التأويلُ مَدْخَلاً ووسِيلةً للتّجديدِ

التأويلُ مَدْخَلاً ووسِيلةً للتّجديدِ

التأويلُ مَدْخَلاً ووسِيلةً للتّجديدِ

البابية/البهائية ومحمد إقبال

محمد أمير ناشر النعم

إنّ (التجديد) في صميمه عملية (تأويلية) تقوم بتطوير المعرفة الدينية، وبالمصالحة بين الرمز الديني وبين العقل، فــ (التأويل) يضفي المعقولية على النص الديني بعامة، ويخرجه من حالة الأسطورة أو الخرافة التي تنطبق على بعض مفرداته، ويؤدي (التأويل) دور ما يٌعرف بــ (دلالة الاقتضاء) في عرف علم أصول الفقه، تلك الدلالة المضمرة التي لا يستقيم الكلام، أولا يفهم، أو لا يصح إلا بتقديرها، وبدونها يغدو النص إما مستحيلاً عقلاً أوعرفاً أوشرعاً، وإما خارقاً لنواميس الطبيعة وسيرورتها المضطردة الثابتة.

ويقوم (التأويل) في هذه الحالة بــمهمة (التجديد الدلالي)، و(خلق المعنى) بحسب تعبير بول ريكور، و(التأويل) إذ يبدع معناه الجديد فكأنه يكتشف مناطق للتجربة الإنسانية ما كان يمكن الوصول إليها أو التفكير فيها، ومن هنا تجلت الحاجة إلى ظهور تفكير ينطلق من (تأويل الرمز) باعتباره معنى ثورياً ، لا معنى مسالماً، ولا يتم ذلك إلا بما يطلق عليه (البراعة التأويلية) الهادفة إلى استعادة الكمال الدلالي للرموز الدينية الكبرى التي تضخ في الإنسان التيارَ الملهم والمحرّك.

وتتحدد هذه البراعة بما يملكه المؤوِّل/المجدِّد من علوم ومعارف وأفكار وتجارب ومعاناة وإرادة وتحدٍ، واستعداد للمواجهة والتضحية، وقد ترسّم إقبال في (التأويل) خطى البابية/البهائية التي ورثت رأسمالاً تأويلياً غنياً، ابتداءً من الإسماعيلية أول الأساتذة الكبار في التأويل، بحسب ما أطلقه عليهم هنري كوربان، ومروراً بالفلاسفة العرفانيين من الاثني عشرية: المير داماد (ت: 1041هـ – 1631م)، والملا صدرا الشيرازي (ت: 1050هـ – 1640)، ومحسن فيض (ت:1090هـ – 168م)، وعبد الرزاق اللاهيجي (ت: 1051هـ – 164م)، وانتهاءً بالمدرسة الشيخية والكشفية: (الشيخ أحمد الإحسائي، والسيد كاظم الرشتي)، ووظفت ذلك الرأسمال توظيفاً ذكياً أبرزها في دور المدافع عن العقل، وعن التطور والتجديد.

وقد امتاز الباب والبهاء عن بقية المفكرين المسلمين بمن فيهم إقبال نفسه أنهما لم يفرّقا بين أحد من الكتب السماوية (التوراة – الإنجيل – القرآن)، فخاضا في (تأويلها) جميعاً، وبرعا في هذا (التأويل)، وأعطياها الاعتبار نفسه والموثوقية ذاتها، فكانت كلها في نظريهما بيانات إلهية صادرة عن الوحي الإلهي المقدّس، وما تراءى لنا فيها من أخبار وقضايا تصادم العقل، فمرده إلى قصر نظرنا أو إلى حرفيتنا، ومن أجل ذلك قامت البهائية بتأويل عدد من المسائل اللاهوتية بحسب الطرف المقابل التي كانت تقف أمامه، ففي الهند قامت بتأويلات عدة للبوذية والهندوسية، وفي إيران للزرادشتية، وفي الشرق الأوسط للإسلام، وفي الغرب لليهودية والمسيحية، بل إن البهاء، ومن بعده عبد البهاء، لم يترددا في إعلان الانتساب إلى التقليد الهندوسي، والتصريح بأنّ البهاء هو الظهور المنتظر الذي بشّرت به النصوص الهندوسية المقدسة، وأشارت البهائية إلى أن عصر البهاء هو عهد الرقي الهندوسي [العصر الذهبي]، وكان على البهاء أن يعيد النظر في ظاهرتين وسمتا الديانة الهندوسية بميسم الدين البدائي:

الأولى: هي النزعة الوثنية في عبادة براهمن من خلال وسائط كثيرة.

والثانية: نظام الطبقات الاجتماعية الجائر.

فأعلن أنّ هذا العهد الجديد إنما هو عهد نضج الإنسانية، وترقي تفكيرها بالتعلم والتثقف، وانتشار المعارف، فلم يعد مقبولاً عبادة الأوثان، ولا الحيف في هذا التمييز الطبقي المجحف.

ونذكر من المسائل اللاهوتية المسيحية التي أوّلتها البهائية: ولادة حضرة المسيح، وتعميده، ومسألة حلول روح القدس، والمجيء الثاني للمسيح ويوم الدينونة، والرجعة التي أخبر بها الأنبياء، والأقانيم الثلاثة، وقيام المسيح من بين الأموات بعد ثلاثة أيام، ناهيك عن تأويلات النص القرآني أو أحاديث النبي محمد وأهل بيته عليه وعليهم صلوات الله أجمعين.

 

آدم وحواء رموز وتأويلات:

يقول عباس أفندي (عبد البهاء): “فلو أخذنا هذه الحكاية حسب المعنى الظاهري للعبارات، وحسب ما اصطلح عليه بين العامة لهي في نهاية الغرابة، ويستحيل على العقل أن يقبلها ويصدقها ويتصورها”[1].

“فحكاية آدم وحواء هذه، وتناولهما من الشجرة وخروجهما من الجنة جميعها رموز، ومن الأسرار الإلهية والمعاني الكلية.

المقصود بآدم وحواء روح آدم ونفسه، والمقصود من شجرة الخير والشر هو عالم الناسوت ذي الحقائق المتضادة من نور وظلمة وخير وشر.

أما المقصود من الحية فهو التعلق بالعالم الناسوتي، وقد أدى تعلق الروح بالعالم الناسوتي إلى حرمان روح آدم ونفسه وإخراجه من عالم الحرية والإطلاق إلى عالم الأسر والتقييد”[2].

وهذا التعلق المعبّر عنه بالعصيان سرى في سلالة آدم. “لاحظوا أنه لو كان المقصود هو المعنى الظاهري بحسب تصور أهل الكتاب لكان ذلك ظلماً محضاً واعتسافاً صرفاً، فلو أن آدم أذنب باقترابه من الشجرة الممنوعة، فأي ذنب جناه الخليل الجليل، وأي خطأ اقترفه موسى الكليم، وأي عصيان فعله نبي الله نوح، وأي طغيان برز من يوسف الصديق، وأي فتور وقع لأنبياء الله، وأي قصور صدر من يحيى الحصور، فهل تقبل العدالة الإلهية أن تبتلى هذه المظاهر النورانية بالجحيم الأليم من أجل عصيان آدم حتى يأتي المسيح ويصير قرباناً لينجو هؤلاء من عذاب السعير”؟[3].

“هذا معنى واحد من معاني حكاية حضرة آدم المذكورة في التوراة، فتفكروا أنتم أيضاً حتى تههتدوا إلى المعاني الأخرى”[4].

وفعلاً لقد قام إقبال بتأويل قصة آدم، ونسج على منوال البابية/البهائية، واهتدى إلى معانٍ أخرى، وأولى هذه المعاني تقريره أن قصة هبوط آدم، كما جاءت في القرآن الكريم، لا صلة لها بظهور الإنسان الأول على هذا الكوكب، “وإنما أريد بها بالأحرى بيان ارتقاء الإنسان من بداية الشهوة الغريزية إلى الشعور بأنّ له نفساً حرة قادرة على الشك والعصيان، وليس يعني الهبوط أي فساد أخلاقي، بل هو انتقال الإنسان من الشعور البسيط إلى ظهور أول بارقة من بوارق الشعور بالنفس، هو نوع من اليقظة من حلم الطبيعة أحدثتها خفقة من الشعور بأنّ للإنسان صلة علّية شخصية بوجوده”[5].

إن إقبالاً لم يفهم قصة آدم الواردة في القرآن الكريم، الفهم الكلاسيكي الحرفي المعهود، بل مشى على خطى البابية/البهائية في تأويلها، بل وفاقهما في (البراعة التأويلية) حين كشف عن كون القرآن نفسه مارس هذه العملية التأويلية البارعة في غايتها المبدعة الهادفة إلى تطوير المعرفة الدينية، وإلى بعث معانٍ جديدة فيها، وإلى إخراجها من عوالم الأساطير إلى عالم الواقع، فــ “طريقة القرآن في تحوير القصص تحويراً جزئياً أوكلياً ليبعث فيها معاني جديدة يلائم بينها وبين روح التقدم في الزمن أمر له خطره، ولكن دارسي الإسلام من المسلمين وغير المسلمين على سواء كادوا يهملونه على الدوام”[6].

وإنّ ما يسميه إقبال (تحويراً) في القصص إن هو إلا (تأويل)، ويسميه القرآن الكريم (هيمنةً) و(تبياناً): {وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نُزّل إليهم} النحل: 44، {وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبيّن لهم الذي اختلفوا فيه} النحل: 64، {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدّقاً لما بين يديه من الكتب ومهيمناً عليه} المائدة: 48، والهيمنة والتبيان هنا تعنيان الرقابة على المعنى مهما بعدت به الشقة، والائتمان عليه وإن طال عليه الأمد، وحفظه من الضياع، في دهاليز الفهوم المغلوطة، أو في فيافي التفسيرات الخاطئة، وتعني فوق ذلك كله تطويره والارتقاء به بما يلائم تطور الإنسانية وارتقاءها في المجالات والصعد كافة، وبناءً على هذا فالقرآن الكريم هو (تنزيل) و(تأويل) في الآن ذاته، (تنزيل) باعتباره الكلام النازل من السماء إلى النبي عن طريق الوحي، وهو (تأويل) باعتباره عودة إلى الأصل والأولية، وإرجاع المعاني الحقيقية التائهة أو البائدة إلى الرموز الدينية المبثوثة في الكتب الإلهية السابقة. ولكي لا يبقى الكلام نظرياً نسوق نصاً طويلاً لإقبال يشرح فيه هذا الأمر بطريقته، ويدلل عليه بمثال  قصة آدم الواردة في العهد القديم، التي تم تناولها (تنزيلاً) و(تأويلاً) في القرآن الكريم.

يقول إقبال: “ولننتقل إلى قصة هبوط آدم من الجنة. إننا نجدها في آداب العالم القديم على صور مختلفة، ومن المستحيل حقاً أن نحدد مراحل نموها، وأن نرسم في وضوح البواعث الإنسانية المختلفة التي لا بدّ أن تكون قد أثرت في تحديدها البطيء.

ولكنّا إذا قصرنا بحثنا على صورة القصة كما جاءت عند الساميين فإنه من المرجّح جداً أنها نشأت عن رغبة الإنسان البدائي في أن يفسر لنفسه تعاسته البالغة وسوء حاله في بيئة غير مواتية له، تفيض بالمرض والموت، وتعوقه من كل ناحية في سعيه لاستبقاء حياته، ولما لم يكن للإنسان أي سلطان على قوى الطبيعة فإن نظره إلى الحياة نظرة متشائمة كان طبيعياً، وعلى هذا نجد في نقش بابلي قديم ثعباناً (رمز عضو التذكير)، وشجرة، وامرأة تقدم إلى رجل تفاحة (رمز البكارة). ومعنى هذه الأسطورة واضح هو أن سقوط الرجل من حال مفترضة من حالات السعادة كان سببه الاختلاط الجنسي بين الرجل والمرأة لأول مرة، ويتضح لنا أسلوب القرآن في عرض هذه القصة عندما نقرنه بما ورد في سفر التكوين.

ونقطة الخلاف الظاهرة بين رواية القرآن ورواية التوراة تشير إلى غرض القرآن إشارة لا تقبل الخطأ:

1 – فالقرآن يسقط من روايته إسقاطاً تاماً ذكر الحية، وحكاية خلق حواء من ضلع من ضلوع آدم. وحذف حكاية الحية تجريد للقصة من طابعها الجنسي، ومما توحي به أصلاً من النظر إلى الحياة نظرة متشائمة، وحذف حكاية الضلع يقصد به الإشارة إلى أن غرض القرآن من رواية القصة ليس السرد التاريخي، كما هو الحال في كتاب العهد القديم الذي يعطينا وصفاً لأصل الرجل والمرأة تمهيداً لبيان تاريخ بني إسرائيل. نعم ورد في آيات القرآن التي تتحدث عن أصل الإنسان بوصفه كائناً حياً لفظ (بشر) أو(إنسان) لا لفظ (آدم)، الذي احتفظ به الإنسان من حيث هو خليفة الله في الأرض، ويزداد غرض القرآن تحققاً بحذف أسماء الأعلام مثل آدم وحواء اللذين ورد ذكرهما في رواية التوراة، واستبقاء القرآن للفظ (آدم)، واستعماله له إنما هو للدلالة على معنى أكثر مما هو للدلالة على اسم فرد معيّن من البشر، واستعمال اللفظ على هذا الوجه لا يعوزه الدليل من القرآن نفسه، فالآية واضحة تماماً في هذا المعنى {ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} الأعراف: 11.

2 – يقسم القرآن القصة إلى حادثتين متمايزتين: إحداهما تتعلق بما يصفه بالشجرة فقط، خاصةبشجرة الخلد وملك لا يبلى. وردت الأولى في سورة الأعراف (السورة السابعة)، والثانية في سورة طه (السورة العشرين).

ورواية القرآن تقوم على أن آدم وزوجه أزلهما الشيطان الذي يوسوس في صدور الناس فذاقا من ثمار الشجرتين كليتهما، على حين رواية العهد القديم تقوم على أن الإنسان طرد من جنة عدن فور عصيانه الأول، وأنّ الله أقام في الجانب الشرقي ملائكة وسيفاً من لهب يتحرك في جميع الجهات لحراسة طريق شجرة الحياة.

3 – يلعن العهد القديم الأرض لعصيان آدم. أما القرآن فيجعل الأرض مستقراً ومتاعاً للإنسان ينبغي أن يشكر الله عليه {ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش قليلاً ما تشكرون} الأعراف: 10، كما أنه ليس هناك من سبب لافتراض أن كلمة (جنة) أي: حديقة، استعملت في هذا السياق للدلالة على جنة وراء الحس، يفترض أن الإنسان هبط منها إلى هذه الأرض، إذ يقول: {والله أنبتكم من الأرض نباتاً}، فالجنة التي ورد ذكرها في القصة لا يمكن أن يقصد بها الجنة التي جعلها الله مقاماً خالداً للمتقين […].

على أن الجنة التي ورد ذكرها في القصة كان أول ما وقع فيها معصية الإنسان لربه ثم خروجه من الجنة، والواقع أن القرآن نفسه يفسر معنى (الجنة) كما استعملها في روايته، ففي بيان الحادثة الثانية التي وقعت في هذه القصة يصف القرآن الجنة فيقول {إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى، وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى}، وعلى هذا فإني أميل إلى اعتبار الجنة التي جاء ذكرها في القرآن تصويراً لحالة بدائية يكاد يكون الإنسان فيها مقطوع الصلة بالبيئة التي يعيش فيها، ومن ثم فإنه لا يحس بلدغة المطالب البشرية التي تحدد نشأتها، دون سواها من العوامل بداية الثقافة الإنسانية”[7].

 

تأويل عوالم الآخرة:

لقد تنبّهت آن ماري شمل إلى أنّ “مفهوم إقبال للموت، والنشور، ويوم الحساب، في سنواته الأخيرة كان مختلفاً أصلاً عن الإيمان بالأخرويات التقليدي لدى الفقهاء والوعاظ الشعبيين”[8]، ولكنها لم تلتقط الخيط الواصل ما بين إقبال والبهائية في هذه المسائل.

يقول المنصف بن عبد الجليل: ” إن مقالة البابية والبهائية في الأخرويات قد تأسست على عبارة القرآن وآياته، ولكنها تأولتها على وجه لم يشتهر بين المسلمين”[9].

فالبابية/البهائية تقرر أنّ ما نجده في القرآن الكريم من تصويرات وتقريرات لعوالم الآخرة إن هي إلا رموز لما تمرّ به الروح بحسب حالاتها: إيماناً وإنكاراً، هداية وضلالاً، فالجنة ودرجاتها، والنار ودركاتها هي  حالات للروح في الحياة وبعد الممات، وليست أمكنة مستقلة في وجودها، بل هي وجود الإنسان نفسه، وحالاته عينها.

وهذا ما يكرره إقبال في تأويله الذي يلمح التأويل البهائي، لأنه ينسجه على المنوال نفسه، ويزيده زركشة وترصيعاً من خلال لغته الفلسفية المقتدرة العالية.

ونبتدئ من تأويل إقبال للبعث، الذي يرى أنه “ليس حادثاً يأتينا من خارج، بل هو كمال لحركة الحياة داخل النفس، وسواء أكان البعث للفرد أم للكون فإنه لا يعدو أن يكون نوعاً من (جرد البضائع)، أوالإحصاء لما أسلفت للنفس من عمل، وما بقي أمامها من إمكانيات”[10].

ويقول: “على أنّ الأمر الذي أثار كثيراً من الخلاف بين فلاسفة الإسلام وعلماء الكلام هو ما إذا كان بعث الإنسان يتضمن بعث البدن على حالته السابقة، وأكثر علماء الكلام – وفيهم شاه ولي الله – أخر عظماء علماء الدين في الإسلام يذهبون إلى أنّ البعث يتضمن على الأقل نوعاً من حالة جسمية تلائم البيئة الجديدة للنفس، ويلوح لي أنّ هذا الرأي يرجع أصلاً إلى أنّ النفس باعتبارها فرداً لا يمكن أن نتصورها من غير نسبة مكانية أو فراش تجريبي. والآية الآتية تلقي على هذا الموضوع شيئاً من الضوء: {أئذا متنا وكنّا تراباً ذلك رجع بعيد، قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ} ق:3-4، فهذه الآية على ما أرى تشير في وضوح إلى أنّ طبيعة الكون هي بحيث إنّ السبيل مفتوح أمامها لتحتفظ في صورة أخرى بنوع الشخصية الفردية اللازمة للتفسير النهائي لعمل الإنسان حتى بعد أن يتحلل ما يبدو أنه معيّن لشخصيته في بيئته الحاضرة، ولسنا نعرف كيف تكون هذه الصورة الأخرى، كما أننا لا نستفيد أي علم جديد بطبيعته (النشأة الأخرى) إذا ربطناها بنوع الجسم مهما كان خفياً، والتشبيهات الواردة في القرآن تقتصر على الإشارة إليها كأمر واقع دون أن يكون المراد منها إظهار طبيعتها وجلاء حقيقتها. ونحن إذا تناولنا الأمر برمته من الناحية الفلسفية لا نقدر على أن نقول أكثر من أن ماضي تاريخ الإنسان يجعل من المستبعد أن تنتهي سيرته بفناء جسده”[11].

لقد وقف إقبال في منطقة وسطى بين علماء الكلام المدافعين عن البعث الجسدي، والفهم الحرفي لحقيقة الجنة والنار، وبين الفلاسفة النافين له، والذين يقصرون نعيم الجنة، وجحيم النار على الأرواح فقط، فهو لا يشترط إعادة الجسم ليتم البعث، ولكنه يؤكد أن السبيل مفتوح لصورة أخرى، لا يحدد كنهها، تكون حاملاً للشخصية ومعيّناً للنفس الإنسانية، وهذا الموقف يمتد في خيط رفيع منذ السهروردي المقتول الذي بسطه في مؤلفاته، والمتمثل بالارتقاء الكينوني لعالم المثال، المتوسط بين العالم الحسي والعالم الفكري المحض، إلى سلسلة خلفائه الذين استلهموه وطوّروا رؤيته، وأهم رجال هذه السلسلة: ملا صدرا الذي ردّ على الغزالي وابن سينا في الآن ذاته، وأحمد الإحسائي، والباب والبهاء، اللذان اقتربا من موقف الفلاسفة مرة أخرى، وأخيراً إقبال الذي تمثّل كل الأفكار السابقة، فأوّل الجنة والنار، كما أوّلتها البابية/البهائية، فقال: “أما (الجنة) و(النار) فهما حالتان لا مكانان. ووصفهما في القرآن تصوير حسي لأمر نفساني أي لصفة أوحال. فالنار في تعبير القرآن هي {نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة}الهمزة: 6-7، هي إدراك أليم لإخفاق الإنسان بوصفه إنساناً. أما الجنة فهي سعادة الفوز على قوى الانحلال”[12].

ويقول: “وليس في النار لعنة أبدية. ولفظ الأبدية الذي جاء في بعض الآيات وصفاً للنار يفسّره القرآن نفسه بأنه حقبة من الزمان، والزمان لا يمكن أن يكون مقطوع النسبة إلى تطور الشخصية انقطاعاً تاماً، فالخُلُق ينزع إلى الاستدامة، وتكييفه من جديد يقتضي زماناً، وعلى هذا فالنار كما يصورها القرآن ليست هاوية من عذاب مقيم يسلطه إله منتقم، بل هي تجربة للتقويم قد تجعل النفس القاسية المتحجّرة تحس مرة أخرى بنفحات حية من رضوان الله، وليست الجنة كذلك إجازة أو عطلة، فالحياة واحدة متصلة، والإنسان يسير دائماً قدماً فيتلقى على الدوام نوراً جديداً من الحق غير المتناهي الذي هو {كل يوم هو في شأن} الرحمن: 29، ومن يتلقى نور الهداية الربانية ليس متلقياً سلبياً فحسب، لأنّ كل فعل لنفس حرة يخلق موقفاً جديداً، وبذلك يتيح فرصاً جديدة تتجلى فيها قدرته على الإيجاد”[13].

ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ تأثير محيي الدين بن عربي يبدو واضحاً في هذا النص، ناهيك عن تأثير البهائية التي تستحضر الجنة والنار لتصبحا حالةً يومية يعيشها المؤمن والكافر. فــ “الجنة هي حالة الإيمان والتصديق والولاية، و(النار) هي حالة الكفر والإنكار”[14].

يقول المنصف بن عبد الجليل: “أما البهاء فإنه فصّل مجمل الآخرة البابية، وأبقى عليها تماماً، وعلى صاحب الدور القادم أيضاً، والسبب أنه طلب بذلك كونية الدعوة، وتأليف الجنس البشري، وصاغ (الآخرة) في عبارة روحية، تستنكف من تأكيد العذاب الجسدي لتلح على الجانب الروحي، وقد رام من ذلك أن يسهم في نشر قيم دينية حديثة تتألف كلها فيما يسمى بـ (حقوق الإنسان) إحدى مآثر الحداثة”[15].

على أنّ إقبال حين يخرج مفهوم الجنة والنار من معناهما (الحسي) إلى معنى (روحي) و(نفسي)، فهو يربط (الخلود) بالتطور البيلوجي، وينقل كل ذلك من العالم الغيبي الماورائي، إلى صميم الإنسان ومركز وجوده، إسهاماً منه كذلك في نشر قيم دينية حديثة تلائم التطور الروحي والعقلي والنفسي للإنسانية سواء بسواء. وهنا يقترب إقبال من الوجودية المؤمنة، بل ويكيّف مبدأ (التطور) تكييفاً يدخله في النسق الروحي فلا يعود يتعارض مع فكرة (الخلق)، التي يقوم عليها أساس الدين.

يقول إقبال: “وكان من الطبيعي المتفق مع روح القرآن أن يعتبر رومي [جلال الدين الرومي] أنّ الخلود موضوع من موضوعات التطور البيولوجي لا أمراً يقرره الجدل الفلسفي البحت، كما ظنّ بعض فلاسفة الإسلام، على أن نظرية التطور أورثت العالم الحديث اليأس والحيرة بدلاً من التحمس للحياة في أمل ورجاء، والسبب في هذا هو الفرض الحديث الذي لا مبرر له، من أن تركيب الإنسان الحاضر، سواء أكان عقلياً أم فسيولوجياً، هو خاتمة المطاف للتطور البيولوجي، وأنّ الموت من حيث هو حدث بيولوجي ليس فيه أي معنى من معاني البناء، وعالمنا اليوم يفتقر إلى رومي آخر يبعث فيه قبساً من الأمل والرجاء، ويشعل فيه نار التحمس للحياة”[16]. وهذا ما حاولته البهائية، وهذا ما وقف إقبال عليه نفسه.

 

الخلاصة:

لقد مارست البابية/ البهائية، وإقبال كذلك التأويلية الفلسفية على نطاق واسع، ونفترض أن الاطلاع على هذه التجربة بإمكانه أن يمد طالبي التجديد في الفكر الإسلامي المعاصر بتجربة غنية حيّة، توازي أهميتها أهمية الاطلاع على أفكار النظرية الهرمينوطيقية الحديثة وكتابات أعلامها: شلايرماخر، وهايدغر، وبول ريكور، وبولطمان، وغادامر.

 (43) انظر: عباس أفندي (عبد البهاء)، “نصوص بهائية”. ص 167.

 (44) المصدر السابق، ص 168.

 (45) المصدر نفسه، ص 169.

 (46) المصدر نفسه، ص 107.

 (47) انظر: محمد إقبال، “تجديد التفكير الديني في الإسلام”. ص103.

 (48) المصدر السابق، ص 100.

 (49) المصدر السابق، ص100-103.

(50) انظر: أنماري شيمل، “وأن محمداً رسول الله”. ص 351.

 (51) انظر: المنصف بن عبد الجليل، “نشأة الفرقة الهامشية في الإسلام”. ص 548.

 (52) انظر: محمد إقبال، “إعادة تجديد التفكير الديني”. ص 142.

(54) المصدر السابق. ص 145.

 (55) المصدر السابق، ص145-146.

 (56) المصدر السابق، ص 146.

 (57) انظر: عباس أفندي (عبد البهاء)، “نصوص بهائية”. ص 547.

 (58) انظر: المنصف بن عبد الجليل، “نشأة الفرقة الهامشية في الإسلام”. ص 550.

 (59) انظر: محمد إقبال، “تجديد التفكير الديني في الإسلام”. ص143.

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!