مبادئ التفسير الصوفيّ – ألكسندر كنيش

مبادئ التفسير الصوفيّ – ألكسندر كنيش

بدايات الأعمال الصوفية في حقل التفسير

ومبادئ التفسير الصوفيّ

ألكسندر كنيش 

ترجمة: علي السعيدي

لقد قام كاتب مكثرٌ من نيسابور، هو أبو عبد الرحمن السُلمي ( ت 412 ه/ 1021م ) بجمع النماذج الأولى للتفسير الصوفيّ في تفسيره المعنون ‘ حقائق التفسير’. ويعد هذا العمل المصدر الرئيس لدراسة المراحل الأولى للتفسير الصوفي في الإسلام.  ولم تكن الشخصيات التي اعتمدها نماذج للتفسير كالحسن البصري ( ت110 ه/ 728)، وجعفر الصادق ( ت 148 ه/ 765 م)، وسفيان الثوري(161 ه / 787 م)، وعبد الله بن المبارك ( ت 181 ه/797 م)، من المتصوفة، بالمعنى الدقيق للكلمة؛ لأنَّ التصوّف عقيدةً وممارسةً محددةً لم تكن قد انبثقت بعد. غير أنّ السلمي قد ضم هؤلاء الأشخاص الأبرار إلى التصوّف وجعلهم الآباء المؤسسين، قبل أنْ يدخل مصطلح (التصوَّف) ساحة التداول بشكل واسع. وفي حين أنَّ انهماكهم وتوغلهم في النواحي الروحية والمجازية للنص المقدس لا يمكن نكرانه، غير أنَّ أصالة وموثوقية علمهم بالتفسير، كما جمعه السلمي ونقله بعد قرن ونصف، ليس واضحاً إلى حد كبير. المشكلة عميقة وفيها رائحة دسيسة، خصوصاً بشقها المتعلق بالإمام جعفر الصادق (السادس من أئمة الشيعة) إلى الحد الذي ينسب فيه بعض الباحثين المعاصرين مادة التفسير المنقولة باسمه إلى شخص مزيف يدَّعي اسم الإمام، ظهر في القرن الرابع الهجري العاشر الميلادي ( Nguyen, 2012, 94,182 based on Bowering 2001 and Bowering 1996 ).

ومن الصعوبة بمكان تأكيد دور الإمام جعفر الصادق باعتباره عميداً للتفسير الصوفي، خصوصا وأنْ إرثه التفسيري، كما نقله السُلمي، يخلو من أيٍّ من المواضيع الشيعية بشكل واضح( Nguyen, 2012: 172, 177 ). ومع ذلك، من الجلي أنَّ عناصر التفسير الصوفي الباطني تأصلت لدى دوائر المؤمنين التقاة المرتبطين بالإمام، والذي يستشهد بأقواله الصوفي المعروف ابو القاسم القشيري (ت 465ه/1072م) وهكذا توزعت بين تراثين بارزين هما التراث السني والتراث الشيعي. وفي حال صحتها، من المحتمل أنَّ عبارات الإمام جعفر الصادق الواردة في بداية تفسير ‘ حقائق التفسير’ للسلمي هي الصياغة الأصلية للمباديء المتعلقة بمنهجية التفسير الصوفي. إنَّ تلك العبارات تتحدث عن أنَّ للقرآن أربعة مستويات من المعنى، هي: العبارة (المعنى الحرفي)، والإشارة ( المعنى المجازي التلميحي)،  واللطائف والحقائق. ولكل من تلك المستويات مخاطَب معين، وهم بالترتيب: العوامّ، والخواصّ، والأولياء،ِ والأنبياء. وبشكل عام، يميز المفسرون المتصوفة بين ناحيتين من نواحي المعنى القرآني فقط هما المعنى الظاهر والمعنى الباطن، وبذلك يصنّفون الدلالات الأخلاقية والتشريعية لكل آية تحت عناوين معناها الحرفي ومعانيها المجازية أو الصوفية أو المتشابهة التي تقع تحت عنوان (المعنى الباطني). ويعدّ المستوى الأول للمعنى هو مجال اشتغال المؤمنين العاديين، أمّا المستوى الأخير فهو شأن أولياء الله.

وكما يبين (بول نويا)، تختلف اهتمامات جعفر الصادق التفسيرية بشكل جذري عن اهتمامات معاصره مقاتل بن سليمان ( ت 150 هو/ 767 م) الذي يمثل اتجاهاً أكثر تقليدية ً في تفسير القرآن، يتمحور حول البعدين التاريخي واللغوي للنص المقدس. مثال على ذلك أنَّ جعفر الصادق، خلافاً لمقاتل بن سليمان، لم يول اهتماماً بالظروف التاريخية التي صاحبت معركة بدر، كما وصفها القرآن، حيث قال أنَّ الله أيد النبي محمدًا( صلوات الله عليه وعلى آله) بجنود لم يرها أصحابه كما في الآية ﴿إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا  فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ  وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا  وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (التوبة:٤٠)، يفسّر جعفر الصادق  الـ ‘ جنود’ ليس بمعنى الملائكة،  كما يرى مقاتل وآخرون من مفسري الظاهر، بل بمعنى الفضائل الروحية التي يكتسبها الصوفي السالك في طريقه إلى الله، ومن بينها: اليقين، والثقة بالله، والتوكل عليه. وبالطريقة نفسها يفسّر الصادق الأمر القرآني في الآية ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ (الحج: ٢٦)، على أنّها نداء من الله للمؤمن أنْ يطهر روحه من كل ما سوى الله. وفي النهاية يشرح الإمام الصادق العبارة ‘لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ’ على أنَّها دعوة للمؤمنين العاديين أنْ يسعوا في سبيل مصاحبة العارفين الذين يحظون بمنزلة القرب من الله وطاعته. وتبدو فكرة المعرفة الروحية التي يهبها الله للمخلصين من عباده واضحة في تفسير الإمام الصادق للآيات ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ  قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي  فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا  فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ( الأعراف:١٤٣) ، والآية ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ  وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾ ( الأنفال:٢٤) والآية ﴿وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا  قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ  وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ  كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ  وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ ( الأعراف:١٦٠).

وفي المرحلة الأخيرة من علم المعرفة الصوفي، توضع المعرفة بشكل ثابت جنباً إلى جنب مع كل من الحكمة المكتسبة (النقل) والمعرفة الناتجة عن التأمل(العقل). أما بالنسبة للإمام جعفر الصادق والمفسرين المتصوّفة المتأخرين، فيعدّ القرآن وحده الوسيلة المثلى لتحصيل المعرفة.

ترتبط المرحلة التالية في تطور التفسير الصوفي، على حد قول (بول نويا) بمجموعة من الأفراد الذين عاشوا ما بين القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي حتى أوائل القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي. لا تشوب سجلاتهم الصوفية شكوك جدية، مع استثناءات قليلة (كما في حالة الحكيم الترمذي (ت 300 ه/ 910 م). و يرتبط أحدهم على الأقل (أحمد بن عطاء الأدمي، ت 311ه/922 م)، وقد يكون كذلك ذو النون المصري( ت246ه/861م)، بنقل الإرث التفسيري للإمام جعفر الصادق، والذي يبدو مناقضاً للتاريخ الذي أوردهNguyen  بشأن أنشطة الشخص الذي انتحل شخصية الإمام الصادق في منتصف القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي. أما الآخرون كسهل التستري (ت 283 ه/ 996 م)، وأبو سعيد الخراز(ت286  ه/899 م)، وأبو الحسين النوري( ت295ه/907م)، وأبو القاسم الجنيد ( ت298 ه/ 910 م)، وأبو بكر الواسطي ( ت320 ه/ 932 م)، وأبو بكر الشبلي (ت 334 ه/946 م)، فقد تكرر الاستشهاد بهم في التراث الصوفي مراجعًا لعلم التفسير، كما هو الحال مع التستري وابن عطاء والواسطي، وكمفسرين للقرآن كذلك الأمر( Bowering, 1987-9 and 1980 ).  كذلك يعد الصوفي أبو سعيد الخركوشي من نيسابور (ت 406ه/ 1015 م)، من أصحاب التفاسير الصوفية التي تنتظر من يبحث عنها( Nguyen 2012:10).

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي، لا يمكن نسخه!!