ذلك يزيد من صعوبة كل متعرّض لتراث الشيخ أو الباحث فيه، إذ يتعيّن عليه إذا أراد أن يشرع في دراسة موقفه من مسألة ما وإن دقَّت أو قلَّ خطرُها بادي الرأي، أن يتتبع موارد هذه المسألة في تراث الشيخ كلّه وما يعقب ذلك التتبع من التصنيف والترتيب لهذا المجموع، وهذا أمر لا تخفى مشقته لما أشرتُ إليه من السمة الموسوعية لكتب الشيخ، على أن ذلك الأمر ـ على مشقّته ـ لا يستقيم على قدم إلا بعد أن يكون الباحث قد ألمَّ بمعرفة طائفة صالحة من المباني الفكرية التي أقام الشيخ فكره عليها، وهذا يعني أن يمكث الباحث زمنًا متعاطيًا تراث الشيخ حتى يستقر في نفسه منهج نظره وطريقته في العلم، وهذا أمر شاق جليل عظيم الخطر، فإن أتم الباحث كل ذلك مع حسن الظر والفهم والتمكّن من الأدوات البحثية حُقَّ له  بعد ذلك أن يتناول ما يشاء من فكر الشيخ بحثًا ودراسةً.

 

هذه كلها خطوات منهجية لا مندوحة لباحث أن يتغافل عنها أو يهملها، فمعرفة الأصول الكلية الحاكمة لفكر الشيخ هي المحرِّك لذهن الشيخ وأفكاره والمحدِّد لمساره، ولن يشقَّ بعدُ على باحثٍ أحسن معرفتها أن يتلمَّس أثرها في كل ما طرقه الشيخ من مسائل وفروع، فينبغي على الباحث أن يستصحب هذه الأصول في كل ما يعرض له من مسائل.

 

ولا يقتصر خطر معرفة الأصول الكلية الحاكمة لفكر الشيخ على هذا الذي سبق، بل يتجاوزه لما هو أهم منه، فبها يقتدر الناظر على تمييز موقع الشيخ وحقيقة مذهبه في المسألة المبحوثة ويفصل فيها بينه وبين غيره ممن وقع بينهم فيها نوع تشابه، فمن ثمَّ  يأمن الناظر من خلط موقف الشيخ بغيره، وهذا المأخذ ملحوظ بوضوح في عموم المواقف المعارضة لابن تيمية لا سيما الحديثة منها، إذ لا يكفي أن يلوح عارض من شبه بين ابن تيمية وغيره فيُحشر الشيخ في زمرة المشبَّه به، بل يجب أن تتوافق الأصول الكلية الحاكمة التي أدَّت إلى هذا المذهب أو ذاك ليحقَّ لباحث بعد ذلك أن يدرج الشيخ في أصحاب ذلك القول، فكيف والغالب على هذه المزاعم أن الرجل لم يشبه غيره فيها على الاصطلاح الموضوع، وعليه تتهاوى جمهور التهم التي اتُّهم الشيخ بها  كالتجسيم والقول بقدم العالم والقول بحلول الحوادث.

ومثال ذلك أن الشيخ وافق المعتزلة على القول بالتحسين والتقبيح العقليين، فاتهمه الشيخ زاهد الكوثري بأن الشيخ تأثر في ذلك بالمعتزلة متغافلاً عن المباني الفكرية الحاكمة لكلام الشيخ ومباينتها لمباني المعتزلة، وكذلك زعمه ـ في غيره ـ أن ابن تيمية اعتمد مذهباً ملفقًا من شتى المذاهب، فأخذ من الفلاسفة والكرامية والمعتزلة والأشاعرة، وهذا فيه ما سبق من هذه الغفلة، وكذلك من طابق ابن تيمية في قوله بفناء النار وبين أبي الهذيل العلاف في قوله بانقضاء حركات أهل النار، أو قول ابن عربي في أن المعذّبين في جهنم بعد أن ينالوا قسطهم من العذاب تستحيل أجسادهم إلى ما يوافق طبيعة النار فلا يحسون بألمها بل يتلذذون بها وحمل عليه قوله تعالى “إن عذابها كان غرامًا”.

 

كل هذا من الغفلة عن أصول منهج النظر والتعاطي مع تراث الشيخ، بل تراث كل أئمة المسلمين، فليس شأن هذا المنهج قاصرًا على تراث ابن تيمية بل هو عام في كل الأئمة، وإن كان لابن تيمية به مزيد اختصاص وأحقِّية، لما تميَّز به تراثه عن غيره من حيثيات كثيرة أشرت لبعضها في صدر الكلام.

 

كل هذا الذي سبق موجِب لا شكَّ إلى وقوع التضارب والتخبُّط في دراسة تراث الرجل وتحديد مواقفه، ولا يخفى أن هذا الاعتبار قاصر على ما وقع في دراسته من تناقض بين أطراف لا ما وقع فيها من اختلاف وتنوع يحتمله النص التيمي لخصوبته وثرائه وانفتاح نمطه.

فالبروفيسور أبو يعرب المرزوقي نسب ابن تيمية إلى إنكار الكليات ذهنًا وخارجًا موافقة للمذهب الاسمي في الوجود، معتمدًا في هذه النسبة على نصين للشيخ، مع أن مورد إنكار ابن تيمية للكليات هو الخارج فقط أما في الذهن فالشيخ يثبتها بلا إشكال، ويدلّ على ذلك من نصوصه ما لا يحصى كثرة، وقد أوقعت الانتقائية البروفيسور المرزوقي في هذا الغلط، وهو نمط من الخلل المنهجي الذي أشرت إليه، فقضية الوجود وأثرها في الفلسفة وعلم الكلام شغلت ـ لعظيم أثرها ـ من فكر ابن تيمية جانبًا عريضًا، فكيف يغني عن البحث والاستقصاء نصان في قضية كهذه !

 

وكذلك الأمر مع د.عبد الحكيم أجهر في مسائل عدة، منها مقاربته بين ابن تيمية وابن عربي في قضية النار وحال المعذَّبين.

ولا تبعُد القراءة السلفية التقليدية عن هذا الخلل المنهجي، فمعظم البحوث السلفية التي تناولت الشيخ بالدرس اقتصر أمرها فيه على رصد الموقف الجزئي للشيخ حيال قضية أو فرقة أو شخص، فمن موقف ابن تيمية من الصوفية، إلى موقفه من الفلاسفة، إلى رأيه في قضايا التكفير ومسائل الأسماء والأحكام، إلى موقفه في قضية الإيمان، إلى غير ذلك من عشرات العناوين لبحوث أكاديمية وغير أكاديمية اهتمت بالشيخ وقصرت موضوعها عليه، وقد وقعت جلُّ هذه البحوث هي الأخرى في لون من ألوان هذا المأزق المعرفي فاعتمدت على الجمع والتصنيف بغير دفع بالمادة إلى نهاية الشوط في البحث وقد كان غياب الأصول الفكرية للشيخ أحد أهم ما يلاحظ عليها، وقد قيدتُ بداية الكلام بمعظم لأن عددًا منها قد تغلَّب على هذا الغلط وحاول أصحابه بقدر الممكن أن يستوفوا شروط البحث في تراث الشيخ فمن مقل منه ومستكثر.

أما القراءة الأشعرية ـ ومن ورائها القراءة الشيعية ـ لتراث الشيخ فلا يخفى موقف الأشعرية المعاصرين لابن تيمية منه، كالتقي السبكي وابن الزملكاني وابن المرحل وغيرهم، إلا أنهم في عموم موقفهم منه لم يغِب عن أذهانهم قدر الرجل ومكانه في العلم والدين فلم يجرِّده أحد من قميص العلم، بل أقروا له بالتقدم فيه وشهدوا له بالفضل قولاً واحدًا على عظيم ما وقع بينهم من خلاف وتشاحن وخصومة، وهذا الملحظ أعني إنصاف معاصري الشيخ من الأشعرية للشيخ، هو الذي توارى بالكامل من الموقف الأشعري الحديث والمعاصر.

فقد نشبت الخصومة حادة بين أشعرية العصر الحديث وابن تيمية بسبب ما وقع لهم من الخصومة بينهم وبين دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب التي قامت أدبياته في عمومها على كلام ابن تيمية في باب العبادة وتوحيد الألوهية، فانسحبت الخصومة على مَعين كلام محمد بن عبد الوهاب أعني شيخ الإسلام فقامت الحرب على سوقها، ثم ازداد عنفوانها بعد أن ظهرت الطبقة الأولى من السلفية الحديثة في مصر وشرع الشيخ رشيد رضا في إحياء كتب ابن تيمية ونشرها والتنويه بأهميتها، ثم بنشر ما اتصل بها من كتب ورسائل شيوخ الدعوة النجدية، ولم يلبث أمر الشيخ رشيد رضا حتى تخرجت من عباءته مدرسة قائمة برأسها تكمل ما ابتدأه.
ولمَّا أن كان كل ذلك التراث الذي عمد الشيخ رشيد رضا إلى إحيائه يعارض ما استقر عليه أمر الأشعرية الصوفية في مصر، وحملت مدرسته من بعده على صوفية مصر حملة شديدة، فقد اشتعلت الحرب بينهما وانجرّ الكلام في ابن تيمية من جديد وكأن الشيخ بُعث من قبره، واتصل الكلام بعقائد ابن تيمية وما زعموه من مخالفته إجماع المسلمين وشرعوا جميعًا في الحطِّ عليه، إلا أن رجلاً منهم كان له أوفر حظٍّ من هذا التشنيع على الشيخ؛ وهو الشيخ محمد زاهد الكوثري الحنفي الماتريدي وكيل المشيخة العثمانية الأسبق، وذلك بعد أن استقر مقامه بمصر وقتذاك، وكان حربًا على الشيخ فجرَّده من كل فضيلة حتى الإسلام !

 

وقد اتصلت هذه الخصومة بين الأشعرية الحديثة وابن تيمية حتى ورثها من بعدهم أشعرية عصرنا، وقد زادوا فيها ألوانًا وتفننوا فيها على وجوه، وبالغوا في الحطِّ من قدر الشيخ واتهامه بكل نقيصة وتحميله كفلاً من سبب تراجع الأمة الإسلامية وتدهورها، إلا أن أهم ما يميّز هذه الطائفة عن سابقاتها هو الجهل بكلام الشيخ وتحميله من أفهامهم ما لم يقصده وقلة معرفتهم بنفس ما خالفوا الشيخ فيه.

كل ذلك أثر من آثار الخلل المنهجي في التعاطي مع تراث الشيخ وزاد عليه قلة الإنصاف وعدم مراعاة جانب الشيخ بما ورثوه عن أشعرية العصر الحديث وصوفيته.

 

 

مصطفى عبد الظّاهر: هل نالت مؤلفات ابن تيمية على المستوي العلمي نصيبًا كافيًا من الدرس والتدقيق والتحقيق، وهل ساهم هذا النقص العلمي في زيادة حدّة الاختلاف بين من تناولوا صورة ابن تيمية بالدرس على قلتهم ؟

 

أحمد وجيه: الحركة العلمية القائمة حول تراث ابن تيمية متنوعة وكبيرة من حيث الكم لا شك في ذلك، فقد نال تراثه من العناية أكثر مما نال تراث غيره، سواء على مستوى البحث الأكاديمي أو البحث الحر، وسواء في ذلك الدرس الموافق للشيخ أو المخالف له، فكلاهما نوع درس وتفاعل مع تراث الشيخ وطريقته، وقد أكثرت الجامعات السعودية من درسها لتراث الشيخ، فلو ذهبنا نستقصي البحوث العلمية المعنونة بموقف ابن تيمية من كذا لشقَ الحصر والاستقصاء، إذ لم يقتصر ذلك على علم واحد، بل اتسع ليشمل كل العلوم والمعارف التي خاض الشيخ فيها، من كلام وأصول وفقه وتفسير ولغة وتربية وغير ذلك.

 

ولم يكن هذا الاهتمام حكرًا على الجامعات السعودية؛ وإن كانت أجدرها بالعناية بتراث الرجل كما لا يخفى؛ بل شمل كثيرا من البلاد العربية والغربية، ولعل بعضًا من ألمع المستشرقين قد ارتبطت أسماؤهم بشيخ الإسلام لمزيد عنايتهم به مثل هنري لاووست وجورج مقدسي، وكذلك الأمر فيما يخص تعاطي مخالفي الشيخ مع تراثه نقدًا وتتبعًا وما جرَّا إليه، فنجد مدارس أشعرية في بلاد كثيرة قد أوقفت شطرًا كبيرًا من جهودها في نقد تراث الشيخ وبيان مخالفته لمذهبهم.

 

واعتبارًا لسعة تراث الشيخ على ما سبق فإن مداخل دراسته تتعدد وتتراوح ما بين المدخل اللغوي والمنطقي والمعرفي والوجودي وغيرها، وقد تناولت عدة بحوث بعضًا من هذه المداخل بشكل متفاوت، إلا أن بعضها ما يزال البحث فيه في حاجة لمزيدٍ من الجهود، أهمها في تصوري هي النظرية اللغوية التي اعتمدها الشيخ وقررها في مواضع كثيرة وربطه النسق اللغوي بالبعد الميتافيزيفي وتذرّعه بذلك إلى ضرب المنطق الأرسطي وتحطيم بنائه وبيان أن المنطق الأرسطي يرتبط باللغة اليونانية التي تستبطن تصورات وعقائد وثنية تتعارض مع جوهر التوحيد الإسلامي، ومن ثمَّ التشنيع على جمهور المتكلمين والفلاسفة الذين استندوا على منطق أرسطو في تشييد بنائهم العقدي.

والشاهد من كل ما سبق أن الدراسات المؤلفة عن الشيخ على كثرتها إلا أنه لا يصفو منها إلا القليل الذي يفتقر إلى مزيد دفع وتحليل ونقد ومقارنة كي تجلو صورة الشيخ في أذهان الناس.

 

مصطفى عبد الظّاهر: لماذا يُستدعى ابن تيمية دائمًا ويُلام على تصرفات الجماعات الإرهابية مثل “داعش”؟ وهل يكفي كونه حاضر في خطابهم دائمًا أن يتحمل ذنب مساهمة ما في بناء أيدولوجياتهم؟

 

أحمد وجيه: قبل كل شئ فأنا أرتاب بشدة بشأن مصطلحات كالإرهاب والعنف والتشدد والتطرف وكثرة دورانها في مجال الفكر الإسلامي، لما يكتنفها من غموض وعدم ضبط وعدم براءتها من التحيّزات بشتى أنواعها، فوق كونها مما لا اعتماد على مثله شرعًا إذ لم يعلق الشرع على جمهورها حكمًا يناط بها وجودًا وعدمًا.

 

أما عن الاستمداد التيمي لجماعات القتال المشار إليها، فلم يكن هذا الاستمداد حكرًا عليهم، بل إن التراث التيمي هو أحد أهم المرجعيات لكل التيار الجهادي بشتى أصنافه ومواقعه المكانية، والسبب في ذلك ينحصر في شئ واحد، هو أن تيار الجهاد العالمي بنسخته النهائية قد وُلِد من رحم السلفية التي تستمد تراث الشيخ في معاقد أفكارها في أبواب العلم والدين كافة.

 

أما عن تحمّل الشيخ للتبعات الفكرية والحركية التي وقعوا فيها، فجملة ما نراه اليوم من التوسع في التكفير واستباحة الدماء المعصومة بأدنى شبهة أو بمحض خلاف فرعي، وما يستتبع ذلك من التدابر والتنافر وتفريق كلمة المسلمين، فمثل ذلك وأضرابه ما عُلم بالضرورة من فكر الشيخ مناقضته، فقد كان أحرص الناس على جمع كلمة الملمين والتأليف بينهم، فلا يمكن أحدًا بعد ذلك أن يعتمد على نص للشيخ يفهم منه خلاف المحكم من فكره، ولا تقع التبعة إلا على رأس من لم يحصل منهج النظر في تراث الشيخ فأنطق الشيخَ ما لم ينطق به ثم راح يدَّعي نسبة نفسه إليه.

 

 

مصطفى عبد الظّاهر: كيف تقدم لنا أعمال ابن تيمية الواسعة صورة الآخر سواء المسلم (الشيعي) أو غير المسلم (في رده على النصارى) أو حتى المنهجي (في رده على المنطق اليوناني) ؟

 

أحمد وجيه: السؤال بهذا الشكل شديد العموم، إذ يقرن موقف ابن تيمية من المسلم بموقفه من غير المسلم، ثم بموقفه من المنطق الأرسطي وهو موقف منهجي لا علاقة له بأشخاص. ولكن على جهة العموم، فأولى ما يُبحَث فيه عن موقف الشيخ من قضية الخلاف وما يترتب عليها من آثار مواضع كلامه في أسباب الخلاف الواقعة قدرًا وشرعًا، وارتباط الخلاف بتركيبة النفس البشرية التي لا تماثل فيها مع غيرها بوجه من الوجوه، فكل شخص له عالمه النفسي الخاص وله رغباته ونزعاته الخاصة، ثم له بعد ذلك قدر نسبي من المعرفة يزيد عن غيره أو يقلّ فربَّ دليلٍ بلغ شخصًا فقال بمقتضاه ولم يبلغ آخر فنفى مقتضاه أو بلغه ولم يصحّ عنده أو لم يفهم منه ما فهمه الأول أو غير ذلك من الوجوه الكثيرة التي يقع بسببها الخلاف، ولعل رسالة الشيخ “رفع الملام” فيها أصول جامعة عن أصل الخلاف وموقف الشيخ منه إضافة إلى منثورات كلامه في تضاعيف كتبه، وجملته هو تكامل النظر الشرعي والقدري عن شيخ الإسلام.

 

والذي يعنينا من ذلك أن موقف الشيخ من الخلاف الفروعي مثلاً يستخلص من عدة قضايا ومسائل، منها على سبيل المثال: قضية تصويب المجتهدين وتخطئتهم فالمجتهدُ عند الشّيخِ مأجورٌ بإطلاق ما دام قصد الحقّ وبذل جهده فيه، وقضايا التكفير والتفسيق والتحذير من التوسع في باب التكفير والتبديع والتفريق في باب الأسماء والأحكام بين النوع والعين، وأصل عظيم كأصل الإعذار بالجهل في مسائل الدين أصولاً وفروعًا، فالشيخ لم يقصر القول بالإعذار على فروع الدين كما ذهب إليه جملة المتكلمين، بل وسَّع دائرة الإعذار لتشمل أبوب الدين كافة أصولاً وفروعًا، بحسب ما نبَّه الشيخ إليه من شرائط وقيود، وكذلك رأي الشيخ في الاجتماع البشري وأصله الذي هو التدافع بين الناس، وكذلك تنبيهه الدائم والمتواتر على أن أصل الرد على المخالف هو العلم والعدل، وأن أهل السنة ـ بتعبير الشيخ ـ يعرفون الحق ويرحمون الخلق، فليس الخلاف عند الشيخ من موجبات التباغض والتدابر وقطع الكلمة، بل يتأسس على رحمة العالم بالخلق وحملهم على الحق بما يناسب حالهم، فلذلك اعتنى الشيخ في كتبه عناية شديدة بمآخذ الأقوال وأصولها المبنيّة عليها ليستقر في نظر الناظر في كتبه الأسباب والمعاني التي أوجبت الخلاف وأنها ليس مما يُشنَّع به على الناس، بل هو راجع إلى قدر الله في خلقه وتفاوت قواهم وقدرهم، وأن الموقف يكون بالتدافع والتبيان.

 

أما موقف الشيخ من المنطق الأرسطي فكان موقفًا حادًّا شديدًا جدًّا، وقد نقضه الشيخ نقضًا في الرد على المنطقيين بالأساس، وهو من مهمات كتب الشيخ وعيون مذهبه وبديع ما كتب، فالشيخ ربط المنطق اليوناني بلغة اليونان ثم ربط هذه الأخيرة بالأصول الميتافيزيقية الوثنية عند اليونان وأن هذا المنطق يعجز بمادته وصوره عن أن يصلح كآلة فكرية في باب التوحيد لما بين التوحيد ووثنية اليونان المرتبطة بلغتهم ومن ثم منطقهم من تناقض، ثم بيانه أن المعارف الإنسانية تصوراتها وتصديقاتها لا تُنال بالمنطق بحدِّه ولا برهانه، وما يصح أن يعتمد عليه الناس في باب المعارف وطرقها، والخلاصة أن ما كتبه الشيخ من بيان لهذه المعاني غاية في النفاسة وغاية في الدلالة على غور الرجل وسعة عقله.

والشاهد من كل ذلك أن ابن تيمية يرى أن التعامل مع المخالف مسلماً كان أو غير ذلك، يجب أن يعتمد على أصلين يأثم بترك أحدهما، وهما : العلم والعدل.

 

 

مصطفى عبد الظاهر: ما هو سر انتشار أعمال ابن تيمية وتلميذه ابن القيم بين المسلمين المعاصرين؟ وهل هناك طاقات منهاجية يمكن أن تقدمها هذه المدرسة للفكر الإسلامي المعاصر؟

أحمد وجيه: أما عن مؤلفات الشيخ وتلميذه ابن القيم فقد أخذت في الانتشار مع مطالع القرن الماضي، عند بحث بعض أعلام مصلحي الفكر الإسلامي وقتذاك عن مكامن التجديد في التراث الإسلامي، وقد كان تراث ابن تيمية وابن القيم من بعده خير مثال في ذلك في كل أبواب العلم، فقد كانا حربًا على التقليد المحرَّم وصوره ومتَّبعيه، وانتقدوا كثيرًا من مقلِّدة المذاهب سواء مذاهب فقهية أو كلامية أو صوفية نقدًا شديدًا، وسعيا في إرجاع الأدلة المعتمدة وهي القرآن والسنة إلى منزلتهما وصدارتهما بحيث يكونان متبوعين بكل ما سواهما من أجناس الأدلة لا تابعين.

وما تقدِّمه هذه المدرسة من تقويم وتصحيح لمسار الفكر الإسلامي كبير جدا فبخلاف المواقف الفرعية لشيخ الإسلام وآرائه فيها، وهي على عظيم شأنها وأهميتها، إلا أن من أعظم ما يقدمه تراثه هو ذلك المتعلق بتجديد أدوات النظر والبحث والكلام في مناهج الاستدلال ونظرية المعرفة، وطرائق البحث العلمي المحكم سواء في مجال الفقه أو الكلام أو غيره مما يطول ذكره، وهي الأصول الكلية التي أشرت إليه في سابق الكلام، وهي من أجدر ما يُعتنى به الآن من تراث ابن تيمية، ليتتبع الباحث اليقظ حركة عقل أحد أهم مفكِّري الإسلام وكيف كان يتصرَّف في الأدلة ويبني البراهين ويضع الرأي ويرد على المخالف، إلى غير ذلك من وجوه الإفادة.

 

ومن الجوانب الطريفة في تراث ابن تيمية وكذلك ابن القيم أن تراثهما يُعدّ من أغنى مصادر التأريخ الاجتماعي والثقافي للعصر المملوكي، فكتبهما مليئة بوجوه النقد الاجتماعي المرتبط بالسياق الديني العام لكثير من الأوضاع الاجتماعية لذاك العصر، مثل نقدهما كثيرًا من البدع المسلكية عند طرقية المتصوفة، وكثير من الأمور المتعلقة بفروع فقهية كزواج التحليل وكيف اتنشر هذا النوع من الزواج اتشارا واسعًا في العصر المملوكي وربط الشيخ ذلك بمذهب القائلين بوقوع الطلاق ثلاثًا إن كان بفم واحد ولذلك انتصر الشيخ لمذهب أن الطلاق الثلاث إن كان بفم واحد فلا تقع به إلا طلقة واحدة وكان ذلك من أسباب حبس الشيخ ومحنته.

 

مقالات ذات صله

1 تعليقات

  1. عبدالله بدر

    أرجو تزويدي بوسيلة تواصل مع الباحث أحمد وجيه ويفضل أن يكون عنوان بريده الالكتروني.وشكرًا

    الرد

الرد على عبدالله بدر اغلق الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!