مشارق أنوار القلوب ومفاتح أسرار الغيوب

مشارق أنوار القلوب ومفاتح أسرار الغيوب

مفهوم الكمال  في كتاب مشارق أنوار القلوب

ومفاتح أسرار الغيوب لابن الدبّاغ

بقلم: أماني العاقل

أولاً: المقدمة:

يذخر إرثنا الثقافي برؤى جمالية ومعرفية ذات أبعاد واسعة، يصبو جوهرها نحو الارتقاء بالإنسان والسمو بجوهره نحو الله. ومن الجواهر العرفانية في مكتبة الثقافة العربية الإسلامية كتاب(مشارق أنوار القلوب ومفاتح أسرار الغيوب) لابن الدباغ، الذي يجد الباحث فيه نموذجاً لجوهر الفكر الجماليّ الإسلامي.      

   يتألف الكتاب من عشرة أبواب:

 (في الطريق الموصلة للنفوس الذكية إلى المحبة الحقيقية، في المحبة ومعانيها واختلاف عبارات الناس فيها، في أقسام المحبة الجنسية والنفسية، في معنى الجمال والكمال، في المحبة المعنوية الخفيّة عن أذهان البريّة، في أقسام المحبين من السالكين، في مقامات السالكين وأحوال العارفين، في منازل الواصلين من أهل التمكين، في ذكر العشق على الإجمال وما يتصل بذلك من الأحوال، في الفضائل التي تكتسبها النفس بطريق المحبة).

 وقد اخترت دراسة مفهوم الجمال والكمال في هذا الكتاب، لما له من ارتباط بحياتنا وارتقاء بجوهر الفرد.

وقبل الشروع في سرد تبسيطي لمعاني تلك الأبواب سيشرع البحث بالتعريف بابن الدباغ.

من هو ابن الدباغ ؟

      هو أبو زيد، عبد الرحمن بن محمد بن علي بن عبد الله الأنصاري، الأُسَيدي، المالكيّ، عُرِف بالدباغ، وكذلك بابن الدباغ[1].

مؤرخ، ومحدّث وراوية، وفقيه متصوّف، وله مشاركات عديدة في العلوم العقلية والنقلية.

وُلد سنة 605 هجري، وتوفي سنة 699 هجري[2]

من تصانيفه:تاريخ ملوك الإسلام، وكذلك جلاء الأفكار في مناقب الأنصار، كما كتب كتاباً في تراجم أهل القيروان[3].

ومن مؤلفاته أيضاً كتاب (الأحاديث الأربعون في عموم رحمة الله لسائر المؤمنين) وكتاب (تاريخ القيروان من بلاد الغرب)[4].

      عاش ابن الدباغ في القرن السابع الهجري، ولدينا مايشير إلى أنه قيرواني الأصل والمنشأ[5]، وقضى معظم حياته في زمن الموحدين الذين امتدّ عصرهم منذ عام 524 حتى عام 674 هجري. وقد كان العصر آن ذاك عصر اضطرابٍ وتفكّكٍ وحروبٍ وصراعاتٍ وإصلاح[6].

واكب ابن الدباغ مرحلة تطور الفكر الصوفي في ذلك العصر،الذي غدا فلسفة حياة هدفها الرقيّ بالنفس البشرية روحيّاً وأخلاقيّاً، وتزويدها بقواعد وقيم ومبادئ تساعدها على تحقيق ذاتها والوصول إلى الحقائق، والطريق إلى ذلك رياضة روحية وتمرّس ومنها “تقديم المجاهدة ومحو الصفات المذمومة، وقطع العلائق كلها، والإقبال بكنه الهمّة على الله تعالى”[7].

ويتوجب علينا أن ننوّه إلى تطوّر الفكر الصوفي عبر العصور ، ففي القرنين الأول والثاني للهجرة كانت غاية التصوّف زهداً تمثّل في عبادة الله طمعاً في الثواب والجنة وخوفاً من العقاب والنار، كما كانت طريقاً لابتغاء مرضاة الله وحبه،أمّا القرنين الثالث والرابع للهجرة أصبحت غاية التصوّف دراسة بواطن النفوس وخفايا الروح وأسرار القلوب، ثم تطورت بعد ذلك لتصبح طريقاً إلى المعرفة بواسطة الكشف والذوق لابواسطة البرهان والدليل، وأصبح التصوف وسيلةً لتحقيق السعادة[8].

ثانياً: في مقدمة الكتاب:

      يبدأ ابن الدباغ كتابه في مقدمته بتقرير حقيقةٍ تكون بمثابة نقطة البداية فيقول: “اعلم أن مطلب ذوي العقول الكاملة والنفوس الفاضلة نيل السعادة القصوى والتلذّذ بمطالعة الجمال الإلهي الأسنى، وهذه السعادة لاتحصل إلا لنفسٍ زكية قد صدقت لها في الأول العناية الربانية بتيسيرها لسلوك الطرق العلمية والعملية “[9].

      فالكتاب بمقدمته يحدّد الإشكالية التي أدّت بالمؤلف إلى تأليف الكتاب وهي إدراك النفس للسعادة وتحصيلها، وهذه السعادة التي يتكلّم عنها لاتدركها إلا نفسٌ تتّصف بالصفاء وقد نالت من العناية الإلهية والمعارف الكلية مايؤهلها إلى الحصول على هذه السعادة. فمفهوم السعادة طرحته الثقافة اليونانية والعربية فنجده عند أرسطو وأفلاطون، كما نجده عند ابن عربي والغزالي وابن سينا. يرى ابن الدباغ بأن على النفوس التي ترغب بإدراك السعادة الروحانية الإعراض عن اللذّات التي تختص بالعرَض فيقول: ” وإنما تدرك هذه السعادة وتلتذّ بها النفوس الفاضلة ذوات الإدراكات الكاملة، ولكن لايمكنها ذلك مادامت عاشقة للذّات العالم الأسفل مقبلةً بكلّيتها عليه، فإن ذلك يوجب إعراضها عن العالم العلويّ، إذ عشق هذه الأجسام وشهواتها البهيميّة صارفٌ عن اللذّات الملكية الباقية في دار البقاء”[10].

ليس الهدف من هذا الكتاب كما يبدو استعراض المفاهيمالعرفانية والجمالية، إنما هو ربطٌ بين الدار الدنيا والآخرة كحال أغلب كتب التراث الإسلامي العرفاني، فالهدف النهائي هو الوصول إلى إرضاء الذات الإلهية والتلذذ بفيوضات جمالها، وهذا ما تمتاز به كتب التراث الإسلامي عن الكتب الفلسفية وسائر كتب العرفان في الثقافات الأخرى، فمن كان متفكّراً عارفاً للذات االإلهية في الدنيا كان عارفاً لها في الآخرة، ولا بدّ للمتأمل من تدوين معارفه وتأملاته المعرفية التي تقوده إلى نبوءاته، ويوضح ابن الدباغ هذه الصلة بقوله:
“المعرفة التي تحصل للعارف في الدنيا هي بعينها التي توصله في الآخرة إلى رؤية الحق، فمن لم يعرف الحق تعالى في الدنيا ويلتذّ بمعرفته ومحبته لايراه في الآخرة ولايلتذّ لمشاهدته، إذ يموت المرء على ماعاش عليه ويُبعَث على ما مات عليه، (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلاً(“[11].

ويرى ابن الدباغ أن نفوس البشر ليست سواسية في قدرة تلقي المعرفة والإقبال عليها، فمن تلك النفوس نفوس الأنبياء والصالحين التي اصطفاها الله، وهي بذلك نفوس نورانية مشرقة بالحب متوهجة بإقبالها على اللذات الروحية، ونفوس ظلامية غارقة باللذات الحسية لا تقدر على الارتقاء نحو النور بسبب الحجب المادية والدنيوية التي أقفلت عليها، والصنف الثالث من النفوس هي تلك التي تقع بين الصنفين السابقين، وهي نفوس تتوق نحو النور لكن شيئاً من القيود يأسرها، فما تنفك تحرر قيدها قليلاً ثم تركن في مكانها بانتظار فيض جديد وهبة ربانية من الوهاب، وتلك النفوس هي التي تقدر على الارتقاء والنمو بفعل الوعي المعرفي واللذة الروحية، وعلى أصحابها المضي في بداية الطريق:”واعلم أن النفوس ثلاثة أقسام، نفوسٌ خُلِقت متيقّظة من ذاتها مقبلة على بارئها بالفطرة معرضة عن ما سواه وهذه هي نفوس الأنبياء وخواص الأصفياء أشرق عليها نور الحق فجذبها إليه وتسمى مطمئنة. والقسم الثاني نفوس أعرضت بالكلية على الحق تعالى وغلب عليها حب المحسوسات وشهوات الأجسام لاستيلاء الوهم عليها فأنكرت اللذّات الروحانية والمدارك العقلية، وهذه هي نفوس الأشقياء، فهي محجوبة عن الله تعالى مطرودة عن جنابه ولا مطمع في نجاتها وتسمى الأمّارة . والقسم الثالث نفوس أقبلت على حب المحسوسات إقبالاً متوسطاً ولم تستغرق فيها قوتها بالكلية بل بقي في قوتها من اليقظة والفطنة ماتُدرِك به لذّة المعاني العقلية وتطلب الفضائل وتنفر عن الرذائل فكان لها نظر إلى الجانب الأعلى بقدر مافيها من اليقظة ونظر إلى الجنبة السفلى بقدر ميلها إلى حب الشهوات الطبيعية، وتسمى اللوّامة.

فهذه وإن كانت محجوبةً عن الحقائق الربانية يمكن أن تتذكّى بالرياضة وتلحق برتبة السعداء، وهذا الصنف هم الذين وُضعت لهم مراتب السلوك، وإليهم قصدنا بهذا التنبيه، إذ الصنف الأول لايحتاجون إلى سلوك فإن الحق تعالى أرادهم فاختصهم لعنايته، والصنف الثاني طُبعوا على الشقاء في أم الكتاب ولا تبديل لخلق الله، والصنف الثالث هم أصحاب الرياضة لأن الأصل طهارة النفس وخلوصها من آثار الظلمة “[12].

وبذلك يحدد ابن الدباغ في مقدمة كتابه أن هدف كتابه الارتقاء بالصنف الثالث من النفوس، فأولئك يمتلكون ميلاً إلى الفضائل و المعارف تساعدها بالتطهير والارتقاء بها لتدرك المعاني العقلية المجردة فتسعد بها وتبتهج بلذّتها لأن لذّة المعقول أسمى وأرقى من لذّة المحسوس.

ثالثاً: مفهوم الكمال في رؤيا ابن الدباغ:

      يبدأ ابن الدباغ الباب الرابع من كتابه بالحديث عن الكمال ويقول: ” بدأنا به لأنه سرٌّ في وجود الجمال”[13] . ويعرّف الكمال بقوله: ” الكمال معناه حضور جميع الصفات المحمودة للشيء وهو ينقسم إلى ظاهرٍ وباطن “[14].

وهو بهذا يعرّف كمال المخلوق لا كمال الخالق فالخالق سبحانه هو الكمال المطلق وعنه صدرت سائر الكمالات ولكل مخلوق في هذا الوجود كماله الخاص به والذي يستمدّ في البداية والنهاية وجوده من الكمال المطلق وقد ورد عند ابن سبعين هذا المعنى حيث يقول ” الكمال كنه الكائن”[15]، وابن سبعين يقصد بقوله (الكمال) الكمال المطلق الذي هو أصل الوجود فالله واجب الوجود، والإنسان ممكن الوجود ويقول الجرجاني في تعريفه للكمال: ” الكمال مايكمل به النوع في ذاته أو في صفاته والأول_أعني ما يكمل به النوع في ذاته_ وهو الكمال الأول لتقدمه على النوع، والثاني_ أعني مايكمل به النوع في صفاته _ هو مايتبع النوع من العوارض وهو الكمال الثاني لتأخره عن النوع”[16].

فالجرجاني يتحدث عن كمال الجوهر وكمال العرَض، فالكمال الأول يعود إلى كمال الجوهر، والكمال الثاني يعني كمال العرَض، أما ابن الدباغ فيقسم الكمال إلى مراتب تتحدد بحسب أنماط النفوس التي يرى بأنها ثلاثة أجناس:

نفوسٌ نباتية: لذّتها في المطعم والمشرب.
نفوسٌ حيوانية: لذّتها في المنكح وموجبات الغضب من رياسة وانتقام.
نفوسٌ إلهية: لذّتها في تحصيل المعارف الربانية والانتعاش بالعلوم الدينية والقرب من الحق تعالى ومحبته، فالإنسان على هذا يجانس النبات بالنفس النباتية والحيوان بالنفس الحيوانية والملائكة بالنفس الإلهية.[17]”
ويبدو أن هذا التقسيم يندرج فيه أصحابب الصنف الثالث من النفوس الذين ذكرهم في مقدمة كتابه، اولئك الذين يقفون في الوسط بين النفوس النورانية والظلامية، فكمال النفوس يتمثل بالنفوس الإلهية والارتقاء إلى تلك المرتبة غاية كل موجود بحسب رأي ابن الدباغ، وعلى الإنسان أن يراعي تقييم ذاته وكينونته في الوجود ويراقب ميوله ليعررف أين موقعه، فيحاول الارتقاء بالنفس وترويضها على الحب والخير وعدم الاندفاع إلى الغرق في شهوات الامتلاك الدنيوي للمال والملذات. ومن هنا نتبين أن لكل موجود نقص بالنسبة لما فوقه وكمال بالنسبة لمن هو أدنى منه، ولكل مخلوق وظيفة خلقه سبحانه ليؤديها وكماله يتجسد في أداء وظيفته التي خُلِق من أجلها، والإنسان أرقى المخلوقات في هذا الوجود لأنه يملك العقل ويتميز عن الكائنات الأخرى به وهو في سعي دائم نحو الكمال. وكنا قد قدمنا بأن الكمال كمال الله عز وجل فكماله لايشبه كمال أي شيء من مخلوقاته لأنه كمال قائم بذاته لا بمعانٍ وصفاتٍ يستمدّها من غيره، في حين أن الإنسان يستمدّ كماله من فيض كمال الله سبحانه وتعالى عليه، ويقول عبد الكريم الجيلي في هذا المعنى: ” كماله سبحانه وتعالى بذاته، لابمعانٍ زائدةٍ عليه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا”[18].

      وفي معاني النور الذي يرتقي بالأنسان في مدارج الكمال يقول ابن الدباغ : ” النور الإلهي وإن كان واحداً فقد اختلفت آثاره في الذوات لاختلافها فبعضها قبلت منه صفة الوجود والحياة والمعرفة والمحبة والجمال وهي الذوات العارفة الكاملة. وبعضها قبلت منه صفة الوجود والحياة والجمال وهي الأجسام التي تتدبرها الأنفس العارفة. وبعضها قبلت الوجود والجمال وهي أجسام الحيوان والنبات. وبعضها لم تقبل من هذا النور إلا صفة الوجود خاصةً وهي أجسام الجماد المظلمة في ذاتها”[19].

      إن الصفات السابقة التي قدمها ابن دباغ هي التي تميّز الموجودات عن بعضها فكمال كل موجود منها يكون بقدر العناية الإلهية وكلما كان نصيب الموجود منها وافراً كان أرقى في سلّم الكمال. والمحبة هي من صفات الذوات العارفة كما قدّمنا، وهي أداةٌ من أدوات الكمال، بل هي أشرف الصفات وأكملها، يقول ابن الدباغ: : “فالمحبة إذاً من صفات المقربين وبها كمال الموجود الحيّ وبقدر وفور نصيب العارف منها يكون قربه من بارئه وبضعف نصيبه منها يكون نزوله إلى أفق البهائم فليس في العالم باعثٌ على العروج إلى عوالم النور شيءٌ سواها فهي أشرف الوسائل وأكمل ما اتّصف به كل عارف كامل”[20].

رابعاً: نوعا الكمال:

في أنواع الكمال قسّم ابن الدباغ الكمال إلى ظاهر وباطن فيقول : ” الكمال الظاهر اجتماع محاسن صفات الأجسام اللائقة بها وهو يختلف باختلاف الذوات فكمال كل شيء بحسب مايليق به”[21].ولكل مخلوق كماله، فالذي تكمل به الأزهار غير الذي تكمل به الحيوانات وكذلك غير الذي يكمل به الإنسان، يقول ابن الدباغ: ” الذي يكمّل جنساً من الأجناس غير الذي يكمّل الجنس الآخر، والذي يكمّل عضواً من أعضاء البدن غير الذي يكمّل العضو الآخر فكمال النبات غضارته ونضارته وبدائع أزهاره واختلاف ألوان نوّاره،وكمال الصوت في رخامته وعذوبته،وكمالات الأجسام كثيرة،فهذا هو الكمال الظاهر، والنفوس تتأثر به لأنه مظهر الجمال المحبوب بالطبع الروحاني والنفساني،إذ الإنسان السليم من الآفات يحبُّ الصورة الحسنة الخلق،وينفر عن الصورة المشوّهة المنكوسة أو التي فيها نقصٌ أوشَينٌ .

والحواس التي هي رسل النفس إلى الجمال المبدّد على صفحات الموجودات تستريح إلى رؤية  الماء الصافي والأزهار المونِقة والأصوات الرخّمة والنغمات الموزونة ،حتى إنّ إدراك لذّة هذه الأشياء تُذهب الحزن وتُفرح القلب ،فميل النفوس إلى هذه الأمور المناسبة لهاأمر طبيعي لا يُنكر ومحبتها لها إنّما هو لذاتها لكونها مظهراً للجمال”[22].

      إنّ النص السابق يبين مفهوم العلاقة بين الجمال بالكمال في رؤية ابن الباغ ،فالكمال سرٌّ في وجود الجمال، والحواسُّ آلة النفس لإدراك الكمال والجمال، لما في النفس من ميلٍ وتناسب فطري لذلك، وهذا طبيعيٌّ لأنّ الذي أبدع الجمال وخلقه أشرق بنوره على النفس الإنسانية، فكان للنفس الإنسانية نصيب من ذلك النور وسعيٌ نحو إدراكه في الموجودات الأخرى، فالنفس تنفعل بالجمال والكمال بجمالها وكمالها الداخلي الذي وضعه الله فيها.

      ولكل كائنٍ وظيفته التي بكمالها  يتجلى جماله، فكمال جماله بحسب تحقيقه لهذه الوظيفة التي خلقه الله لأجلها وحسن أدائه لها ،فيقول : “كمال الفرس  في حسن قبوله لما يراد منه من الكرِّ والفر”[23]

      ومن هنا نقول إنّ ارتقاء الإنسان في سلّم الكمال يكون بمقدار تحقيقه لوظيفته التي خُلق لأجلها وهي العبوديّة والاستخلاف،يقول تعالى:(إذ قال ربّك للملائكة إني جاعل ٌ في الأرض خليفة)_البقرة (30)وهذا الاستخلاف لا يتحقق جليّ جمال كماله إلا ببلوغ كمال الباطن، وهو اتحاد ظاهر الفعل الحسن مع صفاء المرآة الداخلية لللإنسان

وهو ما يسميه ابن الدباغ بالكمال الباطن ويعرّفه بقوله: ” هو اجتماع الصفات الفاضلة في الإنسان على اعتدالها وتطبّعه بها”[24].

      فالكمال الباطن الذي يعنيه ابن الدباغ هو مانسميه بجمال االجوهر وتهذيب الأخلاق الحميدة والفضيلة وامتلاك الصفات الفاضلة التي ترتقي بروح الإنسان وتصقله. يقول ابن الدباغ في هذا: “الصفات الفاضلة العقلية كثيرة لكن أمهاتها أربعة وهي الحكمة والعفّة والشجاعة والعدالة. فمن هذه الصفات تفرّعت سائر الفضائل المكملة لذات الإنسان، ولا يكمل الإنسان إلا باجتماعها فيه كاملةً، ولاتكمل هي نفسها إلا باعتدالها، واعتدالها بكونها تجري على قوانين الشرع المؤيد لقضايا العقل إذ بالشرع تكمن محاسن الأخلاق، يقول صلى الله عليه وسلم (إنما بُعِثتُ لأكمّل مكارم الأخلاق)”[25].

وبذلك يحدد ابن الدباغ في الكليّات لينتقل إلى تفسير الجزئيّات فهو يرى أن اجتماع الصفات الأربع على نحوٍ معتدلٍ يشترط فيه التناسب مع الشريعة والعقيدة وقضايا العقل المستنير بنور القلب ثم يتحدث عن كمال تلك الصفات فيقول:” الحكمة فضيلة القوة العقلية وكمالها بالعلم ويندرج تحتها حسن التدبير وثقافة الرأي وصواب الظن، ثم الشجاعة فضيلة القوة العقلية وكمالها الورع ويندرج تحتها الوَقْيُ والحياء والخجل والسماحة والصبر والسخاء والانبساط والقناعة، ثم العدالة عبارة عن وقوع هذه القوى على الترتيب الواجب وكمالها بالإنصاف ويندرج تحتها جميع الفضائل التي ينقام بها وجود العالم كله، وحاصل هذه الكمالات كلها يرجع إلى كمال العلم والقدرة، أعني العلم بفضل هذه الأخلاق والقدرة على استعمالها فالكامل إذاً هو الذي يحيط علماً بهذه الأخلاق ويستعملها”[26].

إن منظومة الكمال الباطن التي يقدَّمها ابن الدباغ من خلال النص تشترط توافر العلم بهذه الصفات وفضلها وقدرة الإنسان على استعمالها فالعلم الشرط الأساسي لارتقاء الإنسان وكماله لأن الله ميّزه منذ خلقه بالعقل الذي هو آلته بالمعرفة والتفكير ” الكامل هو الذي يحيط علماً بهذه الأخلاق ويستعملها”. ويعتبر ابن الدباغ حب العلم من الكمالات الباطنة ويجد فيحب العلم لذّةً تزداد كلما كانت العلوم التي يتلقاها أشرف وأرفع مكانةً وقدراً، فالمعارف ترتقي بالإنسان في سلّم الكمال حتى تصل إلى إدراك ومعرفة الحق سبحانه وتعالى حيث يقول: ” من محبة الكمالات الباطنة محبة العلم فإن النفس تحب معلوماتها سواء كانت هذه المعلومات شريفة أو خسيسة، إلا أنه كلما كان المعلوم أشرف، كانت لذّة علمه عند مُدركه أعظم ولايخلو أحدٌ من لذّة بعلم فإننا نجد الصبيّ يلتذّ بمعرفة أصناف اللعب، وكذلك نجد العالم بصنعة ما تفرح نفسه إذا انفردت بعلمه بها، وكذلك نجد من كان عالم بأسرار ملك مدينة وتدبير مملكته منها يفرح بمعرفته واطلاعه على أحوال ذلك الملك، فكيف تكون لذة من عرف الله تعالى مالك الوجود بأسره وملائكته وكيفية وجود الأشياء بقدرته وما انطوى عليه العالم من أسرار القدرة وبدائع الحكمة، هل تصل هذه اللذّة لذّة”[27].

      في نهاية حديثنا عن مفهوم الكمال في رؤيا ابن الدباغ يمكننا القول بأن المفارقة الحقيقية بين الكمال الظاهر والباطن هو أن الكمال الظاهر يتعلق بالجسد والمادة والعرَض، والكمال الباطن يتعلق بالروح والجوهر، وإن آلة إدراك الكمال الظاهر الحواس، بينما آلة إدراك الكمال الباطن العقل. يقول ابن الدباغ: ” لانسبة بين قوى الجسم ونور العقل أي لانسبة بين لذّات الحواس ولذّات العقل، فلذّات الحواس لاتقع ذرّة من ذرات عالم العقل”[28].

      والذي دفع بابن الدباغ لقوله هذا هو أن الحواس تعود إلى الجسد والجسد يرتبط بالنفس الحيوانية، حيث يقول: “إن الحواس إنما تدرك بإشراق نور النفس الحيوانية عليها والنفس الحيوانية إنما تدرك بإشراق نور النفس الإنسانية عليها والنفس الإنسانية بإشراق نور العقل عليها، والكل يستمدّ نوره من نورالحق تعالى فلذّات الحواس على هذا لاتقع ذرة من لذات عالم العقل”[29].

 

 

[1]كحالة، عمر رضا / معجم المؤلفين، دمشق 1960 ص 185

[2]الزركلي ، خير الدين / الأعلام، ط2، ج4، بيروت، لبنان ، ص105

[3]ابن الدباغ / مشارق أنوار القلوب ، دار صادر، بيروت1959 ص ” و”

[4]خليفة، حاجي / كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، بيروت 1941 ص 301

[5]ابن الدباغ / مشارق أنوار القلوب، دار صادر، ص ” و”

[6]فرّوخ، عمر / تاريخ الأدب العربي، ج 5، دار العلم للملايين، بيروت، ط 1، 1982

[7]الغزالي، محمد بن محمد / إحياء علوم الدين، دار الندوة الجديدة، بيروت، ج 3، ص 19

[8]الطويل، توفيق / في تراثنا العربي الإسلامي،الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب،  سلسلة المعرفة(87)، 1985، ص 176

[9]ابن الدباغ / مشارق أنوار القلوب، ص 4

[10]ابن الدباغ / مشارق أنوار القلوب، ص 5

[11]ابن الدباغ / مشارق أنوار القلوب ، ص 7

[12]ابن الدباغ / مشارق أنوار القلوب، ص 10

[13]ابن الدباغ / مشارق أنوار القلوب، ص 39

[14]ابن الدباغ / مشارق أنوار القلوب، ص 39

[15]ابن سبعين، عبد الحق / رسائل ابن سبعين، الدار المصرية للتأليف والترجمة، مصر 1956، ص 45

[16]الجرجاني / التعريفات، بيروت، دار الكتاب العربي 1992، ط 2، ص 187

[17]ابن الدباغ / مشارق أنوار القلوب، ص 40

[18]الجيلي، عبد الكريم / الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل، مطبعة محمد علي صبيح وأولاده، مصر 1383هجري، ص 211

[19]ابن الدباغ / مشارق أنوار القلوب، ص 26

[20]ابن الدباغ / مشارق أنوار القلوب، ص 26

[21]ابن الدباغ / مشارق أنوار القلوب، ص 41

[22]ابن الدباغ / مشارق أنوار القلوب، ص 39/40

[23]ابن الدباغ / مشارق أنوار القلوب،ص 39

[24]ابن الدباغ / مشارق أنوار القلوب، ص 41

[25]ابن الدباغ / مشارق أنوار القلوب، ص 41

[26]ابن الدباغ / مشارق أنوار القلوب، ص 46

[27]ابن الدباغ / مشارق أنوار القلوب، ص 49

[28]ابن الدباغ / مشارق أنوار القلوب، ص 47

[29]ابن الدباغ / مشارق أنوار القلوب، ص 47

مقالات ذات صله

  1. ليث الكربلائي

    نرجوا رفع الكتب بصيغة PDF ليتسنى لنا تنزيلها لان هذه الكتب نادرة الوجود على الشبكة

    الرد
    1. InjyFouda

      تثنى لي الحصول على نسخة من الكتاب على هذا الرابط
      ia802708.us.archive.org/34/items/tasawufwrdoud/mashareq.pdf

      الرد

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!